logo
الرئيسية/دروس علمية/التعليق على كتاب السلسبيل في شرح الدليل/(18) باب سجود السهو- من قوله: “يُسَنُّ إذا أتى..”

(18) باب سجود السهو- من قوله: “يُسَنُّ إذا أتى..”

مشاهدة من الموقع

ننتقل بعد ذلك للتعليق على “السلسبيل في شرح الدليل”.

باب سجود السهو

كنا قد وصلنا إلى باب سجود السهو، قال المؤلف رحمه الله:

باب سجود السهو

“السهو” في اللغة: الذهول والنسيان، يقال: سها عن الشيء سهوًا، أي: ذَهَل وغفل قلبه عنه إلى غيره.

والسهو في الصلاة يختلف عن السهو في غير الصلاة، الله تعالى قال: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ۝الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5]، فقال: عَنْ صَلاتِهِمْ، ولم يقل: في صلاتهم، فليس المعنى في ذلك: أنهم يسهون في صلاتهم، ولكن المقصود -كما جاء عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما- أنهم يؤخِّرونها عن وقتها، أو أنهم يتركونها أحيانًا، فهؤلاء هم مصلون، لكنهم ساهون، فتوعدهم الله ​​​​​​​ بالويل؛ وهذا يدل على خطورة تأخير الصلاة عن وقتها، فهذا السهو عن الصلاة مذمومٌ، أما السهو في الصلاة -أي: الذي يعرض للإنسان بغير اختياره، رغمًا عنه- فهذا ليس بمذمومٍ، وقد وقع من النبي عدة مراتٍ، ويقال: إن مجموع ما حفظ عنه عليه الصلاة والسلام في السهو خمس مراتٍ، وبعض العلماء يقول: إنها أكثر، لكن سهو النبي -كما يقول ابن القيم رحمه الله- هو من تمام نعمة الله على أمته وإكمال دينهم؛ ليقتدوا به فيما يشرعه لهم، وهذا معنى الحديث: إنما أَنْسَى أو أُنَسَّى لأَسُنَّ [1]، رواه مالكٌ، لكن فيه انقطاعٌ؛ فهو ضعيفٌ لانقطاعه.

أسباب سجود السهو

أسباب سجود السهو ثلاثةٌ: الزيادة، والنقص، والشك.

بهذا يتبين أن حديث النفس ليس من أسباب السجود، فلا يشرع له سجود السهو؛ لأن الشرع لم يرد به؛ ولأنه لا يمكن التحرز عنه في الغالب؛ ولهذا لو أن رجلًا من تكبيرة الإحرام إلى التسليم وهو في هواجس ووساوس، هل يُشرع له أن يعيد تلك الصلاة؟

الجواب: لا يُشرع، هل يشرع له سجود السهو؟ لا يشرع، ليس له من أجر صلاته إلا بمقدار ما عقل منها، لكن هذه الصلاة تقع صحيحةً مبرئةً للذمة؛ لأنها صلاةٌ مكتملة الأركان والشروط والواجبات، فالخشوع في الصلاة مستحبٌّ استحبابًا مؤكدًا، وليس واجبًا.

الحكمة من مشروعية سجود السهو

إرغامٌ للشيطان، وجبرٌ للنقصان، ورضًا للرحمن؛ أما إرغام الشيطان فقد جاء هذا في حديث أبي سعيدٍ  أن النبي قال: إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدرِ كم صلى، ثلاثًا أم أربعًا؛ فليطَّرح الشك، وليبنِ على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم؛ فإن كان صلى خمسًا؛ شفعن له صلاته، وإن كان صلى أربعًا؛ كانتا ترغيمًا للشيطان [2]، وهذا موضع الشاهد: كانتا ترغيمًا للشيطان.

فإذنْ سجود السهو فيه إرغامٌ للشيطان الذي يوسوس للمصلي، وجبرٌ للنقصان إن كان حصل نقصٌ، فهو يجبر هذا النقص؛ كأن يترك مثلًا التشهد الأول، أو يترك واجبًا من واجبات الصلاة فيسجد السهو، فهذا السجود فيه جبرٌ لهذا النقصان، ورضًا للرحمن؛ لكونه امتثل أمر الله وأمر رسوله بهذا السجود.

الأحوال التي يُسن فيها سجود السهو

ذكر المؤلف أحوالًا يُسَنُّ فيها سجود السهو، وأحوالًا يجب، وابتدأ بما يسن فقال:

يسن إذا أتى بقولٍ مشروعٍ في غير محله سهوًا.

أتى بقولٍ مشروعٍ، لكنه في غير محله؛ كأن يقرأ الفاتحة في التشهد، قد يحصل من بعض الناس أنه يقرأ الفاتحة في التشهد، أو يتشهد في القيام، أو يقول: سبحان ربي الأعلى، في الركوع، سبحان ربي العظيم، في السجود؛ فإذا أتى بقولٍ مشروعٍ في غير محله؛ فيرى المؤلف أنه يسنُّ له سجود السهو، أما إذا أتى بفعلٍ مشروعٍ في غير محله؛ يعني: بدل: قولٍ، فعلٍ؛ كأن يرفع يديه عند السجود مثلًا، فهذا لم يذكره المؤلف، والمذهب عند الحنابلة أنه لا يُشرع له السجود، ففرَّقوا بين القول المشروع والفعل المشروع إذا أتى به في غير محله، وهذا القول من المفردات.

والقول الثاني في المسألة: قول الجماهير من الحنفية والمالكية والشافعية، وروايةٌ عند الحنابلة: أنه لا يُشرع سجود السهو إذا أتى بقولٍ مشروعٍ، أو بفعلٍ مشروعٍ، في غير محله، وهذا هو القول الراجح؛ وذلك لأن عَمْده لا يُبطل الصلاة؛ فلم يُشرع لسهوه، ولأنه لم يحصل منه زيادةٌ ولا نقصٌ ولا شكٌّ -يعني: زيادةٌ متعمدةٌ- ومثل هذا لم يَرِد أن جنسه يشرع له سجود السهو.

ثم إن قول الحنابلة في التفريق بين زيادة الأقوال المشروعة والأفعال المشروعة في غير محلها، هذا محل نظرٍ؛ إما أن يقولوا: بأنه يشرع السجود للجميع، أو لا يشرع السجود للجميع، أما التفريق بين الأقوال والأفعال فهذا غير ظاهرٍ.

متى يباح سجود السهو؟

قال:

ويباحُ إذا ترك مسنونًا.

يعني: لا يسن، بل يباح إذا ترك مسنونًا؛ كما لو ترك مثلًا دعاء الاستفتاح، فيقول المؤلف: إن سجود السهو في هذه الحال مباحٌ.

وقال بعض أهل العلم: إنه إذا ترك مسنونًا لم يشرع له سجود السهو مطلقًا، وهذا هو الذي عليه أكثر العلماء؛ لأن الأصل في العبادات التوقيف، ولم يرد مثل هذا عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يُؤْثَر عن الصحابة ، ولأن هذا يُفضي إلى كثرة السجود -يعني: كثرة سجود السهو- لأنه لا يخلو مصلٍّ -في الغالب- من ترك بعض السنن.

وذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا ترك سنةً من عادته الإتيان بها..، هذه طبعًا تكررت في الطبعة القديمة، ولا أدري عن الطبعة الجديدة، لعلها -إن شاء الله- استدركت في الطبعة الجديدة؛ لأن القول الثاني تكرر، يعني: قال بعض العلماء: إذا ترك مسنونًا من عادته أن يأتي به؛ فيشرع سجود السهو، ثم في الأخير: “وذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا ترك سنةً من عادته..”، هي نفس العبارة.

