logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح أبواب من صحيح مسلم/(30) باب من فضائل جعفر وأسماء- من حديث: “بلغنا مخرج رسول الله..”

(30) باب من فضائل جعفر وأسماء- من حديث: “بلغنا مخرج رسول الله..”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهديه، واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.

حيَّاكم الله جميعًا في هذا الدرس الثلاثين في التعليق على كتاب “الفضائل” من “صحيح مسلم” في هذا اليوم الثلاثاء العاشر من شهر شعبان من عام 1442هـ.

اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

اللهم وفقنا لأن نقول ما يُرضيك.

رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [الكهف:10].

فضائل جعفر وأسماء

كنا قد وصلنا في “صحيح مسلم” في كتاب “الفضائل” إلى فضائل جعفر بن أبي طالب وأسماء بنت عُمَيس، رضي الله عن الجميع.

بابٌ: من فضائل جعفر بن أبي طالب وأسماء بنت عُمَيس.

أسماء هي زوجة جعفرٍ، يعني: من فضائل جعفر وزوجته.

جعفر هو: جعفر بن أبي طالب بن عبدالمطلب، فهو ابن عمِّ النبي ، وهو شقيقٌ لعلي بن أبي طالب، أكبر منه بعشر سنوات.

وهو أحد السابقين إلى الإسلام، وكان يُحب المساكين، حتى إنه كان يُكْنَى بأبي المساكين ، قال عنه النبي : أَشْبَهْتَ خَلْقِي وخُلُقِي [1] متفقٌ عليه؛ لأنه كان يُشبه النبي عليه الصلاة والسلام في خِلْقَته، وفي خُلُقه أيضًا؛ ولهذا قال: أَشْبَهْتَ خَلْقِي وخُلُقِي.

هاجر مع مَن هاجر من الصحابة إلى الحبشة، وكان هو المُتحدث باسم المُهاجرين لما حاورهم النَّجاشي، وأسلم النجاشي على يديه.

النجاشي لما أسلم أسلم سِرًّا وكتم إسلامه، وأكرم الصحابة وآواهم وحماهم ودافع عنهم، وكتم إسلامه لأجل أن يبقى ملكًا على الحبشة، وكان كذلك، فلما مات دعا النبي الصحابة وقال: مات اليوم رجلٌ صالحٌ، وصلى عليه صلاة الغائب رحمه الله [2]؛ ولذلك يُعَدُّ النَّجاشي من التابعين، وليس من الصحابة كما قال الذهبي وغيره؛ لأنه لم يَرَ النبيَّ ، وقد آمن به ورأى أصحابه، فعَدُّوه من التابعين.

أسلم النَّجاشي على يدي جعفر بن أبي طالب ، ثم هاجر جعفر إلى المدينة وقَدِمَ من الحبشة، والنبي بخيبر، وستأتي قصة جعفر مع أصحاب السفينة، ولُقياهم لأبي موسى الأشعري ومَن معه، سيأتي ذلك -إن شاء الله- في حديثٍ آتٍ في هذا الدرس بإذن الله، وأن النبي قال لأصحاب السفينة: لكم أنتم يا أهل السفينة هجرتان [3].

واستُشهد بغزوة مُؤتة في السنة الثامنة من الهجرة، والنبي جعل ثلاثة قادةٍ على مُؤتة؛ فجعل قائدهم زيد بن حارثة ، وقال: فإن قُتِلَ زيدٌ أو استُشهد فأميركم جعفر، فإن قُتِلَ جعفر أو استُشهد فأميركم عبدالله بن رواحة، فإن قُتِلَ فمَن اختاره المسلمون [4].

فسبحان الله! قُتِل هؤلاء الثلاثة واحدًا تلو الآخر، ثم اختار المسلمون خالد بن الوليد .

وجعفر بن أبي طالب لما قُتِلَ أولًا قُطعتْ يده، فما زال يحمل الراية بيده الأخرى، ثم قُطعتْ يده الأخرى فحمل الراية بصدره، فلُقِّب بذي الجناحين، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: رأيتُ جعفرًا يطير في الجنة مع الملائكة [5].

وزوجته هي أسماء بنت عُميس، وقد هاجرتْ معه إلى الحبشة، وبعد مقتل جعفر  في مُؤتة تزوجها -تزوج أسماء بنت عُميس- أبو بكر الصديق ، وفي حجة الوداع كانت مع النبي عليه الصلاة والسلام، وولدتْ في ذي الحُليفة، كانت قد حملتْ من أبي بكرٍ  بمحمد بن أبي بكر، وولدتْ في حجة الوداع، ثم بعد وفاة أبي بكر الصديق  تزوجها علي بن أبي طالب ، وكان أبو بكر الصديق قد أوصى بأن تُغسِّله زوجته أسماء بنت عُميس.

فانظر إلى هذه الصحابية، تزوجها ثلاثةٌ من أكابر الصحابة: جعفر بن أبي طالب، ثم أبو بكر الصديق، ثم علي بن أبي طالب .

وكانت معروفةً بتعبير الرُّؤى، حتى إن عمر بن الخطاب كان يسألها عن تعبير بعض الرُّؤى. 

قال الإمام مسلم رحمه الله:

حدثنا عبدالله بن بَرَّاد الأشعري ومحمد بن العلاء الهمداني قالا: حدثنا أبو أسامة: حدثني بُريد، عن أبي بُردة، عن أبي موسى قال: بلغنا مخرج رسول الله ونحن باليمن، فخرجنا مُهاجرين إليه.

قصة أبي موسى مرَّتْ معنا في درسٍ سابقٍ، فلما رجع لليمن يدعو قومه يقول:

بلغنا مخرج النبي .

يعني: هجرته إلى المدينة.

فخرجنا مُهاجرين إليه أنا وأخوان لي، أنا أصغرهما، أحدهما أبو بُردة، والآخر أبو رُهْم.

كلهم من الأشعريين.

إما قال: بضعًا، وإما قال: ثلاثة وخمسين، أو اثنين وخمسين رجلًا من قومي.

يعني: من الأشعريين ذهبوا من اليمن يريدون أن يُقابلوا النبي  في المدينة.

قال: فركبنا سفينةً.

يعني: من اليمن.

فألقتنا سفينتنا إلى النَّجاشي بالحبشة.

يعني: في طريقهم من اليمن توقفت السفينة في الحبشة؛ لأنها على طريقهم.

فوافقنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده.

يعني: في الحبشة.

فقال جعفر: إن رسول الله بعثنا هاهنا، وأمرنا بالإقامة.

يعني: بالإقامة في أرض الحبشة؛ لأن بها رجلًا أو حاكمًا عادلًا لا يُظلم عنده أحدٌ، وهو النجاشي.

فأقيموا معنا.

قال جعفرٌ لأبي موسى: أقيموا معنا.

فأقمنا معه حتى قدمنا جميعًا.

يعني: أبو موسى والأشعريون قدموا من الحبشة مع الصحابة الذين هاجروا للحبشة.

“فأقمنا معه حتى قدمنا جميعًا” قدموا كلهم: الأشعريون والصحابة، أو بعض الصحابة المُهاجرين للحبشة.

قال: فوافقنا رسول الله حين افتتح خيبر، فأسهم لنا. أو قال: أعطانا منها.

يعني: أعطاهم من غنائم خيبر.

