الرئيسية/دروس علمية/شرح أبواب من صحيح مسلم/(10) باب في أسمائه ﷺ- من حديث: “أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي..”
|categories

(10) باب في أسمائه ﷺ- من حديث: “أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي..”

مشاهدة من الموقع

أما بعد:

فأسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في الدين، والعلم النافع، والتوفيق لما يُحب ويرضى.

ربنا آتنا من لدنك رحمةً، وهيِّئ لنا من أمرنا رشدًا.

هذا هو الدرس العاشر في شرح كتاب “الفضائل” من “صحيح مسلم” في هذا اليوم الثلاثاء الخامس من شهر صفر من عام 1442 للهجرة.

بابٌ: في أسمائه

كنا قد وصلنا إلى:

بابٌ: في أسمائه

وسبق أن ذكرنا أن التبويب من النووي، وليس من الإمام مسلم رحمه الله.

هذا الباب في بيان كثرة أسماء النبي ، وكثرة الأسماء تدل على شرف المُسمَّى، وعلى كماله؛ ولذلك نرى كثرة أسماء الله ؛ وذلك لكمال عظمته وجلاله.

وكذلك أيضًا أسماء النبي كثيرةٌ؛ لعظيم شرفه وكماله.

وأيضًا العرب إذا أطلقتْ أسماء كثيرةً على شيءٍ دلَّ ذلك على كماله عندهم، فمثلًا: الأسد، نجد أن الأسد أسماءه كثيرةٌ؛ وذلك لكمال قوته عند العرب.

وأسماء النبي عليه الصلاة والسلام كثيرةٌ، حتى إن ابن العربي المالكي رحمه الله في كتابه “عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي” نقل عن بعضهم: أن لله تعالى ألف اسمٍ، وللنبي ألف اسمٍ.

قال المصنف رحمه الله:

حدثني زهير بن حرب، وإسحاق بن إبراهيم، وابن أبي عمر -واللفظ لزهيرٍ- قال إسحاق: أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا سفيان بن عُيينة، عن الزهري، سمع محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه: أن النبي  قال: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يُمْحَى بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحْشَر الناس على عَقِبِي، وأنا العاقب، والعاقب الذي ليس بعده نبيٌّ [1].

ذكر هنا في هذا الحديث خمسة أسماء:

الاسم الأول: محمد، وهو أشهر الأسماء، وهو الوارد في القرآن الكريم: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح:29]، فهو أشهر أسماء النبي .

ومحمد من الحمد؛ وذلك لكثرة خِصاله المحمودة.

قال: وأنا أحمد، أحمد كذلك هو بمعنى محمد؛ وذلك لكثرة الخِصال المحمودة، وأيضًا هذا قد ورد ذكره في القرآن عن عيسى عليه الصلاة والسلام قال: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6]، فأحمد ومحمد هي أسماء للنبي .

قال: وأنا الماحي، هذا هو الاسم الثالث: الماحي، أي: من أسمائه عليه الصلاة والسلام: الماحي، وفسَّر المراد به فقال: الذي يُمْحَى بي الكفر، يمحو الله تعالى به الكفر.

فمحا الله تعالى بنبينا محمدٍ الكفر بمكة وبالمدينة، وبسائر بلاد العرب، وما زُوِيَ له من الأرض.

معنى: وأنا الحاشر الذي يُحْشَر الناس على عَقِبِي

قال: وأنا الحاشر الذي يُحْشَر الناس على عَقِبِي، وهذه الرواية تُفسرها الرواية التي بعدها: وأنا الحاشر الذي يُحْشَر الناس على قدمي [2]، وفي الرواية الأخرى: على عَقِبِي، والمعنى أي: يُحْشَرون على إِثْرِي، يُحْشَر الناس على إِثْرِي وزمان نبوتي ورسالتي، إذ ليس بعدي نبيٌّ، فهو آخر الأنبياء، وهو قد بُعِثَ بين يدي الساعة عليه الصلاة والسلام، بل قال: بُعِثْتُ أنا والساعة كهاتين [3]، فبعثة النبي كانت قريبةً من قيام الساعة، فإذا كان هذا في زمن النبي فكيف بزماننا؟!

فنحن الآن في آخر الدنيا، والساعة قريبةٌ، كما قال الله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]، اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ [الأنبياء:1]، فهي قريبةٌ جدًّا، وساعة الإنسان هي ساعة موته، فإذا مات انتقل إلى عالم البرزخ، ويُنَعَّم أو يُعَذَّب في قبره.

هل يشعر الميت بالزمن؟

ظاهر الأدلة أنه لا يحسّ بالزمن؛ لأن الإحساس بالزمن يستدعي أحداثًا، فهو كالنائم الذي يرى في منامه ما يسره وما يُحزنه، لكنه لا يشعر بمرور الزمن، وهذا فيه إشاراتٌ في القرآن الكريم، هذا المعنى له إشاراتٌ في القرآن الكريم؛ منها قول الله تعالى في الذي أماته الله مئة عامٍ ثم بعثه، لاحظ قوله: فَأَمَاتَهُ من الموت فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [البقرة:259]، فلم يشعر بمرور الزمن، وهذه المئة عامٍ رأى أنها يومٌ أو بعض يومٍ.

كذلك أيضًا أصحاب الكهف: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [الكهف:25]، ثلاثمئةٍ وتسعةٌ بالقمري، وثلاثمئةٍ بالشمسي، ومع ذلك قالوا: لبثنا يومًا أو بعض يومٍ.

ولهذا فإن الإنسان بعد موته يتفاجأ بقيام الساعة، فالساعة قريبةٌ جدًّا منا، ما يفصل بيننا وبينها إلا هذا الموت.

وأما نعيم القبر أو عذابه فهو حقٌّ، وقد وردتْ به الأدلة مُتواترةً، لكن الإنسان لا يشعر بمرور الزمن كالنائم.

فعلى هذا تكون الساعة قريبةً جدًّا منا، فقد يُصبح الإنسان صحيحًا، مُعافًى، ثم يموت: إما بسكتةٍ قلبيةٍ، أو حادث سيارةٍ، أو بغير ذلك من الأسباب، أو يستوفي أجله بدون سببٍ، وإذا به يتفاجأ بقيام الساعة، وهذا يستدعي من الإنسان الاستعداد لذلك اليوم العظيم.

إذن قوله: الحاشر يعني: الذي يُحْشَر الناس على عَقِبِي يعني: أنهم يُحْشَرون على إثره.

وأنا العاقب، وفسَّر العاقب فقال: “والعاقب الذي ليس بعده نبيٌّ”، يعني: هنا فسَّر المقصود به: أنه الذي ليس بعده نبيٌّ، فنبينا محمدٌ هو آخر الأنبياء والرسل.

فإن قال قائلٌ: أليس عيسى عليه الصلاة والسلام ينزل في آخر الزمان؟

نقول: نعم، ينزل، لكنه ينزل ويحكم بشريعة محمدٍ ، وليس بشريعة عيسى ، وإنما بشريعة محمدٍ عليه الصلاة والسلام، فهو كالمُجدد لدين محمدٍ ، وشريعة محمدٍ ، يحكم بالإسلام وبشريعة محمدٍ ؛ ولذلك عندما ينزل عيسى على المؤمنين وهم قد أقاموا لصلاة الفجر يطلبون منه أن يتقدم فيؤمَّهم، فيأبى، ويطلب من إمامهم أن يؤمَّهم؛ إكرامًا لهذه الأُمة.

حدثني حرملة بن يحيى: أخبرنا ابن وهبٍ: أخبرني يونس، عن ابن شهابٍ، عن محمد بن جُبير بن مُطْعِم، عن أبيه.

يعني: ساق أيضًا الحديث من طريقٍ آخر عن جُبير بن مُطْعِم أيضًا.

