جدول المحتويات
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واتَّبع سُنَّته إلى يوم الدين.
أما بعد: فنبتدئ أولًا بدرس أصول الفقه، وهذا الدرس هو الدرس الأخير في أصول الفقه، وبه -إن شاء الله- ننتهي من شرح "منظومة أصول الفقه"، والدروس القادمة كما اعتدنا -باعتبار أن وقت العشاء يضيق- تكون خاصةً بـ"دليل الطالب" حتى نتمكن أيضًا من إنهائه في هذا الفصل، إن شاء الله تعالى.
بقي معنا في "منظومة أصول الفقه": "صيغ العموم"، وكذلك أيضًا "تقييد المُطلق"، ذكر فيه النَّاظم رحمه الله سبعة أبياتٍ نستمع لها.
الطالب:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على عبدالله ورسوله محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
صيغ العموم
قال المؤلف رحمه الله تعالى:
97- وَإِنْ يُضَفْ جَمْعٌ وَمُفْرَدٌ يَعُمْ | وَالشَّرْطُ وَالْمَوْصُولُ ذَا لَهُ انْحَتَمْ |
98- مُنَكَّرٌ إِنْ بَعْدَ إِثْبَاتٍ يَرِدْ | فَمُطْلَقٌ وَلِلْعُمُومِ إِنْ يَرِدْ |
99- مِنْ بَعْدِ نَفْيٍ نَهْيٍ اسْتِفْهَامِ | شَرْطٍ وَفِي الْإِثْبَاتِ لِلْإِنْعَامِ |
100- وَاعْتَبِرِ الْعُمُومَ فِي نَصًّ أُثِرْ | أَمَّا خُصُوصُ سَبَبٍ فَمَا اعْتُبِرْ |
101- مَا لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِوَصْفِ | يُفِيدُ عِلَّةً فَخُذْ بِالْوَصْفِ |
102- وَخَصِّصِ الْعَامَّ بِخَاصٍّ وَرَدَا | كَقَيْدِ مُطْلَقٍ بِمَا قَدْ قُيِّدَا |
103- مَا لَمْ يَكُ التَّخْصِيصُ ذِكْرَ الْبَعْضِ | مِنَ الْعُمُومِ فَالْعُمُومَ أَمْضِ |
طالبٌ آخر: قال النَّاظم رحمه الله تعالى:
97- وَإِنْ يُضَفْ جَمْعٌ وَمُفْرَدٌ يَعُمْ | وَالشَّرْطُ وَالْمَوْصُولُ ذَا لَهُ انْحَتَمْ |
98- مُنَكَّرٌ إِنْ بَعْدَ إِثْبَاتٍ يَرِدْ | فَمُطْلَقٌ وَلِلْعُمُومِ إِنْ يَرِدْ |
99- مِنْ بَعْدِ نَفْيٍ نَهْيٍ اسْتِفْهَامِ | شَرْطٍ وَفِي الْإِثْبَاتِ لِلْإِنْعَامِ |
100- وَاعْتَبِرِ الْعُمُومَ فِي نَصًّ أُثِرْ | أَمَّا خُصُوصُ سَبَبٍ فَمَا اعْتُبِرْ |
101- مَا لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِوَصْفِ | يُفِيدُ عِلَّةً فَخُذْ بِالْوَصْفِ |
102- وَخَصِّصِ الْعَامَّ بِخَاصٍّ وَرَدَا | كَقَيْدِ مُطْلَقٍ بِمَا قَدْ قُيِّدَا |
103- مَا لَمْ يَكُ التَّخْصِيصُ ذِكْرَ الْبَعْضِ | مِنَ الْعُمُومِ فَالْعُمُومَ أَمْضِ |
الشيخ: في هذه الأبيات تكلم الناظم عن "صيغ العموم".
والعموم أو العامّ معناه لغةً: الشامل.
واصطلاحًا: اللفظ المُسْتَغْرِق لجميع أفراده بلا حصرٍ.
وقد ذكر الناظم له صيغًا، قال: "وَإِنْ يُضَفْ جَمْعٌ وَمُفْرَدٌ يَعُمْ"، فالعموم له صيغٌ ذكرها الأصوليون.
المُعرَّف بالإضافة مُفردًا كان أو مجموعًا
الصيغة الأولى هي ما أشار إليه في قوله: "وَإِنْ يُضَفْ جَمْعٌ وَمُفْرَدٌ يَعُمْ" يعني: المفرد أو المُعرَّف بالإضافة، المُعرَّف بالإضافة مُفردًا كان أو مجموعًا، فالجمع والمفرد يَعُمَّان إذا أُضيفا.
