عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا هو الدرس الثاني، والمجلس الثاني في هذه الدورة العلمية في شرح كتاب “التوحيد” من “صحيح البخاري”، وكنا قد وصلنا إلى:
باب: قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ
باب: قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:58].
ثم ساق المصنف رحمه الله تعالى حديث أبي موسى الأشعري ، وإنما أورد المؤلف رحمه الله هذا الباب لبيان إثبات الصبر لله ، وأن الصبور من أسماء الله سبحانه.
معنى الرَّزَّاق
أولًا: الآية الكريمة: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ فالله تعالى هو الرزاق، ومن أسمائه: الرزاق، وهو الذي يرزق عباده.
والرزاق صيغة مُبالغةٍ من الرازق، فالرزاق يعني: كثير الرزق، والله تكفل بأن يرزق كل دابةٍ فقال: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6].
نرى هذه الحيوانات والطيور والهوام، هذه الدواب التي تمشي على الأرض، سبحان الله! تكفل الله برزقها جميعها، تكفل الله برزقها: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا.
ورزق الإنسان يُكتب وهو في بطن أمه، كما قال عليه الصلاة والسلام: إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مُضغةً مثل ذلك يعني: أربعين، وأربعين، وأربعين، كم أصبح المجموع؟
مئةٌ وعشرون، يعني: أربعة أشهرٍ.
ثم يُرسل المَلَك، فينفخ فيه الروح، ويُؤْمَر بأربع كلماتٍ: بكتب رزقه هذا أول شيءٍ، بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد [1].
يُكتب رزق الإنسان وهو في بطن أمه عند نفخ الروح، ولا يمكن أن يزيد الرزق الذي كتبه الله له أبدًا، ولا ينقص، وإذا تيقن المسلم ذلك فإنه يطمئن ويزول عنه القلق.
تجد بعض الناس قلقًا بشأن الرزق، فأنت لا تُقصر في بذل الأسباب، ابذل الأسباب، لكن لن يأتيك من الرزق إلا ما كتب الله لك.
بعض الناس يبذل ويطرق جميع أسباب الرزق، ومع ذلك يبقى فقيرًا؛ لأن الله لم يكتب له من الرزق إلا هذا.
وبعض الناس ببذل أدنى سببٍ يفتح الله عليه الدنيا؛ لأن الله كتب له هذا الرزق.
أعرف رجلًا من الناس لا يكاد سببٌ من أسباب الرزق إلا طرقه، ومع ذلك مات فقيرًا، بل مَدِينًا!
فلن يأتيك من الرزق إلا ما كتب الله لك، فالله تعالى هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ، فهو قوته عظيمةٌ، فهو القوي الذي لا أقوى منه جلَّ وعلا.
معنى المَتِين
معنى: الْمَتِينُ شديد القوة، الذي لا يطرأ عليه عجزٌ ولا ضعفٌ، وقوته لا تنقطع.
قال:
حدثنا عبدان، عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن أبي عبدالرحمن السلمي، عن أبي موسى الأشعري قال: قال النبي : ما أحدٌ أصبر على أذًى سمعه من الله؛ يدَّعون له الولد، ثم يُعافيهم ويرزقهم [2].
الله تعالى العباد لا يضرونه، فالله تعالى هو خالقهم، وهو مالكهم، لكنهم يُؤذونه، كما قال الله تعالى في الحديث الآخر: يُؤذيني ابن آدم؛ يَسُبُّ الدهر، وأنا الدهر، أُقلب الليل والنهار [3]، فهم يُؤذونه بهذا السَّبِّ، بهذا الشرك بالأذى.
ما أحدٌ أصبر على أذًى سمعه من الله إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [الأحزاب:57]، فبعض البشر يُؤذون الله، وهؤلاء توعدهم الله باللعن في الدنيا والآخرة: وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [الأحزاب:57]، مع أنه إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، لكنه سبحانه يصبر على أذاهم، ويحلم عليهم.