أن رسول الله قال: إن لي أسماء؛ وأنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحْشَر الناس على قَدَمَيَّ، وأنا العاقِب الذي ليس بعده أحدٌ، وقد سمَّاه الله: رؤوفًا، رحيمًا [4].

هذه الرواية بمعنى الرواية السابقة إلا أن فيها زيادةً: “وقد سمَّاه الله: رؤوفًا، رحيمًا”، وهو رؤوفٌ بالمؤمنين، ورحيمٌ بالمؤمنين صلوات الله وسلامه عليه.

ثم ذكر أيضًا المصنف رحمه الله طرقًا أخرى لهذا الحديث.

قال: قلتُ للزهري: وما العاقِب؟ قال: الذي ليس بعده نبيٌّ.

هذا يدل على أن قوله: “العاقب: الذي ليس بعده نبيٌّ” أنه من كلام الزهري، وليس من كلام النبي .

ثم ساق المصنف رحمه الله الحديث عن أبي موسى :

وحدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظليُّ: أخبرنا جريرٌ، عن الأعمش، عن عمرو بن مُرَّةَ، عن أبي عُبيدة، عن أبي موسى الأشعري قال: كان رسول الله يُسمِّي لنا [نفسه] أسماء، فقال: أنا محمد، وأحمد، والمُقَفِّي، والحاشِر، ونبيُّ التوبة، ونبيُّ الرحمة.

“محمد وأحمد” تكلمنا عنهما.

معنى: والمُقَفِّي، ونبي التوبة، ونبي الرحمة

والمُقَفِّي يعني: المُقْتَفِي المُتَّبِع للأنبياء قبله، فهو عليه الصلاة والسلام مُتَّبِعٌ للأنبياء قبله، وكما قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، فالدين الذي بُعِثَ به الأنبياء والرسل هو دينٌ واحدٌ، هو دين الله ، وهو التوحيد، فهو إذن المُقَفِّي، يعني: المُتَّبع والمُقْتَفي لمَن قبله من الأنبياء.

والحاشر تكلمنا عن معنى: الحاشر.

هنا أضاف أيضًا أسماء جديدةً، قال: ونبي التوبة، ونبي الرحمة، فهو عليه الصلاة والسلام نبي التوبة، فهو قد جاء بالتوبة وحثَّ عليها، فيصح أن يُسمَّى: نبي التوبة، وأيضًا نبي الرحمة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أُرسل رحمةً للعالمين، كما قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، فهو قد جاء بالرحمة والتَّراحم.

ولذلك بعض الناس في استهلاله يقول: “وصلى الله وسلم على نبي الرحمة”، هذا استهلالٌ صحيحٌ، فـ”نبي الرحمة” مأخوذٌ من هذا الحديث، ولو قال: “على نبي التوبة” لكان هذا أيضًا صحيحًا.

طيب، انتهينا من الكلام عن الحديث السابق، وقد ذكر فيه هذه الأسماء، وهنا النووي رحمه الله في شرحه قال: وفي حديثٍ آخر لما قال: ونبي التوبة، ونبي الرحمة، قال: ونبي المَلَاحِم؛ لأنه بُعِثَ بالقتال.

وهذه الأسماء هي بعض أسمائه، وليست جميع أسمائه ، وكما ذكرنا أن كثرة الأسماء تدل على شرف المُسَمَّى.

بابٌ: علمه بالله وشدة خشيته

ننتقل بعد ذلك إلى:

بابٌ: علمه بالله وشدة خشيته.

حدثنا زهير بن حرب: حدثنا جريرٌ، عن الأعمش، عن أبي الضُّحى، عن مسروقٍ، عن عائشة قالت: صنع رسول الله أمرًا فترخَّص فيه، فبلغ ذلك ناسًا من أصحابه، فكأنهم كرهوه وتنزَّهوا عنه، فبلغه ذلك؛ فقام خطيبًا فقال: ما بال رجالٍ بلغهم عنِّي أمرٌ ترخَّصتُ فيه، فكرهوه وتنزَّهوا عنه؟! فوالله لأنا أعلمُهم بالله، وأشدُّهم له خشيةً [5].

ثم أيضًا ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث من طريقٍ آخر، وأيضًا ساقه من روايةٍ أخرى عن عائشة رضي الله عنها:

وحدثنا أبو كُريب: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مُسلمٍ، عن مسروقٍ، عن عائشة قالت: رخَّص رسول الله في أمرٍ، فَتَنَزَّه عنه ناسٌ من الناس، فبلغ ذلك النبي ، فغضب حتى بان الغضب في وجهه، ثم قال: ما بال أقوامٍ يرغَبُون عمَّا رُخِّصَ لي فيه؟! فوالله لأنا أعلمُهم بالله، وأشدُّهم له خشيةً [6].

ما العمل الذي رَخَّصَ فيه النبي ؟

“صنع رسول الله أمرًا فترخَّص فيه”، وفي الرواية الأخرى: “رخَّص رسول الله في أمرٍ”، ما هو هذا الأمر؟

الشُّرَّاح عادةً يعتنون بمثل هذه المسائل، فأشار ابن بَطَّال رحمه الله -وهذا الحديث طبعًا في الصحيحين، وابن بَطَّال أحد شُرَّاح البخاري- إلى أن هذا الأمر هو القُبْلة للصائم، فكان عليه الصلاة والسلام يُقبِّل وهو صائمٌ، بل كان يُباشر وهو صائمٌ، لكن كما قالت عائشة رضي الله عنها: “كان أَمْلَكُكم لإِرْبِه”.

وقال غيره: إن هذا الأمر هو الفِطْر في السفر.

فهؤلاء كأنهم كرهوا ذلك، يعني: كيف تكون قُبلةٌ من الصائم؟ أو كيف يُفطر المُسافر؟ فَتَنَزَّهوا عنه، فبلغ النبي ذلك.

أسلوبٌ من أساليب النبي  عند الإنكار

من عادة النبي عليه الصلاة والسلام أنه في الإنكار لا يُعاتب الشخص مُباشرةً في الأعم والأغلب، وإنما كان يأتي بأسلوبٍ يحفظ معه كرامة مَن يُعاتبه، ويتأدب معه، ويحصل المقصود، فكان يقول: ما بال أقوامٍ يفعلون كذا؟ فالمُخاطبون لا يعرفون مَن هم هؤلاء الأقوام، والمعنيون المقصودون يعرفون ماذا يقصد عليه الصلاة والسلام؟ فيحصل المقصود من غير تعنيفٍ.

فهذا من الأساليب الحكيمة في المُعاتبة، وفي الإنكار أيضًا.

هنا النبي عليه الصلاة والسلام لما بلغه ذلك قام خطيبًا، وفي الرواية الأخرى: “فغضب حتى بان الغضب في وجهه”؛ لأن هذا أمرٌ يستدعي الغضب، يعني: كيف يَتَنَزَّهون عن أمرٍ فعله النبي عليه الصلاة والسلام؟!

فقام خطيبًا فقال: ما بال رجالٍ، هذا من أساليب النبي عليه الصلاة والسلام؛ إذا أراد التَّنبيه على شيءٍ، والإنكار على أحدٍ، يقول: ما بال أقوامٍ، أو: ما بال رجالٍ.

ما بال رجالٍ بلغهم عني أمرٌ ترخَّصتُ فيه، فكرهوه وتَنَزَّهوا عنه؟! فوالله لأنا أعلمُهم بالله، وأشدُّهم له خشيةً.

أعلمُهم بالله إشارةٌ إلى القوة العلمية.

وأشدُّهم له خشيةً إشارةٌ إلى القوة العملية.

فهو عليه الصلاة والسلام قد جمع بين القوة العلمية والعملية، وهذه قلَّ أن تجتمع.