ومثال ذلك: قول الله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، فـنِعْمَتَ هنا مفردٌ مُضافٌ تُفيد العموم، والدليل على أنها تُفيد العموم قوله تعالى: لَا تُحْصُوهَا، فدلَّ ذلك على أنها تُفيد العموم.
ومثال الجمع: فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ [الأعراف:69]، وقوله: فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13]، هذا يَعُمُّ جميع الآلاء، فيُفيد ذلك العموم، ومنه قول المُصلِّي في التَّشهد: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين"، فيشمل كل عبدٍ صالحٍ، فهذه أيضًا من صيغ العموم: الإضافة، المُعرَّف بالإضافة مُفردًا كان أو مجموعًا.
أيضًا من صيغ العموم قال: "وَالشَّرْطُ وَالْمَوْصُولُ ذَا لَهُ انْحَتَمْ"، "ذَا لَهُ انْحَتَمْ"؛ لأجل استقامة البيت، يعني: هذا أمرٌ مُتَحَتِّمٌ.
أسماء الشرط
"الشرط والموصول" فمن صيغ العموم: أسماء الشرط؛ كقول الله تعالى: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115].
أحد الطلاب: .......
الشيخ: إذن قلنا: من صيغ العموم أسماء الشرط، ومن أمثلتها: قول الله : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97].
الأسماء الموصولة
أيضًا من صِيَغ العموم قال: "والموصول"، يعني: الأسماء الموصولة من صيغ العموم، ومنه قول الله تعالى: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر:33]، فالأسماء الموصولة من صيغ العموم.
النَّكرة في سياق النَّفي أو النَّهي
أيضًا من صيغ العموم ما أشار إليه الناظم في البيت الذي بعده، يعني: ذكر صيغًا أخرى، لكن أراد أن يُبيِّن أن النَّكرة في سياق الإثبات لا تُفيد العموم، فأشار إلى هذا، وأشار إلى أن النَّكرة بعد النَّفي أو النَّهي تُفيد العموم.
أما الأول -وهو أن النَّكرة بعد الإثبات لا تُفيد العموم- فأشار إليه بقوله: "مُنَكَّرٌ إِنْ بَعْدَ إِثْبَاتٍ يَرِدْ فَمُطْلَقٌ" مراد الناظم بهذا: أن النَّكرة إذا وردتْ بعد الإثبات فإنها لا تُفيد العموم، وإنما تُفيد الإطلاق، فيُفيد العام وغير العام.
فعندما تقول -مثلًا-: أَكْرِم الأصدقاء. ثم قلتَ: أَكْرِم فلانًا. فهل يَعُمُّ جميعهم؟
لا يَعُمُّ جميعهم، يعني إذا قلتَ: أَكْرِم -مثلًا- الأصدقاء. ثم قلتَ: أَكْرِم صديقًا. أو: أَكْرِم الرجال. ثم قلتَ: أَكْرِم رجلًا. فإنه لا يَعُمُّ جميعهم.
فالنكرة إذن في سياق الإثبات لا تُفيد العموم، وإنما تكون للإطلاق.
أما النَّكرة في سياق النَّفي أو النَّهي فإنها تُفيد العموم، وأشار إليه الناظم بقوله:
.................................... | ........... وَلِلْعُمُومِ إِنْ يَرِدْ |
مِنْ بَعْدِ نَفْيٍ نَهْيٍ اسْتِفْهَامِ | شَرْطٍ وَفِي الْإِثْبَاتِ لِلْإِنْعَامِ |
أفادنا الناظم بأن النَّكرة إذا وردتْ في هذا السياق فإنها تُفيد العموم:
الأول: "مِنْ بَعْدِ نَفْيٍ" لا إله إلا الله، يعني: لا معبود بحقٍّ إلا الله، ما من إلهٍ إلا الله.
وكذلك النَّكرة في سياق النَّهي تُفيد العموم: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء:36]، هذا يُفيد العموم.
النَّكرة بعد الاستفهام وفي سياق الشَّرْط
كذلك النَّكرة إذا وردتْ بعد الاستفهام فإنها عند الأصوليين تُفيد العموم: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ [مريم:98].
كذلك إذا وردت النَّكرة في سياق الشرط؛ كما في قول الله تعالى: إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الأحزاب:54]، إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا وردتْ في سياق الشرط.