هنا الطبعة الجديدة فيها صفحاتٌ مختلفةٌ، إي نعم، طبعًا في الطبعة الجديدة هذه أعيدَ ترتيبها، فأُتيَ أولًا بقول المؤلف، ثم بالقول الثاني الذي هو وضع القول الثالث، أصبح القول الثاني في.. نعم، القول الثاني: “وقال بعض العلماء”، والقول الثالث: “إذا ترك مسنونًا”، ثم حذف: “وذهب بعض أهل العلم…”، فهذا التكرار قد عولج في الطبعة الجديدة، فقط أردتُ أن أُبيِّن لكم ميزة الطبعة الجديدة؛ أنها قد عولجت فيها الأخطاء، وبعض العبارات المكررة، وجزاكم الله خيرًا، أكثر ما أفادنا به طلابنا: أفادونا بعدد من الملحوظات، فاستفدنا منها في الطبعة الجديدة، الطبعة الجديدة اعتُنيَ بها عنايةً كبيرةً؛ فهي منقَّحةٌ، يعني: الأصل أنها منقحةٌ من جميع الأخطاء، قد يكون هناك شيءٌ يسيرٌ لم ننتبه له، لكن الأصل أنها منقحةٌ، فهذه المسألة إن أردنا أن نختبر الطبعة الجديدة؛ فبالفعل وجدنا أن هذا التكرار الموجود قد عولج، لاحِظ أعلى الصفحة (300): “وقال بعض العلماء..”، وفي آخر الصفحة: “وذهب بعض أهل العلم”، هو نفس القول، ففي الطبعة الجديدة عولج هذا التكرار، حذف التكرار؛ فأصبح في المسألة ثلاثة أقوالٍ.

ولعل الأقرب: أنه إذا ترك مسنونًا من عادته أن يأتي به؛ فيشرع له سجود السهو، أما إذا لم يكن من عادته أن يأتي به؛ فلا يُشرع له سجود السهو؛ يعني مثلًا: لو جهر في الصلاة السرية أو أسرَّ في الصلاة الجهرية، فبناءً على القول الراجح: أنه يُشرع أن يسجد للسهو؛ لأنه ترك مسنونًا من عادته أن يأتي به.

الأحوال التي يجب فيها سجود السهو

طيب، قال:

ويجب إذا زاد ركوعًا أو سجودًا أو قيامًا، ولو قَدْر جلسة الاستراحة.

يعني: يجب سجود السهو إذا زاد فعلًا من هذه الأفعال الأربعة فقط: وهي الركوع والسجود، والقيام والقعود، ولم يقل المؤلف: إذا زاد فعلًا؛ لأن الأفعال كثيرةٌ؛ فمثلًا رَفْع اليدين لا يُشرع له سجود السهو، لكن فقط إذا زاد واحدةً من هذه الأمور الأربعة؛ وجب عليه أن يسجد للسهو.

وقوله: “ولو قَدْر جلسة الاستراحة”، يعني: ولو كانت الزيادة بقدر جلسة الاستراحة؛ فيشرع سجود السهو في هذه الحال.

أو سلَّم قبل إتمامها.

انتقل المؤلف للكلام عن النقص بعدما تكلم عن الزيادة، أي: إذا سلَّم قبل إتمام الصلاة؛ يجب سجود السهو؛ كما في قصة ذي اليدين، فإن النبي صلى بهم صلاة الظهر أو العصر ركعتين، ثم سلَّم؛ فسجد للسهو [3].

أو لحَن لحنًَا يُحيل المعنى.

اللحن الذي يحيل المعنى -إذا كان في الفاتحة- حكمه: أنه يُبطل الصلاة إذا كان عمدًا، أما إذا كان سهوًا؛ فإن لم يَستدرك بطلت الصلاة، وإن استدرك فيشرع سجود السهو؛ فمثلًا: لو قال: (أَهْدِنَا الصراط المستقيم)، فرد عليه أحد المأمومين: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، فاستَدرَك فقرأها: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، فيُشرع له أن يسجد للسهو.

أو تَرَك واجبًا.

أي: من ترك واجبًا من واجبات الصلاة المتقدمة السابقة -التي تكلمنا عنها في درسٍ سابقٍ– عمدًا؛ بطلت صلاته، كما سبق.

أو شك في زيادةٍ وقتَ فعلها.

الشك -كما قلنا- هو من أسباب سجود السهو؛ فإذا حصل معه شكٌّ فيُشرع له أن يسجد للسهو، وسيأتي الكلام عنه بالتفصيل.

حكم صلاة من ترك سجود السهو الواجب

قال:

وتبطل الصلاة بتعمد ترك سجود السهو الواجب.

لأنه قد ترك واجبًا عمدًا، ومن ترك ركنًا أو واجبًا عمدًا؛ بطلت صلاته، إنسانٌ وجب عليه سجود السهو ولم يسجد عمدًا؛ تبطل صلاته.

لا إن ترك ما وجب بسلامٍ قبل إتمامها.

هكذا في بعض النسخ، بعض نسخ “دليل الطالب”، لكن في نسخٍ أخرى: (إلا)، وفي نسخة “منار السبيل”: (إلا)، وفي نسخة “نيل المآرب”: (إلا)، والصواب: (إلا)؛ لأنه لا يستقيم المعنى إلا بها، يعني كأن المؤلف يقول: إلا إن ترك سجود السهو الذي يكون بعد السلام؛ لأنه عند الحنابلة يكون واجبًا، فمعنى كلام المؤلف: وتبطل الصلاة بتعمد ترك سجود السهو الواجب، إلا إن ترك سجود السهو الذي يكون بعد السلام؛ لأنه عندهم ليس واجبًا، عند الحنابلة ليس واجبًا، فهذا هو معنى العبارة باختصارٍ، معنى العبارة: تبطل الصلاة بتعمد ترك سجود السهو الواجب، إلا إن ترك سجود السهو الذي يكون بعد السلام؛ لأنه عند الحنابلة ليس واجبًا، لكن المؤلف عبَّر عن ذلك بقوله: “إلا إن ترك ما وجب بسلامٍ قبل إتمامها”، إذا سلَّم قبل إتمام الصلاة؛ فيجب سجود السهو، يعني: صلى الظهر ثلاث ركعاتٍ؛ يجب سجود السهو، وعند الحنابلة أنه يسجد للسهو بعد السلام، وهذا أحد الموضعين اللذين يَسجد فيهما بعد السلام، وهذا يقود للمسألة التالية: وهو موضع سجود السهو.

موضع سجود السهو

قال:

وإن شاء سجد سجدتي السهو قبل السلام أو بعده.

فالمؤلف يرى أنه مخيرٌ بين أن يسجد قبل السلام أو بعده، والمشهور من مذهب الحنابلة: أن سجود السهو قبل السلام، إلا في موضعين، وهذا يقودنا إلى ذكر أقوال العلماء في موضع سجود السهو: هل هو قبل السلام أم بعده؟

وللعلماء في ذلك أربعة أقوالٍ:

  • القول الأول: أن سجود السهو كله قبل السلام، إلا في الموضعين اللذين ورد النص بأن يُسجد فيهما بعد السلام، وهما: الموضع الأول: إذا سلم عن نقصٍ في عدد الركعات، والموضع الثاني: إذا شك، وكان مع الشك تحرٍّ وغلبة ظنٍّ، وبنى على غالب ظنه، فيسجد للسهو بعد السلام، وما عدا ذلك قبل السلام، هذا هو القول الأول.
  • القول الثاني: أن سجود السهو قبل السلام مطلقًا، وهذا مذهب الشافعية.
  • القول الثالث: أن سجود السهو بعد السلام مطلقًا، وهذا مذهب الحنفية.
  • القول الرابع: أن سجود السهو إن كان عن زيادةٍ؛ فبعد السلام، وإن كان عن نقصٍ؛ فقبل السلام، وهذا مذهب المالكية، وهو اختيار ابن تيمية وابن عثيمين، رحمة الله على الجميع.

نأتي بعد ذلك إلى الموازنة والترجيح:

الحنابلة قالوا: إن سجود السهو قبل السلام، إلا في الموضعين اللذين ورد بهما النص؛ قالوا: لأن السهو في الصلاة خللٌ ونقصٌ، وسجود السهو هو جَبْرٌ لذلك الخلل والنقص، والأصل: أن ما كان كذلك؛ يكون في صلب الصلاة؛ ولهذا الإمام أحمد يقول: لولا أن السنة وردت بسجود السهو في موضعين؛ لقلت: إن سجود السهو كله قبل السلام؛ لأنه جبرٌ للنقص والخلل الواقع في الصلاة، وهذا من شأنه أن يكون قبل السلام، لكن السنة قد وردت بأن سجود السهو بعد السلام في موضعين، فيستثنى هذان الموضعان فيُسجد فيهما بعد السلام.