بعض الناس عنده قوةٌ علميةٌ -ما شاء الله!- عالِمٌ، لكن في العمل ضعيفٌ، وبعض الناس عنده قوةٌ عمليةٌ، عابدٌ، لكنه في العلم ضعيفٌ، لكن أن تجتمع له القوة العلمية والعملية هذا هو الكمال.

فهذه القوة العلمية والقوة العملية اجتمعتا في النبي فقال: لأنا أعلمُهم بالله إشارة إلى القوة العلمية، وأشدُّهم له خشيةً إشارة إلى القوة العملية، يعني: أعلمكم بالفضل، وأولاكم بالعمل به.

فوائد من حديث: ما بال رجالٍ بلغهم عني أمرٌ ترخَّصتُ فيه …

هذا الحديث فيه فوائد، منها:

  • أولًا: الاقتداء بالنبي ، وأن الخير كل الخير في اتِّباعه، وفي الاقتداء به، وألا يتكلف الإنسان أعمالًا خلاف سنة النبي ، فإن السُّنة اتِّباع السُّنة، والكمال في اتِّباع السُّنة: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31].
  • أيضًا من فوائد هذا الحديث: ذم التَّنزُّه عن المُباح شكًّا في إباحته، وهذا ما يُسميه بعض العلماء بالتَّنطُّع والأخذ بالتَّشديد، وهذا من الأمور المذمومة، فإذا كان الأمر مُباحًا فلا داعي للتَّنزُّه عنه وكراهته، فهذا يكون من التَّنطُّع في الدين، ومن الأخذ بالتَّشديد، وهذا الدين دين يُسْرٍ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [البقرة:185]، والنبي يقول: بُعثتُ بالحنيفية السَّمْحَة [7]، والله يُحب أن تُؤتى رُخَصُه، كما يُحب أن تُؤتى عزائمه [8].
    إذن التَّنطُّع مذمومٌ، كما قال عليه الصلاة والسلام: هلك المُتنطِّعون [9].
    فعلى المسلم أن يبتعد عن التَّنطع، وعن التَّنزُّه عن أمورٍ مُباحةٍ؛ شكًّا في إباحتها، فهذا كله من التَّنطع المذموم.
  • أيضًا من الفوائد: أن من الأساليب الحكيمة في المُعاتِب: عدم مواجهة المُعاتَب بالكلام، وإنما يكون ذلك بطريق الإشارة والتلميح؛ لأن في هذا حفظًا لكرامته، وإبعادًا له عن الإحراج مع حصول المقصود.
    قال أبو العباس القرطبي رحمه الله: “هذا منه عدولٌ عن مواجهة هؤلاء القوم بالعتاب، وكانوا مُعَيَّنِين عنده، لكنه فعل ذلك لغلبة الحياء عليه”، كما مرَّ معنا في دروسٍ سابقةٍ أنه عليه الصلاة والسلام كان شديد الحياء، وكان أشدَّ حياءً من العذراء في خِدْرها، “ولتلطفه في التأديب، ولستر المُعاتَب”.
    فيُستفاد منه: التَّلطف عند الإنكار، وعند الموعظة، فهذا الأسلوب من الأساليب اللطيفة في المُعاتبة: أنه إذا أُريد الإنكار على أحدٍ أو مُعاتبته يُقال: ما بال أقوامٍ يفعلون كذا؟ وهو يفهم المقصود، والحاضرون لا يفهمون المَعْنِي مَن هو، أو على الأقل -يعني- أكثرهم لا يفهم مَن المُخاطَب.
  • أيضًا من فوائد هذا الحديث: أنه يجوز للإنسان الإخبار بفضيلته إذا دعتْ إلى ذلك الحاجة، فإنه قال: فوالله لأنا أعلمهم بالله، وأشدُّهم له خشيةً، وهذه تزكيةٌ، وقد ورد النهي عن تزكية النفس: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النجم:32]، ولكن قال العلماء: إنه إذا دعت الحاجة لذلك فيجوز، وهنا الحاجة قائمةٌ؛ لأن هؤلاء تَنَزَّهوا عن أمرٍ فعله النبي عليه الصلاة والسلام، فأراد أن يُبين لهم النبي عليه الصلاة والسلام أنه أعلم منهم بالله، وأشدهم خشيةً لله، فكان ينبغي لهم أن يقتدوا به.
    ومن ذلك أيضًا: إذا انتُقِصَ الإنسان في مكانٍ فلا بأس أن يردَّ، ويُظهر فضيلته ومناقبه، يعني: الإنسان لا يُزكي نفسه ابتداءً، لكن إذا دعت الحاجة فلا بأس بذلك.
    إنسانٌ -مثلًا- انتُقِصَ في أمرٍ من الأمور، وهو يعلم أن هذا الانتقاص بغير حقٍّ، فيردّ عليه ويقول: أنا كذا وكذا، وفعلتُ كذا وكذا. ولا يُعتبر هذا من تزكية النفس المنهي عنها أو المذمومة، إنما تزكية النفس المذمومة أن يُزكي الإنسان نفسه ابتداءً، أما إذا دعت الحاجة لذلك فلا بأس.
    ومن ذلك أيضًا: قول يوسف عليه الصلاة والسلام لما رأى الملكُ الرؤيا، وعلم الصفات العظيمة في يوسف : القوة والأمانة، والصدق والنزاهة، وتعبير الرُّؤى، يعني: رأى فيه صفاتٍ أُعجب بها الملك: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي يعني: أجعله خاصًّا بي، هذا رجلٌ نادرٌ، فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ [يوسف:54]، يقول الملكُ -ملك مصر كلها- ليوسف : إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ يعني: ذا مكانةٍ عاليةٍ، أَمِينٌ، فيوسف عليه الصلاة والسلام لما رأى إقبال الملك عليه، وإعجابه الشديد به، أراد أن يغتنم الموقف، وليس لمصلحته الشخصية، وإنما لمصلحة الناس جميعًا: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55].
    فقوله: إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ هذه تزكيةٌ للنفس، لكن دعتْ إليها الحاجة؛ لأن يوسف  لو لم يقل ذلك لما جعله الملك على خزائن الأرض، ولما حصل هذا الخير الذي حصل على يد يوسف -حصل على يده خيرٌ عظيمٌ-؛ لما حصلت المجاعة سبع سنواتٍ أصبح الناس من أقطار الدنيا يَفِدون إلى مصر بسبب حُسْن تدبير يوسف عليه الصلاة والسلام للمال، لما جعله الملك على خزائن مصر، حتى إخوة يوسف  أتوا مصر لطلب الطعام، فأصبحتْ مقصدًا للناس.
    فيوسف عليه الصلاة والسلام يعرف من نفسه الحفظ والقوة والأمانة، وأيضًا الحكمة في الأمور، فزكَّى نفسه للحاجة، ولأجل المصلحة العامة: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ
    ، فجعله الملك على خزائن الأرض، فأصبح هو عزيز مصر؛ ولذلك قالوا: يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا [يوسف:78]، وأصبح ذا مكانةٍ، وعنده خدمٌ وحَشَمٌ وغِلمانٌ وفتيانٌ؛ ولذلك إخوة يوسف لما أتوا عرفهم ولم يعرفوه، عرفهم لأنهم لم يتغيروا، هؤلاء هم إخوته بأشكالهم وبهيآتهم، ولم يعرفوه، ما توقعوا أن يوسف هذا الذي رموه في البئر وباعوه رقيقًا يُصبح عزيز مصر، ما توقعوا، ما يخطر هذا بالبال: أن أخاهم الذي رموه في البئر ثم باعوه رقيقًا -عبدًا- أن هذا الفتى يُصبح عزيز مصر؛ فلذلك لم يعرفوه، حتى لو رأوا أنه يُشَكُّ في أمره، وأنه -يعني- يُشبهه، قالوا: هذا يُشبهه، ليس هو يوسف الذي لا يتوقعه الإنسان، يستبعده: فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ [يوسف:58].
    إذن نستفيد من هذا: أن تزكية النفس من حيث الأصل مذمومةٌ، لكن إذا دعت الحاجة إليها فلا بأس، ويرتفع الذمُّ، كما فعل يوسف عليه الصلاة والسلام: إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ، وكما فعل النبي عليه الصلاة والسلام هنا، فقال: فوالله لأنا أعلمهم بالله، وأشدهم له خشيةً.
    فَخُذْ هذه الفائدة النَّفيسة التي قلَّ أن تجدها في كتابٍ.
  • أيضًا من فوائد هذا الحديث: الغضب عند ردِّ أمر الشرع، وانتهاك حُرمته، وإن كان المُنْتَهِك مُتأولًا، يعني: هؤلاء كرهوا هذا الأمر، وردُّوا أمر الشارع مُتأولين، تَنَزَّهوا عنه مُتأولين؛ لأنهم يقولون: النبي عليه الصلاة والسلام لا يضره؛ لأنه قد غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أما نحن فنختلف عنه. فتأولوا في ذلك، فالنبي عليه الصلاة والسلام غضب؛ ولذلك قال ما قال.
    فالغضب لله أو عند انتهاك حُرمته هذا من الأمور المحمودة، والغضب في الأصل مذمومٌ، لكن عندما يكون غضبًا لله، أو غضبًا عند انتهاك حُرمات الله ، فإنه يكون غضبًا محمودًا؛ ولهذا كان عليه الصلاة والسلام لا يغضب إلا إذا انتُهكتْ محارم الله.

