الرئيسية/دروس علمية/شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري/(4) باب قوله تعالى: {وهو العزيز الحكيم}- من حديث “تقول جهنم: قط قط وعزتك”
|categories

(4) باب قوله تعالى: {وهو العزيز الحكيم}- من حديث “تقول جهنم: قط قط وعزتك”

مشاهدة من الموقع

بابٌ: قول الله: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

قال المؤلف رحمه الله:

بابٌ: قول الله: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [إبراهيم:4]، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات:180]، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ [المنافقون:8].

صفة العزة لله

مراد المؤلف في هذا الباب إثبات صفة العزة لله ​​​​​​​، والرد على مَن يقول من أهل البدع: إن الله عزيزٌ بلا عِزّة، عليمٌ بلا علمٍ. فأراد المؤلف أن يردَّ عليهم فقال: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، فالله تعالى هو العزيز، والعزة صفةٌ من صفاته، والعزيز اسمٌ من أسمائه، والعزيز مأخوذٌ من عَزَّ يَعَزُّ، إذا اشتدَّ وقوي، ومنه يُقال للأرض: العزاز، أي: الصلبة الشديدة.

قال: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وهذا فيه إثبات صفة العزة لله سبحانه: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ.

ومَن حلف بعِزَّة الله وصفاته.

إذا قلنا: إن العِزَّة من صفات الله فيجوز الحلف بعزة الله؛ ولذلك ذكر الله عن إبليس أنه قال: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82]، حلف بعزة الله.

وقال أنسٌ : قال النبي : تقول جهنم: قَطْ، قَطْ، وعِزَّتك.

وسيُورد المؤلف الحديث بعد حديثين بلفظٍ أوسع.

وقال أبو هريرة ، عن النبي : يبقى رجلٌ بين الجنة والنار، آخر أهل النار دخولًا الجنة، فيقول: يا ربِّ، اصرفْ وجهي عن النار، لا وعِزَّتك لا أسألك غيرها.

قال أبو سعيدٍ : إن رسول الله قال: قال الله : لك ذلك وعشرة أمثاله.

وقال أيوب: وعِزَّتك لا غِنَى بي عن بركتك.

قصة آخر مَن يدخل الجنة

هذا الرجل قصته وردتْ في روايةٍ أخرى في الصحيحين بلفظٍ أوسع: آخر أهل النار دخولًا الجنة يعني: مَن مات على التوحيد، يصف النبيُّ حاله، فيدعو الله  فيقول: يا ربِّ، اصرفْ وجهي عن النار، قد قَشَبَني ريحها، وأحرقني ذكاؤها، فيقول: هل عسيتَ إن فعلتُ ذلك بك أن تسأل غيره؟ فيقول: لا وعِزَّتك. فيُعطي الله ما يشاء من عهدٍ وميثاقٍ أنه لا يسأله غيره، فيصرف الله وجهه عن النار، فإذا أقبل على الجنة ورآها سكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: أي ربِّ، قَدِّمْني إلى باب الجنة. فيقول الله له: أليس قد أعطيتَ عهودك ومواثيقك لا تسألني غير الذي أعطيتُك؟! ويلك يا ابن آدم! ما أغدرك! فيقول: يا ربِّ، لا أكون أشقى خلقك … فيُقدمه إلى باب الجنة، لكنه لم يدخلها، فإذا رأى الجنة مكث ما شاء الله، ثم قال: يا ربِّ، أدخلني الجنة. فيقول الله: ويحك يا ابن آدم! ما أغدرك! أليس قد أعطيتَ العهود والميثاق ألا تسأل غير الذي أُعطيتَ؟! فيقول: يا ربِّ، لا تجعلني أشقى خلقك. فيضحك الله ​​​​​​​ منه على الوجه اللائق به، فيقول الله له: تَمَنَّ، فيتمنى، ويتمنى، ويتمنى، حتى تنقطع جميع أمانيه، فيقول الله: لك ذلك وعشرة أمثاله، كما ذكر هنا: لك ذلك وعشرة أمثاله [1].