وهذان الموضعان دلت لهما السنة:

  • الموضع الأول: إذا كان عن نقصٍ في عدد الركعات، هذا قد جاء في قصة ذي اليدين، فإن النبي صلى بهم صلاة الظهر أو العصر ركعتين، ثم قام إلى ناحيةٍ من المسجد، واتكأ على خشبةٍ وشبَّك بين أصابعه كأنه غضبان، هكذا على خشبة المسجد، فكان هناك رجلٌ اسمه الخِرباق بن عمرٍو، ويقال له: ذو اليدين؛ لطولٍ مفرطٍ في يديه، قال: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال عليه الصلاة والسلام: لم أنسَ ولم تُقصر، قال: بلى يا رسول الله، صليت ركعتين، فقال عليه الصلاة والسلام للصحابة : أصدق ذو اليدين؟، وكان فيهم أبو بكرٍ وعمر رضي الله عنهما، لكن الصحابة هابوا أن يكلموا النبي فقال: أصدق ذو اليدين؟، قالوا: نعم يا رسول الله، فقام فصلى ركعتين، ثم سلَّم، ثم سجد سجدتي السهو، ثم سلم [4]، فهنا سجود السهو كان بعد السلام، هذا هو الموضع الأول، إذا كان عن نقصٍ في عدد الركعات.
  • الموضع الثاني: إذا كان عن شكٍّ، وكان مع الشك تحرٍّ وغلبة ظنٍّ، هذا جاء في حديث ابن مسعودٍ ، وجاء فيه: فليتحرَّ الصواب، وليسجد سجدتين بعدما يسلم [5]، والحديث في “الصحيحين”، فإذا شك أحدكم كم صلى؟ قال: فليتحرَّ الصواب، وليسجد سجدتين بعدما يسلم.

أما الشك المتساوي: فيبني على اليقين، وهو الأقل، شك: هل هي ثلاثٌ أو أربعٌ؟ يجعلها ثلاثًا، ويسجد قبل السلام، فالشك إذنْ عندنا ينقسم إلى قسمين -سيأتي الكلام عنه- شكٌّ معه تحرٍّ وغلبة ظنٍّ: يعمل بغلبة ظنه، سواءٌ كان الأقل أو الأكثر، لكن يسجد للسهو بعد السلام، شكٌّ متساوٍ؛ فيبني على اليقين، وهو الأقل، ويسجد للسهو قبل السلام.

القول الثاني: قول الشافعية، وهم القائلون بأن سجود السهو قبل السلام مطلقًا، استدلوا بما ورد عن النبي أنه سجد للسهو قبل السلام [6]، لكن يَرِد عليه أنه أيضًا سجد بعد السلام؛ الحنفية القائلون بأن سجود السهو بعد السلام مطلقًا..، نعم، هذه عُدِّلَتْ في النسخة المعدلة: الحنفية القائلون بأنه بعد السلام مطلقًا؛ استدلوا بما ورد أن النبي سجد للسهو بعد السلام، لكن يرد عليه أنه سجد قبل السلام.

المالكية قالوا: إن كان عن زيادةٍ؛ فبعد السلام، وإن كان عن نقصٍ؛ فقبل السلام.

قول الشافعية -كما ذكرنا- قولٌ ضعيفٌ، أنه قبل السلام مطلقًا؛ لأنه يَرِد عليه أنه عليه الصلاة والسلام سجد بعد السلام.

أيضًا قول الحنفية قولٌ ضعيفٌ، أنه بعد السلام مطلقًا؛ يرد عليه أن النبي سجد قبل السلام.

فتبقى الموازنة بين القول الأول والقول الرابع؛ القول الرابع -قول المالكية- قالوا: إن كان عن زيادةٍ؛ فبعد السلام، وإن كان عن نقصٍ فقبل السلام، قالوا: إن سجود النبي عليه الصلاة والسلام بعد السلام إنما كان لزيادةٍ، وقبل السلام إنما كان للنقص، لكن يَرِد على هذا القول: أن النبي -في قصة ذي اليدين- سجد بعد السلام، طيب، هل هو في قصة ذي اليدين زاد أم نقص؟ صلى ركعتين، صلى صلاة الظهر أو العصر ركعتين، هذا نقصٌ، ومع ذلك سجد بعد السلام، لكن أصحاب هذا القول يقولون: إنه زاد، كيف زاد؟ يقولون: زاد التشهد، وزاد السلام، فهو في الحقيقة قد زاد، ولكن هذا محل نظرٍ، لو أنك إمام مسجدٍ، وصليت بهم صلاة الظهر ركعتين، وقلت لجماعة المسجد: يا جماعة، أنا زدت في الصلاة؛ ولذلك سأسجد للسهو بعد السلام، فكيف ستقنع جماعتك بأنك زدتَّ، وأنت إنما صليت ركعتين؟ هل يستطيع أحدٌ أن يُقنع جماعة المسجد خلفه بأنه قد زاد وهو سلَّم عن ركعتين في صلاة رباعيةٍ؟ هذا بعيدٌ.

ولهذا فالأقرب -والله أعلم- والمتوافق مع النصوص هو القول الأول: مذهب الحنابلة، وهو أن سجود السهو كله قبل السلام، إلا في الموضعين اللذين ورد النص أنهما بعد السلام، وهما: إذا سلَّم عن نقصٍ في عدد الركعات، وإذا شك وكان مع الشك تحرٍّ وغلبة ظنٍّ، هذا هو القول الراجح، وهو الذي يتفق مع النصوص الواردة، وهو أيضًا أسهل في الفهم وأسهل في التطبيق؛ لأن بعض الناس يقول: إذا سجدتُ للسهو بدأت أفكر: هل هي زيادةٌ أم نقصٌ؟ فيبدأ يشكل عليه الأمر، لكن على القول الراجح: سجود السهو كله قبل السلام، إلا في الموضعين اللذين ورد النص بأنه بعد السلام فيهما، وهو اختيار شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ رحمه الله.

طيب، هل الخلاف في المسألة في الأفضل أو في الوجوب؟

بعض العلماء يرى الوجوب، ولكن أكثر أهل العلم يرى أن هذا على سبيل الأفضلية، يعني: لو سجد للسهو قبل السلام مطلقًا أو بعد السلام مطلقًا؛ أجزأ، وهذا هو ظاهر كلام المؤلف رحمه الله.

حكم التشهد بعد سجود السهو

قال المؤلف رحمه الله:

لكن إن سجدهما بعده تشهَّد وجوبًا وسلَّم.

يعني: إذا كان سجود السهو بعد السلام، فيجب عليه أن يأتي بالتشهد ثم يسلم، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، واستدلوا بحديث عمران بن حصينٍ أن النبي صلى بهم فسها، فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم [7]، لكن الحديث صحيحٌ بدون زيادة: “ثم تشهد”، فهي غير محفوظةٍ، فالحديث صحيحٌ بدون هذه اللفظة؛ ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أنه لا يشرع التشهد في سجود السهو إذا كان بعد السلام؛ لأنه لم يَرِد، والأصل في العبادات التوقيف، والحديث المروي -حديث عمران بن حصينٍ – لم يثبت فيه لفظ التشهد.

فالقول الراجح إذنْ: أنه لا يجلس للتشهد بعد سجود السهو مطلقًا.

حكم من نسي سجود السهو

قال المؤلف رحمه الله:

وإن نسي السجود ثم طال الفصلُ عُرفًا، أو أحدث، أو خرج من المسجد؛ سقط.

يعني: لو سها ونسي أن يسجد للسهو -وهذه المسألة تحصل كثيرًا- يجب على المصلي سجود السهو، ثم ينسى أن يسجد سجود السهو، فما الحكم؟

يقول المؤلف: إن كان الفاصل ليس بطويلٍ؛ يرجع ويسجد للسهو، أما إن كان الفاصل طويلًا؛ فيسقط سجود السهو وتصح الصلاة؛ يعني مثلًا: لو أنه ترك التشهد الأول، وكان يريد أن يسجد للسهو في آخر الصلاة ونسي، كانت صلاة الظهر ونسي، في اليوم الثاني الفجر مثلًا بعد الفجر أتى إليه رجلٌ وقال: يا فلان، أنت بالأمس نسيت سجود السهو، نسيت التشهد الأول، وكان عليك سجود السهو ولم تسجد، فنقول: صلاتك صحيحةٌ، ما دام الفاصل طويلًا؛ فصلاتك صحيحةٌ.

