الرئيسية/دروس علمية/شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري/(11) تتمة باب قوله: {وكلم الله موسى تكليما}- من حديث “يجمع المؤمنون يوم القيامة..”
|categories

(11) تتمة باب قوله: {وكلم الله موسى تكليما}- من حديث “يجمع المؤمنون يوم القيامة..”

مشاهدة من الموقع

تتمة باب قوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا

ثم ساق المصنف رحمه الله تعالى أيضًا حديث الشفاعة.

ولاحظوا هنا أن المُصنف كرره، فجاء هنا بطرفٍ منه:

يُجمع المؤمنون يوم القيامة، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، فيُريحنا من مكاننا هذا، فيأتون آدم فيقولون له: أنت آدم أبو البشر، خلقك الله بيده، وأسجد لك الملائكة، وعلَّمك أسماء كل شيءٍ، فاشفع لنا إلى ربنا حتى يُريحنا. فيقول لهم: لستُ هناكم. فيذكر لهم خطيئته التي أصاب [1].

والشاهد أنه قال: ولكن ائتوا موسى، عبدًا آتاه الله التوراة، وكلَّمه وقرَّبه نَجِيًّا [2] كما في الرواية الأخرى، فهذا هو الذي لأجله ساق المصنف هذا الحديث.

حديث الإسراء والمعراج

ثم ساق بعد ذلك المصنف حديث الإسراء والمعراج فقال:

يقول: ليلة أُسري برسول الله من مسجد الكعبة، أنه جاءه ثلاثة نفرٍ قبل أن يُوحى إليه.

وهنا قوله: “قبل أن يُوحى إليه” أنكر العلماء هذه اللفظة، وقالوا: إن الراوي لهذا الحديث هو شريك بن عبدالله قد أخطأ وأدخل هذه اللفظة. فخطَّؤوا شريكًا، وقالوا: إنه في هذا الحديث قد أخطأ بإدخال هذه اللفظة.

وممن قال ذلك: الخطَّابي، وابن حزم، والقاضي عياض، والنووي، خطَّؤوا شريكًا في إدخاله هذه اللفظة، لكن العجب: كيف فات هذا على الإمام البخاري؟! لكن يبقى بشرًا -سبحان الله!- يرد عليه ما يرد على البشر.

إذن الإسراء والمعراج إنما كان بعد الوحي.

حادثة شَقِّ الصدر

قال:

وهو نائمٌ في المسجد الحرام، فقال أولهم: أيُّهُم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرُهُم، فقال آخرهم: خُذوا خيرَهم، فكانت تلك الليلة، فلم يَرَهم حتى أتوه ليلةً أخرى فيما يرى قلبه، وتنام عينه، ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء: تنام أعينهم، ولا تنام قلوبهم، فلم يُكلِّموه حتى احتملوه، فوضعوه عند بئر زمزم، فتولاه منهم جبريل، فشَقَّ جبريل ما بين نَحْره إلى لَبَّتِه، حتى فرغ من صدره وجوفه.

كان هذا ليلة الإسراء والمعراج.

فغسله من ماء زمزم بيده حتى أَنْقَى جوفه، ثم أُتِيَ بِطَسْتٍ من ذهبٍ فيه تَورٌ من ذهبٍ محشُوًّا إيمانًا وحكمةً، فحشا به صدره.

وقال:

ثم أطبقه، ثم عَرَجَ به إلى السماء الدنيا، فضرب بابًا من أبوابها، فناداه أهل السماء: مَن هذا؟ فقال: جبريل، قالوا: ومَن معك؟ قال: معي محمدٌ.

وكان هذا في ليلة المعراج.

وصلى بالأنبياء قبل ذلك في بيت المقدس إمامًا، صلى بأرواحهم، ثم عرج به إلى السماء.

قالوا: ومَن معك؟ قال: معي محمدٌ، قالوا: وقد بُعِثَ؟ قال: نعم، قالوا: فمرحبًا به وأهلًا، فيستبشر به أهل السماء، لا يعلم أهل السماء بما يريد الله به في الأرض حتى يُعلمهم، فوجد في السماء الدنيا آدم.

لاحظ هنا: أن السماء لها بناءٌ، ولها أبوابٌ، وجبريل  معه النبي يستفتح.

هذا يدل على أنها أجرامٌ محسوسةٌ، وفيه ردٌّ على بعض الملاحدة، وبعض أهل الفلك الذين يقولون: إن السماء هي العلو. ويُنكرون أن السماء أجرامٌ محسوسةٌ، ويقولون: إنه فضاء، والسماء: ما علاك فهو سماء.