فهذه كلها إذن النَّكرة فيها تُفيد العموم.
النَّكرة في الإثبات إذا قصد بذلك النِّعمة
أيضًا ذكر الناظم أن النَّكرة قد تُفيد العموم في سياق الإثبات في حالةٍ واحدةٍ وهي: إذا وردتْ في سياق الإنعام، وهذا أشار إليه بقوله: "وَفِي الْإِثْبَاتِ لِلْإِنْعَامِ" يعني: تكون النَّكرة للعموم في الإثبات إذا قصد بذلك النعمة، مثل: قول الله تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ [النحل:66] يعني: اللبن، كُلُّ لبنٍ موصوفٌ بهذه الصفات، يعني: نكرة في سياق إثباتٍ.
وهذه من اللطائف التي يسوقها الناظم، ولا تجد هذا في كثيرٍ من كتب الأصوليين: النَّكرة في سياق الإثبات في حال الإنعام تُفيد العموم.
معنى قوله: وَاعْتَبِرِ الْعُمُومَ فِي نَصًّ أُثِرْ
ثم انتقل الناظم رحمه الله إلى مسألةٍ هي .. يُشير إلى قاعدةٍ هي: "أن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب"، عبَّر عن هذه القاعدة بقوله:
وَاعْتَبِرِ الْعُمُومَ فِي نَصًّ أُثِرْ | أَمَّا خُصُوصُ سَبَبٍ فَمَا اعْتُبِرْ |
مُراده: أن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، "وَاعْتَبِرِ الْعُمُومَ فِي نَصًّ أُثِرْ" يعني: إذا ورد نصٌّ مأثورٌ -يعني: نصًّا من الكتاب أو السُّنة- فالعبرة بعموم لفظه، وهذا معنى قوله: "وَاعْتَبِرِ الْعُمُومَ"، وليست العبرة بخصوص السبب، وهذا معنى قوله: "أَمَّا خُصُوصُ سَبَبٍ فَمَا اعْتُبِرْ".
وهذه قاعدةٌ عليها العمل عند أهل العلم: "أن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب"؛ ولهذا نجد أن أسباب النزول كثيرةٌ في القرآن، وصُنِّفَتْ فيها مُصنفاتٌ، ومعظم الآيات التي وردت العبرة بعموم لفظها، لا بخصوص سببها.
أمثلةٌ على القاعدة
فمثلًا: قول الله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ [المجادلة:1]، هذه وردتْ في قصة ظِهَار أوس بن الصامت مع امرأته رضي الله عنهما، ولكن اللفظ عامٌّ، فالعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
أيضًا -مثلًا- في آيات اللعان: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ [النور:6]، هذه وردتْ في قصة هلال بن أُمية، وقيل: في قصة عُوَيْمِر العجلاني رضي الله عنهما، لكن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
أيضًا قول الله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ [البقرة:272] نزلتْ في سياق أن قومًا أسلموا، وكان لهم أقارب من غير المسلمين، فَتَحَرَّجوا أن يتصدَّقوا عليهم، فأنزل الله تعالى عليهم هذه الآية: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فيه إرشادٌ لأن يتصدقوا عليهم وإن كانوا كُفَّارًا، فالهداية بيد الله .
فالعبرة إذن بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
استثناء من القاعدة
لكن الناظم استثنى مسألةً من هذه القاعدة، وهي قوله:
مَا لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِوَصْفِ | يُفِيدُ عِلَّةً فَخُذْ بِالْوَصْفِ |
يعني: أن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب إلا إذا كان العموم قد ورد على سببٍ مُتَّصفٍ بصفةٍ، فيُؤخذ بهذا الوصف، نُعَمِّمه في هذا الوصف فقط، ولا نُطْلِق تعميمه.
ومثَّلوا له بما جاء في الصحيحين: أن النبي رأى رجلًا قد ظُلِّل عليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: إنه صائمٌ. فقال: ليس من البِرِّ الصوم في السفر [1]، فهل نقول: إن العبرة بعموم هذا اللفظ، فنقول: إن الصيام في السفر ليس من البِرِّ، وإنه مكروهٌ، أم أننا نُخَصِّص هذا الحديث بالوصف الذي سيق لأجله؟
الجواب: هو الثاني، فَنُخَصِّصه بالسبب الذي ورد لأجله، فهذا الحديث إنما جاء في سياق رجلٍ قد صام، مع كون الصيام شَقَّ عليه مشقةً شديدةً إلى هذه الدرجة، وهو أنه قد ظُلِّل عليه، يعني: سقط وظُلِّل عليه، أُصيب بالإعياء وبالإرهاق، فهذا الصيام في حقِّه مكروهٌ، وليس هذا من البِرِّ.
