عناصر المادة
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
أسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في الدين، والعلم النافع، والعمل الصالح.
رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [الكهف:10].
هذا -أيها الإخوة- درسٌ في التعليق على كتاب “الفضائل” من “صحيح مسلم” في هذا اليوم الثاني عشر من شهر صفر لعام 1442 للهجرة.
باب توقيره وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه
كنا قد وصلنا إلى: باب توقيره وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، أو لا يتعلق به تكليفٌ، وما لا يقع، ونحو ذلك.
قال المصنف الإمام مسلم رحمه الله:
حدثنا يحيى بن يحيى: أخبرنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهابٍ، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال: قال رسول الله : إن أعظم المسلمين في المسلمين جُرْمًا مَن سأل عن شيءٍ لم يُحرم على المسلمين، فحُرم عليهم من أجل مسألته.
وحدثناه أبو بكر بن أبي شيبة، وابن أبي عمر، قالا: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري. ح، وحدثنا محمد بن عباد: حدثنا سفيان، قال: أحفظه كما أحفظ “بسم الله الرحمن الرحيم”، الزهري، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال: قال رسول الله : أعظم المسلمين في المسلمين جُرْمًا مَن سأل عن أمرٍ لم يُحرم، فحُرم على الناس من أجل مسألته.
وحدثنيه حرملة بن يحيى: أخبرنا ابن وهب: أخبرني يونس. ح، وحدثنا عبد بن حميد: أخبرنا عبدالرزاق: أخبرنا معمر -كلاهما-، عن الزهري، بهذا الإسناد، وزاد في حديث معمر: رجلٌ سأل عن شيءٍ ونَقَّرَ عنه، وقال في حديث يونس: عامر بن سعد، أنه سمع سعدًا [1].
أولًا: الكلام عن الإسناد
الإمام مسلم رحمه الله ساق هذا الحديث بهذه الطرق، وفي طريق سفيان بن عيينة رحمه الله قال: أحفظه كما أحفظ “بسم الله الرحمن الرحيم”، الزهري، عن عامر بن سعد رحمهم الله.
مَن القائل: حدثنا سفيان، قال: أحفظه كما أحفظ “بسم الله الرحمن الرحيم”، الزهري؟ هل القائل هو سفيان، أو القائل هو الزهري؟
يحتمل أن القائل هو الزهري رحمه الله، ويحتمل أن القائل هو سفيان بن عيينة رحمه الله، وهذا هو الأرجح، ويدل لذلك أن هذا قد جاء مُصرحًا به في رواية أبي يعلى رحمه الله لهذا الحديث: أنه من كلام سفيان بن عيينة رحمه الله.
فعلى هذا قوله: “أحفظه كما أحفظ: بسم الله الرحمن الرحيم” هذا من كلام سفيان بن عيينة رحمه الله، وأما قوله: “الزهري” مباشرةً، فهو على تقدير محذوفٍ، أي: حدثنا الزهري.
وقوله: “أحفظه كما أحفظ: بسم الله الرحمن الرحيم” هذا فيه إشارةٌ إلى قوة حفظه لهذا الحديث بلفظه، وأنه لا يشكّ في النقل، وهذا يدل على عناية الرواة بالدقة في نقل الأحاديث.
وقوله: ونَقَّرَ عنه يعني: بالغ في البحث عنه والاستقصاء.
وهنا مسلمٌ في آخر طريقٍ قال: “وقال في حديث يونس: عامر بن سعد، أنه سمع سعدًا”، يعني: ساق هذه الطريق للإشارة إلى تصريح عامر بن سعد رحمه الله بالسماع، فأورد مسلمٌ رحمه الله هذا الطريق لأجل هذه الفائدة.
مقصود هذا الحديث وما جاء في معناه: النهي عن الإكثار من السؤال عما لا يقع؛ لأن ذلك ربما يكون سببًا لتحريم شيءٍ على المسلمين، فتلحقهم بسبب ذلك مشقةٌ.
المراد بالجُرْم في الحديث
في هذا الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: إن أعظم المسلمين في المسلمين جُرْمًا، المراد بالجُرْم هنا، القاضي عياض قال: “المراد بالجُرْم هنا: الحدث على المسلمين، لا أنه من الجرائم والآثام المُعاقب عليها، إذ كان السؤال أولًا مُباحًا، ولولا ذلك لما قال : سلوني [2]”.