هذا الكلام غير صحيحٍ، هذا مُصادمٌ للنصوص، والسماء أجرامٌ مبنيةٌ محسوسةٌ، ولها أبوابٌ، والله تعالى يقول: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا، كيف تكون السماء فضاءً؟! وهي مبنيةٌ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [الذاريات:47].

ثم لاحظ هنا: كيف أن جبريل  معه النبي يأتي عند أبواب السماء يستفتح فيُفتح له؟ هذا يدل على أنها أجرامٌ محسوسةٌ.

فهذا الكلام الذي يُردده بعضهم كلامٌ باطلٌ، ومع الأسف بعض مَن كتب في التفسير يُردد هذا الكلام -كلام بعض الغربيين-، وهو كلامٌ مُصادمٌ للنصوص، فليست السماء مجرد فضاءٍ، إنما السماء أجرامٌ مبنيةٌ محسوسةٌ؛ ولذلك جبريل  ومعه النبي يستفتح فيُفتح له.

فوجد في السماء الدنيا آدم، فقال له جبريل: هذا أبوك آدم، فسَلِّمْ عليه، فسلَّم عليه، وردَّ عليه آدم، وقال: مرحبًا وأهلًا بابني، نِعْمَ الابن أنت، فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطَّردان، فقال: ما هذان النهران يا جبريل؟ قال: هذا النيل والفرات، عنصرهما، ثم مضى به في السماء، فإذا هو بنهرٍ آخر عليه قصرٌ من لؤلؤٍ وزبرجدٍ، فضرب يده، فإذا هو مِسْكٌ أَذْفَر.

كيف يكون النيل والفرات في السماء؟

الله أعلم، هذه أمورٌ نؤمن بها، ولا نعلم كيفيتها وحقيقتها.

قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي خبَّأ لك ربك.

وهو نهرٌ في الجنة.

ثم عَرَجَ به إلى السماء الثانية، فقالت الملائكة له مثلما قالتْ له الأولى: مَن هذا؟ قال: جبريل، قالوا: ومَن معك؟ قال: محمدٌ ، قالوا: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: نعم، قالوا: مرحبًا به وأهلًا.

ثم عَرَجَ به إلى السماء الثالثة، وقالوا له مثلما قالت الأولى والثانية، ثم عَرَجَ به إلى الرابعة، فقالوا له مثل ذلك، ثم عرج به إلى السماء الخامسة، فقالوا مثل ذلك، ثم عَرَجَ به إلى السماء السادسة، فقالوا له مثل ذلك، ثم عرج به إلى السماء السابعة، فقالوا له مثل ذلك، كل سماءٍ فيها أنبياء قد سمَّاهم، فأوعيتُ منهم إدريس في الثانية، وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه، وإبراهيم في السادسة، وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله، فقال موسى: ربِّ، لم أظنّ أن يُرفع عليَّ أحدٌ.

وهذا من باب الغِبْطَة، ليس حسدًا، إنما من باب الغِبْطة.

ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله.

يعني: حتى جاوز السماء السابعة.

حتى جاء سِدْرَة المُنْتَهى، ودنا للجبار ربِّ العِزة، فَتَدَلَّى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى.

وهذا أيضًا مما أنكروه على شريك.

المقصود: قاب قوسين أو أدنى من جبريل ، وليس من الله، فهذا مما أُنكر على شريكٍ.

وشريك قدَّم في هذا الحديث وزاد وأخَّر وأدخل، وخطَّأه كثيرٌ من المُحدثين، فهذا القول: إنه “دنا للجبار ربِّ العِزة” غير صحيحٍ، إنما المقصود ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم:8] من جبريل  فقط، وليس من الرب ، فالله تعالى فوق ذلك، وأكبر من ذلك جلَّ وعلا.

كيف فُرضت الصلاة؟

فأوحى الله فيما أوحى إليه: خمسين صلاةً على أُمتك كل يومٍ وليلةٍ، ثم هبط حتى بلغ موسى، فاحتبسه موسى فقال: يا محمد، ماذا عَهِدَ إليك ربك؟ قال: عَهِدَ إليَّ خمسين صلاةً كل يومٍ وليلةٍ.

هذا من رحمة الله بهذه الأمة: أن قيَّض موسى  لنبينا محمدٍ أن يسأله هذا السؤال، وإلا لو بقيتْ خمسين صلاةً في اليوم والليلة، تصوروا يا إخوان خمسين صلاةً في أربعٍ وعشرين ساعةً، كل نصف ساعةٍ تقريبًا نُصلي صلاةً، فمن رحمة الله أن قيَّض موسى .