وما قسم لأحدٍ غاب عن فتح خيبر منها شيئًا إلا لمَن شهد معه إلا لأصحاب سفينتنا.

يعني: النبي عليه الصلاة والسلام قسَّم غنائم خيبر على مَن كان حاضرًا معه، لكنه استثنى من ذلك أصحاب هذه السفينة التي جمعت الأشعريين مع المهاجرين من الصحابة إلى الحبشة.

قال:

إلا لأصحاب سفينتنا مع جعفرٍ وأصحابه، قسم لهم معهم.

قصة عمر مع أسماء بنت عُميس رضي الله عنهما

قال: فكان ناسٌ من الناس يقولون لنا.

يعني: لأهل السفينة.

نحن سبقناكم بالهجرة [6].

يعني: يجري بينهم حديثٌ.

قال: فدخلتْ أسماء بنت عُميس.

هي زوجة جعفرٍ.

-وهي ممن قدم معنا- على حفصة.

دخلتْ على حفصة.

زوج النبي زائرةً، وقد كانتْ هاجرتْ إلى النجاشي فيمَن هاجر إليه.

فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء: مَن هذه؟ قالت: أسماء بنت عُميس. قال عمر: الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟

يعني: أسماء التي هاجرتْ للحبشة وركبت البحر.

قالت أسماء: نعم. فقال عمر: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحقُّ برسول الله منكم. فغضبتْ.

يعني: غضبتْ أسماء من مقولة عمر.

وقالت كلمةً: كذبتَ يا عمر.

و”كذبتَ” معناها: أخطأتَ، فالكذب يُستعمل بمعنى الخطأ.

و”الكذب” هذه الكلمة عند العرب تُطلق على الإخبار بخلاف الواقع، وتُطلق أيضًا على الخطأ، يُقال: “كذبتَ” يعني: أخطأتَ.

كانت العرب تقول لمَن أخطأ: كذبتَ، وأيضًا يُطلقون الكذب على الإخبار بخلاف الواقع.

هذا معنى الكذب في اللغة العربية.

فهنا قول أسماء لعمر: “كذبتَ” يعني: أخطأتَ.

كلا والله، كنتم مع رسول الله يُطْعِم جائعكم، ويَعِظ جاهلكم.

يعني: لما كنتم في مكة كان النبي عليه الصلاة والسلام يُطعم جائعكم، ويَعِظ جاهلكم.

وكنا في دار -أو في أرض- البُعَدَاء البُغَضاء في الحبشة.

قال النووي رحمه الله: “قال العلماء: البُعَداء في النَّسب، البُغَضاء في الدين؛ لأنهم كفارٌ إلا النجاشي، وكان يستخفي بإسلامه عن قومه”.

وذلك في الله وفي رسوله.

وايمُ الله لا أطعم طعامًا ولا أشرب شرابًا حتى أذكر ما قلتَ لرسول الله .

يعني: أخبرتْ أسماء رضي الله عنها بأنها ستُخبر النبي عليه الصلاة والسلام بمقولة عمر  هذه.

ونحن كنا نُؤذى ونُخاف، وسأذكر ذلك لرسول الله وأسأله، ووالله لا أكذب، ولا أزيغ، ولا أزيد على ذلك.

قال: فلما جاء النبي قالت: يا نبي الله، إن عمر قال: كذا وكذا، فقال رسول الله : ليس بأحقّ بي منكم، وله ولأصحابه هجرةٌ واحدةٌ، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان.

فالنبي عليه الصلاة والسلام أنصف الجميع، قال: إن المهاجرين من مكة للمدينة لهم هجرةٌ واحدةٌ، وهم ليسوا بأحقّ بي منكم، وأنتم أهل السفينة -مَن هاجر إلى الحبشة، وأيضًا الأشعريون- لكم هجرتان.

قالت: فلقد رأيتُ أبا موسى وأصحاب السفينة يأتوني أرسالًا.

يعني: يأتون إلى أسماء أفواجًا.

يسألوني عن هذا الحديث.

لأن فيه بُشرى عظيمةً لهم: أن لهم هجرتين.

ما من الدنيا شيءٌ هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم رسول الله .

قال أبو بُردة: فقالت أسماء: فلقد رأيتُ أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث مني [7].

لأنه شرفٌ عظيمٌ لأصحاب السفينة.

فوائد من قصة أسماء وأصحاب السفينة

هذه القصة قصةٌ عظيمةٌ فيها فوائد كثيرةٌ:

  • أولًا: فضل جعفر بن أبي طالب وزوجته أسماء بنت عُميس وأهل سفينتهم، حيث جعل النبي لهم هجرتين، بينما المُهاجرون من مكة للمدينة لهم هجرةٌ واحدةٌ.
  • أيضًا من الفوائد: إنما كان أصحاب السفينة أصحاب هجرتين؛ لكثرة نَصَبِهم وتعبهم وتضحيتهم في سبيل الله ​​​​​​​، كما قالت أسماء رضي الله عنها: “كنا في دار -أو في أرض- البُعَداء البُغَضاء في الحبشة، وذلك في الله وفي رسوله“، فتَغَرَّبوا من ديارهم وأهليهم وأموالهم إلى أرضٍ بعيدةٍ، إلى أرضٍ ليست بأرض مسلمين، بلادٍ ليست بلاد المسلمين، وليس لهم فيها أقارب ولا رحم، كل ذلك في الله ​​​​​​​؛ فلذلك كان أجرهم عظيمًا، وكان ثوابهم كبيرًا، وجعل النبي لهم هجرتين.

هل الأجر على قدر المشقة؟

لكن هنا ترد مسألةٌ: هل الأجر يكون على قدر المشقة؟

الجواب: ليس هذا على إطلاقه، فليس دائمًا الأجر على قدر المشقة، فقد يعمل الإنسان أعمالًا هو أقلّ فيها تعبًا ومشقةً ويفوق مَن كان أكثر تعبًا ومشقةً.

فمثلًا: النبي صلى صلاة الصبح، ثم خرج من المسجد فوجد جويرية بنت الحارث تُسبِّح، ثم رجع بعدما أضحى -يعني: رجع بعد ساعاتٍ- فقال: ما زِلْتِ على الحال التي فارقتُكِ عليها؟ قالت: نعم. قال: لقد قلتُ بعدكِ أربع كلماتٍ ثلاث مراتٍ، لو وُزنتْ بما قلتِ منذ اليوم لوزنتهنَّ: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزِنَة عرشه، ومِداد كلماته [8].

فهنا هذه الكلمات الأربع مَن قالها ثلاث مراتٍ تُعادل مَن كان يُسبِّح من بعد صلاة الفجر إلى الضُّحى، يعني: قُرابة ثلاث ساعاتٍ.

فهذا يدل على أنه ليس دائمًا الأجر على قدر المشقة، وإنما ذلك فضل الله يُؤتيه مَن يشاء.

وإن كان أيضًا مَن نَصَبَ وتعب في العبادة يُؤجر على ذلك؛ ولهذا جاء في بعض الروايات: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لعائشة رضي الله عنها لما اعتمرتْ بعد حجة الوداع من التَّنعيم: أَجْرُكِ على قدر نَصَبِكِ [9]، ولكن هذا -كما ذكرتُ- ليس على إطلاقه.