قال: يدَّعون له الولد، ثم يُعافيهم ويرزقهم، يُؤذون الله تعالى بأن يُشركوا به، ويدَّعوا له الولد، ومع ذلك يُعافيهم ويرزقهم ويُعطيهم، فما أحلم الله على عباده! فهو الحليم، وهو الصبور، فالصبور من أسماء الله ، فقد أخذ العلماء من قوله: ما أحدٌ أصبر أن الله تعالى يُوصف بذلك.
باب: قول الله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا
قال:
باب: قول الله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا [الجن:26]، وإِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان:34]، وأَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء:166]، وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر:11]، إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ [فصلت:47].
قال يحيى: الظَّاهِرُ [الحديد:3] على كل شيءٍ علمًا، وَالْبَاطِنُ [الحديد:3] على كل شيءٍ علمًا.
أورد البخاري هذا الباب لبيان ثبوت علم الله ، وأن الله تعالى قد أحاط علمُه بكل شيءٍ جلَّ وعلا، وهو صفةٌ من صفات الله الذاتية، وهو يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:7]، وهو ما تُوسوس به نفس الإنسان قبل أن تُوسوس، يعلم ما كان، وما يكون، وما هو كائنٌ كيف يكون؟ وما لم يكن لو كان كيف يكون؟ فعلمه أحاط بكل شيءٍ.
ثم أورد المؤلف بعض الأحاديث لإثبات هذه الصفة: صفة العلم لله سبحانه.
مفاتيح الغيب الخمسة
حدثنا خالد بن مخلد: حدثنا سليمان بن بلال: حدثني عبدالله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي قال: مفاتيح الغيب خمسٌ لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما تَغِيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غَدٍ إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحدٌ إلا الله، ولا تدري نفسٌ بأي أرضٍ تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله.
هذه هي مفاتيح الغيب، لا يعلمها إلا الله، كما قال الله تعالى في آخر سورة لقمان: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34]، هذه هي مفاتيح الغيب الخمس.
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ فلا أحد يعلم متى تقوم الساعة إلا الله تعالى، لا يعلم بقيام الساعة مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، ولا نبيٌّ مُرْسَلٌ، حتى الملائكة لا تعلم، بل حتى إسرافيل المُوكل بالنَّفخ في الصور لا يعلم؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: كيف أَنْعَم وصاحب القَرْن قد التقم القَرْن؟ [4] ينتظر أن يُؤمر بالنفخ في الصور.
فعلم الساعة لا يعلمه إلا الله، لكن الله تعالى جعل لها أماراتٍ وأشراطًا: أشراطًا صُغْرَى -وكثيرٌ منها قد ظهر- وأشراطًا كُبْرَى، وتكون قُبيل قيام الساعة: كخروج المسيح الدجال، ونزول عيسى ابن مريم، ويأجوج ومأجوج، وبقية أشراط الساعة.
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ قال هنا: لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، فالله تعالى يعلم ما في الأرحام.
هل هذا يتعارض مع كون الأطباء الآن، أو حتى المُختصين يعرفون نوع الجنين؟ هل هو ذكرٌ أو أنثى؟
نقول: إن هذا لا يتعارض؛ لأن علم ما في الأرحام أوسع من معرفة كونه ذكرًا أو أنثى، فكونه ذكرًا أو أنثى جزئيةٌ واحدةٌ، والمَلَك يعلم هل هو ذكرٌ أو أنثى؟ عندما يُؤْمَر بنفخ الروح يعلم، فكونه غيبًا أمرٌ نسبيٌّ، لكن هذا الذي في الرحم ما شكله؟ وما لونه؟ وكيف تكون جميع أوصافه الخَلْقية والخُلُقية؟
هذه لا أحد يُحيط بها إلا الله ، فهو الذي يعلم ما في الأرحام .
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وقال هنا: ولا يعلم ما في غدٍ إلا الله وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا، لا أحد يعلم ماذا يحدث في المستقبل إلا الله، ومَن ادَّعى أنه يعلم ما سيحدث في المستقبل فقد كذب، وما يقوله المُنَجِّمون والدَّجالون، ومَن يضعون ويكتبون الأبراج، كل هذا دجلٌ وشعوذةٌ، فلا أحد يعلم ما يحصل في المستقبل إلا الله تعالى: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا.