قال: إن أُمتك لا تستطيع ذلك.

جاء في روايةٍ أنه قال: إني قد جربتُ الناس قبلك، وعالجتُ بني إسرائيل أشدَّ المُعالجة [3].

إن أُمتك لا تستطيع ذلك، فارجع فليُخَفِّفْ عنك ربك وعنهم، فالتفت النبي إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك، فأشار إليه جبريل: أن نعم إن شئتَ.

فَعَلَا به إلى الجبار، فقال وهو مكانه: يا ربِّ، خَفِّفْ عنا، فإن أُمتي لا تستطيع هذا، فوضع عنه عشر صلواتٍ، ثم رجع إلى موسى فاحتبسه، فلم يزل يُردده موسى إلى ربه حتى صارت إلى خمس صلواتٍ، ثم احتبسه موسى عند الخمس فقال: يا محمد، والله لقد راودتُ بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا، فضعفوا، فتركوه، فأُمتك أضعف أجسادًا، وقلوبًا، وأبدانًا، وأبصارًا، وأسماعًا.

الأمم السابقة كانت أقوى أبدانًا، وأطول أعمارًا، فأعمارهم تصل إلى الألف، فنوح  لبث في قومه في الدعوة ألف سنةٍ إلا خمسين عامًا.

وأجسامهم كانت كبيرةً، فآدم  طوله ستون ذراعًا، يعني: في حدود ثلاثين مترًا، وعرضه ثلاثة عشر ذراعًا.

فهم أكبر أجسادًا، وأطول أعمارًا؛ ولذلك عوَّض الله هذه الأمة بليلة القدر، يعملون فيها عملًا قليلًا، والأجر كثيرٌ.

قال: فارجع فليُخَفِّفْ عنك ربك.

يعني: يُخفف حتى تكون أقلَّ من خمس صلواتٍ.

كل ذلك يلتفت النبي إلى جبريل ليُشير عليه، ولا يكره ذلك جبريل، فرفعه عند الخامسة، فقال: يا ربِّ، إن أُمتي ضُعفاء: أجسادهم، وقلوبهم، وأسماعهم، وأبصارهم، وأبدانهم، فخَفِّفْ عنا، فقال الجبَّار: يا محمد، قال: لبيك وسعديك، قال: إنه لا يُبدل القول لدي، كما فرضتُه عليك في أم الكتاب.

لكن هذه الرواية مُخالفةٌ للرواية الأخرى: أن النبي قال: قد استحييتُ من ربي [4]، وأنه لم يُراجعه في الخمس، وربما لو راجعه لخُفِّفَتْ، ولله الحكمة في هذا.

والذي يظهر أن صلاة بني إسرائيل أقلّ من خمس صلواتٍ، قيل: إنها صلاتان؛ صلاةٌ في أول النهار، وصلاةٌ في آخر النهار، لكن الله تعالى لما أكرم هذه الأمة وفرض عليها خمس صلواتٍ لم يُخففها إلا في الفعل فقط، أما الأجر والثواب فلم يُخفف.

قال: فكل حسنةٍ بعشر أمثالها، فهي خمسون في أم الكتاب، وهي خمسٌ عليك، فرجع إلى موسى، فقال: كيف فعلتَ؟ قال: خَفَّفَ عنا؛ أعطانا بكل حسنةٍ عشر أمثالها، قال موسى: قد -والله- راودتُ بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه، ارجع إلى ربك، فليُخَفِّفْ عنك أيضًا، قال رسول الله : يا موسى، قد -والله- استحييتُ من ربي مما اختلفتُ إليه، قال: فاهبط باسم الله، قال: واستيقظ وهو في مسجد الحرام [5].

كما ذكرتُ أن هذا الحديث فيه إشكالاتٌ؛ ولذلك أُنكرتْ على شريكٍ بعض الأمور التي ذُكرتْ في هذا الحديث، ويُغني عنه الروايات والأحاديث الأخرى، لكن حديث الإسراء والمعراج من حيث الجملة ثابتٌ في الصحيحين.

بابٌ: كلام الرب مع أهل الجنة

ثم قال المصنف رحمه الله تعالى:

بابٌ: كلام الرب مع أهل الجنة.