هذه أبرز الفوائد المُستنبطة من هذا الحديث.

لاحظوا: على قِصَر هذا الحديث خرجت منه هذه الفوائد، وهذا يدل على أهمية ارتباط طالب العلم بالسُّنة، وبكلام النبي .

بابٌ: وجوب اتِّباعه

ننتقل بعد ذلك إلى بابٍ آخر، قال:

بابٌ: وجوب اتِّباعه .

وساق فيه قصة الزبير ، وأيضًا حديث أبي هريرة : ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه [10].

قصة الزبير مع الأنصاري

قصة الزبير ، قال المصنف رحمه الله:

حدثنا قتيبة بن سعيد: حدثنا ليثٌ. ح، وحدثنا محمد بن رُمْحٍ: أخبرنا اللَّيثُ، عن ابن شهابٍ، عن عروة بن الزبير: أن عبدالله بن الزبير حدَّثه: أن رجلًا من الأنصار خاصم الزبير.

يعني: الزبير بن العوام.

عند رسول الله في شِرَاجِ الحَرَّة التي يَسْقُون بها النخل، فقال الأنصاري: سَرِّحِ الماء يَمُرُّ. فأبى عليهم، فاختصَمُوا عند رسول الله ، فقال رسول الله للزبير: اسْقِ يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك، فغضب الأنصاري، فقال: يا رسول الله، أن كان ابن عمَّتِكَ! فتلوَّن وجهُ نبيِّ الله ، ثم قال: يا زبير، اسْقِ، ثم احبِسِ الماءَ حتى يرجع إلى الجَدْرِ، فقال الزبير: والله إني لأحسب هذه الآية نزلتْ في ذلك: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] [11].

هذه القصة أيضًا أخرجها البخاري رحمه الله في “صحيحه” [12].

“أن رجلًا من الأنصار خاصم الزبير” هذا الرجل عنده مزرعةٌ، والزبير أيضًا عنده مزرعةٌ، والزبير كانت مزرعته تسبق مزرعة هذا الأنصاري بحيث إن السَّيل يأتيها قبل أن يأتي مزرعة الأنصاري.

“فاختصموا في شِرَاجِ الحَرَّة” الشِّرَاج هو مسايل الماء، واحدها شَرْجَة، وهي مسيل الماء.

والحَرَّة هي: الأرض المَلْسَاء التي فيها حجارةٌ سوداء، وهي موضعٌ معروفٌ في المدينة.

المدينة فيها حِرَارٌ، المدينة مُشتهرةٌ بالحِرار، ولا تزال آثارها إلى الآن، لا تزال هذه الحجارة السوداء وآثار الحِرار موجودةً إلى الآن مُحيطة بالمدينة.

“فاختصموا في شِرَاج الحَرَّة” يعني: في السَّيل الذي يأتي من الحَرَّة التي يسقون بها النخل.

“فقال الأنصاري” يعني: للزبير “سَرِّحِ الماء يَمُرُّ” يعني: أرسل الماء، ولا تُمْسِكه في مزرعتك. يعني يقول: أرسل السَّيل، إذا أتى السَّيل مزرعتك افتح على مزرعتي، ولا تُمْسِك الماء وتحبسه في مزرعتك. هذا معنى الكلام.

“سَرِّح الماء يمر، فأبى عليهم” يعني: الزبير قال: لا، حتى يرتوي نخلي.

“فاختصموا عند رسول الله ” الزبير وهذا الأنصاري.

هذا الرجل هنا جاء وصفه بأنه الأنصاري، وحكى الداودي: أن هذا الرجل كان مُنافقًا.

طيب، يُردّ عليه: كيف يكون مُنافقًا ويُوصف في هذا الحديث بأنه أنصاريٌّ؟

قال: لا يُخالف هذا؛ لأنه كان من قبيلتهم، لا من الأنصار المسلمين، يعني: أنصاريًّا نَسَبًا، لا دِينًا، لكن هذا بعيدٌ؛ لأنه لم تَجْرِ عادة السلف بوصف المنافقين بالنُّصْرَة، حتى لو شاركوهم في النَّسَب.

والأقرب -والله أعلم- أن هذا الرجل أنصاريٌّ كما جاء وصفه في هذا الحديث، وأنه ليس من المنافقين، وأن هذا الذي حصل زلةٌ منه، والشيطان تمكن منه بسبب الغضب؛ لأن الأنصاري غضب، حصلت بينه وبين الزبير مُخاصمةٌ، ولما قال النبي عليه الصلاة والسلام: اسْقِ يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك غضب الأنصاري، والإنسان إذا غضب قد لا يتحكم في الألفاظ التي يُطلقها، وقد لا يَزِنُها، فعند الغضب تكلم بهذا الكلام غير اللائق.

وعلى ذلك إذا كانت الآية نزلتْ فيه، مع أن هذا فيه كلامٌ كثيرٌ للمُفسرين، لكن إذا كانت الآية: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، إذا كانت نزلتْ فيه، فمعنى: لَا يُؤْمِنُونَ يعني: لا يستكملون الإيمان، فالمقصود به كمال الإيمان.

إذن عند التحقيق نقول: إنَّ هذا الرجل أنصاريٌّ، وأنه ليس مُنافقًا، ولكنه بسبب الغضب قال هذه الكلمة القبيحة.

ماذا قال هذا الأنصاري؟

لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: اسْقِ يا زبير، ثم أرسل الماء يعني: النبي عليه الصلاة والسلام قال للزبير : سامح عن بعض حقِّك، فلا تَسْتَقْصِ في أخذ كامل حقِّك، لكن هذا الأنصاري -يعني- فهم فهمًا آخر، فقال مقولةً قبيحةً، قال: “أن كان ابن عمَّتِكَ” يعني: الزبير بن العوام هو ابن عمَّة النبي ؛ لأن أم الزبير هي صفية بنت عبدالمطلب، فهو ابن عمَّة النبي .

فكأن هذا الأنصاري يقول: يعني: حكمتَ له بهذا الحكم لأنه ابن عمَّتِكَ!