وهنا تظهر أهمية الفقه في الدين، ومعرفة محالّ محابِّ الله ​​​​​​​ ومرضاته، فإن الفقه في ذلك يجعل الإنسان يحوز الأجور العظيمة بجهدٍ أقلّ، وهذه ثمرة الفقه والعلم: أن الإنسان يحوز أجورًا عظيمةً وحسناتٍ كثيرةً بعملٍ أقلّ من غيره.

ومن هنا كان فضل العالِم على العابد كبيرًا؛ لأن العالِم يعرف محالّ محابِّ الله ​​​​​​​ ومرضاته، ويعرف محالّ سخط الله ​​​​​​​، فيحرص على أن يتَّبع محالّ محابِّ الله ​​​​​​​ ومرضاته، وأن ما كان أكثر محبةً لله ​​​​​​​ يحرص عليه أكثر من غيره.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في “الفتح”: “ظاهره -أي: الحديث- تفضيلهم على غيرهم من المُهاجرين، لكن لا يلزم منه تفضيلهم على الإطلاق، بل من الحيثية المذكورة”.

يعني: كون النبي عليه الصلاة والسلام قال: ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان لا يلزم من ذلك تفضيلهم التفضيل المُطلق على المهاجرين من مكة إلى المدينة؛ كأبي بكرٍ وعمر وعثمان والعشرة المُبشرين بالجنة، فالتفضيل بإطلاقٍ ليس واردًا؛ ولذلك عند أهل السنة والجماعة: أن أفضل الصحابة أبو بكرٍ، ثم عمر .

أجمع أهل السنة والجماعة على أن أفضل الصحابة: أبو بكرٍ، ثم عمر .

واختلفوا أيّهما أفضل: علي أو عثمان ؟

وجمهور أهل السنة على تفضيل عثمان ، وكلهم على قدرٍ من الفضل والشرف والمناقب الحميدة، رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.

  • أيضًا من الفوائد: قبول خبر الآحاد.
    ووجه ذلك: أن عددًا من الصحابة كانوا يأتون إلى أسماء بنت عُميس أرسالًا -يعني: أفواجًا- يسألونها عن الخبر الذي سمعته من النبي ، وأنه قال: ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان، واعتمدوا على خبر أسماء؛ لأنها ثقةٌ، ولم يُراجعوا النبي ، وهل ما قالته أسماء صحيحٌ؟
    وهذا يدل على أن خبر الثقة مقبولٌ وإن كان واحدًا، إذا كان ثقةً فخبره مقبولٌ ويُعتمد عليه، حتى وإن كان شخصًا واحدًا.
    ولذلك هناك عدة أحاديث نقلها آحادٌ، وعملتْ بها الأمة، وهذا فيه حجةٌ ظاهرةٌ لقبول خبر الآحاد.
  • أيضًا من الفوائد: أن الكذب في اللغة العربية يُطلق على الإخبار بخلاف الواقع، ويُطلق كذلك على الخطأ؛ ولذلك نجد أن بعض الصحابة يُخاطب بعضهم بعضًا يقول: كذبتَ، ويريد بذلك: أخطأتَ، ولا يريد بذلك الكذب الذي هو الإخبار بخلاف الواقع.
    وفي هذه القصة قالتْ أسماء بنت عُميس لعمر بن الخطاب: “كذبتَ يا عمر”، تريد بذلك: أخطأتَ، وهذا يدل على أن هذه الكلمة “الكذب” كما أنها تُطلق على الإخبار بخلاف الواقع، فهي تُطلق كذلك على الخطأ.

بابٌ: من فضائل سلمان وبلال وصُهيب

ننتقل بعد ذلك إلى: باب من فضائل سلمان وبلال وصُهيب .

ترجمةٌ مُختصرةٌ لسلمان الفارسي

سلمان هو: سلمان الفارسي، وكان ينتسب إلى الإسلام ويقول: “أنا سلمان ابن الإسلام”، وهو من موالي النبي ؛ لأنه أعانه بما كُوتِبَ عليه، فكان سببًا في عتقه.

كان عليه الصلاة والسلام يقول: سلمان منا أهل البيت [10].

أصله فارسي، فأبوه كان مجوسيًّا، وكان من سادات قومه، فكان أبوه سيدًا في قومه.

وسلمان الفارسي يصدق عليه أنه الباحث عن الحقيقة.

سبحان الله!

لما ظهر إلى الدنيا ورأى قومه يعبدون النار، عرف أن هذا ليس هو دين الحق، فأراد أن يبحث عن دين الحق؛ فترك قومه وسافر إلى الشام، وانتقل من راهبٍ إلى راهبٍ، وكلما ذهب إلى راهبٍ ثم وجد منه شيئًا ولم يُعجبه شأنه يقول: “إن هذا ليس هو الدين الحق الذي أبحث عنه”، فتنقَّل من بلدٍ إلى بلدٍ، ومن مكانٍ إلى مكانٍ.

واستُرِقَّ -يعني: أصبح رقيقًا- حتى قيل: إنه كان له بضعة عشر سيدًا.

ولم يزل يجول البلدان ويختبر الأديان يبحث عن الحقيقة، وكان آخر أمره أن استقرَّ بالمدينة عند أناسٍ من اليهود؛ لأنه لما سأل وبحث وتقصَّى قيل له: إن نبيًّا سيُبْعَث في يثرب. فذهب إلى يثرب، وكان عند نفرٍ من اليهود، وكان يعمل عندهم رقيقًا، فلما قدم النبي المدينة وجد أن الصفات التي قِيلتْ عنه مُتحققةٌ فيه؛ فأسلم .

ثم إن النبي أعانه على أن يُكاتِب نفسه من اليهود، فأصبح حرًّا، وأصبح من سادات المسلمين، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: سلمان منا أهل البيت.

وتوفي في خلافة عثمان .

وقصة سلمان الفارسي قصةٌ عجيبةٌ؛ انظر كيف ترك بلاده وأهله وقومه؟! وكان يعيش في تَرَفٍ، وفي عِزٍّ، وفي مَنَعَةٍ، لكنه أراد أن يصل إلى الحقيقة، وإلى الدين الحق؛ فقام بهذه الرحلة الطويلة جدًّا، والتي كلَّفَتْه كثيرًا وأتعبته، حتى إنه استُرِقَّ وأصبح رقيقًا يُباع ويُشترى، وأصبح له بضعة عشر سيدًا، إلى أن وصل في الأخير إلى الحقيقة، وهي: أن دين الإسلام هو الدين الحق، وأن النبي  هو النبي الذي بعثه الله ​​​​​​​ للناس كافةً.

فانظر إلى حرص سلمان الفارسي على البحث عن الحق، ولما كان حريصًا جدًّا هداه الله ​​​​​​​ للحق.

وهذا يدل على أن الإنسان إذا حرص على أن يبحث عن الحق والهداية فإن الله ​​​​​​​ يهديه؛ ولذلك يقول ​​​​​​​: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، فالله تعالى يعلم من عبده أنه إذا كان يبحث عن الحق أن الله ​​​​​​​ يهديه للحق.

فسلمان الفارسي ترك ما هو فيه من الرفاهية، وما هو فيه من الأموال العظيمة؛ لأن أباه كان من سادات قومه، حتى وصل في الأخير إلى الحقيقة، وهي: أن دين الإسلام هو الدين الحق، وأن نبينا محمدًا هو خاتم النَّبيين، وبُعِثَ للناس كافةً، رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

ترجمةٌ مُختصرةٌ لصُهيب

أما صُهيب فهو: صُهيب بن سنان.