كم من إنسانٍ أصبح سليمًا مُعافًى، وأمسى وهو مع أهل القبور! لم يخطر بباله الموت ومات.
إذن علم الغيب في الأمور المُستقبلية لا يعلمه إلا الله وحده.
هل توقعات الأرصاد تتعارض مع علم الله بنزول المطر؟
قال: ولا يعلم متى يأتي المطر أحدٌ إلا الله وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ فلا يعلم متى يأتي المطر إلا الله ، وتوقعات الأرصاد والفلكيين هل تتعارض مع هذا؟
نقول: لا تتعارض؛ لأن هؤلاء يقولون: الفرصة مُهيأةٌ لنزول المطر، وقد ينزل، وقد لا ينزل، لكنهم يقولون: باستقراء سُنن الله الفرصة مُهيأةٌ لنزول المطر، فإذا رأينا سحابًا، ورأينا -مثلًا- رطوبةً، وبعض الأمور فباستقراء سُنن الله تعالى أن المطر ينزل عند اجتماع هذه الأمور، وهذا لا يتعارض مع قوله: وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ.
ولذلك أحيانًا يتراكم السحاب، ويأتي البرق والرعد، ومع ذلك لا ينزل المطر.
طيب، هل تجوز التَّنبؤات، أو التوقعات الجوية؟
نقول: لا بأس بها؛ لأنها تفسيرٌ لسنن الله ، فعندما أرى السحاب، وأرى الرطوبة، وأرى الهواء، وأرى كذا، أقول: الفرصة مُهيأةٌ، لكن الذي لا يجوز: إذا نزل المطر فلا تجوز نسبته لغير الله، هذا هو الذي لا يجوز؛ ولهذا يقول الله تعالى في الحديث القدسي لما صلى النبي بأصحابه في الحُديبية صلاة الصبح: أتدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: قال الله: أصبح من عبادي مؤمنٌ بي وكافرٌ، فأما مَن قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمنٌ بي، كافرٌ بالكوكب، وأما مَن قال: مُطرنا بنَوْءِ كذا وكذا، فذلك كافرٌ بي، مؤمنٌ بالكوكب [5]، وهذا يُسميه العلماء: كفر النعمة.
فإذا نزل المطر لا تنسب المطر لغير الله، فلا تقل: مُطرنا بفضل المُنخفض الجوي، أو لأجل الرطوبة، أو لأجل نَوْءِ كذا، فهذا لا يجوز، قل: مُطرنا بفضل الله ورحمته، فإذا نزل المطر كن حذرًا من أن تنسب نعمة نزول المطر لغير الله .
قال: ولا تدري نفسٌ بأي أرضٍ تموت إلا الله، لا يدري الإنسان بأي مكانٍ يموت، وإذا كان لا يدري بأي مكانٍ يموت، فمن باب أولى أنه لا يدري بأي زمنٍ يموت؛ لأن التحكم بالمكان أسهل من التحكم بالزمان، فالإنسان لا يدري ربما يكون أجله قريبًا وهو لا يشعر.
ذُكرتْ في بعض كتب التفسير -ذكرها ابن أبي السعود وغيره- قصةٌ من أخبار بني إسرائيل، لكن ورد في شرعنا ما يدل على صحة معناها: كان ملك الموت في بعض الأمم السابقة يأتي الناس على صورة بشرٍ، كما أتى موسى على صورة إنسانٍ في القصة المشهورة، وفي وقت سليمان كان يأتيهم على صورة بشرٍ، وكان يُصيبهم رعبٌ شديدٌ، خاصةً إذا رأوا إنسانًا ما يعرفونه، فكان في مجلس سليمان رجلٌ، ورأى شخصًا غريبًا، وصعد النظر فيه؛ فخاف وقال: يا نبي الله، أخشى أن يكون هذا هو ملك الموت. قال سليمان: ماذا تريد مني؟ قال: أريد منك أن تأمر بِساط الريح تأخذني وتُلقيني في أقصى الدنيا في بلاد الهند. وكان عندهم أقصى الدنيا الهند، قال: لك ذلك. فأمر بِساط الريح بأن تُلقيه في بلاد الهند، فلما أراد مَلَك الموت أن يخرج قال لسليمان: أتدري مما كنت أعجب؟ كنت أعجب من أنني مأمورٌ بقبض روحه بعد لحظاتٍ في بلاد الهند، فأنا أعجب وأقول: ما الذي جاء به هنا؟!