أيضًا أورد المؤلف هذا الباب لإثبات صفة الكلام، ثم ساق بسنده عن أبي سعيدٍ الخدري قال:

قال النبي : إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة. فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير في يديك. فيقول: هل رضيتُم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تُعْطِ أحدًا من خلقك.

يعني: لو لم يأتهم إلا النجاة من النار؛ لأنهم يرون كُرْبَة يوم القيامة، يومٌ طوله خمسون ألف سنةٍ، تدنو الشمس فيه حتى تكون على قدر ميلٍ، ثم بعد ذلك يجوزون الصراط المنصوب على متن جهنم، فلو لم يأتهم إلا النجاة من النار، ومن هذه الكُرَب لكفى، فكيف بهذا النعيم العظيم الذي هم فيه؟! نعيمٌ عظيمٌ لا يخطر على البال، فالجنة فيها ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطر على قلب بشرٍ.

تصور أعظم لذةٍ في الدنيا، نعيم الجنة فوقها.

فيسأل اللهُ أهلَ الجنة، يُناديهم فيقول: هل رضيتم؟ يقولون: كيف لا نرضى وأنت أعطيتنا ما لم تُعْطِ أحدًا من خلقك؟! فيقول الله:

ألا أُعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب، وأي شيءٍ أفضل من ذلك؟ فيقول: أُحِلُّ عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدًا [6].

الله أكبر!

هذا عطاءٌ عظيمٌ: أن الله يُحِلُّ عليهم الرضوان، فلا يسخط عليهم أبدًا.

ثم إن الله تعالى أيضًا يُناديهم يقول: تُريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تُبيض وجوهنا؟ ألم تُدخلنا الجنة، وتُنجنا من النار؟ فيكشف الحجاب عن وجهه جلَّ وعلا، فيرون الله تعالى كما يرون القمر ليلة البدر، فما أُعطوا شيئًا من النعيم أعظم من النظر إلى وجه الرب ، ويُسلم عليهم [7].

قصة الذي يريد أن يزرع في الجنة

ثم ساق المصنف بسنده حديث أبي هريرة ، وهو حديثٌ عجيبٌ غريبٌ:

أن النبي كان يومًا يُحدث، وعنده رجلٌ من أهل البادية: أن رجلًا من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع.

يعني: هو من أهل الجنة، وأهل الجنة يتمنون أي شيءٍ فيُعطون.

هذا رجلٌ فلاحٌ، صاحب مزرعةٍ، عنده الزرع أحبُّ شيءٍ إليه، وأنتم تعرفون أن الناس كلٌّ له اهتماماته، فهذا أحبُّ شيءٍ عنده الزراعة، وهذا أحبُّ شيءٍ عنده السيارات، وهذا أحبُّ شيءٍ عنده التجارة، وهذا أحبُّ شيءٍ عنده الخيل، وهذا أحبُّ شيءٍ عنده الإبل، فكل واحدٍ من الناس يُحب شيئًا.

هذا الرجل أحبُّ شيءٍ عنده الحَرْث والزراعة، ودخل الجنة، فاستأذن ربَّه في الزرع، يريد أن يزرع في الجنة، فيقول الله له:

أولستَ فيما شئتَ؟ قال: بلى، ولكني أُحب أن أزرع.

مُولعٌ بالزراعة، قال:

فأسرع وبَذَرَ.

أعطاه الله، قال له: ابذر، ازرع.

فأسرع وبَذَرَ، فتبادر الطرفَ نباتُه، واستواؤه، واستحصاده، وتكويره أمثال الجبال.

بَذَرَ فنبت الزرع بسرعةٍ، ثم طال الزرع وأصبح كأمثال الجبال، سبحان الله!

فيقول الله تعالى: دونك يا ابن آدم، فإنه لا يُشْبِعك شيءٌ، فقال الأعرابي: يا رسول الله، لا تجد هذا إلا قرشيًّا أو أنصاريًّا، فإنهم أصحاب زرعٍ، فأما نحن –يعني: البادية- فلسنا بأصحاب زرعٍ. فضحك رسول الله [8].

يقول: هذا إما أنه قرشيٌّ أو أنصاريٌّ، ليس من البادية، فهم أصحاب الزرع، فضحك النبي .