وتعقبه كثيرٌ من العلماء، ومنهم النووي رحمه الله قال: “وهذا الذي قاله القاضي ضعيفٌ، بل باطلٌ، والصواب الذي قاله الخطابي … وجماهير العلماء في شرح هذا الحديث: أن المراد بالجُرْم هنا الإثم والذنب”، وأن المراد: أن مَن “سأل تكلُّفًا أو تعنُّتًا فيما لا حاجة به إليه”، فتسبب في تحريم شيءٍ، فإنه يأثم بذلك إثمًا عظيمًا، “فأما مَن سأل لضرورةٍ؛ بأن وقعتْ له مسألةٌ فسأل عنها، فلا إثم عليه ولا عُتْبَ”، وهذا هو القول الراجح: أن المقصود بالجُرْم الإثم.
وهذا فيه تأديبٌ لصحابة النبي عليه الصلاة والسلام عن التَّكلف في أسئلة النبي بأسئلةٍ عن أمورٍ لم تقع، فتكون سببًا للتضييق والتشديد والتحريم، كما حصل لبعض الأمم السابقة؛ فإن ما ذكره الله في شأن البقرة -بقرة بني إسرائيل- موسى عليه الصلاة والسلام قال لهم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] لأجل معرفة القاتل: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [البقرة:72]، فلو أنهم ذبحوا أيَّ بقرةٍ لحصل المقصود وكفى، لكن طرحوا أسئلةً وشددوا فشدد الله عليهم.
أولًا: قال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67].
انظر أولًا للأسلوب: هل يُعقل أن نبيَّ الله يتخذهم هزوًا ويسخر بهم؟!
ولهذا قال: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ.
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ يعني: ليست صغيرةً ولا كبيرةً، وإنما متوسطةٌ: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [البقرة:68].
هل اكتفوا بهذا؟
لم يكتفوا: قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [البقرة:69].
هل اكتفوا بهذا؟
لم يكتفوا: قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا [البقرة:70-71] يعني: شددوا فشدد الله عليهم.
قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ [البقرة:71]، انظر أيضًا إلى هذا الأسلوب الجاف غير اللائق مع نبي الله: الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ كأنه قبل لم يجئ بالحق!
قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة:71].
فأصحاب محمدٍ حتى لا يقعوا فيما وقع فيه أولئك أدَّبهم رسول الله ، ونهاهم عن أن يتكلفوا طرح مثل هذه الأسئلة؛ حتى لا يُضيقوا على أنفسهم، ولا يُضيقوا على المسلمين في طرح مثل هذه الأسئلة؛ لأن طرح هذه الأسئلة قد يتسبب في التضييق والتشديد كما حصل في بقرة بني إسرائيل.
فوائد من حديث: إن أعظم المسلمين في المسلمين جُرْمًا ..
من فوائد هذا الحديث:
- أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد الشرع بخلاف ذلك؛ وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن أن يُسأل، وقال: إن أعظم المسلمين في المسلمين جُرْمًا: مَن سأل عن شيءٍ لم يُحرَّم على المسلمين، فحُرِّم عليهم من أجل مسألته، وهذا يدل على استصحاب الأصل، وهو الإباحة، فالأصل في الأشياء الإباحة، فكأنه يُقال لهم: استصحبوا هذا الأصل ولا تسألوا عما لم يقع تكلُّفًا وتعنُّتًا.
- أيضًا من فوائد هذا الحديث: قال النووي رحمه الله: “فيه دليلٌ على أن مَن عمل ما فيه إضرارٌ بغيره كان آثمًا”.
مَن تسبب في إلحاق الضرر بغيره فإنه يكون آثمًا، بأية صورةٍ من صور التَّسبب.
تأدب الصحابة في طرح الأسئلة على النبي
حدثنا محمود بن غيلان، ومحمد بن قدامة السلمي، ويحيى بن محمد اللؤلؤي -وألفاظهم مُتقاربةٌ-، قال محمود: حدثنا النضر بن شُمَيل.
انظر إلى دقة الإمام مسلم رحمه الله في سوق الألفاظ.