فإذنْ إذا طال الفصل؛ سقط سجود السهو، لكن بعض العلماء قال: إنه يأتي بسجود السهو ولو طال الفصل، وهذا قولٌ عند المالكية، وروايةٌ عن أحمد، واختار هذا القول ابن تيمية رحمه الله؛ قالوا: لأن سجود السهو جبرٌ للنقص الذي حصل، وما كان كذلك؛ فلا بد أن يؤتى به ولو مع طول الفصل؛ كالجُبْران الذي يكون في الحج، فإنه لو حصل خللٌ في حجه؛ كأن ترك الرمي، أو ترك واجبًا؛ يجب عليه أن يأتي به، أو يأتي بالجبران إذا فات وقته.

والقول الراجح: هو قول الجمهور، أنه إذا نسي سجود السهو وطال الفصل؛ سقط سجود السهو، وصلاته صحيحةٌ؛ لأن القول بأنه يسجد للسهو ولو مع طول الفاصل، هذا ليس له نظيرٌ؛ نفترض: أن صلاةً سها فيها منذ مثلًا ثلاثة أشهرٍ، نسي أن يسجد للسهو، يعني: رجلٌ كان سها في صلاته، وكان يريد أن يسجد للسهو، لكنه نسي، ثم وجد نقاشًا في مسألةٍ متعلقةٍ بسجود السهو؛ فتذكر أنه لم يسجد للسهو، هل يسجد بعد ثلاثة أشهرٍ لصلاةٍ سابقةٍ قبل ثلاثة أشهرٍ؟ هذا لم ترد الشريعة بمثل هذا، بل ربما جعلها أكثر من ثلاثة أشهرٍ، جعلها سَنَةً، جعلها سنتين، جعلها أكثر، القول الثاني يقولون: مهما طال الفصل وقد نسي سجود؛ فيلزمه أن يأتي به.

فالقول الراجح: هو قول الجمهور، وهو أن سجود السهو إذا نسيه المصلي حتى طال الفصل يسقط، إذا طال الفصل عُرْفًا، أو أحدث، أو خرج من المسجد؛ يسقط سجود السهو.

وقول المؤلف: “ثم طال الفصل”، يُفهم منه: أنه إذا لم يطل الفصل فيُشرع أن يسجد للسهو، وهو كذلك؛ لحديث ابن مسعودٍ  أن النبي سجد سجدتي السهو بعد السلام والكلام [8].

حكم المأموم إذا سها في صلاته

قال المؤلف رحمه الله: 

ولا سجود على مأمومٍ دخل أول الصلاة إذا سها في صلاته.

يريد المؤلف أن يبين: أن المأموم لا يلزمه سجود السهو؛ فالإمام يتحمل سجود السهو عنه؛ فمثلًا: لو أدرك المسبوق الإمام في الركعة الأولى فسها المأموم في الصلاة فلا يُشرعُ له أن يسجد للسهو، مثلًا: المأموم نسي أن يأتي بالتسبيح في الركوع أو في السجود، فيسقط عنه سجود السهو؛ لأنه تبعٌ لإمامه، وقد قيد المؤلف الحكم بما إذا كان أول الصلاة، فلو كان سهوه بعد مفارقة الإمام فإنه يأتي بسجود السهو لترك الواجب.

إذنْ نقول: إذا سها المأموم في صلاته خلف الإمام؛ فليس عليه سجود سهوٍ؛ لأن الإمام يتحمل عنه هذا السهو، ولكن هذا مقيدٌ بسهو المأموم فيما إذا ترك واجبًا من واجبات الصلاة، أما إذا ترك المأموم ركنًا؛ فهذا لم يذكره المؤلف، إذا ترك المأموم ركنًا من أركان الصلاة؛ كالركوع مثلًا أو السجود؛ فلا يتحمل الإمام عنه هذا الركن، بل تبطلُ تلك الركعة، والمأموم إذا سلَّم الإمام يقوم ويأتي بركعةٍ؛ لأن الركعة التي ترك فيها هذا الركن تبطل، وتقوم الركعة التي بعدها مقامها؛ فعلى هذا: يلزم المأموم أن يقوم ويأتي بركعةٍ، مثال ذلك: رجلٌ يصلي وسجد السجدة الأولى مع الإمام في الركعة الأولى، ثم إنه أطال السجود والإمام جلس بين السجدتين، ثم سجد السجدة الثانية، ثم رفع فقام معه المأموم ناسيًا السجدة الثانية، هذا يحصل أحيانًا مع خفاء صوت الإمام، فلم يسجد المأموم سوى سجدةٍ واحدةٍ، السجدة الثانية لم يسجدها، ولم يجلس الجلسة بين السجدتين، فهنا تبطل هذه الركعة في حق المأموم، وتقوم الركعة التي بعدها مقامها، ويلزمه أن يأتي بركعةٍ بعد سلام إمامه.

نخلص من هذا: إلى أن المأموم إذا سها في صلاته، فإذا كان السهو عن ترك واجبٍ؛ فصلاته صحيحةٌ، ويتحمل عنه الإمام هذا السهو، ولا يلزمه أن يسجد للسهو، أما إذا كان السهو عن ترك ركنٍ؛ فتبطل الركعة التي ترك فيها هذا الركن، وتقوم الركعة التي بعدها مقامها، ويلزمه أن يأتي بركعةٍ بعد سلام إمامه.

حكم متابعة الإمام في سجود السهو

قال:

وإن سها إمامه؛ لزمه متابعته في سجود السهو، فإن لم يسجد إمامه؛ وجب عليه هو.

إذا سها الإمام يلزم المأموم متابعة الإمام في سجود السهو؛ لقول النبي : إنما جُعل الإمام ليؤتم به [9]، لكن إذا لم يسجد الإمام سجود السهو؛ وجب على المأموم أن يسجد سجود السهو؛ لأن صلاته قد نقصت بسهو إمامه فلم يجبرها؛ فلزمه أن يجبرها هو، كمن صلى بالناس ونسي التشهد الأول، فلما سلم قالوا له: يا فلان، نسيت التشهد الأول، قال: أبدًا ما نسيت، والمأموم متأكدٌ أن الإمام لم يجلس للتشهد الأول، ففي هذه الحال لا نقول: إن الإمام يتحمل عنه؛ لأن الإمام لم يستدرك الخلل الذي في الصلاة، فنقول للمأموم: اسجد أنت للسهو بعد سلام إمامك.

حكم من نسي فقام إلى ركعة زائدة

ومن قام لركعةٍ زائدةٍ؛ جلس متى ذكر.

إذا قام لركعةٍ زائدة، سواءٌ كان إمامًا أو مأمومًا أو منفردًا؛ فيجب عليه أن يجلس متى ذكر؛ لأنه لا تجوز الزيادة في الصلاة، حتى لو شرع في القراءة، ولو كان في نافلةٍ، وقد قال الإمام أحمد فيمن قام إلى ثالثةٍ في صلاة الليل: هو كمن قام لثالثةٍ في صلاة الفجر؛ لقول النبي : صلاة الليل مثنى مثنى [10].

إذنْ مَن قام لركعةٍ زائدةٍ؛ وجب عليه الجلوس متى ما ذكر، مثال ذلك: قام الإمام لركعةٍ زائدةٍ خامسةٍ في صلاة الظهر، وشرع في الفاتحة، ثم تذكر أنها زائدةٌ؛ يجب عليه الجلوس.

طيب، المأموم؟ المأموم يتبع إمامه، إلا إذا تأكد أن هذه الركعة زائدةٌ، فإذا تأكد المأموم أن هذه الركعة زائدةٌ؛ لا يجوز له أن يتابع الإمام فيها، وإلا بطلت صلاته، ولو أن الإمام أصر، قام لركعةٍ خامسةٍ في صلاة الظهر أو العصر، سبّح به اثنان من المأمومين أو أكثر، قالوا: سبحان الله، سبحان الله، لكنه أصر، فلا يتابعه المأمومون، من كان متأكدًا من الزيادة لا يجوز له أن يتابع الإمام في هذه الركعة الزائدة، فإن تابعه فيها عالمًا متعمدًا؛ بطلت صلاته، ما هو الموقف الصحيح؟ الموقف الصحيح: أن المأموم يجلس حتى يوافق الإمام في التشهد فيسلم معه، لكن لا يجوز له أن يتابعه في ركعةٍ زائدةٍ.