كان أبوه عاملًا لكسرى، وكان هو عربيًّا، لكنه سُبِيَ وهو غلامٌ صغيرٌ، فنشأ ببلاد الروم، فكانت في لسانه لُكْنَةٌ.

وبِيعَ حتى وصل إلى مكة، فاشتراه عبدالله بن جدعان، ثم أعتقه، وبقي في مكة، ثم لما كانت الهجرة من مكة إلى المدينة هاجر، فتبعه مَن تبعه من قريشٍ وقالوا: كيف تُهاجر إلى محمدٍ وأنت أتيتَ إلينا فقيرًا؟! قال: أرأيتم إن دللتُكم على مالي وأعطيتُكم إياه أتتركوني؟ قالوا: نعم. فذهب ودلَّهم على ماله وبيته فأخذوه.

وأتى النبيَّ وحيدًا، ليس معه مالٌ، وليس معه شيءٌ، فلما رآه النبي قال له: رَبِحَ البيع أبا يحيى، وأنزل الله ​​​​​​​ في ذلك قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة:207] [11].

وصُهيب كما جاء في الحديث -وإن كان في سنده مقالٌ، وهو حديثٌ مشهورٌ-: صُهيبٌ سابق الروم، وسلمان سابق الفرس، وبلال سابق الحبشة [12].

قال له عمر : إني أُحبك لولا أن فيك ثلاث خِصالٍ:

الأولى: أنك تكنيتَ بأبي يحيى وليس لك ولدٌ.

والثانية: أنك تزعم أنك من العرب وأنت رومي.

والثالثة: أنك تُكثر من إطعام الطعام وفيك سَرَفٌ.

فقال صُهيب: أما أبا يحيى: فإن النبي هو الذي كنَّاني بأبي يحيى، قال: رَبِحَ البيع أبا يحيى [13].

وأما أني من العرب: فأنا من العرب. وذكر نسبه، وقال: إني قد سُبيتُ وبقيتُ في بلاد الروم إلى أن أتيتُ إلى هنا، فأنا عربي النَّسب والأصل.

وأما إطعام الطعام فقد سمعتُ النبي  يقول: خياركم مَن أطعم الطعام، وردَّ السلام [14].

توفي سنة 38هـ، رضي الله عنه وأرضاه.

ترجمةٌ مُختصرةٌ لبلال بن رباح

وأما بلال: فهو بلال بن رباح الحبشي، كان رقيقًا عند أُمية بن خلف، ثم دعاه أبو بكرٍ  إلى الإسلام فأسلم، فلما أسلم عذَّبه سيده أُمية بن خلف، وكان يُعذبه عذابًا شديدًا لدرجة أنه يجرُّه على ظهره في حرِّ الرَّمضاء، وكان يضربه لكي يرجع عن الإسلام، فكان يقول: “أحدٌ، أحدٌ”، إلى أن اشتراه أبو بكر الصديق  وأعتقه.

وكان مُؤذن النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة، ولما مات النبي خرج للشام مُجاهدًا إلى أن مات، رضي الله عنه وأرضاه.

قصة أبي سفيان مع سلمان وصُهيب وبلال

قال الإمام مسلم رحمه الله:

حدثنا محمد بن حاتم: حدثنا بَهْز: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابتٍ، عن معاوية بن قُرَّة، عن عائذ بن عمرو: أن أبا سفيان أتى على سلمان وصُهيب وبلال في نفرٍ، فقالوا: والله ما أخذتْ سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها.

كان أبو سفيان أتاهم وهو كافرٌ في الهُدنة بعد صُلح الحُديبية، فلما رأوه قالوا: “والله ما أخذتْ سيوف الله من عنق عدو الله -يريدون أبا سفيان- مأخذها“، فسمع أبو بكرٍ هذه المقولة.

فقال أبو بكرٍ : أتقولون هذا لشيخ قريشٍ وسيدهم؟!

يعني: هذا له مكانته ومنزلته في المجتمع، كيف تقولون له: عدو الله، وما أخذتْ سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها؟

فأتى النبي فأخبره، فقال: يا أبا بكر، لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبتَ ربك.

فأتاهم أبو بكرٍ فقال: يا إخوتاه، أغضبتكم؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أُخَيَّ [15].

هذه القصة فيها أن أبا سفيان لما مرَّ وهو كافرٌ في الهُدنة بعد صُلح الحُديبية على هؤلاء وهم من الضعفاء: سلمان الفارسي، وصُهيب الرومي، وبلال بن رباح، فقالوا هذه الكلمة: “ما أخذتْ سيوف الله من عنق عدو الله” يريدون أبا سفيان؛ لأنه كان كافرًا، وكان هو القائد للمشركين، ومن ساداتهم، قالوا: “ما أخذتْ سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها”.

أبو بكرٍ رأى أن هذا من سادات قريشٍ وكبارهم، فكيف تقولون هذا؟ “أتقولون هذا لشيخ قريشٍ وسيدهم؟!”.

لما أتى النبي وأخبره، قال: لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبتَ ربك.

أبو بكرٍ أفضل الصحابة رجع لهم، وقال: “يا إخوتاه، أغضبتكم؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أُخَيَّ“، فسامحوه.

فوائد من قصة أبي سفيان مع سلمان وصُهيب وبلال

هذه القصة فيها فوائد:

  • الفائدة الأولى: فضيلة هؤلاء الثلاثة: سلمان الفارسي، وصُهيب الرومي، وبلال بن رباح ، فإن النبي نهى عن إغضابهم، وبيَّن أن إغضابهم سببٌ لإغضاب الله ​​​​​​​، وهذا يدل على فضلهم، وشرفهم، وعظيم مكانتهم.
  • أيضًا من الفوائد: مراعاة قلوب الضعفاء وأهل الدين وإكرامهم، فالفقراء ينبغي مراعاتهم، وهؤلاء كانوا فقراء الصحابة، وكانوا كلهم مَوَالٍ: سلمان، وصُهيب، وبلال .
    فينبغي مراعاة الفقراء، والحُنُو عليهم، والتَّرفق بهم، والتَّلطف معهم، فهذه أخلاق الأنبياء، وأخلاق الصالحين: أنهم يتلطفون مع الفقراء ويُكرمونهم.
    أما مُعاملة الفقراء بالقسوة والجفاء والاحتقار، فهذه ليست أخلاق المؤمنين.

بعض الناس إذا رأى فقيرًا يترفَّع عليه ويحتقره، وربما زجره، وإذا تكلم نهره، فهذه ليست من أخلاق المؤمنين، ربما يكون هذا الفقير خيرًا عند الله ​​​​​​​ منك، وأحبَّ إلى الله تعالى منك، فلِمَ التَّرَفُّع والتَّكبر عليه؟!

هذا إنسانٌ ابتُلي بالفقر، وأنت قد أغناك الله ​​​​​​​، فينبغي أن تترفَّق به، وأن تُلاطفه، وإما أن تُساعده إذا كانت عندك مساعدةٌ، وإذا لم تكن عندك مساعدةٌ فقل له قولًا معروفًا بلُطْفٍ ورفقٍ ولينٍ، والله ​​​​​​​ يقول: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ [الضحى:10]، فلا يجوز نَهْر الفقير، ولا ازدراؤه، ولا احتقاره.