قال محمود: حدثنا النضر بن شُمَيل. وقال الآخران: أخبرنا النَّضر.
يعني: هنا الإمام مسلم رحمه الله يريد أن يكون دقيقًا حتى في التفريق بين كلمة “حدثنا” و”أخبرنا”: قال محمود: حدثنا … وقال الآخران: أخبرنا.
أخبرنا شعبة: حدثنا موسى بن أنسٍ.
يعني: ابن مالك.
عن أنسٍ .
يعني: عن أبيه.
قال: بلغ رسولَ الله عن أصحابه شيءٌ، فخطب فقال: عُرضتْ عليَّ الجنة والنار، فلم أَرَ كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا، ولبكيتم كثيرًا.
قال: فما أتى على أصحاب رسول الله يومٌ أشدّ منه. قال: غطُّوا رؤوسهم ولهم خَنِينٌ.
قال: فقام عمر فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ نبيًّا.
قال: فقام ذاك الرجل فقال: مَن أبي؟ قال: أبوك فلان، فنزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [المائدة:101] [3].
في هذه القصة يُخبر أنسٌ : أن النبي بلغه عن أصحابه شيءٌ.
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله -أحد شُرَّاح مسلم-: “بلغه أن بعض مَن دخل في أصحابه ولم يتحقق إيمانه -يعني: من المنافقين- همَّ أن يمتحن النبيَّ بالأسئلة، ويُكثر عليه منها ليُعجزه، وهذا كان دأب المنافقين”، فخطب وقال للصحابة: عُرضتْ عليَّ الجنة والنار يعني: رأى النبي الجنة والنار، رآها بعينه، وهذا يدل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، وقد جمع الله لنبيه بين علم اليقين وعين اليقين، مع الخشية القلبية، واستحضار عظمة الله تعالى على وجهٍ لم يجتمع لغيره.
مقامات اليقين
مقامات اليقين ثلاثةٌ: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين.
علم اليقين: هو ما علمه بالسماع، وبالخبر، وبالقياس، وبالنظر.
عين اليقين: ما شاهده وعاينه بالبصر.
حق اليقين: ما باشره وذاقه.
ويُمثل الإمام ابن تيمية رحمه الله لهذا بمثالٍ يتضح به المقصود، وذلك فيمن أُخبر بعسلٍ، وكان المُخبر ثقةً وصدَّقه، فهذا علم اليقين، فإذا رأى العسل وشاهده فهذا عين اليقين، فإذا ذاق العسل ووجد طعمه وحلاوته فهذا حق اليقين.
إذن إذا علم بالعسل وصدق المُخبر فهذا علم اليقين، وإذا رأى العسل وشاهده فهذا عين اليقين، وإذا ذاق العسل فهذا حق اليقين.
النبي جمع الله له بين علم اليقين وعين اليقين؛ لأنه عنده علم اليقين بالجنة والنار، ورآهما رأي العين، فجمع الله له بين علم اليقين وعين اليقين.
ولهذا قال إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى [البقرة:260]، يريد أن يجتمع له عين اليقين مع علم اليقين.
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى هو عنده علم اليقين بقدرة الله على إحياء الموتى، ولكن أراد أن يجمع مع علم اليقين عين اليقين.
قال: عُرضت عليَّ الجنة والنار، فلم أَرَ كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا، ولبكيتم كثيرًا، فما أتى على أصحاب رسول الله يومٌ أشدّ منه، قال: غطُّوا رؤوسهم، ولهم خَنِينٌ.
والخنين هو: الصوت الذي فيه غُنَّةٌ، يعني: بكاء معه صوتٌ فيه غُنَّةٌ.
قال: فقام عمر . يعني: بعد هذا الموقف الشديد، فقام عمر فقال: “رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ نبيًّا”، وجاء في الرواية الأخرى: حتى بَرَكَ عمر .
وأراد عمر أن يتلطف مع النبي ، وأيضًا شفقةً على المسلمين؛ لئلا يُؤذوا النبي فيهلكوا.
وأيضًا هذا فيه إشارةٌ إلى أن عمر شخصيةٌ قياديةٌ يملك زمام المُبادرة.