هذا الكلام لا يُقال للنبي عليه الصلاة والسلام المُؤيَّد بالوحي من عند الله ​​​​​​​، فهذا فيه انتهاكٌ لحُرمة النبوة؛ ولذلك غضب النبي ، قال: “فتلوَّن وجه النبي ” من شدة الغضب، ثم أمر الزبير بأن يستقصي حقَّه فقال: يا زبير يعني: ما دام أن هذا كلام الأنصاري إذن يا زبير استَقْصِ حقَّك؛ ولهذا قال: اسْقِ ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجَدْر، الجَدْر هو الجدار، ومعنى حتى يرجع إلى الجَدْر أي: حتى يصير إليه، والمراد به أصل الحائط، وقدَّره العلماء: أن يرتفع الماء في الأرض حتى يصل إلى الكعب.

ولهذا قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في “فتح الباري”: “قال ابن شهابٍ: قال لي ابن جُريجٍ” يعني: راوي الحديث، قال: “وكان ذلك إلى الكعبين” يعني: أنهم لما رأوا الجدر يختلف بالطول والقِصَر قاسوا ما وقعتْ فيه القصة فوجدوه يبلغ إلى الكعبين، فجعلوا ذلك معيارًا لاستحقاق الأول فالأول، يعني: في البداية النبي عليه الصلاة والسلام يقول: اسْقِ يا زبير، ثم أرسل الماء، والرجل ما رضي بهذا، يعني: كأنه يقول للزبير : تسامح عن بعض حقِّك. فقال: أن كان ابن عمَّتِكَ! فقال: إذ قلتَ هذه المقولة إذن يا زبير استَقْصِ حقَّك كله، فاجعل السَّيل يبقى إلى الكعبين.

فقال الزبير : إني لأحسب أن هذه الآية نزلتْ في ذلك: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ.

فوائد من قصة اختلاف الزبير مع الأنصاري

هذه القصة فيها فوائد، منها:

  • أولًا: ما بوَّب عليه المصنف رحمه الله: “وجوب اتِّباع النبي “، فالنبي عليه الصلاة والسلام ما يقوله وحيٌ وحقٌّ، فلا يجوز الاعتراض عليه؛ لا يجوز الاعتراض على كلام الله، أو كلام رسول الله ، ومَن يعترض على كلام الله أو كلام رسوله فهذا عبدٌ لهواه، وليس عبدًا لله: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23].
    بعض الناس يقول: أنا ما أقبل من النصوص إلا ما أقتنع به.
    مَن أنت حتى تقتنع به؟!
    أنت مخلوقٌ من ترابٍ، من نُطْفةٍ، من مَنِيٍّ يُمْنَى، كيف تعترض على أحكام الله خالق السماوات والأرض، وخالق كل شيءٍ؟!
    فالذي يقول: أنا لا أقبل من النصوص شيئًا حتى أقتنع به. هذا -في الحقيقة- ليس عبدًا لله، وإنما هو عبدٌ لهواه، ومُقتضى العبودية لله هو الاستسلام والتَّسليم لأمر الله وأمر رسوله : وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، فإذا قضى الله ورسوله  أمرًا فلا خيار، إذا قال الله شيئًا، أو قال رسوله شيئًا فلا خيار، فيجب اتِّباع ما قاله الله، وما قاله رسوله ، سواءٌ فهمنا ذلك أو لم نفهم، عرفنا الحكمة أو لم نعرفها، وسواءٌ فهمنا الحكمة أو لم نفهمها؛ لأننا على يقينٍ بأن الله حكيمٌ عليمٌ، وأن الله أحكم الحاكمين، وأنه لا يأمر بشيءٍ إلا لحكمةٍ، ولا ينهى عن شيءٍ إلا لحكمةٍ، فحتى لو لم نعرف الحكمة في بعض الأوامر أو بعض النواهي لا يضرُّ؛ لأننا على يقينٍ بأن الله تعالى أحكم الحاكمين جلَّ وعلا.
    لكن هذا الرجل وقعتْ منه هذه الكلمة -وهي كلمةٌ قبيحةٌ- ربما بسبب شدة الغضب، وهذا يدل على الآثار السيئة المُترتبة على الغضب، فالإنسان إذا غضب تشوش فكره، وتكلم بكلامٍ وتصرف بتصرفاتٍ يندم عليها فيما بعد؛ ولذلك فعلى الإنسان أن يحرص على اكتساب صفة الحلم، فالحلم سيد الأخلاق، قيل لابن المبارك: اجمع لنا حُسن الخُلُق في كلمةٍ. قال: “ترك الغضب”.
    فعلى الإنسان أن يحرص على اكتساب صفة الحلم، وأن يكون حليمًا، وأن يكون بعيدًا عن الغضب، يعني: هذا الرجل -انظر- أنصاريٌّ، ومع ذلك لما غضب تكلم بهذه الكلمة التي أغضبت النبي عليه الصلاة والسلام، فالإنسان عند الغضب قد يتكلم بكلماتٍ غير لائقةٍ؛ ولهذا على الإنسان أن يبتعد عن الغضب، وإذا غضب يكظم غيظه، فقد أثنى الله على الكاظمين الغيظ.
  • أيضًا من فوائد هذه القصة: أن مَن سبق إلى شيءٍ من مياه الأودية والسيول التي لا تُمْلَك فهو أحقُّ به، لكن ليس له إذا استغنى أن يحبس الماء عن الذي يليه، فالمزارع لا تزال إلى الآن -يعني- بالنسبة للسَّقي من السَّيل تأتي من الجبال.
    المزارع تنقسم إلى قسمين:
    قسمٌ من المزارع يأتيها السَّيل عن طريق الوادي مُباشرةً.
    وقسمٌ آخر من المزارع يأتيها السَّيل من مزرعةٍ إلى مزرعةٍ، يعني: يأتي المزرعة الأولى، فإذا رويتْ يأتي المزرعة الثانية، ثم المزرعة الثالثة، وهكذا.
    فالتي يأتيها السَّيل من الوادي هذه أمرها واضحٌ، لكن التي يأتيها السَّيل من مزرعةٍ إلى مزرعةٍ، فالأحق هو الأسبق فالأسبق.
    هنا تحصل مُنازعاتٌ من قديم الزمان وحديثه، فأصحاب المزارع المُتأخرة يقولون لأصحاب المزارع المُتقدمة: لا تحبسوا عنا السَّيل.
    طيب، هل هناك ضابطٌ؟
    الضابط ذُكر هنا في هذا الحديث، وأخذ به أهل العلم؛ الضابط في حبس السَّيل هو: أن يبلغ السَّيل إلى الكعبين -إلى كعبي الرجل-، يعني: لو وقف الرجل في المزرعة يصل السَّيل ويُغطي كعبيه، هذا هو الحدُّ، وبعد ذلك ليس لصاحب المزرعة أن يحبس السَّيل، ويجب عليه أن يُرسل السَّيل إلى المزرعة التي بعده.
    هذه مسألةٌ يستفيد منها أرباب المزارع، ويستفيد منها القُضاة أيضًا في الحكم عند الخصومة في مثل هذه المسائل التي لا تزال تقع فيها خصومةٌ بين أهل الزراعة وأهل الحَرْث؛ لأنه عند مجيء السَّيل الناس تحصل عندهم مُشاحةٌ؛ كلٌّ يريد أن تسيل مزرعته، والسَّيل مُفيدٌ للمزرعة كثيرًا، يعني: غير فائدة السُّقيا، يُفيد المزرعة بما يحمله من عناصر مهمةٍ لتُربة المزرعة؛ لأنها تأتي من الجبال ومن البرية، فتُفيد المزرعة فائدةً عظيمةً.
    فالناس تحرص على السَّيل، وتتشاحّ عليه، فإذا كانت السيول تصل المزارع من مزرعةٍ إلى مزرعةٍ فالضابط في هذا: أن المزرعة الأسبق للسَّيل لصاحبها أن يحبس السَّيل حتى يصل إلى كعبه، حتى يُغطي كعبي الرجل، ولا يزيد على ذلك، هذا هو الحدُّ الأقصى، وإن أراد أن يتسامح ويُرسل السَّيل قبل ذلك فهذا له؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام طلب من الزبير في البداية أن يُرسل السَّيل، يعني: بعدما تُروى المزرعة من غير حاجةٍ إلى حبسه إلى أن يصل إلى الكعبين، لكن لما اعترض الأنصاري وقال: أن كان ابن عمَّتِكَ؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام للزبير : إذن استقصِ حقَّك كله، وقال: احبس الماء حتى يرجع إلى الجَدْر يعني: حتى يُغطي الكعبين، فإن هذا ضابطٌ مهمٌّ.
    وهذه أيضًا فائدةٌ نفيسةٌ في هذا الباب،
    فبعض الفوائد النفيسة تأتي من شروح الأحاديث، وقد لا تجدها في بعض كتب الفقه، فتأتي من شروح الأحاديث.
    فلاحظ هذه الفائدة والفائدة التي أشرتُ لها قبل قليلٍ، فهذه من اللطائف والفوائد النفيسة التي نستفيدها ونأخذها من الأحاديث وشروح الأحاديث.
    وهذا يدل على أن طالب العلم ينبغي له أن يجمع بين الفقه والحديث، فكما يكون له اهتمامٌ بالفقه يكون له اهتمامٌ أيضًا بالحديث.