ولهذا كان يُقال في ترجمة الإمام أحمد رحمه الله: “ما رأينا الفقراء في مجلسٍ أعزَّ منه في مجلس الإمام أحمد بن حنبل”، فكان الفقراء عزيزين؛ لأنه كان يُكرمهم ويُعزُّهم.

شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله كان الفقراء يجلسون في مجلسه عزيزين، كُرماء، لا أحد ينتهرهم أو يحتقرهم.

فهذه هي أخلاق الأنبياء والصالحين وأتباع الأنبياء: أنهم لا يزدرون الفقراء، ولا يحتقرونهم، بل يُكرمونهم ويُعِزُّونهم.

  • أيضًا من الفوائد: أنه ينبغي للعبد البُعد عما يُغضب الصالحين ويُؤذيهم، وأن هذا من أسباب غضب الله ​​​​​​​؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: لئن كنت أغضبتهم أي: هؤلاء الصالحين لقد أغضبتَ ربك، وهذا يدل على أن إغضاب الصالحين من أسباب غضب الله ​​​​​​​، فكيف بمَن يُؤذي الصالحين؟! كيف بمَن يُحاربهم؟!
    لا شكَّ أن هذا من أسباب غضب الله ​​​​​​​ عليه.

وقد جاء في الحديث القدسي: أن النبي  قال: إن الله قال: مَن عادى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب [16].

مَن عادى لي وليًّا يعني: رجلًا صالحًا من أولياء الله ​​​​​​​ فقد آذنتُه بالحرب، هذا الذي يُعادي وليًّا من أولياء الله فتح على نفسه جبهة حربٍ مع الله ​​​​​​​، فيتوقع أن تأتيه مصيبةٌ من أي شيءٍ، تأتيه مصائب من أي شيءٍ، ومن حيث لا يحتسب بسبب مُعاداته لأولياء الله ​​​​​​​: مَن عادى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب.

فالحذر من مُعاداة أولياء الله ​​​​​​​ والصالحين، ومن أذيتهم، فإن هذا سببٌ لغضب الله ​​​​​​​ ومَقْتِه، وسببٌ لحلول العقوبة العاجلة على مَن آذاهم ومَن حاربهم.

  • أيضًا في هذه القصة من الفوائد: بيان كريم الخلق السائد بين الصحابة ، وكيف أن أبا بكرٍ لما قال هذه المقولة رجع واستسمح منهم، وأتى مُتلطفًا، فقال لهم: “يا إخوتاه، أغضبتكم؟ قالوا: لا“، ثم أيضًا أكَّدوا ذلك فقالوا: “يغفر الله لك يا أُخَيَّ“.

وهذا يدل على فُشُوِّ الأخلاق الكريمة بين الصحابة ، فكانت تشيع بينهم المحبة والمودة والأخلاق الكريمة، وقد ربَّاهم النبي على ذلك؛ ولذلك ينبغي أن تشيع هذه الأخلاق بين المسلمين، وأن يتعامل المسلمون فيما بينهم بأخلاق المؤمنين، فيتعاملون فيما بينهم بالمحبة، والمودة، والرحمة، والتواضع، وأخلاق المؤمنين، فهذا هو الذي ينبغي أن يشيع بين المؤمنين، وأكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خُلُقًا.

بابٌ: من فضائل الأنصار

ننتقل بعد ذلك إلى:

بابٌ: من فضائل الأنصار .

الطائفتان اللتان هَمَّتا أن تفشلا

قال الإمام مسلم رحمه الله في “صحيحه”:

حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي وأحمد بن عبدة -واللفظ لإسحاق- قالا: أخبرنا سفيان، عن عمرو، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: فينا نزلت: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران:122] بنو سلمة وبنو حارثة، وما نُحب أنها لم تنزل؛ لقول الله ​​​​​​​: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [17].

هذا كان في غزوة أحدٍ، قال: نزلت إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا هذه في سورة آل عمران، وسورة آل عمران فيها آياتٌ كثيرةٌ نزلتْ في شأن غزوة أحدٍ.

إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ يعني: يوم أحدٍ.

أَنْ تَفْشَلَا الفشل في الحرب هو الجُبن والخَوَر، والفشل في الرأي هو العجز، والفشل في البدن هو الإعياء.

إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا يعني: أن يحصل منهما جُبنٌ وخَوَرٌ، وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا.

مَن هما هاتان الطائفتان؟

هما بنو سلمة وبنو حارثة من الأنصار؛ وذلك أن النبي لما خرج للقاء المشركين في غزوة أحدٍ كان معه قُرابة ألفٍ، فرجع رأس النفاق عبدالله بن أُبي بنحو ثلث الجيش؛ فشلًا عن الحرب، ونُكولًا ورجوعًا عن النبي .

وهمَّتْ طائفتان من الأنصار بالرجوع معه، وهما: بنو سلمة وبنو حارثة، هَمَّتا أن يرجعا مع عبدالله بن أُبي، لكن الله ​​​​​​​ حماهما من ذلك، فلَحِقَا بالنبي والمسلمين، وأنزل الله ​​​​​​​ هذه الآية: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ وهما بنو سلمة وبنو حارثة أَنْ تَفْشَلَا يعني: أن يُصيبهما الجُبن والخَوَر ويرجعا مع ابن أُبي، لكنهما لم يفعلا ذلك، وحماهما الله ​​​​​​​؛ ولذلك قال: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا، فحماهما الله ​​​​​​​؛ لأنهما كانتا من المؤمنين الصادقين، ولم يكونا من المنافقين، وأما المنافقون فتركهم الله ​​​​​​​ وشأنهم.

فوائد من قصة الطائفتين اللتين هَمَّتا أن تفشلا

هذه القصة فيها فوائد:

  • الفائدة الأولى: بيان سبب نزول هذه الآية؛ فإن هذا هو سببٌ للنزول: أن بني سلمة وبني حارثة من الأنصار هَمَّتا أن تفشلا، وأن ترجعا مع عبدالله بن أُبي في ثلث الجيش الذي رجع وفشل ونَكَلَ عن الذهاب مع النبي في غزوة أحدٍ، فهذا هو سبب نزول هذه الآية.
  • ثاني الفوائد: فضل بني سلمة وبني حارثة، وأنهم كانوا من المؤمنين الصادقين؛ ولذلك حماهم الله ​​​​​​​ من أن يفعلوا ما فعل المنافقون، ولما هَمُّوا بأن يفشلوا حماهم الله تعالى؛ فرجعوا للنبي  والمسلمين.

وهذا يدل على أن المؤمن إذا كان صادقًا فإن الله ​​​​​​​ يحفظ عليه دينه ويحميه من الفتن: من فتن الشبهات، وفتن الشهوات، ومن الانحراف في دينه، كما قال النبي : احفظ الله يحفظك [18] يعني: إذا حفظتَ الله ​​​​​​​: كنت صادقًا مع الله في تدينك، وفي طاعتك لله ​​​​​​​؛ فإن الله تعالى يحفظك في أمور دينك ودُنياك.