لاحظ: لما رأى هذا الموقف قام وبادر وذهب وبَرَكَ عند النبي عليه الصلاة والسلام، وتكلم بهذا الكلام، وقال: يا رسول الله، رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ نبيًّا.
هذا يدل على أن عمر يملك شخصيةً قياديةً، وزمام المُبادرة؛ ولذلك لما ولي الخلافة كان من عظماء التاريخ رضي الله عنه وأرضاه.
قال: فقام ذلك الرجل -سيأتي أنه هو عبدالله بن حذافة – فقال: مَن أبي؟ قال: أبوك فلان، فنزلت الآية.
إذن هذه كلها من أجل أن يتأدب الصحابة في قضية طرح الأسئلة على النبي عليه الصلاة والسلام، وألا يحصل منهم كما حصل من بني إسرائيل؛ لأن طرح مثل هذه الأسئلة المُتكلفة تُسبب المشقة والعَنَت على المسلمين، وقد تُحرم أشياء كانت مباحةً؛ لأجل طرح مثل تلك الأسئلة.
ولهذا قال أنسٌ : “نُهينا أن نسأل رسول الله عن شيءٍ، فكان يُعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع” [4].
ثم ساق المصنف رحمه الله هذه القصة بعدة رواياتٍ.
حدثنا محمد بن معمر بن ربعي القيسي: حدثنا روح بن عبادة: حدثنا شعبة: أخبرني موسى بن أنس، قال: سمعتُ أنس بن مالك يقول: قال رجلٌ: يا رسول الله، مَن أبي؟ قال: أبوك فلان، ونزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ تمام الآية [المائدة:101] [5].
وحدثني حرملة بن يحيى بن عبدالله بن حرملة بن عمران التجيبي: أخبرنا ابن وهب: أخبرني يونس، عن ابن شهاب: أخبرني أنس بن مالك: أن رسول الله خرج حين زاغت الشمس، فصلى لهم صلاة الظهر، فلما سلم قام على المنبر فذكر الساعة، وذكر أن قبلها أمورًا عظامًا، ثم قال: مَن أحبَّ أن يسألني عن شيءٍ فليسألني عنه، فوالله لا تسألونني عن شيءٍ إلا أخبرتُكم به ما دُمْتُ في مقامي هذا.
فهنا فتح النبي عليه الصلاة والسلام المجال للأسئلة؛ أن يسألوا عما بدا لهم.
وقال العلماء: هذا القول من النبي عليه الصلاة والسلام محمولٌ على أنه أُوحي إليه بذلك، وإلا فلا يعلم كل ما سُئل عنه من المغيبات إلا بإعلام الله تعالى له.
قال أنسٌ : فأكثر الناس البُكاء حين سَمِعُوا ذلك من رسول الله ، وأكثر رسول الله أن يقول: سَلُونِي، فقام عبدالله بن حُذافة.
عبدالله بن حذافة هو عبدالله بن حذافة السَّهمي، صحابيٌّ جليلٌ من المهاجرين الأولين، يقولون: كانت فيه دُعابةٌ، وقد أسره الروم زمن عمر بن الخطاب ، فقال له ملك الروم: قبِّل رأسي وأُطلقك. فقال عبدالله بن حذافة : وتُطلق مَن معي من أسرى المسلمين. قال: نعم. فقام عبدالله وقبَّل رأسه، فأطلقه وأطلق معه ثمانين أسيرًا، فلما بلغ ذلك عمر قال: “حقٌّ على كل مسلمٍ أن يُقبِّل رأس عبدالله بن حذافة”، وقام عمر وقبَّل رأسه، وقام المسلمون وقبَّلوا رأسه.
فهذا الصحابي الجليل له سبقٌ في الإسلام، لكنه سأل النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه قال: سَلُونِي.
فقال: مَن أبي؟ قال: أبوك حذافة.
وإنما قال: مَن أبي؟ لأنه كان يُلْمَز -يعني: في الجاهلية- ويُطعن في نسبه، فأراد أن يتحقق من ذلك، فقال: مَن أبي؟ قال: أبوك حذافة، فاطمأن من صحة نسبه.
فلما أكثر رسول الله من أن يقول: سَلُوني بَرَكَ عمر فقال: “رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ رسولًا”.