سبحان الله! إذا كان هذا آخر أهل الجنة دخولًا الجنة، فما بالكم بغيره؟! كيف يكون نعيمه؟!

آخر أهل الجنة يقول الله له: تَمَنَّ، فيتمنى، ويتمنى، ويتمنى، حتى تنقطع جميع أمانيه، ثم يقول الله له: لك ذلك وعشرة أمثاله، سبحان الله!

والشاهد من هذه القصة قوله: لا، وعِزَّتك، فحلف بعِزَّة الله، وهذا يدل على أنها من صفات الله .

جاء في “صحيح مسلم” -انتبهوا لهذا الحديث العظيم-: أن الله تعالى يُخرج من النار أربعةً، وينظر إليهم، فيقول أحدهم: أي ربِّ، إذ أخرجتني منها فلا تُعِدْني فيها [2]، فيأمر الله تعالى بأن يدخل الجنة، وأما الثلاثة الآخرون فيرجعون إلى النار.

قال أهل العلم: إن هؤلاء الأربعة كلهم يستحقون النار، لكن الله عرضهم عليه يريد أن يسألوه، فما سأل أحدٌ منهم إلا واحدًا، أما الثلاثة الآخرون فسكتوا.

وهذا يدل على فضل المُبادرة يا إخوان، فإذا جاءت للإنسان فرصة خيرٍ يُبادر، فهذا الرجل قام وتكلم وقال: أي ربِّ، إذ أخرجتني منها فلا تُعِدْني فيها، فرحمه الله بهذه الكلمة فأدخله الجنة، والثلاثة الآخرون سكتوا.

ولهذا قال بعض الشراح -قال ابن هُبيرة وغيره-: هذا من العجز، فهي للإنسان فرصةٌ: أن الله عرضك عليه، فتسأل الله الرحمة، وتسأله أن يُدخلك الجنة، وأن يُنجيك من النار، والثلاثة الآخرون سكتوا؛ فأعادهم الله مرةً أخرى إلى النار، وهذا من عدل الله، فهم أصلًا يستحقون النار، لكن الله عرضهم يريد منهم أن يسألوه، وأن يدعوه، فما تكلم منهم إلا واحدٌ.

هذا -يا إخوان- يدل على أهمية المُبادرة: أن الإنسان يبتعد عن العجز والكسل، وإذا أتى مجالٌ فيه خيرٌ يُبادر إليه.

قال:

حدثنا أبو معمر: حدثنا عبدالوارث: حدثنا حسين المعلم: حدثني عبدالله بن بُريدة، عن يحيى بن يعمر، عن ابن عباسٍ: أن النبي كان يقول: أعوذ بعِزَّتك، الذي لا إله إلا أنت، الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون [3].

محل الشاهد: أن النبي كان يستعيذ بعِزَّة الله ، وهذا يدل على أنها صفةٌ من صفات الله .

إذن العِزَّة يجوز الحلف بها، وتجوز الاستعاذة بها، فهي من صفات الله ، وهذا هو مُعتقد أهل السنة والجماعة، وهذا أيضًا من التعوذات العظيمة: أن يتعوذ المسلم ويقول: يا ربِّ، أعوذ بعِزَّتك، الذي لا إله إلا أنت، الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون.

وأيضًا جاء في الحديث الآخر: أعوذ بعِزَّة الله وقُدرته من شَرِّ ما أجد وأُحاذِر [4]، يقولها المريض، أو مَن مسَّه الضرُّ.