وحفظ الدين أشرف وأهمّ من حفظ الدنيا، فيحفظ الله تعالى على الإنسان دينه، فيحميه من فتن الشبهات، ومن فتن الشهوات، ومن الانتكاسة، ومن الانحراف، ونحو ذلك، حتى إذا كاد أن يحصل له ما يحصل فإن الله ​​​​​​​ يُقيِّض له ما يحميه ويُرجعه إلى الحق، فما إن تعرض له فتنة شُبهةٍ إلا ويُقيض الله تعالى له مَن يكشفها، وما إن تعرض له فتنة شهوةٍ إلا ويحميه الله ​​​​​​​ ويعصمه منها بسبب صدقه مع الله ​​​​​​​: احفظ الله يحفظك، فإذا حفظتَ الله -كنت صادقًا مع الله- فإن الله تعالى يحفظ عليك دينك، ويحفظك في أمور دينك ودُنياك.

فهاتان الطائفتان -بنو سلمة وبنو حارثة- كانتا من المؤمنين الصادقين، كانتا من الأنصار، وهَمَّتا أن تفشلا وترجعا مع المنافقين، وتنكلا عن الذهاب مع النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة أحدٍ، ولكن الله ​​​​​​​ حمى هاتين الطائفتين فلم تفعلا ما هَمَّتا به، ورجعتا إلى النبي وقاتلتا معه؛ ولذلك أثنى الله عليهما في آخر الآية فقال: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا.

وهنا في هذا الحديث جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنهما يقول: “ما نُحب أنها لم تنزل؛ لقول الله ​​​​​​​: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا، صحيحٌ أن فيها إشارةً إلى أنهم قد هَمُّوا بالفشل، لكن الله ​​​​​​​ أثنى عليهم في آخر الآية في قوله: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا، وهذا شرفٌ عظيمٌ لبني سلمة وبني حارثة.

دعاء النبي للأنصار

قال الإمام مسلم رحمه الله:

حدثنا محمد بن المثنى: حدثنا محمد بن جعفر وعبدالرحمن بن مهدي قالا: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله : اللهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار [19].

ثم ساقه بطريقٍ أخرى، ثم قال:

حدثني أبو معن الرقاشي: حدثنا عمر بن يونس: حدثنا عكرمة -وهو ابن عمار-: حدثنا إسحاق -وهو ابن عبدالله بن أبي طلحة-: أن أنسًا حدثه: أن رسول الله استغفر للأنصار. قال: وأحسبه قال: “ولذَرَارِي الأنصار، ولمَوَالي الأنصار”. لا أشك فيه [20].

وهذا يدل على فضل الأنصار، ولهم في هذا منقبةٌ عظيمةٌ؛ حيث إن النبي استغفر لهم، ولأبنائهم، ولأبناء أبنائهم.

قال أبو العباس القرطبي رحمه الله: “ظاهره الانتهاء بالاستغفار إلى البطن الثالث”؛ لأنه قال: اللهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار؛ “لأنهم من القرون التي قال فيها النبي : خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم [21].

ويمكن أن تشمل بركة هذا الاستغفار المؤمنين من نَسْل الأنصار إلى يوم القيامة …، لا سيما إذا كانت نية الأولاد فعل مثال ما سبق إليه الأجداد، ويُؤيد ذلك قوله في الرواية الأخرى: ولذَرَارِي الأنصار“.

وهذا يدل على أن الدعاء للأنصار إلى يوم القيامة، وأنه مُستمرٌّ لهم وللصالحين من ذُريَّاتهم إلى قيام الساعة، فهذا أيضًا مُحتملٌ.

الرواية الأولى: اقتصر النبي عليه الصلاة والسلام في الاستغفار على البطون الثلاثة الأولى فقط: الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار، لكن الرواية الثانية قال: “ولذَرَارِي الأنصار”، وهذا يشمل ذَرَاري الأنصار إلى قيام الساعة، وهذا شرفٌ عظيمٌ لهم إذا استقاموا على طاعة الله ، وإلا فمَن لم يستقم على طاعة الله فإن مَن بَطَّأَ به عمله، لم يُسْرِع به نسبه [22]، فأبو لهبٍ عمُّ النبي ، ومع ذلك هو في النار: سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:3]، لكن إذا كانوا مؤمنين فيشملهم هذا الفضل وهذه المنقبة.

حب النبي للأنصار 

قال الإمام مسلم رحمه الله:

حدثني أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب -جميعًا-، عن ابن عُلَيَّة -واللفظ لزهير-: حدثنا إسماعيل، عن عبدالعزيز -وهو ابن صُهيب-، عن أنسٍ: أن النبي رأى صبيانًا ونساءً مُقبلين من عُرْسٍ، فقام نبي الله مُمتثلًا، فقال لهم: اللهم أنتم من أحبِّ الناس إليَّ، اللهم أنتم من أحبِّ الناس إليَّ يعني: الأنصار [23].

هذا الحديث يدل على فضل الأنصار وعظيم مكانتهم ومنزلتهم، والله تعالى أثنى عليهم في قوله: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]، هذه الآية نزلتْ في الأنصار.

فوائد من قصة قيام النبي 

في هذه القصة من الفوائد:

  • جواز القيام للترحيب بالقادم، فإن النبي لما رأى صبيانًا ونساءً مُقبلين من عُرْسٍ قام مُمتثلًا، يعني: مُنتصبًا، ورحَّب بهم، ودعا لهم، وهذا يدل على جواز القيام للترحيب بالقادم.
    فإذا قدم ضيفٌ -مثلًا- لا بأس أن تقوم وتستقبله وتُرحِّب به، وهذا من مكارم الأخلاق، ولا تكون في المجلس جالسًا تنتظر حتى يأتيك الضيف، إنما تقوم وتستقبله وتُرحِّب به، فهذا من مكارم الأخلاق، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يفعل هذا أحيانًا، وفعل هذا هنا مع هؤلاء الأنصار.
  • أيضًا من الفوائد: تواضع النبي ، وأنه لا يُميِّز بين الكبير والصغير، والرجال والنساء، فيحترم كلًّا بما يليق به، ويُؤنسهم، ويتودد إليهم.
    ففي هذه القصة أنه رأى صبيانًا ونساءً مُقبلين من عُرْسٍ، ومع ذلك قام مُنتصبًا، ودعا لهم، ورحَّب بهم، وقال:
    اللهم أنتم من أحبِّ الناس إليَّ، اللهم أنتم من أحبِّ الناس إليَّ، وهذا يدل على تواضع النبي ، وحُسن خُلُقه؛ ولذلك وصفه ربنا ​​​​​​​ بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].

قال الإمام مسلم رحمه الله:

حدثنا محمد بن المُثنى وابن بشار -جميعًا-، عن غُندر، قال ابن المُثنى: حدثنا محمد بن جعفر: حدثنا شعبة، عن هشام بن زيد: سمعتُ أنس بن مالك يقول: جاءت امرأةٌ من الأنصار إلى رسول الله ، قال: فخلا بها رسول الله  وقال: والذي نفسي بيده، إنكم لأحبُّ الناس إليَّ ثلاث مراتٍ [24].

المراد بقوله: “فخلا بها” في الحديث

قوله: “فخلا بها” يعني: خلا بهذه المرأة.

قال النووي رحمه الله: “هذه المرأة إما مَحْرَمٌ له؛ كأمِّ سُليم وأختها”، فإنهما كانتا خالتين له من الرضاع، “وإما المراد بالخلوة: أنها سألته سؤالًا خفيًّا بحضرة ناسٍ، ولم تكن خلوةً مُطلقةً، وهي الخلوة المنهي عنها”، وهذا هو الأقرب، يعني: هذه المرأة خَلَتْ به أمام الناس تُحدثه، تُحدث النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا من كريم خُلُقه عليه الصلاة والسلام، فقد تكون عندها مشكلةٌ خاصةٌ، أو عندها موضوعٌ خاصٌّ تريد أن تتحدث فيه مع النبي عليه الصلاة والسلام في الطريق.