هنا تنبيهٌ؛ هذا ذكرت أنه مما يتميز به “السلسبيل” ذكر بعض التنبيهات: تلتبس هذه المسألة مع مسألةٍ أخرى، وهي ما إذا نسي التشهد الأول وشرع في قراءة الفاتحة، فإنه يستمر في صلاته ولا يرجع للجلوس للتشهد، ويسجد للسهو، فبعض الناس تشتبه عليه هذه المسألة بالمسألة السابقة، فنقول: هناك فرقٌ بين المسألتين، من نسي الجلوس للتشهد الأول وشرع في قراءة الفاتحة؛ حَرُم عليه الرجوع، بل يستمر في صلاته ويسجد للسهو في آخر الصلاة، أما من قام لركعةٍ زائدةٍ خامسةٍ يجب عليه الرجوع متى ما تذكر أو نُبِّه، ولو كان قد شرع في قراءة الفاتحة، ولو كان قد شرع في قراءة سورةٍ بعدها؛ لأنه لا يجوز له أن يستمر في الزيادة في الصلاة، بعض الناس تلتبس عليه المسألتان؛ يقيس المسألة الثانية على الأولى، وهذا غير صحيحٍ.

الأُولى: فيمن ترك الجلوس للتشهد ناسيًا وشرع في قراءة الفاتحة، هنا يستمر في صلاته، بل لا يجوز له أن يرجع للتشهد.

المسألة الثانية: قام لركعةٍ زائدةٍ خامسةٍ، يجب عليه أن يرجع ولو كان قد شرع في قراءة الفاتحة، بل ولو كان قد شرع في قراءة سورةٍ بعدها.

حكم من قام ونسي التشهد الأول

قال المؤلف رحمه الله:

وإن نهض عن ترك التشهد الأول ناسيًا؛ لزمه الرجوع ليتشهد، وكُره إن استتم قائمًا، وتلزم المأمومَ متابعته، ولا يرجع إن شرع في القراءة.

هذه المسألة التي أشرنا لها قبل قليلٍ: إذا نسي التشهد الأول ونهض، ثم تذكر قبل أن يستتم قائمًا؛ لزمه الرجوع، أما إن استتم قائمًا ولم يشرع في قراءة الفاتحة؛ كُره له الرجوع، فإن شرع في قراءة الفاتحة؛ حَرُم عليه الرجوع، هذا هو المذهب عند الحنابلة؛ لحديث المغيرة بن شعبة أن النبي قال: إذا قام الإمام في الركعتين؛ فإن ذكر قبل أن يستوي قائمًا فليجلس، فإن استوى قائمًا فلا يجلس، ويسجد سجدتين في السهو [11]، أخرجه أبو داود، وله طرقٌ متعددةٌ يقوِّي بعضها بعضًا.

وذهب بعض العلماء إلى أنه إن لم يستتم قائمًا؛ لزمه الرجوع، أما إن استتم قائمًا؛ فليس له الرجوع، سواءٌ شرع في قراءة الفاتحة أو لم يشرع فيها، وهذا هو القول الراجح، وهو ظاهر حديث المغيرة  السابق، في قوله: فإن استوى قائمًا فلا يجلس، ويسجد سجدتي السهو؛ ولهذا لما ذكر الموفق بن قدامة رحمه الله في “المغني” هذه المسألة قال: ويحتمل ألا يجوز له الرجوع؛ لحديث المغيرة ، ولأنه شُرِع في ركنٍ، واختار هذا القول.

أما إذا رجع قبل أن يستتم قائمًا، فهل يسجد للسهو؟ يعني: هذا رجلٌ نسي الجلوس للتشهد الأول، فنهض للركعة الثالثة قبل أن يستتم قائمًا، تذكر أو نُبِّه، قيل له: سبحان الله، فرجع، هل يسجد للسهو؟

المذهب عند الحنابلة: أنه يسجد للسهو.

والقول الثاني: أنه لا يسجد، وهو ظاهر حديث المغيرة ؛ لقوله : فإن ذكر قبل أن يستوي قائمًا فليجلس، ولم يقل: ويسجد سجدتي السهو، ومن جهة النظر لم يزد في الصلاة شيئًا، ولم يسْهُ سهوًا تامًّا يوجب السجود، وغاية ما في الأمر: أنه نوى أن يقوم، ثم ذكر أو نبه فجلس.

فالقول الراجح: أنه إذا نهض للقيام ورجع قبل أن يستتم قائمًا: أنه لا يسجد للسهو.

وتلزم المأمومَ متابعته، أي: حتى لو أن المأموم قد علم بأن الإمام ترك التشهد الأول يلزمه متابعته في هذه الحال؛ لأنه ترك واجبًا ولم يترك ركنًا، وهذا باتفاق العلماء؛ ولهذا قال الموفق بن قدامة: لا نعلم فيه خلافًا، ويدل لهذا حديث عبدالله بن بُحَينة : أن رسول الله قام في صلاة الظهر وعليه جلوسٌ، فلما أتم صلاته سجد سجدتين، فكبَّر في كل سجدةٍ وهو جالسٌ قبل أن يُسلِّم، وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس [12].

حكم من شكَّ في ركنٍ أو في عدد الركعات

قال:

ومن شكَّ في ركنٍ أو في عدد ركعاتٍ وهو في الصلاة؛ بنى على اليقين -وهو الأقل- ويسجد للسهو.

من شكَّ في ركنٍ أو في عدد الركعات؛ بنى على اليقين، ما هو اليقين؟ بالنسبة للركن أنه لم يأت به، وعبارة “زاد المستقنع” أوضح، قال في “الزاد”: ومن شكَّ في ترك ركنٍ فكتركه -وبالنسبة لعدد الركعات اليقين هو الأقل- إذا شك هل هي ثلاثٌ أو أربعٌ؟ يجعلها ثلاثًا؛ لحديث أبي سعيدٍ أن النبي قال: إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى، ثلاثًا أم أربعًا؟ فليطَّرح الشك، وليبنِ على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم [13]، رواه مسلمٌ؛ ولأن الأقل هو المتيقن والزائد مشكوكٌ فيه.

وظاهر كلام المؤلف: أنه لا فرق بين أن يكون لديه ترجيحٌ أم لا، وهذا هو المذهب الذي قال به الشافعية.

والقول الثاني: أنه إنما يأخذ بالأقل عند الشك المتساوي، الذي لا يكون معه ترجيح، أما إذا ترجح عنده أحد الأمرين فيعمل بالمترجح، سواءٌ كان هو الزائد أم الناقص؛ لحديث ابن مسعودٍ  أن النبي قال: إذا شك أحدكم في صلاته؛ فليتحرَّ الصواب فليتم عليه، ثم لْيُسَلِّم، ثم يسجد سجدتين [14]، متفقٌ عليه.

أقسام الشك في الصلاة:

وبناءً على ذلك نقول: الشك في الصلاة ينقسم إلى قسمين:

  • القسم الأول: شكٌّ متساوٍ، ليس معه غلبة ظنٍّ، يعني: 50% أنه صلى ثلاثًا، و50% أنه صلى أربعًا، فالحكم أنه يبني على اليقين وهو الأقل، فيجعلها ثلاثًا، ثم يسجد سجدتي السهو في آخر الصلاة.
  • القسم الثاني: أن يكون الشك معه تحرٍّ وغلبة ظنٍّ، فشكَّ: هل صلى ثلاثًا أم أربعًا؟ فغلب على ظنه أنه صلى أربعًا، فيعمل بغلبة ظنه، ويجعلها أربعًا، لكن يسجد سجدتي السهو بعد السلام.

الشك المتساوي: يعمل باليقين وهو الأقل، ويسجد سجدتي السهو قبل السلام، والشك الذي معه تحرٍّ وغلبة ظنٍ، يعمل بما غلب على ظنه، ويسجد سجدتي السهو بعد السلام.

حكم الشك بعد الفراغ من الصلاة

قال:

وبعد فراغه لا أثر للشك.

هذه قاعدةٌ عند الفقهاء: أن الشك الطارئ على العبادة بعد الفراغ منها لا يُلتفت إليه، هذه قاعدةٌ مفيدةٌ: الشك الطارئ على العبادة بعد الفراغ منها لا يلتفت إليه.