الضابط في حبس السَّيل عند سُقْيَا المزارع

إذن الضابط في حبس السَّيل في المزرعة هو: أن يصل إلى الجَدْر، وقدَّروا ذلك -كما قال ابن جُريجٍ رحمه الله- بأن يصل إلى الكعبين، يعني: أخذ العلماء من ذلك كما قال ابن جُريجٍ رحمه الله، قال: إنهم قاسوا ما وقعتْ فيه القصة فوجدوه يبلغ إلى الكعبين، فجعلوا ذلك معيارًا لاستحقاق الأول فالأول.

فصاحب المزرعة الأولى إذا أتاها السَّيل نقول: أقصى حدٍّ تحبس السَّيل إلى أن يبلغ إلى كعبي الرجل، ثم المزرعة الثانية كذلك، ثم المزرعة الثالثة كذلك، وليس له أن يحبس السَّيل أكثر من هذا القدر.

لو قال: أنا أريد أن أحبس السَّيل حتى يصل إلى منتصف الساق؛ ليس له ذلك، وبعض أصحاب المزارع يفعل هذا: يحبس السَّيل حتى يصل إلى منتصف الساق، بل بعضهم إلى ما هو فوق ذلك، فهذا فيه تَعَدٍّ على أصحاب المزارع الأخرى.

حكم النبي  حال الغضب

هنا يرد إشكالٌ هو: أن النبي غضب وحكم حال غضبه، قال: “فتلوَّن وجه رسول الله ” من الغضب، ثم حكم وقال: يا زبير، اسْقِ ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجَدْر، وهو عليه الصلاة والسلام يقول: لا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بين اثنين وهو غضبان [13]، فكيف نجمع بين قوله: لا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بين اثنين وهو غضبان، وكون النبي عليه الصلاة والسلام قضى وهو غضبان؟

أجاب بعض أهل العلم بأن هذا خاصٌّ بالنبي ؛ لأنه معصومٌ في حال الغضب، كما هو معصومٌ في حال الرضا. وهذا أحسن الأجوبة.

وبعضهم يقول: إن الغضب كان يسيرًا.

لكن هذا محل نظرٍ؛ لأنه قال هنا: “فتلوَّن وجه رسول الله “، وهذا يدل على أن الغضب كان شديدًا.

فالصواب أن يُقال في الجواب عن ذلك: إن هذا خاصٌّ بالنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه معصومٌ في حال الغضب، كما هو معصومٌ في حال الرضا.

أما غير النبي فليس للقاضي أن يقضي وهو غضبان؛ لأن الغضبان يكون فكره مُشوشًا، فمَن يغضب تكون تصوراته غير دقيقةٍ، وحكمه على الأشياء يكون غير دقيقٍ؛ ولذلك تجد أنه ينتقد نفسه، إذا هدأ وذهب عنه غضبه ينتقد نفسه: كيف يتكلم بهذا الكلام؟! كيف يتصرف بهذه التَّصرفات؟!

فذهنه يكون مُشوشًا؛ ولذلك لا يَقْضِ القاضي وهو غضبان، بل لا يقع الطلاق في حال الغضب الشديد.

إذن الجواب عن هذا أن نقول: إن هذا خاصٌّ بالنبي ؛ لعصمته من الخطأ في حال الغضب، كما هو في حال الرضا.

  • أيضًا من فوائد هذه القصة: أنه ينبغي للقاضي أن يُشير بالصُّلح بين المُتخاصمين قبل الحكم، فإن هذا أطيب للنفوس، وأذهب للشحناء التي قد تقع بين المُتخاصمين؛ ولهذا في البداية أشار النبي بالصُّلح، وقال للزبير : يا زبير، اسْقِ ثم أرسل الماء يعني: تسامح عن بعض حقِّك، ثم أرسل الماء، لكن هذا الرجل لم يَرْضَ بالصُّلح، فحكم النبي عليه الصلاة والسلام بأن يستقي الزبير حقَّه كاملًا.

ثم ذكر المصنف رحمه الله في هذا الباب حديث أبي هريرة فقال:

حدثني حَرْمَلَة بن يحيى التُّجِيبِيُّ: أخبرنا ابن وهبٍ: أخبرني يونس، عن ابن شهابٍ: أخبرني أبو سلمة بن عبدالرحمن، وسعيد بن المُسيب، قالا: كان أبو هريرة يُحدِّث: أنه سمع رسول الله يقول: ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتُكم به فافعلوا منه ما استطعتُم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرةُ مسائِلِهم، واختلافُهم على أنبيائهم [14].

ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث من عدة طرقٍ، وجاء في بعض الطرق قال: ذَرُوني ما تَرَكْتُكم -وفي حديث همام: ما تُرِكْتُمفإنما هلك مَن كان قبلكم، ثم ذكروا نحو حديث الزهري، عن سعيدٍ وأبي سلمة، عن أبي هريرة [15].

حكم اتِّباع أوامر النبي واجتناب نواهيه

هذا الحديث يدل على وجوب اتِّباع النبي ، وعلى أن الواجب هو اتِّباع أوامره بحسب الاستطاعة، واجتناب نواهيه.

قال: ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه، النَّهي يجب اجتنابه، ما نهى الله عنه ونهى عنه رسوله يجب اجتنابه، وأما ما أمرا به فيأتي الإنسان منه بما استطاع، كما قال الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].

فهذه قاعدةٌ عظيمةٌ في الشريعة؛ ولهذا قال النووي رحمه الله عن هذا الحديث: إنه من قواعد الإسلام؛ لأنه يُرْسِي لنا هذه القاعدة العظيمة، وهي: أنه يجب اجتناب ما نهى الله عنه، ونهى عنه رسوله ، ويجب امتثال الأمر بحسب الاستطاعة.

ما نهى الله عنه ونهى عنه رسوله  يجب اجتنابه إلا عند الضرورة، كما قال الله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام:119] عند الضرورة، فالضرورات تُبيح المحظورات.

وأما ما أمر الله به، وما أمر به رسوله ، فالواجب أن يأتي الإنسان منه بقدر الاستطاعة، كما قال الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فمثلًا: إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يُصلي قائمًا، فإنه يُصلي قاعدًا، وإذا كان لا يستطيع أن يسجد على الأرض يُومئ بالسجود؛ لأن القاعدة في هذا: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، بل حتى لو كان يستطيع، لكن مع مشقةٍ كبيرةٍ؛ فيسقط عنه هذا الواجب.