فهذه المرأة أتت النبي عليه الصلاة والسلام فَخَلَتْ به تُحدثه على انفرادٍ في موضوعها، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده، إنكم لأحبُّ الناس إليَّ يعني: الأنصار أحبّ الناس إليه، وهذا يدل على فضل الأنصار ومحبة النبي  لهم.

حكم محبة الصحابة 

المُهاجرون والأنصار لهم مناقب، والصحابة عمومًا لهم من المنقبة والشرف الشيء العظيم، فالصحابة هم نقلة الشريعة، ومحبتهم من الدين، ولا يُحبهم إلا مؤمنٌ، ولا يبغضهم إلا منافقٌ.

فالذي يطعن في الصحابة، ويُقلل منهم، وربما يَسُبُّ بعضهم، فهذه ليست من أخلاق المؤمنين، هذه من أخلاق المنافقين، وأهل السنة والجماعة يتقربون إلى الله ​​​​​​​ بحب الصحابة، ويترضون عنهم، فهم نقلة الشريعة، هم الذين نقلوا الشريعة من النبي عليه الصلاة والسلام إلى مَن بعدهم، فتجب محبَّتهم، والترضي عنهم، رضي الله عنهم وأرضاهم.

وهم خير الأمة، وأفضل الأمة، فأفضل الأمة هم الصحابة، كما قال عليه الصلاة والسلام: خيركم قرني [25]، وكما قال في الحديث الآخر: لا تَسُبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أُحُدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفَه [26]، وهذا يدل على عظيم شرفهم، ومنزلتهم العليَّة الرفيعة.

وأشار الله ​​​​​​​ إلى ذلك بقوله: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ۝أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ۝فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ۝ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ [الواقعة:10-13] يعني: من أول هذه الأمة، وهم جيل الصحابة والقرون المُفضَّلة: الصحابة، وتابعوهم، وتابعوهم.

وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ [الواقعة:14]، وهذا يدل على أن أول الأمة خيرٌ من آخرها، فجعل الله تعالى الأكثر -أكثر السابقين- من أول الأمة، والقليل من آخرها.

ولما ذكر أصحاب اليمين قال: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ۝وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ [الواقعة:39-40]، لكن لما ذكر السابقين قال: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ يعني: من أول الأمة، وهم جيل الصحابة والتابعين وتابعيهم، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ، وهذا يدل على أن خير هذه الأمة أولها.

فصحابة النبي من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسانٍ هم أُسوتنا، وهم قُدوتنا، نُحبهم، ونتقرب إلى الله ​​​​​​​ بحبهم، ونترضى عنهم، رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين.

ونكتفي بهذا القدر، وإن شاء الله نُكمل ما تبقى في فضائل الأنصار مما أورده المُصنف رحمه الله في الدرس القادم إن شاء الله ​​​​​​​.

وما تبقى من الوقت نُجيب فيه عما تيسر من الأسئلة.

الأسئلة

السؤال: ما صفة رفع اليدين عند الدعاء؟

الجواب: صفة رفع اليدين عند الدعاء: أن تجعل بطون أصابعك مقابل وجهك، وظهور أصابعك من الجهة الأخرى، هذه صفة رفع اليدين، فتدعو هكذا.

كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا بالغ في الدعاء رفع يديه حتى يُرى بياض إبطيه، فلا بأس أن تقول هكذا، أو هكذا، أو هكذا، كله لا بأس به.

وجاء في إحدى الروايات في حديث الاستسقاء: أن النبي دعا بظهر كفيه [27]، لكن الكثير من المُحققين يقولون: إن المقصود أنه قد بالغ في رفع يديه حتى بَدَى لمَن يراه كأنه إنما يدعو بظهر كفيه، يعني: رفع يديه حتى يبدو كأنه دعا بظهر كفيه، وإلا لم يُعهد أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا رفع يديه يجعل ظهر كفيه إلى وجهه، وإنما يجعل باطن كفيه إلى وجهه، هذا هو الوارد في جميع أدعية النبي .

وعلى ذلك فرفع اليدين يكون بأن تجعل بطون أصابع يديك مُقابل وجهك تدعو الله ​​​​​​​.

ورفع اليدين عند الدعاء من آداب الدعاء، كما قال عليه الصلاة والسلام: إن ربكم تبارك وتعالى حييٌّ كريمٌ، يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردَّهما صفرًا [28] أي: خائبتين، فيُستحب أن ترفع يديك إذا دعوتَ الله ​​​​​​​.

إذا كنت -مثلًا- في الساعة الأخيرة عصر الجمعة تستقبل القبلة وترفع يديك تدعو، وعند الإفطار وأنت صائمٌ أيضًا تستقبل القبلة وترفع يديك تدعو، وبين الأذان والإقامة تستقبل القبلة وترفع يديك تدعو.

وهكذا إذا أردتَ أن تدعو الله ​​​​​​​ تستقبل القبلة وترفع يديك، كما كان عليه الصلاة والسلام يفعل إلا في المواضع التي دعا فيها النبي ولم يرفع يديه؛ كما في الدعاء في خطبة الجمعة إلا في الاستسقاء، فالدعاء في خطبة الجمعة لا يُشرع للخطيب ولا لمَن يستمع الخطبة أن يرفع يديه إلا إذا استسقى الخطيب فيُسَن له أن يرفع يديه، ويُسَن أيضًا لمُستمعي الخطبة أن يرفعوا أيديهم.

السؤال: تشاجرتُ مع شخصٍ وأثناء لحظة الغضب حلفتُ بالطلاق أني ما أتعامل معه بالفلوس، وبعد فترةٍ اضطررتُ وتعاملتُ معه، فما الحكم؟

الجواب: هذه المسألة مسألة طلاقٍ، مسائل كبيرةٌ، مسائل يترتب عليها مصير أسرةٍ، يترتب عليها استحلال فروجٍ، وتترتب عليها أمورٌ عظيمةٌ متعلقةٌ بالنكاح الذي سمَّاه الله: ميثاقًا غليظًا.

فالفُتيا فيها تحتاج إلى دراسةٍ، وإلى تثبُّتٍ، وإلى استماعٍ من جميع الأطراف، وإلى مَن شهد الواقعة، وإلى معرفة درجة الغضب إذا كان هناك غضبٌ، وإلى الحالة النفسية للمُطلِّق، وإلى اللفظ الذي تكلم به ما هو؟ وإلى نيته ماذا قصد؟ وإلى حالة المرأة من جهة الطُّهر وعدمه، وإلى السياق والقرائن.

يعني: هذه كلها تحتاج إلى دراسةٍ، وهذه كلها مُؤثرةٌ في الفُتيا، فليس من السهل أنك تُرسل سؤالًا برسالةٍ عبر وسائل التواصل وتقول: أريد أن تُفتوني في الطلاق. لا، لا بد أن تذهب لأحد المُفتين وتجلس معه، ويستمع منك، ويستمع من الزوجة أيضًا، وإذا كان هناك شهودٌ يستمع منهم، ويسأل ويتثبت ويتحقق، ثم بعد ذلك يُفتي: هل يقع الطلاق أو لا يقع؟

فمسائل الطلاق من المسائل العظيمة التي تحتاج إلى دراسةٍ؛ ولذلك لا يُفتي فيها إلا كبار أهل العلم.