سبحان الله!
هذا مصداق قول الله : وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34].
هل رأى النبيُّ ربَّه؟
قال:
حدثنا محمد بن يوسف: حدثنا سفيان، عن إسماعيل، عن الشعبي، عن مسروقٍ، عن عائشة رضي الله عنها قالت: مَن حدَّثك أن محمدًا رأى ربَّه فقد كذب، وهو يقول: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [الأنعام:103]، ومَن حدَّثك أنه يعلم الغيب فقد كذب، وهو يقول: لا يعلم الغيبَ إلا الله [6].
تقول عائشة -أم المؤمنين رضي الله عنها-: “مَن حدَّثك أن محمدًا رأى ربَّه فقد كذب”، فالنبي لم يَرَ ربَّه، وقد سأله أبو ذرٍّ كما في “صحيح مسلم”: هل رأيتَ ربَّك؟ قال: نورٌ أنَّى أراه [7]، لكن كلَّمه الله مُباشرةً كما كلَّم موسى ، كلَّمه الله في ليلة المعراج كما كلَّم موسى ، لكنه لم يَرَ الله.
وبيَّنتْ أم المؤمنين عائشة السبب في هذا فقالت: وهو يقول: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ يعني: الإنسان بتكوينه البشري ما يستطيع أن يرى الله، ما يتحمل رؤية الله، فالله لا تُدركه الأبصار، الله الذي الأرض قبضته، والسماوات مطوياتٌ بيمينه، هل يستطيع الإنسان بتكوينه البشري المحدود أن يرى الله؟ ما يمكن في الدنيا.
ولذلك لما سأل موسى ربَّه: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قال الله له: قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ مجرد تَجَلٍّ فقط جَعَلَهُ دَكًّا [الأعراف:143]، لم يتحمل الجبل تجلِّي الرب سبحانه، وموسى لما رأى الجبل الذي تجلَّى له الربُّ دُكَّ خَرَّ صعقًا، فكأنه يقول: إذا كنت يا موسى لم تتحمل رؤية المُتجلَّى عليه، فكيف تريد أن تتحمل رؤية الرب سبحانه؟!
الله تعالى من العظمة شيءٌ لا يخطر بالبال، شيءٌ عظيمٌ جدًّا: تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ [الشورى:5]، السماوات على عظمتها تكاد تتشقَّق من عظمة الرب، وخوفًا منه جلَّ وعلا، لكن الله تعالى يُمكِّن المؤمنين يوم القيامة من رؤيته، ويُسلم عليهم في الجنة ويرونه، ويتنعَّمون برؤيته.
هل يرى الناس في الموقف الله تعالى؟
طيب، هل يرى الناس في الموقف الله تعالى؟ يعني: غير المؤمنين.
نعم، يرون الله، فالجميع يرون الله؛ لأن الله يأتي للناس في الموقف يوم يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة:210]، فالله يأتي الناس في الموقف في ظُلَلٍ من الغمام، والناس يرون الله تعالى جميعًا يوم القيامة، لكن الله تعالى يحجب أهل النار عنه: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، لا يُقال: إنه حُجب إلا إذا رآه، ثم حُجب عن رؤيته.
وأما المؤمنون فيتنعَّمون برؤيته جلَّ وعلا في الجنة: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22- 23]، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، الحُسْنَى هي الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الربِّ .
النعيم الذي يحصل للمؤمنين في الجنة من رؤية الرب شيءٌ لا يمكن وصفه، نعيمٌ عظيمٌ جدًّا، يتنعَّمون برؤية الرب سبحانه، ويُسلم عليهم جلَّ وعلا.