أما مَن لا يشقُّ عليه الصوم في السفر فيُستحب له أن يصوم، والدليل على هذا: أن النبي كان يصوم في السفر، كما في حديث أبي الدَّرداء : خرجنا مع رسول الله .. وما فينا صائمٌ إلا رسول الله وعبدالله بن رواحة [2].
فالنبي كان يصوم في بعض الأسفار، وهذا محمولٌ على مَن لم يجد المشقة، فمَن لم يجد المشقة نقول: الأفضل في حقِّه الصيام؛ لأن هذا أسرع في إبراء ذِمَّته، أما مَن يجد المشقة فالأفضل في حقِّه الفطر.
إذن لا نقول: إن حديث: ليس من البِرِّ الصوم في السفر يدل على كراهة الصوم في السفر مطلقًا، إنما يدل على كراهة الصوم في حقِّ مَن اتَّصف بالوصف الذي ورد السبب لأجله، وهو: أن يَشُقَّ عليه مشقةً كبيرةً.
العامّ يُخَصَّص بالخاص
قال: "وَخَصِّصِ الْعَامَّ بِخَاصٍّ وَرَدَا" يُشير الناظم بهذا إلى قاعدةٍ هي: أن العام يُخَصَّص بالخاص.
قال: "كَقَيْدِ مُطْلَقٍ بِمَا قَدْ قُيِّدَا" كما أن المُطلق يُقَيَّد بالمُقيَّد، العامّ يُخَصَّص بالخاص، والمُطْلَق يُقَيَّد بالمُقيَّد.
وهذه قاعدةٌ معروفةٌ عند أهل العلم، على خلافٍ في التطبيق، أما في التَّنظير فالقاعدة عليها عمل أهل العلم.
أمثلةٌ على القاعدة
من تخصيص العامّ -مثلًا- قول النبي : فيما سَقَت السماء العُشْر [3]، هذا لفظٌ عامٌّ، وخُصِّص في حديث: ليس فيما دون خمسة أَوْسُقٍ صدقةٌ [4]، لكن أحيانًا في التَّطبيق -كما أشرتُ- تكون هناك إشكاليةٌ في تخصيص العامّ.
فعلى سبيل المثال: نجد أن بعض العلماء في أحاديث النَّهي عن الصلاة يقولون: إنها مخصوصةٌ بذوات الأسباب، فأيّهما أتى بصيغةٍ أو بلفظٍ عامٍّ؟
ذوات الأسباب: النبي نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها، وحين يقوم قائم الظهيرة.
ثلاث ساعاتٍ كان رسول الله ينهانا أن نُصلِّي فيهنَّ، أو أن نَقْبُر فيهنَّ موتانا [5].
وورد أيضًا: لا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس [6].
لكن أيضًا ذوات الأسباب عندما نتأمل فيها نجد أنها وردتْ بأحاديث فيها صيغةُ عمومٍ: إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يُصلِّي ركعتين [7]، فهذه صيغةٌ من صيغ العموم: إذا، فنجد أن ذوات الأسباب قد وردتْ: يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت وصلَّى أيَّةَ ساعةٍ شاء من ليلٍ أو نهارٍ [8]، أيَّةَ هذه من صيغ العموم.
فهنا القول بأن الأحاديث الواردة في أوقات النَّهي مخصوصةٌ بذوات الأسباب يَرِد عليه إشكالٌ هو: أن الأحاديث الواردة في ذوات الأسباب أتتْ بلفظٍ عامٍّ، فقد يُقال بالعكس أيضًا، يُقال: إن الأحاديث التي وردتْ في ذوات الأسباب خُصِّصتْ بأحاديث النَّهي عن الصلاة، فعندنا عامَّان الآن، يعني: تعارضا.
ولذلك الخلاف في هذه المسألة خلافٌ قويٌّ، خاصةً في الأوقات التي يكون النَّهي فيها شديدًا، وهي: عند طلوع الشمس، وعند غروبها، وحين يقوم قائم الظهيرة، فالخلاف في هذه المسألة خلافٌ قويٌّ، والقول بأن الأحاديث الواردة في النَّهي عن الصلاة مخصوصةٌ بذوات الأسباب محل نظرٍ، وقاعدة الأصوليين ما تنطبق عليها، فالتَّخصيص هنا غير واردٍ، وربما يُقال بالعكس، يُقال: إن ذوات الأسباب وردتْ بلفظٍ عامٍّ، لكن هما وردا عامَّين، وردتْ هذه بلفظٍ عامٍّ، وهذه بلفظٍ عامٍّ.