إذا صليت ولم يكن معك شكٌّ، ثم بعد الفراغ من الصلاة شككت: هل صليت ثلاثًا أم أربعًا؟ لا تلتفت لهذا الشك، إذا شككت بعد الصلاة: هل تركت مثلًا السجود أم لم تتركه؟ لا تلتفت لهذا الشك، بل إن هذه القاعدة مطردةٌ في جميع العبادات، فمثلًا في الحج: لو أنك أثناء الرمي لم يكن معك شكٌّ في أنك رميت سبع حصياتٍ، لكن لما رجعت للمخيم شككت: هل رميت سبعًا، أو رميت ستًّا، أو رميت خمسًا؟ لا تلتفت لهذا الشك، ما دام أن الشك لم يطرأ إلا بعد الفراغ من الرمي؛ فلا تلتفت إليه، فهذه قاعدةٌ مفيدةٌ: أن الشك الطارئ بعد الفراغ من العبادة لا يلتفت إليه.

بهذا نكون قد انتهينا من الكلام عن سجود السهو.

باب صلاة التطوع

ننتقل إلى باب صلاة التطوع.

قال المؤلف رحمه الله:

باب صلاة التطوع

“صلاة التطوع”: من باب إضافة الشيء إلى نوعه؛ لأن الصلاة جنسٌ لها أنواعٌ، ومن أنواعها صلاة التطوع، والتطوع له أسماءٌ أخرى؛ منها: النافلة، والمستحب، والسنة، والفضيلة، هذه أسماءٌ أخرى للتطوع، والتطوع يطلق على فعل الطاعة مطلقًا؛ فيشمل الواجب والمندوب، وهذا هو معناه العام.

ويطلق بالمعنى الخاص على كل طاعةٍ ليست واجبةً؛ من إطلاقها بمعناها العام: قول الله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158]، التطوع المراد في الآية ليس هو التطوع في اصطلاح الفقهاء، وإنما المقصود به: فعل السعي، ومن المعلوم أن السعي ركنٌ من أركان الحج والعمرة؛ فدل هذا على أن المقصود بالتطوع في الآية: التطوع بمعناه العام، وهو فعل الطاعة، فيدخل فيه الواجب، لكن مراد المؤلف بالتطوع في هذا الباب: التطوع بمعناه الخاص، وهو الطاعة التي ليست واجبةً.

الحكمة من مشروعة التطوع

والتطوع شُرع لحِكَمٍ؛ منها:

  • أولًا: جبر النقص والخلل الذي يقع في الفرائض؛ فإن الإنسان بشرٌ، ويعتري الواجبات التي يقوم بها ما يعتريها من النقص والخلل، فشرع له التطوع لأجل جبرِ النقص والخلل الواقع في الواجبات الشرعية، فمثلًا: يعني صلاة الفريضة هل أحد يضمن أنه أتى بصلاة الفريضة كما أمر الله؟ يقع في صلاتنا ما يقع من النقص والخلل، لكن من رحمة الله بعباده أن شرع التطوع؛ لأجل أن يجبر النقص والخلل الواقع في الفريضة، كذلك بالنسبة للصيام، كذلك بالنسبة للحج، كذلك بالنسبة لسائر الواجبات الشرعية شرع الله معها تطوعاتٍ؛ لأجل جبر النقص والخلل الواقع فيها.
  • كذلك أيضًا من الحكم: أنها من أسباب نيل محبة الله تعالى؛ كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: وما تقرب إلي عبدي بشيءٍ أحب مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه [15].
    تأمل قوله: ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه؛ فدل هذا على أن الإكثار من النوافل ومن التطوعات من أسباب نيل محبة الله .
  • أيضًا من الحكم: أن الإتيان بالتطوعات فيه مسارعةٌ للخيرات، والله تعالى يقول: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133]، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحديد:21]، إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [الأنبياء:90].
  • أيضًا من الحكم: أنها من أسباب تثقيل ميزان العبد يوم القيامة؛ فإن الإنسان يوم القيامة يُنصب له الميزان؛ الحسنات في كِفَّةٍ، والسيئات في كفةٍ، فلو لم يكن عند المسلم سوى الفرائض؛ فربما ترجح كفة السيئات على الحسنات، لكن من رحمة الله تعالى أن شرع النوافل، فهذه النوافل قد تكون هي السبب في رجحان كفة الحسنات على السيئات، وإذا رجحت كفة الحسنات؛ فكما قال الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ۝ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ۝وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ۝فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ۝وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ۝نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة:6-11].
  • أيضًا من الحكم: أن التطوعات من أسباب رفعة درجات المسلم؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارْقَ، ورتِّل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلك عند آخر آيةٍ تقرؤها [16].
    ويقول: واعلم أنك لن تسجد لله سجدةً إلا رفعك الله بها درجةً، وحط عنك بها خطيئةً [17]، فالتطوعات من أسباب رفعة الدرجات.
  • أيضًا من الحكم: أن التطوعات من أسباب زيادة الإيمان، وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]، فإذا أكثر الإنسان من النوافل ومن التطوعات، فإنه بذلك يزيد مستوى الإيمان عنده.

أفضل ما يُتطوع به المسلم

نعود لعبارة المؤلف رحمه الله، قال:

وهي أفضل تطوع البدن بعد الجهاد والعلم.

“وهي”: يريد الصلاة، صلاة التطوع، وقد اختلف العلماء في أفضل ما يُتطوع به على أقوالٍ:

  • القول الأول: أن أفضل ما يُتطوع به: طلب العلم الشرعي، وهذا مذهب الحنفية والمالكية، وقولٌ للشافعي، وروايةٌ عن أحمد.
  • القول الثاني: أن أفضل ما يُتطوع به: الصلاة، وهو قولُ كثيرٍ من الشافعية، وروايةٌ عن أحمد.
  • والقول الثالث: أن أفضل ما يُتطوع به الجهاد، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وهو الذي أشار إليه المؤلف رحمه الله.

والإمام ابن القيم رحمه الله له تحقيقٌ جيدٌ في هذه المسألة، وانتهى إلى أن أفضل ما يُتطوع به العمل على مرضاة الله في كل وقتٍ بما هو مقتضَى ذلك الوقت ووظيفته، فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد وصلاة الليل وصيام النهار، والأفضل عند حضور الضيف: إكرامه والقيام بحقه، وإن اشتغل به عن الورد المستحب، والأفضل في أوقات السحر: الاشتغال بالصلاة والدعاء والذكر والاستغفار، والأفضل في وقت استرشاد الطالب وتعليم الجاهل: الإقبال على تعليمه، والأفضل في وقت الأذان: الاشتغال بإجابة المؤذن، وهكذا.

فإذنْ أفضل ما يُتطوع به: العمل على مرضاة الله في كل وقتٍ بما هو مقتضَى ذلك الوقت ووظيفته.

فمثلًا: إذا سمعت المؤذن يؤذن؛ فأفضل ما تتطوع به أن تُتابع المؤذن، ثم تأتي بالذكر الوارد بعد ذلك، هذا أفضل من أن تستمر في تلاوة القرآن مثلًا؛ لو كنت تقرأ القرآن وأذن المؤذن، أيهما أفضل: أن تتابع المؤذن، أو تستمر في تلاوة القرآن؟

الجواب: أن تتابع المؤذن، الأفضل يوم عرفة بعد الزوال: الاشتغال بالدعاء، هذا أفضل من أن تشتغل بتلاوة القرآن؛ لأن هذا هو هدي النبي عليه الصلاة السلام، والدعاء في ذلك الموطن حريٌّ بالإجابة، إذا أتاك ضيفٌ هل الأفضل: أن تُعرِض عن الضيف وتقرأ القرآن، أو تتنفل بالصلاة، أو الأفضل: أن تُقبل على الضيف وتكرمه، وتؤنسه وتباسطه؟ الأفضل هو إكرام الضيف، وهكذا.

فإذنْ أفضل ما يُتطوع به: العمل على مرضاة الله في كل وقتٍ بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته، وما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله هو الأقرب في هذه المسألة، فلا يقال في عملٍ معينٍ أنه الأفضل مطلقًا؛ لأن ذلك يختلف باختلاف الأحوال.