أما في الدنيا فلا يتحمل أحدٌ من البشر رؤية الرب ؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: “مَن حدَّثك أن محمدًا رأى ربه فقد كذب”، واستدلالها بالآية يدل على فقهها، فهي أفقه النساء؛ لأنها قالت: كيف يرى الله والله يقول: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [الأنعام:103]؟
قالت: “ومَن حدَّثك أنه يعلم الغيب فقد كذب”، وهذا موضع الشاهد، “وهو يقول: لا يعلم الغيبَ إلا الله”، فالنبي لا يعلم الغيب، والله تعالى قال له: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65]، وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف:188]، وهو عليه الصلاة والسلام لا يعلم الغيب، وإنما الذي يعلم الغيب هو الله تعالى وحده.
إذن هذا الباب أورده المصنف لإثبات صفة العلم.
باب: قول الله تعالى: السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ
قال المؤلف رحمه الله:
باب: قول الله تعالى: السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ [الحشر:23].
حدثنا أحمد بن يونس: حدثنا زهير: حدثنا مغيرة: حدثنا شقيق بن سلمة قال: قال عبدالله: كنا نُصلي خلف النبي فنقول: “السلام على الله”، فقال النبي : إن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله [8].
باب: قول الله تعالى: السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ، “السلام” من أسماء الله سبحانه، ومعناه: السالم من كل نقصٍ وعيبٍ، وهو سبحانه: السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ جلَّ وعلا.
وفي حديث عبدالله إذا قيل: “عبدالله” فالمقصود به عبدالله بن مسعود ، قال: “كنا نصلي خلف النبي ، فنقول: السلام على الله”، كان ذلك في أول الأمر، فقال لهم النبي : إن الله هو السلام أي: فلا يصح أن تقولوا: السلام على الله، ولكن قولوا: التحيات لله الذي هو دعاء التشهد، التحيات يعني: جميع التَّحايا لله ، والصلوات المراد جميع العبادات، ومنها الصلوات التي يُصليها الإنسان، والطيبات أي: الأعمال الطيبات، هذه كلها لله .
السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته هذه كان الصحابة يقولونها بحضرته وفي غيابه، وهل تُقال بعد وفاة النبي ، أو أنه يُقال بعد وفاته: السلام على النبي ؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
- القول الأول قول الجمهور: أنها تُقال: “السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته”.
- القول الثاني: أنه يُقال: “السلام على النبي”، واستدلوا بقول ابن مسعودٍ : “لا تقولوا: السلام عليك أيها النبي، ولكن قولوا: السلام على النبي”.
والقول الراجح هو القول الأول، وهو أنه يُقال: “السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته”؛ وذلك لأن هذا هو الذي علَّمه النبي أُمته، وكان عمر بن الخطاب في مسجد النبي يُعلمه الناس.
وعندما يقول المُصلي: “السلام عليك أيها النبي” فلقوة استحضاره، كأن النبي بين يديه، وإلا فهو لا يُخاطبه، لكنه -كما قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله- لقوة استحضاره كأنه يُخاطب النبي ، مثلما يقول الشاعر: سلامٌ عليك يا رسول الله، فقد بلَّغتَ الرسالة، وأدَّيتَ الأمانة، ونحو ذلك مثلًا، فهل النبي عليه الصلاة والسلام أمامه؟
هذا أسلوبٌ من الأساليب المعروفة عند العرب.
فالصواب إذن أن يُقال: “السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته”.
السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين إذا قالها المُصلي فقد سلَّم على كل عبدٍ صالحٍ وأَمَةٍ في الأرض والسماء.
ثم يأتي بكلمة التوحيد: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
وأورد المؤلف هذا الباب ليُبين أن السلام من أسماء الله سبحانه، وجاء في حديثٍ رواه البخاري في “الأدب المفرد”: أن النبي قال: إن السلام اسمٌ من أسماء الله وضعه الله في الأرض، فأفشوا السلام بينكم [9]، فعندما تقول: السلام عليكم، أي: اسم الله عليكم، أي: في كَلَئِه وحفظه، فكأنك تدعو له وتقول: اسم الله عليك، وأنك في كلأ الله تعالى، وفي حفظه، وأيضًا سلَّمك الله تعالى من الشرور والآفات.