ولهذا ينبغي للمسلم في الأوقات التي يكون النَّهي فيها شديدًا أن يتحاشى أن يُصلِّي في هذه الأوقات، خاصةً أن الوقت فيها قصيرٌ، وقت طلوع الشمس ما يتجاوز عشر دقائق، ووقت الغروب كذلك، وحين يقوم قائم الظهيرة ما يتجاوز خمس دقائق، من خمس إلى سبع دقائق تقريبًا، فهذه أوقاتٌ يتحاشى المسلم أن يُصلِّي فيها.
أما الأوقات التي يكون النَّهي فيها من باب سدِّ الذَّريعة -من بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، ومن بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس- فالأمر فيها أخفّ، ولو أتى بذوات الأسباب يظهر أنه لا حرج؛ لأن النَّهي ليس لذاتها، وإنما من باب سدِّ الذريعة.
هذا الأقرب في هذه المسألة؛ لأن بعض الإخوة يأخذ المسألة على أنها مُسلَّمةٌ، وأنها مخصوصةٌ بذوات الأسباب، لكن عند تطبيق قواعد الأصوليين عليها ما تنطبق كما سمعتُم؛ لأن ذوات الأسباب أيضًا وردتْ بصيغٍ عامةٍ، بلفظٍ عامٍّ: إذا أتى أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يُصلِّي ركعتين، فكيف نقول: إن هذا مخصوصٌ من هذا؟
إذا ورد النَّص مطلقًا، وورد مُقيدًا؛ فإنه يُقَيَّد بهذا القيد
طيب، أما تقييد المُطلق فهذا أيضًا من القواعد المُقررة عند الأصوليين: "إذا ورد النَّص مُطلقًا، وورد مُقيدًا، فإنه يُقيَّد بهذا القيد".
ومثَّلوا له بقول الله تعالى في آية الظِّهار: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:3]، وقوله في كفارة القتل: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92]، قالوا: فقيَّد الرقبة بالإيمان، فيُحمل المُطلق الوارد في كفارة الظِّهار على المُقيَّد الوارد في كفارة القتل.
والأصل أنه يجب العمل بالمُطلق على إطلاقه إلا بدليلٍ يدلُّ على تقييده؛ ولذلك اشترطوا لتقييد المُقيد: أن يكون الحكم واحدًا.
فمثال الحكم الواحد: أن يكون الحكم واحدًا بما مثَّلنا به قبل قليلٍ من قول الله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، فالحكم واحدٌ وهو: تحرير الرقبة، فيجب تقييد المُطلق في كفارة الظِّهار بالمُقيد في كفارة القتل، فيُشترط الإيمان في الرقبة في كلٍّ منهما.
أما إذا كان الحكم مختلفًا فلا يُقيَّد المُطلق، ومنه: قول الله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، فلا يُقيَّد بقول الله تعالى في آية الوضوء: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]؛ وذلك لأن الحكم مُختلفٌ في قوله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا، الحكم القطع، وفي الثانية: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ، الحكم الغَسْل، فما دام أن الحكم مُختلفٌ فلا يكون تقييد المُطلق.
إذن يُشترط لتقييد المُطلق: أن يكون الحكم واحدًا.
ما يُستثنى من قاعدة تقييد المُطلق
قال:
مَا لَمْ يَكُ التَّخْصِيصُ ذِكْرَ الْبَعْضِ | مِنَ الْعُمُومِ فَالْعُمُومَ أَمْضِ |
يعني: استثنى الناظم من تقييد المُطلق مسألةً، وبعضهم يُعبِّر عنها بقاعدةٍ هي: "أن ذكر بعض أفراد العام بحكمٍ يُوافق حكمَ العام لا يُفيد تخصيصًا"، وهذه قاعدةٌ عند الأصوليين.
مرةً أخرى القاعدة هي: "ذكر بعض أفراد العام بحكمٍ يُوافق حكمَ العام لا يُفيد تخصيصًا".
فلو قلتَ: أكرم الطلبة. ثم قلتَ: أكرم زيدًا. يعني: من الطلبة، فهذا لا يقتضي تخصيص الإكرام بزيدٍ.