هل الملائكة يموتون؟

قوله: والجن والإنس يموتون، هذا مُجمعٌ عليه: أن الجنَّ والإنس يموتون، لكن هل الملائكة تموت، أو لا تموت؟

الجن والإنس يموتون، لكن الملائكة هل تموت، أو لا تموت؟

هذا محل خلافٍ بين العلماء:

  • فمن أهل العلم مَن قال: إن الملائكة لا تموت، وأنهم يدخلون في المُستثنى: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68].
  • والقول الثاني هو قول أكثر أهل العلم: أن الملائكة يموتون؛ لقول الله سبحانه: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88].

ومَن قال: إنهم لا يموتون -كابن حزمٍ- استدلَّ بهذا الحديث، قال: إن النبي قال: أعوذ بعِزَّتك، الذي لا إله إلا أنت، الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون، قال: يُفهم منه أن الملائكة لا تموت.

ولكن هذا استدلالٌ عليلٌ؛ إذ إن هذا استدلالٌ بالمفهوم، والآية أصرح من هذا المفهوم، فإن الآية قال الله فيها: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ.

وعلى هذا فقول الجمهور أرجح: وهو أن الملائكة تموت كالجنِّ والإنس، ثم يُحييهم الله : فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ، لكن آخر مَن يموت من الملائكة: جبريل، وإسرافيل، وميكائيل، وملك الموت، فهم آخر مَن يموت من الملائكة، والله تعالى أعلم وأحكم جلَّ وعلا.

وعالم الآخرة يختلف -يا إخوان- عن عالم الدنيا تمامًا، ولا نستطيع أن نتخيله، فهو عالمٌ مُختلفٌ تمامًا، فنؤمن بالنصوص كما وردتْ.

قال:

حدثنا ابن أبي الأسود: حدثنا حرمي: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أنسٍ، عن النبي قال: لا يزال يُلْقَى في النار. ح [يعني: هو من طريقٍ آخر للحديث]، وقال لي خليفة: حدثنا يزيد بن زريع: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنسٍ. ح، وعن معتمر: سمعتُ أبي، عن قتادة، عن أنسٍ .

أورده المؤلف من عدة طرقٍ في هذا الموضع وفي غيره.

عن أنسٍ ، عن النبي قال: لا يزال يُلْقَى فيها يعني: في جهنم، وتقول: هل من مزيدٍ؟.

هذا كما قال ربنا سبحانه: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق:30]، فلا يزال يُلْقَى فيها من الجنِّ والإنس.

حتى يضع فيها ربُّ العالمين قدمه؛ فينزوي بعضها إلى بعضٍ.

الرب سبحانه يضع قدمه على جهنم على الوجه اللائق بالله سبحانه، ليست كقدم المخلوقين، يضع الربُّ قدمه على جهنم.

فينزوي بعضها إلى بعضٍ، ثم تقول: قَدْ، قَدْ.

وفي لفظٍ: قَطْ، قَطْ [5]، يعني: حسبي، حسبي، يعني: يكفي.

بعِزَّتك وكرمك.

وهذا موضع الشاهد: بعِزَّتك، وهذا دليلٌ على إثبات صفة العِزَّة لله .

ولا تزال الجنة تفضل حتى يُنْشِئ الله لها خَلْقًا، فيُسْكِنهم فضل الجنة [6].

الله تعالى تكفل بأن يملأ الجنة والنار، قال: ولكليكما عليَّ مِلْؤُها [7]، أما النار فتقول: هل من مزيدٍ؟ حتى يضع الرب قدمه عليها؛ فينزوي بعضها إلى بعضٍ فتمتلئ، فتقول: يا ربِّ، قَطْ، قَطْ يعني: حسبي، حسبي.

وأما الجنة: فإن الله تعالى يُنْشِئ فيها خلقًا حتى تمتلئ، وهذا معنى قوله: ولا تزال الجنة تفضل حتى يُنْشِئ الله لها خلقًا، وهذا تَفَضُّلٌ من الله على بعض الخلق: أن الله تعالى يُدخلهم الجنة من غير عملٍ، هذا من فضل الله على بعض الخلق.