باب: قول الله تعالى: مَلِكِ النَّاسِ
قال المؤلف رحمه الله:
باب: قول الله تعالى: مَلِكِ النَّاسِ [الناس:2].
فيه ابن عمر، عن النبي .
مَلِكِ النَّاسِ هذه إحدى الآيات: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ [الناس:1-3].
وقوله: “فيه ابن عمر” أي: حديث ابن عمر، وسيأتي بعد اثني عشر بابًا، وسيأتي شرحه هناك -إن شاء الله تعالى- فنُرجئ الكلام عنه.
ثم قال:
حدثنا أحمد بن صالح: حدثنا ابن وهب: أخبرني يونس، عن ابن شهابٍ، عن سعيدٍ -هو ابن المسيب-، عن أبي هريرة، عن النبي قال: يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟
وقال شعيب، والزبيدي، وابن مُسافر، وإسحاق بن يحيى: عن الزهري، عن أبي سلمة مثله [10].
والغرض من هذا الباب: إثبات صفة القبض لله والطَّي، والقبض والطَّي من صفات الله الفعلية، والقبض معناه: أخذ الشيء باليد وجمعه، والطَّي معناه: مُلاقاة الشيء بعضه على بعضٍ، وجمعه ولَفُّه، وهو قريبٌ من القبض.
فهذا الحديث يدل على إثبات صفة القبض والطَّي لله سبحانه على الوجه اللائق بالله ، فهي من الصفات الفعلية، وهذا يدل على عظمة الربِّ .
كيف أن هذه الأرض العظيمة الكبيرة بسهولها وجبالها وتِلالها يقبضها الله بيمينه، ويطوي السماوات؟!
يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه: وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67].
هذه السماوات على عظمتها يطويها الله تعالى بيمينه: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء:104].
فالأرض في قبضة الله ، والسماوات مطوياتٌ بيمينه جلَّ وعلا، فما حجم الإنسان بالنسبة لعظمة الله ؟
ضئيلٌ جدًّا، حجمك أنت أيها الإنسان في الأرض ضئيلٌ جدًّا، والأرض في ملكوت الله سبحانه كأنها حبة رملٍ في صحراء، والسماوات والأرض بالنسبة للكرسي كحبة رملٍ في صحراء، والكرسي بالنسبة للعرش كحبة رملٍ في صحراء، والله مُسْتَوٍ على العرش جلَّ وعلا.
هذا بالنسبة للسماوات والأرض، أما الجنة فعالمٌ آخر، عرض الجنة فقط كعرض السماوات والأرض، فما بالك بطولها؟ كيف سيكون؟
هذا شيءٌ عظيمٌ جدًّا فوق مستوى عقل البشر، وهو يدل على عظمة الرب سبحانه.
جاء في “سنن أبي داود” بسندٍ صحيحٍ: أن النبي قال: أُذِنَ لي أن أُحدث عن مَلَكٍ من ملائكة الله من حملة العرش من حملة العرش الثمانية: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17]، إن ما بين شَحْمَة أُذُنه إلى عاتقه مسيرة سبعمئة عامٍ [11]، فإذا كانت هذه عظمة مخلوقٍ، فكيف بعظمة الخالق ؟!
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 3208، ومسلم: 2643. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 7378. |
^3 | رواه البخاري: 4826، ومسلم: 2246. |
^4 | رواه الترمذي: 2431، وقال: حسنٌ. |
^5 | رواه البخاري: 4147، ومسلم: 71. |
^6 | رواه البخاري: 7380. |
^7 | رواه مسلم: 178. |
^8 | رواه البخاري: 7381. |
^9 | رواه البخاري في “الأدب المفرد”: 989. |
^10 | رواه البخاري: 7382. |
^11 | رواه أبو داود: 4727. |