أما لو قلتَ: أكرم الطلبة. ثم قلتَ: لا تُكرم زيدًا. فخصصتَ زيدًا بعدم الإكرام.
ومن أمثلة هذا قول النبي : جُعِلَتْ لي الأرض مسجدًا وطهورًا [9]، فقوله : جُعِلَتْ لي الأرض، "الأرض" لفظٌ عامٌّ، وجاء في روايةٍ أخرى: جُعِلَتْ تُرْبَتُها لنا طهورًا [10].
بعض العلماء قال: إن قوله: تُرْبَتها يدل على تخصيص التَّيمُّم بالتراب، ولكن هذا الاستدلال غير صحيحٍ؛ وذلك لأن تخصيص بعض العام بحكمٍ يُوافق حكمَ العام لا يُفيد تخصيصًا، فهنا ذكر بعض حكم العام، ذكر بعض أفراد العام بحكمٍ يُوافق العام، فقوله: تُرْبَتها لا يُفيد التَّخصيص.
إذن انتبه لهذه القاعدة، وتخصيص العام عليه العمل عند الأصوليين، لكن نستثني من هذا هذه المسألة، وهي: أن يُذْكَر بعض أفراد العام بحكمٍ يُوافق حكمَ العام فإنه لا يقتضي تخصيصًا.
وبهذا نكون قد انتهينا من شرح "منظومة أصول الفقه"، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
نحن أعلنَّا عن مسابقةٍ في حفظ المنظومة، فإن شاء الله تعالى التَّسميع يكون الأسبوع القادم بعد شرح "الدليل" وأثناء الإجابة عن الأسئلة، فَتُلْقَى مقاطع، وتكون الإجابة تحريريًّا للإخوة الذين سجَّلوا أسماءهم.
وما زال باب التَّسجيل مفتوحًا عند الأخ ياسر، فمَن أراد أن يحفظ المنظومة يُسجل اسمه عند الأخ ياسر، والأسبوع القادم في مثل هذا الوقت بعدما ننتهي من شرح "الدليل"، وأثناء الإجابة عن الأسئلة تُمْلَى مقاطع، ويكتبون الأبيات في ورقةٍ، وتُعْطَى للإخوة، ويكون هناك -إن شاء الله تعالى- فرزٌ لها، والأسبوع الذي يليه يكون الإعلان عن الفائزين، إن شاء الله تعالى.
سجل عددٌ من الإخوة أسماءهم عند الأخ ياسر، ومَن رغب أيضًا يُسجل اسمه، والأسبوع القادم تكون المسابقة بعد درس "الدليل".
أحد الطلاب: .......
الشيخ: لا، ما نريد؛ لأننا انتهينا الآن من المنظومة.
أحد الطلاب: .......
الشيخ: هل ترون هذا يكون بعد الإجازة؟
طيب، إذن نُؤخِّرها لتكون بعد الإجازة ما دام أن هذا رأي الإخوان، فتكون هناك فرصةٌ للحفظ لمَن رغب أن يحفظها، فيكون إذن الأسبوع بعد القادم، أو الأسبوع الذي يلي الإجازة، الأسبوع القادم يكون إجازةً، والأسبوع الذي يليه يكون التَّسميع فيه، إن شاء الله.
أحد الطلاب: .......
الشيخ: إي، نعم، الإخوة الذي يُتابعوننا الآن عن طريق (الإنترنت) الدروس في الأسابيع الماضية حصل فيها انقطاعٌ، واستدركها الإخوان، وهي الآن قد نزلتْ على الموقع، نزلتْ جميع الدروس على الموقع، فلعل الإخوة الذين فاتتهم الدروس في الأسابيع الماضية يرجعون لها في الموقع.
أحد الطلاب: .......
الشيخ: هذا ورد في بعض الروايات، وقيل: إنها على لغة بعض العرب، لكن من جهة الإسناد ما يحضرني الكلام عن إسنادها.
^1 | رواه البخاري: 1946، ومسلم: 1115. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 1945، ومسلم: 1122. |
^3 | رواه البخاري: 1483. |
^4 | رواه البخاري: 1447، ومسلم: 979. |
^5 | رواه مسلم: 831. |
^6 | رواه البخاري: 586، ومسلم: 827. |
^7 | رواه البخاري: 1163، ومسلم: 714. |
^8 | رواه أبو داود: 1894، والترمذي: 868 وقال: حسنٌ صحيحٌ. |
^9 | رواه البخاري: 438، ومسلم: 521. |
^10 | رواه مسلم: 522. |