وفي هذا دليلٌ على أن ما يشتهيه أهل الجنة يُحصِّلونه، كل ما يشتهيه أهل الجنة يطلبونه ويُحصِّلونه، وتكون أيضًا لأهل الجنة أحاديث؛ يتحدثون فيما بينهم ويتساءلون ويتسامرون: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ۝قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ [الصافات:50-51]، فيجتمعون ويتذكرون أحوالهم في الدنيا؛ يتذكرون مثل هذه المجالس، ويتذكرون مَن كان يطلب العلم، وطلبه للعلم، ويتذكرون الأمور التي حصلتْ في الدنيا، وقد نزع الله من قلوبهم الغِلَّ والحسد والغِيرة، فهذه تُنزع نزعًا.

ومن أعظم أُنْسِهم المجالس فيما بينهم، يتساءلون ويتسامرون فيما بينهم: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ۝ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ۝يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ [الصافات:50-52]، كل واحدٍ يَقُصُّ قصته في الدنيا.

هل يجتمع الأقارب في الجنة؟

يُكرم الله تعالى أيضًا، يعني: الاجتماع والأُنس من النعيم فيما بينهم، وأيضًا أصحاب العائلة الواحدة، إذا كان رب الأسرة -مثلًا- في درجةٍ أعلى، وزوجته وأولاده أقلّ منه، لكن كلهم في الجنة، يرفع الله تعالى أولاده إلى الدرجة التي هو فيها؛ حتى يجتمعوا ويحصل الأُنس فيما بينهم، كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطور:21] يعني: عمل هذا كاملٌ، هذا الرجل -مثل: رب الأسرة- ما ينقص من عمله، ولا من أجره، ولا من درجته شيءٌ، لكن هذا تفضلٌ وتكرمٌ من الله: أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ يعني: ما أنقصناهم من عملهم من شيءٍ.

سبحان الله!

هذا من كمال الأُنس في الجنة، فالإنسان قد يُحب أن يكون مع أولاده في الجنة يتحدث معهم، ويتكلم معهم، ويتسامر معهم، فإذا كانوا كلهم في الجنة يجمعهم الله تعالى جميعًا، ويرفع درجة الأدنى حتى يكونوا مع الأعلى، وهذا من كمال نعيم الجنة يا إخواني، لكن بشرط: أن يكونوا كلهم في الجنة.

بابٌ: ذكر الله بالأمر، وذكر العباد بالدعاء والتَّضرع والرسالة والبلاغ

ثم قال المصنف رحمه الله:

بابٌ: ذكر الله بالأمر، وذكر العباد بالدعاء والتَّضرع والرسالة والبلاغ؛ لقوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ۝فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:71-72].

قال:

غُمَّةً هَمٌّ وضيقٌ.

قال مجاهد: “اقضوا إليَّ ما في أنفسكم”. يقال: افْرُقْ: اقْضِ.

وهذا الباب ساقه المصنف رحمه الله للرد على الجهمية في قولهم: “لا قُدرة للعبد أصلًا”، وعلى المعتزلة الذين قالوا: “لا دخل لقُدرة الله فيها”، وهو يريد أن يردَّ على هذه الفرق.

وقال مجاهد: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [التوبة:6]، إنسانٌ يأتيه فيستمع ما يقول، وما أُنزل عليه، فهو آمنٌ حتى يأتيه فيسمع كلام الله، وحتى يبلغ مَأْمَنَه حيث جاءه.

والنَّبَإِ الْعَظِيمِ [النبأ:2] القرآن.

صَوَابًا [النبأ:38] حقًّا في الدنيا، وعَمِلَ به.

هذا توضيحٌ من المصنف رحمه الله لبعض المُفردات في هذه الآيات.

والمؤلف بدأ هذا فقال: “لقوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ“، وإنما أراد أن يُبيِّن أن ذكر الله غير ذكر العبد، فذكر العبد لله يختلف عن ذكر الله للعبد، فأراد أن يُبيِّن الفرق بين فعل الله وما هو صفةٌ له، وفعل العبد وما هو صفةٌ له بالردِّ على مَن لم يُفرق بين ذلك.

بابٌ: قول الله تعالى: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

بابٌ: قول الله تعالى: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا [البقرة:22]، وقوله جلَّ ذكره: وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ [فصلت:9].

وغرض البخاري من هذا الباب: إثبات نسبة الأفعال كلها لله تعالى، سواءٌ كانت من المخلوقين خيرًا أو شرًّا، فهي لله تعالى خلقٌ، وللعباد كسبٌ، فالله تعالى خلقكم وما تعملون.

وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ۝ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر:65-66]، وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [الفرقان:68].

وقال عكرمة: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106]، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ [الزخرف:87] ومَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]، فذلك إيمانهم، وهم يعبدون غيره، وما ذُكر في خلق أفعال العباد وأكسابهم؛ لقول الله تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2].