إذن سوف تمتلئ الجنة والنار، والله تعالى توعد بِمِلْءِ الجنة والنار، لكن تمتلآن بهذه الطريقة التي بيَّنها النبي ؛ بأن النار يضع الربُّ قدمه حتى ينزوي بعضها إلى بعضٍ، وأما الجنة فيُنْشِئ الله تعالى لها خلقًا.

وموضع الشاهد -كما ذكرنا-: إثبات صفة العِزَّة لله على الوصف اللائق بالله .

بابٌ: قول الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ

قال المؤلف رحمه الله:

بابٌ: قول الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ [الأنعام:73].

صفة الكلام لله سبحانه

مراد المؤلف بهذا الباب: أن قول الله حقٌّ، وهو صفةٌ له، وما وُجد بقوله فهو غير القول، بل هو المفعول المخلوق.

فقوله الذي خلق به الأشياء لا يجوز أن يكون مُماثلًا لها، فقول الله تعالى إذن صفةٌ له، والله تعالى نُثبت له صفة الكلام على الوجه اللائق بالله سبحانه.

وقد أنكرتْ طوائف من أهل البدع صفة الكلام لله سبحانه، مع أن الله تعالى قال: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164].

سبحان الله! كأن هذه الآية ردٌّ عليهم؛ ردٌّ على هؤلاء الذين أنكروا صفة الكلام لله .

ولذلك تعهد أبو العباس ابن تيمية رحمه الله بقوله: “أنا ألتزم ألا يحتج مُبطلٌ بآيةٍ أو حديثٍ صحيحٍ على باطله إلا وفي ذلك الدليل ما يدل على نقيض قوله”، وقد التزم رحمه الله بهذا.

فالذين أنكروا صفة الكلام، الله تعالى يقول: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا، كيف أنكروا صفة الكلام؟!

ثم لما أتوا للقرآن قالوا: القرآن مخلوقٌ؛ حتى يُنكروا صفة الكلام لله سبحانه؛ لأنهم لو قالوا: “مُنزَّلٌ” فقد أثبتوا صفة الكلام، وقد حصل هذا في عهد الإمام أحمد، فإنه في عهد الإمام أحمد حصل انفتاحٌ من المجتمع الإسلامي على المجتمعات الأخرى، فتُرجمتْ كتب اليونان؛ ولما تُرجمتْ كتب اليونان دخلتْ على المسلمين بعُجَرها وبُجَرها، فتأثر مَن تأثر، فنشأت الجهمية، وأنكروا بعض الصفات لله ، ومنها صفة الكلام، وقالوا: القرآن مخلوقٌ، ثم إنهم أصبحوا هم بطانة المأمون.

ولم يكتفِ المأمون فقط بدعوة الناس إلى اعتناق هذه العقيدة، لا، بل أجبر الناس، وأصبح الناس يُمتحنون، فالذي يقول: القرآن غير مخلوقٍ، يُحبس ويُجلد؛ فخاف الناس، وكل الناس أصبحوا يقولون: القرآن مخلوقٌ، وما بقي من العلماء إلا أربعةٌ: الإمام أحمد، وثلاثةٌ آخرون، ثم إنهم حُبِسوا وعُذِّبوا؛ فرجع من هؤلاء الأربعة اثنان، ما تحمَّلا التعذيب والحبس، وما بقي إلا الإمام أحمد، ومحمد بن نصر بن نوح -وكان رجلًا شابًّا صغيرًا- فأمر المأمون بأن يُحملا إليه مُقيدين، فحُملا إليه مُقيدين بالسلاسل.

الإمام أحمد يقول في الطريق: أتاني أعرابيٌّ، والله ما نفعتني نصيحةٌ مثل نصيحة هذا الأعرابي، قال: يا أحمد، إنك رأسٌ، وإنك إذا قلتَ: القرآن مخلوقٌ، تبعتك الأُمة، وإذا قلتَ: إنه مُنزَّلٌ، فإن الأُمة ستتبعك، فاصبر واحتسب.