فلو كان يستطيع أن يُصلي قائمًا لكن مع مشقةٍ كبيرةٍ تُفوِّت الخشوع؛ فله أن يُصلي جالسًا ولو مع قُدرته على القيام، أو كان إذا سجد لحقته مشقةٌ شديدةٌ، أو لحقه ضررٌ؛ فله أن يُومئ بالسجود.

فهذه هي القاعدة في هذا الباب: أن الأوامر يأتي الإنسان بها حسب الاستطاعة، وأما النواهي فيجب اجتنابها إلا عند الضرورة: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ.

نموذجٌ لتعنُّت بني إسرائيل مع الأنبياء

قال: فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم بيَّن النبي عليه الصلاة والسلام أن من أسباب هلاك بعض الأمم السابقة: كثرة مسائلهم لأنبيائهم، واختلافهم على أنبيائهم.

وقد ذكر الله تعالى لنا شيئًا في القرآن من أحوال بني إسرائيل، فذكر تعنُّتهم وأسئلتهم العجيبة لموسى عليه الصلاة والسلام، كما في قصة البقرة: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67]؛ لأنه قُتِلَ قتيلٌ، فما عرفوا قاتله، فقالوا لموسى : مَن قاتله؟ قال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، اذبحوا بقرةً، وخذوا من لحمها واضربوا به هذا القتيل؛ فيُحييه الله ، ويُخبر مَن قاتله، آيةٌ من آيات الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً.

انظر ماذا كان جوابهم؟

قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا [البقرة:67]؟ هل يسخر بهم موسى ؟ هل يُعقل أن موسى النبي الرسول يسخر بهم؟

لأنهم قالوا: كيف نأخذ بقرةً ونضرب بها القتيل؟!

أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67] يعني: هذا فعل أهل الجهل الذين يسخر الناسُ منهم ويستهزؤون بهم، هذا ليس من فعل العقلاء، فضلًا عن أن يكون منسوبًا لنبيٍّ مُرسلٍ من عند الله .

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [البقرة:68].

انظر للأسلوب القبيح: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ، ما هذا الأسلوب؟!

يدل على الجفاء، وقِلة الأدب، والاستخفاف: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ.

موسى عليه الصلاة والسلام أخذهم بظاهر لفظهم: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [البقرة:68]، هم لو ذبحوا أية بقرةٍ أجزأ، لكن انظر إلى تعنُّتهم وكثرة أسئلتهم: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ.

طيب: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ يعني: وسطًا، لَا فَارِضٌ يعني: ليست عجوزةً كبيرةً، وَلَا بِكْرٌ صغيرة، بل وسطٌ، هل اكتفوا بهذا؟

لا: قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا [البقرة:69].

طيب، أنتم اذبحوا أي بقرةٍ.

طيب، اذبحوا هذه البقرة المتوسطة التي لا فارضَ، ولا بِكْرَ، لكن عندهم هذا التَّعنت: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا يعني: ضيَّقوا على أنفسهم؛ فضيَّق الله عليهم، شدَّدوا على أنفسهم؛ فشدَّد الله عليهم: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [البقرة:69]، هل اكتفوا بهذا؟

لا: قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا [البقرة:70].

انظر إلى التَّعنت، وإلى قِلة الأدب مع الله، ومع نبي الله موسى  أيضًا.

قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ [البقرة:71].

لاحظ هذا الأسلوب القبيح وقِلة الأدب: الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ يعني: قبل ذلك ما جئتَ بالحقِّ؟!

سبحان الله! ما أحلم الله على خلقه!

قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة:71] يعني: هم في البداية ما كانوا جادين أصلًا في الذبح، يسألون موسى أسئلة تعنُّتٍ وسخريةٍ واستهزاءٍ.

فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ، ولو لم يقولوا: إن شاء الله؛ لما فعلوا، قالوا: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [البقرة:70]، فلعلهم إنما ذبحوها ببركة تعليقهم الأمر بالمشيئة.

يعني: انظر إلى هذه القصة، هي قصةٌ واحدةٌ من قصص هؤلاء الذين تعنَّتوا مع أنبياء الله ورسله بطرح هذه الأسئلة وسوء الأدب مع الله ومع رسوله، وذكر الله تعالى من أحوالهم أيضًا أمورًا أخرى.

بينما أصحاب محمدٍ عليه الصلاة والسلام -سبحان الله!- أثنى الله عليهم وزكَّاهم: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18].

انظر إلى هذا الوصف: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18].

انظر إلى وصف هؤلاء ووصف هؤلاء: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [الفتح:29].

انظر كيف أن ربنا سبحانه أثنى على أصحاب محمدٍ ، وذمَّ أولئك المُتعنتين على أنبيائه.

إذن هنا يقول عليه الصلاة والسلام: إنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم، طرح مثل هذه الأسئلة التي فيها تعنُّتٌ؛ فلذلك أدَّب النبي صحابته، فكانوا على جانبٍ عظيمٍ من الأدب، لا يطرحون مثل هذه الأسئلة التي فيها سوء أدبٍ، والتي فيها تعنُّتٌ، والتي قد تكون سببًا لتحريم أمورٍ مباحةٍ كما سيأتينا -إن شاء الله- في الباب الآتي.

ونقف عند باب “توقيره ، وترك إكثار السؤال عما لا ضرورة إليه”، هذا -إن شاء الله- أيضًا سنعود للحديث عن هذا الموضوع مرةً أخرى في الدرس القادم.

ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.

الأسئلة

السؤال: هل مَن شرع في عملٍ -ليس شرطًا أن يكون عبادةً- وقطعه يدخل ضمن قوله تعالى: وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ[محمد:33]؟

الجواب: لا يدخل في ذلك إذا لم يكن هذا العمل واجبًا، إذا لم يكن واجبًا عليه فلا يدخل، أما إذا كان واجبًا فيدخل، لكن إذا لم يكن واجبًا عليه فإنه لا يدخل، فالإنسان له أن يقطع صيامه -صيام النافلة- ويُفطر، وقد فعله النبي ، حتى صلاة النافلة أيضًا له أن يقطعها، ولا يدخل ذلك في قوله: وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ، إنما المقصود بالآية فيما كان واجبًا.

السؤال: لي قريبٌ فقيرٌ أريد إعطاؤه الزكاة، لكنه لا يُحسن التصرف في المال، ولديه فواتير كهرباء مُطالبٌ بسدادها، هل يجوز لي أن أُسدد عنه الفواتير من الزكاة؟

الجواب: نعم، يجوز أن تُسدد عنه الفواتير من الزكاة، ويجوز أن تشتري حوائجه من الزكاة، ولا يلزم أن تُعطيه الزكاة نقدًا، إنما الفقير الذي يُعطى الزكاة نقدًا هو الذي يُحسن التصرف في المال، أما الذي لا يُحسن التصرف في المال فيُنظر إلى مصلحته، فإذا كانت مصلحته ألا يُعطى نقدًا، وإنما تُقضى حوائجه بهذا المال؛ فإن هذا هو الأفضل والأكمل في دفع الزكاة إليه.

السؤال: هل ترث الأخت لأبٍ من زوجة أبيها وليست أمها؟

الجواب: لا ترث؛ لأنه ليس بينهما قرابةٌ، وكونها زوجة أبيها لا يقتضي القرابة.

السؤال: ما أسباب البركة في المال والأهل والولد؟

الجواب: البركة هي شيءٌ يجعله الله في الأمور، فيجد الإنسان آثارها، يجعل الله تعالى البركة أولًا في الأشخاص.

بعض الناس يجعل الله فيه بركةً: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ [مريم:31]، بعض الناس مباركٌ، لا يأتي إلا بخيرٍ، مباركٌ في أقواله، مباركٌ في أفعاله، مباركٌ في تصرفاته، مباركٌ في مشورته.