وهذا يدل على جواز بروك الطالب بين يدي مَن يستفيد منه، وكذا التابع بين يدي المتبوع إذا سأله في حاجةٍ، وهذه عادةٌ عند العرب، ولا تزال إلى الآن: أن الإنسان إذا أراد حاجةً من وجيهٍ من الوجهاء يأتي بين يديه ويَبْرُك ويذكر حاجته، فهذه عادةٌ عند العرب من قديم الزمان، ولا تزال موجودةً حتى الآن.
قال: فسكت رسول الله حين قال عمر ذلك.
يعني: عمر هدَّأ النبيَّ عليه الصلاة والسلام وتلطَّف معه؛ لأنه رأى غضب النبي عليه الصلاة والسلام.
ثم قال رسول الله : أولى، والذي نفسُ محمدٍ بيده، لقد عُرِضَتْ عليَّ الجنة والنار آنفًا في عُرْضِ هذا الحائط.
كما ذكرنا أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى بعينيه الجنة والنار.
فلم أَرَ كاليوم في الخير والشر.
قال ابن شهابٍ: أخبرني عبيدالله بن عبدالله بن عتبة، قال: قالت أم عبدالله بن حذافة لعبدالله بن حذافة: ما سمعتُ بابنٍ قط أعقَّ منك! أأمنتَ أن تكون أمك قد قارفتْ بعض ما تُقارف نساء أهل الجاهلية فتفضحها على أعين الناس؟! قال عبدالله بن حذافة: والله لو ألحقني بعبدٍ أسود لَلَحِقْتُه [6].
لما قال عبدالله بن حذافة أمام الناس: يا رسول الله، مَن أبي؟ قال: أبوك حذافة.
أم عبدالله تقول: لماذا تسأل النبي عليه الصلاة والسلام هذا السؤال؟! فربما أن أمه حصل منها ما حصل مما يحصل من نساء الجاهلية، يعني: حملت من الزنا، فلو أجاب النبي عليه الصلاة والسلام بغير هذا الجواب لفضحتَ أمك! هذا هو مقصودها.
فقال عبدالله: لو ألحقني بعبدٍ أسود لَلَحِقْتُ به، يعني: لو ألحقني بأي إنسانٍ لَلَحِقْتُه؛ لأنه من النبي عليه الصلاة والسلام.
ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث من طريقٍ أخرى:
قال: حدثني رجلٌ من أهل العلم: أن أم عبدالله بن حذافة قالت: .. بمثل حديث يونس.
ثم قال:
حدثنا يوسف بن حمَّاد المَعْنيُّ: حدثنا عبدالأعلى، عن سعيدٍ، عن قتادة، عن أنس بن مالك : أنَّ الناس سألوا نبيَّ الله حتى أَحْفَوْهُ بالمسألة.
“أَحْفَوْهُ” يعني: أكثروا في الإلحاح عليه والمُبالغة فيه.
فخرج ذات يومٍ فصعد المنبر، فقال: سَلُوني، لا تسألوني عن شيءٍ إلا بيَّنتُه لكم، فلمَّا سمع ذلك القوم أَرَمُّوا وَرَهِبُوا.
“أَرَمُّوا” يعني: سكتوا.
“وَرَهِبُوا” يعني: خافوا.
أن يكون بين يدي أمرٍ قد حضر.
قال أنسٌ: فجعلتُ ألتفتُ يمينًا وشمالًا، فإذا كلُّ رجلٍ لَافٌّ رأسه في ثوبه يبكي، فأنشأ رجلٌ من المسجد كان يُلَاحَى فيُدْعَى لغير أبيه.
يعني: هذا هو السبب في قول عبدالله بن حذافة : مَن أبي؟ لأنه كان يُلاحَى فيُدْعَى لغير أبيه.
فقال: يا نبيَّ الله، مَن أبي؟ قال: أبوك حذافة.
ثم أنشأ عمر بن الخطاب فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ رسولًا، عائذًا بالله من سوء الفتن.
قول عمر : “عائذًا بالله من سوء الفتن” هذا يدل على مشروعية التعوذ بالله من سوء الفتن؛ ولهذا جاء عند مسلم: أن النبي قال: تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، فهذا من الأدعية العظيمة: أن المسلم يستعيذ بالله تعالى من سوء الفتن، ما ظهر منها، وما بطن.