فجعل الإمام أحمد يبكي ويقول: ما شاء الله! ما شاء الله! أَعِدْ عليَّ.

يقول: ما نفعتني نصيحةٌ مثل نصيحة هذا الأعرابي.

وقد دعا الإمامُ أحمد اللهَ بألا يجمع بينه وبين المأمون، فتُوفي المأمون، لكن كان أخوه من بعده المعتصم أشدَّ من المأمون، فأمر بضربه، فكان يُضرب ضربًا شديدًا.

قال الإمام أحمد: والله إني لا أخشى الموت، فكلٌّ سيموت، ولي أجلٌ كتبه الله، لكني أخشى فتنة السوط. أخشى أن أُعذَّب فلا أحتمل التعذيب فأفتتن، فسمعه أحد الجلَّادين فقال: ما هو إلا سوطٌ أو سوطان، ثم لا تدري أين أنت؟ يعني: يُغْمَى عليك، فلما سمع ذلك فرح، وسُري عنه، يعني: يُضرب لهذه الدرجة إلى أن يُغْمَى عليه من شدة الضرب، سبحان الله!

وحُبس ثمانيةً وعشرين شهرًا، إلى أن فرَّج الله عنه وعن الأُمة بأن تُوفي المعتصم، وولي المُتوكل، ونصر الله به السنة، وعادت الأُمة كلها إلى قول الإمام أحمد: أن القرآن مُنزَّلٌ غير مخلوقٍ، سبحان الله!

ولذلك قال ابن المديني: إن الله ​​​​​​​ أعزَّ هذا الدين برجلين ليس لهما ثالثٌ: أبو بكر الصديق يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة.

فهذا الكلام -يا إخواني- للبخاري رحمه الله وقد عاصر هذه الفتنة حين خرجتْ هذه الفرق المُنحرفة، وهي الآن لها وجودٌ، وبدأتْ تظهر الآن، وتُقرر مثل هذه العقائد، فالإمام البخاري أراد أن يرد على هذه الفرق، وهو إثبات صفة الكلام لله .

قال: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ [الأنعام:73] أي: بكلمة الحق، وهو قوله: كُنْ [الأنعام:73].

حدثنا قبيصة: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن سليمان، عن طاوس، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: كان النبي يدعو من الليل: اللهم لك الحمد أنت رب السماوات والأرض، لك الحمد أنت قيِّم السماوات والأرض [وفي لفظٍ: قيوم] ومَن فيهن، لك الحمد أنت نور السماوات والأرض، قولك الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حقٌّ، والجنة حقٌّ، والنار حقٌّ، والساعة حقٌّ، اللهم لك أسلمتُ، وبك آمنتُ، وعليك توكلتُ، وإليك أنبتُ، وبك خاصمتُ، وإليك حاكمتُ، فاغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وأسررتُ وأعلنتُ، أنت إلهي، لا إله لي غيرك.

حدثنا ثابت بن محمدٍ: حدثنا سفيان بهذا، وقال: أنت الحق، وقولك الحق [8].

الدعاء الذي يُستحب أن يُستفتح به قيام الليل

محل الشاهد قوله: وقولك الحق، وهذا الذي يأتي به النبي هو دعاء الاستفتاح، يُستحب أن تُستفتح به صلاة الليل، فكان يدعو من الليل، يعني: يستفتح صلاته من الليل بهذا الدعاء بعدما يُكبر تكبيرة الإحرام في تهجده، كما جاء ذلك في رواية ابن خزيمة.

اللهم لك الحمد أنت رب السماوات والأرض، لك الحمد أنت قيِّم السماوات والأرض، وفي لفظٍ: قيام، وفي لفظٍ: قيوم أي: قائمٌ بأمور الخلق.