والمؤلف قال: إن الصلاة أفضل تطوع البدن بعد الجهاد والعلم، الصلاة هي من أحب العمل إلى الله تعالى، وأفضل ما يُتعبد به من حيث الأصل: الصلاة؛ فإن النبي لما سئل عن أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها [18]؛ وذلك لأن الصلاة جامعةٌ لمُتفرق العبودية، ومتضمنةٌ لأقسامها، يجتمع في الصلاة من أنواع التعبد ما لا يجتمع في غيرها؛ من تلاوة القرآن، والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، والركوع والسجود، والتعظيم لله والخضوع له، والدعاء، وهذه لا تجتمع في غير الصلاة؛ ولهذا فرضت الصلاة -لمَّا فرضت- على نحوٍ خاصٍّ؛ أسري بنبينا محمد عليه الصلاة والسلام من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عُرج به حتى جاوز السماء السابعة، ووصل إلى أعلى مكانٍ وصله البشر، حتى سَمع صوت صرير الأقلام بكتابة القدر، وفَرَض عليه ربه وعلى أمته خمسين صلاةً في اليوم والليلة [19]، كلَّمه الله مباشرةً من غير واسطةٍ، لكنه لم يرَ ربه؛ لأن الإنسان في الدنيا -بتكوينه البشري- لا يتحمل رؤية الله العظيم، الذي تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن من شدة عظمته، الإنسان -بتكوينه البشري- لا يتحمل رؤية الله؛ لهذا لما قال موسى : رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى [الأعراف:143]، مجرد تجلٍّ، تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا [الأعراف:143]، هذا الجبل الضخم العظيم لم يتحمل لما تجلى الله له، انْدَكَّ، ما بالك بهذا الإنسان المخلوق الضعيف؟! ولهذا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [الأعراف:143]، صعق موسى ، غُشي عليه، لكن الله يُمَكِّن المؤمنين برحمته وفضله وجوده وكرمه في الجنة من رؤيته، وأحاديث الرؤية متواترةٌ.

فالنبي عليه الصلاة والسلام فرض الله عليه وعلى أمته هذه العبادة؛ وهذا يدل على محبة الله لها، ثم إنه لما فرضها؛ فرضها خمسين صلاةً في أربعةٍ وعشرين ساعةً، وهذا يدل على محبة الله لهذا النوع من التعبد، لو أنها بقيت لم تخفَّف؛ معنى ذلك: أننا نصلي تقريبًا كل نص ساعةٍ، ولما خُففت؛ خففت فقط في الفعل، ولم تخفف في الأجر والثواب؛ ولهذا كان بعض السلف يحرصون على التطوع بالصلاة بعد أداء الفرائض، ومنهم الإمام أحمد بن حنبلٍ رحمه الله، فقد اشتهر عنه، وذُكر في ترجمته: أنه كان يصلي لله تعالى في اليوم والليلة ثلاثمئة ركعةٍ تطوعًا من غير الفريضة، وكان الحافظ عبدالغني المقدسي صاحب “عمدة الأحكام” يقتدي بالإمام أحمد في هذا، أيضًا ابن تيمية رحمه الله لما سئل عن أفضل الأعمال قال: إن هذا يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، وأجاب بنحو جواب ابن القيم رحمه  الله، لكن قال بعد ذلك: إن مما هو كالإجماع عليه بين العلماء؛ أن الإكثار من ذكر الله تعالى هو أفضل ما شَغَل به العبد نفسه، الإكثار من ذكر الله ؛ لأن ذكر الله تعالى رُتِّب عليه أجورٌ عظيمةٌ على أعمالٍ يسيرةٍ، مثلًا: كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم [20]، ثقيلتان في الميزان، لاحِظ هاتين الكلمتين، ثقيلتان في الميزان، وحبيبتان إلى الرحمن، فابن تيمية رحمه الله قال: إن الأفضل من حيث الأصل هو الإكثار من ذكر الله ، لكن بالنسبة للأشخاص كما ذكرنا الأفضل هو العمل على مرضاة الله في كل وقتٍ بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته.

أفضل صلاة التطوع

ثم انتقل المؤلف بعد ذلك لأفضل صلاة التطوع.

قال:

وأفضلها ما سُنَّ جماعةً.

يعني: أفضل صلاة التطوع ما سنَّ جماعةً؛ لأن ما سُنَّ جماعةً أشبه بالفرائض؛ ويلزم من هذا: أن صلاة الاستسقاء أفضل من الوتر، والمؤلف التزم بهذا اللازم؛ ولهذا قال:

وآكدها: الكسوف، فالاستسقاء، فالتراويح، فالوتر.

“آكدها: الكسوف”: سيأتي الكلام -إن شاء الله- عن أحكام صلاة الكسوف بالتفصيل، وهي عند الجمهور سنةٌ مؤكدةٌ، ومن أهل العلم من قال: إنها واجبةٌ، ومنهم من قال: إنها فرض كفايةٍ، وسيأتي الكلام عنها في حينه إن شاء الله تعالى.

قال: “فالاستسقاء”، يعني: يلي صلاة الكسوف في الآكدية صلاة الاستسقاء، ثم صلاة التراويح، ثم الوتر، وهذا بناءً على ما قرره المؤلف من أن مناط التفضيل هو الجماعة، وصلاة الاستسقاء يشرع لها الجماعة، والتراويح كذلك، والوتر لا تشرع له الجماعة.

وجَعْل المؤلف صلاة الاستسقاء آكد من الوتر، هذا محل نظرٍ، والقول الراجح: أن الوتر آكد من الاستسقاء، بل آكد حتى من التراويح، بل ربما يكون آكد حتى من صلاة الكسوف على خلافٍ، لكن ترجيح القول بأنه آكد من الاستسقاء والتراويح ظاهرٌ، وأما هل الوتر آكد من الكسوف؟ هذا محل نظرٍ؛ لأن الوتر متأكدٌ، حتى إن بعض أهل العلم -وهم فقهاء الحنفية- قالوا بوجوبه، والنبي كان يداوم عليه، ولم يتركه حضرًا ولا سفرًا، وأما التراويح فهي مختلفٌ في استحباب الجماعة لها، وإن كان القول الراجح أنها تستحب.

كذلك صلاة الاستسقاء إنما تشرع عند الجَدْب والقحط؛ فبناءً على ذلك: يكون الراجح في ترتيب صلاة التطوع نقول: الكسوف، والوتر -على خلافٍ في أيهما آكد- يليهما في الآكدية صلاة الاستسقاء إذا كان هناك جدبٌ وقحطٌ، ثم التراويح.

ثم انتقل المؤلف رحمه الله للكلام عن أحكام صلاة الوتر، والكلام عن صلاة الوتر الحقيقةَ طويلٌ، ولا نرغب أن نقف في منتصفه، فنقف عنده؛ لأنه تقريبًا قرابة عشر صفحاتٍ، فلعلنا إذنْ نكتفي بهذا القدر، ونقف عند صلاة الوتر، وأقله ركعةٌ، نفتتح بها درسنا القادم إن شاء الله تعالى.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

والآن نجيب عما تيسر من الأسئلة.

الأسئلة

السؤال: هل يجوز قراءة الإخلاص والمعوذتين في ركعةٍ واحدةٍ من صلاة الفرض؟

الجواب: لا بأس بذلك، خاصةً إذا كان المصلي مأمومًا ولم يركع الإمام، فلا بأس أن يقرأ أكثر من سورةٍ، لكن إذا كان منفردًا أو إمامًا، فالأفضل ألا يقرأ أكثر من سورةٍ في الركعة الواحدة؛ لأن هذا هو غالب هدي النبي .

السؤال: إذا طهرت المرأة في وقت صلاةٍ، هل تقضي ما قبلها إذا كان يُجمع بينهما، كما لو طهرت في صلاة العصر، فهل تقضي الظهر؟

الجواب: هذا محلُّ خلافٍ بين الفقهاء، والقول الراجح: أنه لا يلزمها أن تقضي الظهر، وإنما تقضي العصر فقط؛ لأنها لم تطهر إلا في وقت العصر، فذمتها بريئةٌ؛ ولأنه لم يرد دليلٌ ظاهرٌ يدل على أنه يجب عليها أن تقضي الصلاة التي طهرت فيها والصلاة التي قبلها، والقائلون بذلك إنما اعتمدوا على بعض الآثار عن بعض الصحابة ، والتي أيضًا في أسانيدها نظرٌ، قد قيل: إنها لا تثبت حتى عن الصحابة ، وحتى لو ثبتت؛ تبقى اجتهادًا منهم ، وخالفهم فيها صحابةٌ آخرون.

فالقول الراجح: أن المرأة إنما تقضي الصلاة التي طهرت في وقتها، فإذا طهرت في وقت العصر؛ تقضي العصر ولا يلزمها أن تقضي الظهر، وإذا طهرت في وقت العشاء؛ تقضي العشاء ولا يلزمها أن تقضي المغرب؛ بدليل أنها لو كانت المسألة بالعكس: لو أن المرأة أدركت نصف ساعةٍ من وقت صلاة الظهر، ثم أتتها الدورة الشهرية فإنها بعدما تطهر إنما تقضي الظهر فقط، ولا تقضي العصر.