فقال رسول الله : لم أَرَ كاليوم في الخير والشر، إني صُوِّرَتْ لي الجنة والنار، فرأيتُهما دون هذا الحائط [7].
ثم ساق الحديث من طرقٍ أخرى.
ثم قال:
حدثنا عبدالله بن بَرَّاد الأشعري، ومحمد بن العلاء الهمداني، قالا: حدثنا أبو أسامة، عن بُريد، عن أبي بُردة، عن أبي موسى قال: سُئل النبي عن أشياء كرهها، فلما أُكثر عليه غضب، ثم قال للناس: سَلُوني عمَّ شئتُم، فقال رجلٌ: مَن أبي؟ قال: أبوك حذافة، فقام آخر فقال: مَن أبي يا رسول الله؟ قال: أبوك سالم مولى شيبة، فلما رأى عمر ما في وجه رسول الله من الغضب قال: يا رسول الله، إنا نتوب إلى الله.
وفي رواية أبي كريب قال: مَن أبي يا رسول الله؟ قال: أبوك سالم مولى شيبة [8].
باب وجوب امتثال ما قاله شرعًا، دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي
قال الإمام مسلم رحمه الله في “صحيحه”:
حدثنا قتيبة بن سعيد الثقفي، وأبو كامل الجحدري -وتقاربا في اللفظ، وهذا حديث قتيبة-، قالا: حدثنا أبو عوانة، عن سماك، عن موسى بن طلحة، عن أبيه قال: مررتُ.
القائل: “مررتُ” هو طلحة بن عبيدالله الصحابي الجليل .
مررتُ مع رسول الله بقومٍ على رؤوس النخل، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ فقالوا: يُلقِّحُونه، يجعلون الذكر في الأنثى فيتلقح، فقال رسول الله : ما أظن يُغني ذلك شيئًا، قال: فأُخبروا بذلك فتركوه، فأُخبر رسول الله بذلك، فقال: إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننتُ ظنًّا، فلا تُؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتُكم عن الله شيئًا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله [9].
ويحسن هنا أن نسوق الروايات كلها، ثم نتكلم عنها مُجتمعةً.
ثم ساق المصنف هذا الحديث عن رافع بن خديج .
قال: قدم نبيُّ الله المدينة وهم يَأْبُرُونَ النخل، يقولون: يُلَقِّحُونَ النخل، فقال: ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعُه. قال: لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرًا، فتركوه، فَنَفَضَتْ، أو فَنَقَصَتْ. قال: فذكروا ذلك له، فقال: إنما أنا بشرٌ، إذا أمرتكم بشيءٍ من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتُكم بشيءٍ من رأيٍ، فإنما أنا بشرٌ [10].
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد -كلاهما-، عن الأسود بن عامر، قال أبو بكر: حدثنا الأسود بن عامر: حدثنا حمَّاد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. وعن ثابتٍ، عن أنسٍ.
إذن الحديث الثاني عن رافع.
الأول عن طلحة بن عبيدالله، والثاني عن رافع بن خديج، والثالث عن أنسٍ وعائشة .
أن النبي مرَّ بقومٍ يُلَقِّحُونَ، فقال: لو لم تفعلوا لصلح، قال: فخرج شِيصًا، فمرَّ بهم فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلتَ: كذا وكذا، قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم [11].
تفسير قوله: أنتم أعلم بأمر دنياكم
هذه الأحاديث تمسك بها بعض الناس، وقالوا: إن أحكام السُّنة في المعاملات أنها ليست من الدين، في المعاملات، وفي الاقتصاد، وفي الطب، وفي السياسة، وفي أمور الدنيا أنها ليست من الدين، بدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام: أنتم أعلم بأمر دنياكم، يعني: إذن ماذا بقي؟
ما بقي إلا أمور العبادات.
وهذه المقولة مقولةٌ باطلةٌ، والتمسك بهذا الاستدلال غير صحيحٍ؛ لأمورٍ:
الأمر الأول: من جهة الرواية، أصحّ هذه الروايات هي الرواية الأولى التي ساقها الإمام مسلم عن طلحة بن عبيدالله ، والإمام مسلم من عادته أنه يُقدم أقوى الروايات، ويُؤخر أضعف الروايات، فأقوى هذه الروايات هي رواية طلحة بن عبيدالله .