والقيوم: هو القائم بنفسه، القائم على عباده، وهو من أسماء الله تعالى، فمن أسمائه: الحيُّ القيوم، القائم بنفسه فلا يحتاج إلى أحدٍ، والقائم بأمور عباده.

أنت نور السماوات والأرض، وقولك الحق، وهذا موضع الشاهد، فالله تعالى يتكلم كما يشاء، كيف يشاء.

ووعدك الحق، ولقاؤك حقٌّ، والجنة حقٌّ، والنار حقٌّ، والساعة حقٌّ، جميع ما وعد الله به حقٌّ.

اللهم لك أسلمتُ، وبك آمنتُ، وعليك توكلتُ، وإليك أنبتُ، وبك خاصمتُ، وإليك حاكمتُ، فاغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وأسررتُ وأعلنتُ، أنت إلهي، لا إله لي غيرك.

هذا من أدعية الاستفتاح التي يُستحب أن تُفتتح بها صلاة الليل، وقد وردتْ أدعيةٌ أخرى.

وهل هذا يُستحب أن يُؤتى به في صلاة الفريضة؟

ما الدعاء الذي تُستفتح به صلاة الفريضة؟

الأفضل ألا تُفتتح به صلاة الفريضة، وإنما صلاة الليل؛ لأنه إنما ورد في صلاة الليل خاصةً، وأما صلاة الفريضة فتُستفتح بـ”سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدُّك، ولا إله غيرك”، أو “اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدتَ بين المشرق والمغرب، اللهم نَقِّني من الذنوب والخطايا كما يُنَقَّى الثوب الأبيض من الدَّنَس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبَرَد”، والأفضل التنويع بينهما: تارةً هذا، وتارةً هذا.

أما أدعية الاستفتاح الأخرى -ومنها هذا الدعاء- فالأفضل أن تكون في صلاة الليل.

هل الأنبياء تقع منهم الذنوب؟

هنا في قوله: فاغفر لي ما قدَّمتُ، وما أخَّرتُ الذي يقول ذلك النبي ، فهل معنى هذا أن الأنبياء تقع منهم الذنوب؟

الجواب: نعم، لكنهم معصومون عن الكبائر، وأما الصغائر فتقع منهم، وإلا لو كان الذنب لا يقع من النبي  فكيف يسأل الله المغفرة؟! كيف يقول: فاغفر لي ما قدَّمتُ، وما أخَّرتُ؟!

لهذا قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: اتَّفق المسلمون على أن الأنبياء معصومون فيما يُبلغون عن الله، وأنه لو لم تقع منهم الذنوب لفاتتهم التوبة، وهي من محبة الله، وفرحه، ورفعه درجة التائب.

إذن الأنبياء معصومون فيما يُبلغون عن الله، لكن قد تقع منهم الصغائر؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: فاغفر لي ما قدَّمتُ، وما أخَّرتُ.

نسينا في الباب السابق التعليق على قول أيوب : وعِزَّتك لا غِنَى بي عن بركتك، هذا ورد في حديثٍ أورده المؤلف بصيغةٍ أطول، وهو: أن أيوب عليه الصلاة والسلام كان يغتسل عريانًا، فنزل عليه جرادٌ من ذهبٍ، فجعل يجمع الجراد، فقال الله تعالى له: ألم أكن أغنيتُك عما ترى؟ قال: بلى وعِزَّتك، ولكن لا غِنَى بي عن بركتك، فكان هذا الجواب جوابًا عظيمًا من هذا النبي عليه الصلاة والسلام.

ونقف عند قول المؤلف: بابٌ: وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:134].

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 806، ومسلم: 182.
^2 رواه مسلم: 192.
^3 رواه البخاري: 7383.
^4 رواه ابن ماجه: 3522، والطبراني في “المعجم الكبير”: 8342.
^5 رواه البخاري: 4848.
^6 رواه البخاري: 7384.
^7 رواه مسلم: 2847.
^8 رواه البخاري: 7385.