السؤال: قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:23]، هل هذا يشمل الرمي بغير الزنا؟

الجواب: نعم ظاهر الآية أنه يشمل كل من رمى بريئًا بتهمةٍ غير صحيحةٍ، كل من اتَّهم بريئًا بشيءٍ غير صحيحٍ يدخل في الآية، نسأل الله العافية، يستحق اللعنة في الدنيا والآخرة، يُطرد من رحمة الله، الذي يتهم بريئًا ويقذفه بما هو منه بريءٌ، سواءٌ كان بالزنا أو بغيره، فإنه متوعَّدٌ باللعنة في الدنيا والآخرة: لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، فكيف يرجو التوفيق هذا الإنسان الذي قد رمى الأبرياء؟! ومن ذلك: ما يحصل في بعض وسائل التواصل الاجتماعي من قذف الأبرياء بتهمٍ هم منها براءٌ، وتصنيفهم بأمورٍ هم بريئون منها، وتأمل قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ، يعني: أحيانًا يكون الذي قد رُمِيَ بالتهمة غافلًا عن هذا الأمر، بعيدًا عنه، ومع ذلك يُتَّهم به، ويُصنَّف به، ويُرمى به، الذي يفعل ذلك مستحقٌّ للعنة الله في الدنيا والآخرة: لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، وإذا لعن في الدنيا؛ فقد طرد من رحمة الله سبحانه، فلا يرجو توفيقًا في حياته، بل يكون تعيسًا في حياته، وعليه اللعنة في الآخرة أيضًا، وله عذابٌ عظيمٌ، فما أعظم مصيبته عند الله !

السؤال: أنا من سكان الرياض، عندي مناسبة زواجٍ في جدة، أريد حضورها، وآتي بعمرة، ولم أجد حجزًا إلا في يومين بعدها، هل يجوز لي الإحرام من جدة؟

الجواب: ليس لك الإحرام من جدة وأنت قد نويت العمرة وأنت في إقامتك في الرياض، فأنت بين أمرين:

  • الأمر الأول: أن تُحرِم عند محاذاة الميقات وأنت في الطائرة، وتبقى على إحرامك في جدة.
  • والخيار الثاني: أنك لا تُحرم عند محاذاة الميقات، وتبقى في جدة يومين -كما ذكرت- وتذهب لمناسبة الزواج، لكن عندما تريد العمرة؛ ترجع للميقات وتُحرِم منه، والحمد لله الميقات في الطائف ليس بعيدًا عن جدة، سواءٌ كان الميقات السيل الكبير، أو كان ميقات وادي محرم في الهدا، ربما يكون ميقات وادي محرم في الهدا أقرب إلى جدة، يعني: يأخذ من ساعةٍ ونصفٍ إلى ساعتين، فإذا كنت تريد أن تذهب لمناسبة الزواج فاذهب، لكن عندما تُريد العمرة؛ تذهب للميقات في الطائف فتحرم منه.

السؤال: من فعل محظورًا من محظورات الإحرام متعمدًا فماذا يجب عليه؟ ومن فعله ناسيًا أو جاهلًا فماذا عليه؟

الجواب: إذا فعله ناسيًا أو جاهلًا فلا شيء عليه، أما إذا فعله متعمدًا فعليه الفدية؛ مثال ذلك: امرأةٌ لبست النقاب لحاجتها للنقاب؛ لكون نظرها ضعيفًا، فاحتاجت إلى لبس النقاب، فعليها فدية؛ فتطعم ستة مساكين، أو تصوم ثلاثة أيامٍ، أو تذبح شاةً في الحرم، وأيسرها الإطعام، يعني تشتري ست وجبات أُرزٍ مع لحمٍ من أحد المطاعم المجاورة للحرم، وتوزعها على ستةٍ من فقراء الحرم.

السؤال: ما الواجب على الزوجة فيما يتعلق بخدمة زوجها؟

الجواب: هذا محلُّ خلافٍ بين الفقهاء، والقول الراجح: أن المرجع في ذلك للعرف؛ فإذا كان العُرْف في البلد أن المرأة تَخدُم زوجها؛ فيجب عليها أن تخدمه؛ لأن هذا داخلٌ في المعاشرة بالمعروف، والله تعالى يقول: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228].

وأما إذا كان العرف أنها غير مطالبةٍ بخدمة زوجها، وأن الزوج يأتي لها بخادمٍ؛ فلا تكون مطالبةً، ويَلزم الزوج أن يأتي لها بخادمٍ، فالمرجع في ذلك إلى العرف فيما يتعلق بخدمة المرأة لزوجها، والعرف عند الناس في كثيرٍ من بلدان العالم الإسلامي هو أن المرأة تخدم زوجها، وتقوم بخدمة المنزل؛ من الطبخ والتنظيف ونحو ذلك، لكن قال الفقهاء: إن المرأة إذا كان يُخدم مثلها، بأن يكون مثلًا عند أهلها خَدَمٌ؛ فيلزم الزوج أن يأتي لها بخادمٍ، أما إذا كانت لا يخدم مثلها؛ فلا يلزم الزوج أن يأتي لها بخادمٍ.

السؤال: هل المرأة تقطع صلاة المرأة؟

الجواب: مرور المرأة بين يدي المصلي يقطع الصلاة، سواءٌ كان المصلي رجلًا أو امرأةً؛ لقول النبي : يقطع صلاة المرء، إذا لم يكن بين يديه مثل مُؤْخِرة الرحل: المرأة، والحمار، والكلب الأسود [21].

السؤال: حملتُ ابني الصغير أثناء الصلاة، ثم قبلته سهوًا، هل علي شيءٌ؟

الجواب: ليس عليك شيءٌ، أما بالنسبة لحمل الطفل، فهذا فعله النبي ، فعله في صلاة الفريضة، في صلاة العصر؛ حمل بنت بنته أمامة بنت أبي العاص [22]، لكن تُقَبِّل الطفل أثناء الصلاة هذا لا ينبغي، وما دام أنه ورد في السؤال أن هذا حصل سهوًا؛ فلا شيء عليك، صلاتك صحيحةٌ ولا شيء عليك.

السؤال: هل يجوز للطبيب تأخير الصلاة حتى خروج وقتها؛ بسبب كثرة المرضى؟

الجواب: إذا احتاج الطبيب للجمع؛ جاز له الجمع، بأن يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء؛ كأن تكون هناك حالاتٌ طارئةٌ، وتحتاج وجود الطبيب، يكون مثلًا هناك حادثٌ، وأُتِيَ بالمرضى، ويستدعي وجود الطبيب، والطبيب إذا قام بإسعافهم خرج وقت الصلاة، فإذا كانت الصلاة مما تجمع مع غيرها؛ جاز للطبيب أن يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء؛ إما جمع تقديمٍ، أو جمع تأخيرٍ.

السؤال: إذا كانت المغسلة داخل دورة المياه فهل أقول البسملة؟

الجواب: الأفضل أن تسمي خارج دورة المياه، ثم تدخل دورة المياه وتتوضأ.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه مالك في الموطأ: 331.
^2, ^6 رواه مسلم: 571.
^3 رواه البخاري: 482، ومسلم: 573.
^4 سبق تخريجه.
^5, ^14 رواه البخاري: 401، ومسلم: 572.
^7 رواه أبو داود: 1039، والترمذي: 395، وقال: حسن.
^8 رواه مسلم: 572.
^9 رواه البخاري: 688، ومسلم: 412.
^10 رواه البخاري: 990، ومسلم: 749.
^11 رواه أبو داود: 1036، وابن ماجه: 1208.
^12 رواه البخاري: 1230، ومسلم: 570.
^13 رواه البخاري: 829، ومسلم: 571.
^15 رواه البخاري: 6502.
^16 رواه أبو داود: 1464، والترمذي: 2914، وقال الترمذي: حسن صحيح.
^17 رواه مسلم: 488، بنحوه.
^18 رواه البخاري: 527، ومسلم: 85.
^19 رواه البخاري: 349، ومسلم: 163.
^20 رواه البخاري: 6406، ومسلم: 2694.
^21 رواه مسلم: 499.
^22 رواه البخاري: 516، ومسلم: 543.
zh