والمؤلف نفسه -البخاري- له كتابٌ اسمه “خلق أفعال العباد”؛ لأن هذه القضايا كانت في زمن المؤلف محل مُعْتَرَكٍ وأَخْذٍ ورَدٍّ وجدلٍ، وكان ذلك بسبب ترجمة كتب اليونان، فترجمة كتب اليونان فتحتْ على المسلمين أبواب شرٍّ عظيمةً، وسبَّبتْ مُصيبةً؛ لأنه أتى أناسٌ وتأثروا بهذه الكتب، ودائمًا الانفتاح له ضريبةٌ، فتأثروا بهذه الكتب، فدخلتْ هذه العلوم؛ علوم الكلام، ومثل هذه العقائد.

قال مجاهد: مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ [الحجر:8] يعني: بالرسالة والعذاب، لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [الأحزاب:8] المُبَلِّغين المُؤدِّين من الرسل، وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] حافظون عندنا، وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ [الزمر:33] القرآن، وَصَدَّقَ بِهِ [الزمر:33] المؤمن يقول يوم القيامة: هذا الذي أعطيتني عملتُ بما فيه.

فيريد المؤلف من هذا أن يُثبت نسبة الأفعال كلها إلى الله ، وأن الله تعالى خالقٌ لها: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96].

أعظم الذنوب عند الله

ثم ساق المصنف حديث عبدالله بن مسعود ، قال:

سألتُ النبي : أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نِدًّا، وهو خلقك.

فأثبت الخلق.

قلتُ: إن ذلك لعظيمٌ. قلتُ: ثم أي؟ قال: ثم أن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك، قلتُ: ثم أي؟ قال: ثم أن تُزاني بحليلة جارك [9].

هذه أعظم الذنوب عند الله :

  • الأول: الشرك بالله.
  • الثاني: قتل الولد خشية الإملاق والفقر.
  • الثالث: الزنا بحليلة الجار.
    الزنا وإن كان من كبائر الذنوب إلا أنه إذا كان بامرأة الجيران يكون الذنب أشدَّ وأعظم، وإذا كان بامرأة مَن يُجاهد في سبيل الله فالذنب أعظم وأعظم؛ لأنه جاء في “صحيح مسلم”: أنه مَن زنى بامرأة رجلٍ خرج للجهاد في سبيل الله فإن الله يقول يوم القيامة لهذا الرجل المجاهد: خُذْ من حسناته ما شئتَ، يقول النبي : فما ظنُّكم؟ [10].
    ما ظنُّكم حين يُقال للإنسان: “خُذْ من حسنات هذا ما تشاء” يوم القيامة؟ هل سيُبقي حسنةً واحدةً له؟ لن يُبقي له أي حسنةٍ، سيأخذ حسناته كلها؛ وذلك لأنه قد تعدى على امرأته، وخانه في زوجته، وقد خرج مُجاهدًا في سبيل الله
    ، فإثمه عظيمٌ، وجُرْمه كبيرٌ؛ ولذلك يُقال: خُذْ من حسناته ما شئتَ.

بابٌ: قول الله تعالى: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ …

ثم قال المصنف رحمه الله:

بابٌ: قول الله تعالى: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ [فصلت:22].

غرض البخاري من هذا الباب: بيان أن أعمال العباد واقعةٌ بفعلهم، قال: كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ.

ثم ساق بسنده عن ابن مسعودٍ قال:

اجتمع عند البيت ثقفيان وقُرشيٌّ، أو قُرشيان وثقفيٌّ، كثيرةٌ شحم بطونهم، قليلةٌ فقه قلوبهم، فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع ما نقول؟ قال الآخر: يسمع إن جهرنا، ولا يسمع إن أخفينا. وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا، فإنه يسمع إذا أخفينا. فأنزل الله تعالى: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ [11].

طبعًا هذا الكلام من هؤلاء المشركين يدل على ضعف عقولهم، وإلا فإن الله تعالى يسمع كل شيءٍ، ويسمع السرَّ وأخفى جلَّ وعلا: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 7516.
^2 رواه البخاري: 7440.
^3 رواه البخاري: 3887.
^4 رواه البخاري: 3342، ومسلم: 163.
^5 رواه البخاري: 7517.
^6 رواه البخاري: 7518.
^7 رواه مسلم: 181.
^8 رواه البخاري: 7519.
^9 رواه البخاري: 7520.
^10 رواه مسلم: 1897.
^11 رواه البخاري: 7521.