السؤال: عاهدتُ الله أن أفعل كذا، ولم أفعل، فما الحكم؟

الجواب: “عاهدتُ الله أن أفعل كذا” هذه من صيغ النذر، فإذا قلتَ: عاهدتُ الله، أو أُعاهد الله أن أفعل كذا، فمعنى ذلك أنك نذرتَ، فإن كان ذلك على فعل طاعةٍ فهو نذر طاعةٍ، ونذر الطاعة يجب الوفاء به، ولا يجوز إخلافه، وقد توعد الله ​​​​​​​ مَن نذر نذر طاعةٍ ولم يَفِ به بعقوبةٍ شديدةٍ، كما قال سبحانه: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ يعني: نذر لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ [التوبة:75]، نذر نذرًا أن الله ​​​​​​​ إذا رزقه سيتصدَّق ويكون من الصالحين، فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [التوبة:76] لم يَفِ بالنذر، ماذا كانت العقوبة؟

العقوبة عقوبةٌ شديدةٌ: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ يعني: أوقع الله ​​​​​​​ النفاق في قلب هذا الناذر نذر الطاعة ولم يَفِ به إلى حين الممات بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [التوبة:77].

فالعقوبة شديدةٌ، وقد لا يشعر بها الإنسان: أنه يُلقى في قلبه النفاق، ولا يُوفَّق للتوبة حتى يلقى الله ​​​​​​​ بسبب إخلافه لهذا النذر.

فنذر الطاعة يجب الوفاء به، وعلى ذلك مَن قال: “عاهدتُ الله تعالى أن أعمل طاعةً” يجب عليه أن يَفِي بهذا النذر، وإلا فإنه يُعرِّض نفسه للوعيد الشديد المذكور في هذه الآية.

السؤال: حديث الشجاع الأقرع في تارك الصلاة نسمعه في وسائل التواصل الاجتماعي، ما صحة هذا الحديث؟

الجواب: هذا الحديث حديثٌ لا يصح عن النبي ، ولكن ترك الصلاة من كبائر الذنوب، وإذا كان تركًا لها بالكلية فإنه مُخرجٌ من مِلة الإسلام، كما قال عليه الصلاة والسلام: بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة [29]، وقال: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمَن تركها فقد كفر [30].

وقال عبدالله بن شقيق العقيلي رحمه الله: “كان أصحاب محمدٍ لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفرٌ غير الصلاة”.

ونقل إسحاق بن راهويه الإجماع من زمن الصحابة إلى زمنه على كفر تارك الصلاة.

السؤال: أُكرر هذا الدعاء: “اللهم ثبِّتني بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة”، فهل هذا من الأدعية الحسنة؟ وما الأمور المُعينة على الثبات؟

الجواب: نعم هذا من أعظم الأدعية التي ينبغي أن يحرص عليها المسلم، وقد ذكره الله تعالى في القرآن في قوله: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [إبراهيم:27].

فكرر هذا الدعاء، وينبغي أن تدعو كل يومٍ فتقول: اللهم ثبِّتني بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

القول الثابت في الحياة الدنيا: أن الله تعالى يحفظ عليك دينك، ويعصمك من الفتن؛ من فتن الشبهات، وفتن الشهوات، ومن الانحراف عن الدين، ومن الانتكاسة.

فتسأل الله تعالى الثبات في الدنيا، وتسأل الله ​​​​​​​ الثبات في الآخرة كذلك؛ لأن الإنسان بعد مماته يُمْتَحن، فتسأله الملائكة: مَن ربك؟ وما دينك؟ وما هذا النبي الذي بُعث فيكم؟ فإن كان من أهل الإيمان والتقوى ثبَّته الله ​​​​​​​ وأجاب الإجابات الصحيحة، فهذا معنى قوله: “وفي الآخرة”.

فهذا الدعاء دعاءٌ عظيمٌ، تقول: “اللهم ثبِّتني بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة”.

وأما الأمور المُعينة على الثبات، فمن أعظم هذه الأمور:

أولًا: الدعاء، تسأل الله تعالى الثبات.

ثانيًا: كذلك من الأمور المُعينة على الثبات: قيام الليل؛ لأن قيام الليل بمثابة الزاد الروحي لك طيلة يومك وليلتك، فإذا صليتَ صلاة الليل فكأنك تزودتَ زادًا روحيًّا لمدة أربعٍ وعشرين ساعةً، فحافظ على قيام الليل، فهذا من أعظم أسباب الثبات.

ثالثًا: أيضًا من أعظم أسباب الثبات: تدبر القرآن الكريم، كما قال الله تعالى: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]، فتدبر القرآن الكريم مما يُعين على الثبات.

رابعًا: الصُّحبة الصالحة، فالصُّحبة الصالحة تُعين المسلم كثيرًا على الثبات، والإنسان يتأثر كثيرًا بجُلسائه، فإن كان جُلساؤه أهل خيرٍ وصلاحٍ أعانوه على الخير، وكان ذلك من أعظم أسباب الثبات.

أسأل الله ​​​​​​​ أن يُثبتنا جميعًا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يُوفِّقنا للفقه في دينه، وأن يستعملنا في طاعته.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 2699، ومسلم: 1783.
^2 رواه البخاري: 3877، ومسلم: 952.
^3 رواه البخاري: 3876، ومسلم: 2503.
^4 رواه النسائي في “السنن الكبرى”: 8550، وأحمد: 1750.
^5 رواه الترمذي: 3763، وقال: حديثٌ غريبٌ.
^6 رواه مسلم: 2502.
^7 رواه مسلم: 2503.
^8 رواه مسلم: 2726.
^9 رواه مسلم: 1211 بلفظ: ولكنها على قدر نَصَبك.
^10 رواه الطبراني في “المعجم الكبير”: 6040، والحاكم: 6541.
^11 رواه ابن شبة في “تاريخ المدينة”: 2/ 479، والطبراني في “المعجم الكبير”: 7296، والحاكم: 5706.
^12 رواه البزار في “مسنده”: 6901، والطبراني في “المعجم الكبير”: 7288، والحاكم: 5243.
^13 سبق تخريجه.
^14 رواه أحمد: 23926، وابن أبي شيبة في “مسنده”: 483.
^15 رواه مسلم: 2504.
^16 رواه البخاري: 6502.
^17 رواه مسلم: 2505.
^18 رواه الترمذي: 2516، وقال: حسنٌ صحيحٌ، وأحمد: 2669.
^19 رواه مسلم: 2506.
^20 رواه مسلم: 2507.
^21 رواه البخاري: 3650، ومسلم: 2535.
^22 رواه مسلم: 2699.
^23 رواه مسلم: 2508.
^24 رواه مسلم: 2509.
^25 رواه البخاري: 2651، ومسلم: 2535.
^26 رواه البخاري: 3673، ومسلم: 2540.
^27 رواه مسلم: 895.
^28 رواه أبو داود: 1488، والترمذي: 3556، وقال: حسنٌ.
^29 رواه مسلم: 82.
^30 رواه الترمذي: 2621، وقال: حسنٌ صحيحٌ، وأحمد: 22937.
zh