وبعض الناس على العكس: شُؤمٌ، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: إن كان الشؤم في شيءٍ ففي ثلاثٍ: المرأة، والدار، والدابة [16]، يعني: أكثر ما يكون الشؤم في هذه الأمور، وقد يكون الشؤم في غيرها، يعني: أن الإنسان لا يجد في هذا الشخص بركةً، بل هو كثير المشاكل، وهذا يجده الإنسان في واقعه؛ يجد بعض الناس مشاكل هذا الشخص كثيرةً، من مشكلةٍ إلى مشكلةٍ، ومن قضيةٍ إلى قضيةٍ، ويُسبب للإنسان مصائب ومشاكل، فهذا يبتعد عنه.

بعض الناس على العكس: يجد منه الخير، ويجد منه البركة، فهذا يقترب منه، كما قال عليه الصلاة والسلام: مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك [17]، حامل المسك هذا هو الجليس الصالح المبارك، والجليس السوء كنافخ الكير، هذا هو الجليس السوء، الشؤم، الذي لا يجد الإنسان منه خيرًا.

أيضًا البركة قد تكون في المال، فبعض الأموال يجعل الله فيها بركةً، يكون المال قليلًا، لكن ينفع الله تعالى به الإنسان نفعًا عظيمًا، وبعض الأموال تُنزع منها البركة، يكون المال كثيرًا، لكن يذهب سريعًا.

وتكون البركة أيضًا في الزوجة؛ فبعض النساء يجعل الله فيهن بركةً، تكون بركةً على الزوج؛ تُعينه على أمور دينه ودنياه، وبعضهن على العكس؛ تُعينه على قطيعة الرحم، وعلى التَّبذير، وتكون شُؤمًا عليه.

وكذلك الولد؛ بعض الأولاد يجعل الله فيه بركةً عظيمةً، يعني: إبراهيم عليه الصلاة والسلام رُزق بابنين فقط، لكن انظر إلى بركة هذين الابنين: إسماعيل وإسحاق عليهما السلام، رُزق إياهما على كبرٍ، انظر إلى عظيم بركتهما.

يعقوب عليه الصلاة والسلام عنده اثنا عشر ابنًا، ما ملأ عينه إلا يوسف ، حزن على فقده حتى ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيمٌ.

طيب، عنده بقية الأبناء، بقي عنده أحد عشر ابنًا.

سبحان الله!

فبعض الأبناء يجعل الله فيهم بركةً عظيمةً، وبعضهم لا تكون فيه بركةٌ؛ ولذلك من الأدعية العظيمة التي ينبغي أن يحرص عليها المسلم: أن يسأل الله البركة، تقول: اللهم اجعلني مباركًا أينما كنت، اللهم بارك لي في وقتي، وبارك لي في عمري، وبارك لي في صحتي، وبارك لي في مالي، وبارك لي في أهلي، وبارك لي في علمي، وبارك لي في عملي، فتسأل الله تعالى البركة.

السؤال: ما حكم التَّخلف عن صلاة الجماعة بسبب الحصة الدراسية؟

الجواب: أما مَن كان في التعليم الجامعي فهؤلاء الأستاذ الجامعي عنده من الحرية والمرونة ما يستطيع أن يتحكم به في المحاضرة، فيصلون الصلاة مع الجماعة في المسجد، ثم تكون المحاضرة بعد الصلاة.

أما بالنسبة للتعليم المرحلة دون الجامعية فحسب ما بلغني من المعلمين يقولون: إن المعلم ليس له خيارٌ في توقيت الحصص، لا المعلم، ولا الطالب، وعلى هذا فيكون هذا عذرًا له في ترك الصلاة مع الجماعة في المسجد، فيصلي بعد الفراغ من الحصة، إن وجد مَن يصلي معه من أهل البيت كان ذلك حسنًا، وإلا كان هذا عذرًا له في ترك الجماعة.

السؤال: لماذا أكثر الدروس في أبواب العبادات، وقليلة في أبواب المعاملات؟

الجواب: لأن أكثر النصوص في العبادات، فالعبادات الأصل فيها المنع والحظر إلا ما ورد الدليل بمشروعيته، أما المعاملات فالأصل فيها الحِلُّ والإباحة إلا ما ورد الدليل بمنعه؛ فلذلك أبواب العبادات تجد أنها أكثر، ومسائل العبادات أكثر.

وفي كتابي -إن شاء الله- الذي سيصدر قريبًا: “السلسبيل في شرح الدليل” نرجو أن يكون موسوعةً فقهيةً مُصغرةً في جميع أبواب الفقه من الطهارة إلى آخر أبواب الفقه، وأيضًا مُتضمنًا مسائل للقضايا المعاصرة، سيخرج -إن شاء الله- بعد شهرٍ إلى شهرٍ ونصف حسب كلام الناشر.

الشاهد من هذا: أن الأربعة الأجزاء الأولى كلها في العبادات، والأربعة الأجزاء الأخيرة في بقية أبواب الفقه، وهذا يدل على أن أبواب العبادات تأخذ القدر الأكبر بسبب أن العبادات -كما ذكرتُ- وردت فيها نصوصٌ؛ لأن الأصل فيها المنع إلا ما ورد الدليل بمشروعيته، فوردت فيها أدلةٌ، فتحتاج إلى تفصيلٍ وتبيينٍ لأحكامها، بينما مثلًا المعاملات تُضبط بضوابط وقواعد؛ ولذلك فهي أقل في التفريعات من العبادات، ومثل ذلك أيضًا بقية الأبواب.

السؤال: قول بعض العلماء: مَن تعمد إخراج الصلاة عن وقتها -مثل مَن يُوقت المُنبه للدوام، ثم يصلي بعد الشروق- أنه لا يُصليها، وأنه لا فرق بين مَن تعمد الصلاة قبل الوقت، ومَن تعمد إخراجها عن وقتها، ما هو القول الراجح؟

الجواب: هذا قول بعض أهل العلم، لكنه قولٌ مرجوحٌ، والصواب أنه يُصليها حتى لو خرج الوقت، فكونه يُصليها بعد خروج الوقت خيرًا من كونه لا يُصليها.

والقول بأنه يُصليها حتى بعد خروج الوقت هو قول جماهير أهل العلم -أكثر أهل العلم-، لكن عليه التوبة إلى الله ، فهو يُصليها وهو مُقصرٌ، يعني: يلحقه الإثم، فالواجب عليه أن يضع المنبه على الوقت بحيث يصلي مع الجماعة في المسجد إذا كان رجلًا، والمرأة تُصلي الصلاة في وقتها قبل طلوع الشمس، فإذا تعمد وضع المنبه على الدوام بعد طلوع الشمس فإنه يكون بهذا قد أخطأ، ويدخل في الساهين الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ۝ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4- 5]، لكن يجب عليه أن يُصليها ويقضيها حتى بعد خروج وقتها مع التوبة إلى الله ​​​​​​​.

ونكتفي بهذا القدر، ونسأل الله للجميع التوفيق.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1, ^2, ^4 رواه مسلم: 2354.
^3 رواه البخاري: 6139، ومسلم: 2951.
^5, ^6 رواه مسلم: 2356.
^7 رواه أحمد: 22291، والطبراني في “المعجم الكبير”: 7868.
^8 رواه ابن حبان: 4194، والبيهقي في “السنن الكبرى”: 5415.
^9 رواه مسلم: 2670.
^10, ^14, ^15 رواه مسلم: 1337.
^11 رواه مسلم: 2357.
^12 رواها البخاري: 2359.
^13 رواه البخاري: 7158، ومسلم: 1717.
^16 رواه البخاري: 5094، ومسلم: 2225.
^17 رواه البخاري: 5534، ومسلم: 2628.