ثم إن طلحة كان مع النبي عليه الصلاة والسلام، قال: مررتُ مع رسول الله .
إذن أصحّ هذه الروايات رواية طلحة، ورواية طلحة لم يقل فيها النبي عليه الصلاة والسلام: أنتم أعلم بأمر دنياكم، وإنما قال: ما أظن يُغْني ذلك شيئًا، فأُخبروا بذلك؛ فتركوه، ولما أُخبر النبي عليه الصلاة والسلام قال: إن كان ينفعهم فليصنعوه، فإنما ظننتُ ظنًّا، فلا تُؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتُكم عن الله شيئًا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله .
فهذه الرواية ليس فيها أي إشكالٍ، وهي أصحّ الروايات، وطلحة هو الذي كان مع النبي عليه الصلاة والسلام، وهو الذي ساق القصة.
وأيضًا في الرواية الثانية -رواية رافع بن خديج- لم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: أنتم أعلم بأمر دنياكم، قال: قدم وهم يأبُرون النخل، فقال: ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه. قال: لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرًا، فتركوه، … فذكروا ذلك له، قال: إنما أنا بشرٌ، إذا أمرتكم بشيءٍ من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيءٍ من رأيٍ فإنما أنا بشرٌ.
الرواية التي فيها: أنتم أعلم بأمر دنياكم، هذه التي تمسك بها بعض الناس، هذه بعض العلماء ضعفها، والإمام مسلم رحمه الله أخَّرها، وهذا التأخير يُشير إلى التضعيف، فإن من منهج الإمام مسلم رحمه الله -كما أشار إلى ذلك في مقدمته- أنه إذا أراد أن يُنبه على الرواية الضعيفة فإنه يُلحقها بالرواية الصحيحة، يذكر الرواية الصحيحة ثم يذكر بعدها الرواية الضعيفة.
مثلًا: في قوله عليه الصلاة والسلام: لا تُخمِّروا رأسه [12] ساقها مسلمٌ رحمه الله بالرواية الصحيحة التي أيضًا اتفق معه البخاري رحمه الله، ثم ساقها بزيادة: ولا وجهه، وهذه الرواية بزيادة: ولا وجهه شاذةٌ غير محفوظةٍ.
ومثل ذلك: غَيِّروا شعر هذا ساقها الإمام مسلم رحمه الله بلفظ: غَيِّروا شعر هذا فقط من غير زيادة: وجنِّبوه السواد، ثم ساقها بلفظ: وجنِّبوه السواد إشارةً إلى تضعيف هذه الزيادة.
إذن بعض العلماء قال: إن حديث أنسٍ وعائشة رضي الله عنهما: أنتم أعلم بأمر دنياكم أنها روايةٌ غير محفوظةٍ.
ثم على التسليم بأنها محفوظةٌ، فالروايات يُفسر بعضها بعضًا، فيكون معنى قوله: أنتم أعلم بأمر دنياكم أي: فيما قلتُه على سبيل الظنِّ والرأي، بدليل قوله: ما أظن يُغني ذلك شيئًا، ثم قال: إذا أمرتكم بشيءٍ من رأيٍ يعني: على سبيل الظنِّ فإنما أنا بشرٌ.
فعلى هذا لا تستقيم هذه المقولة؛ مقولة: أنه لا يُؤخذ بقول النبي عليه الصلاة والسلام في أمور الدنيا: في أمور المعاملات والاقتصاد والطب، ونحو ذلك، هذا كلامٌ غير صحيحٍ، وإنما كل ما قاله النبي حقٌّ: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4].
وهناك مقولةٌ مُنكرةٌ لبعض الناس، يقول: أقبل قول طبيبٍ كافرٍ في الطبِّ، ولا أقبل قول رسول الله في الطب!
هذا كلامٌ باطلٌ، كلامٌ مُنكرٌ، فالنبي لا يقول من رأيه: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، فالأصل أن ما قاله النبي حقٌّ، وأنه وحيٌ إلا إذا قامت القرينة الدالة على أن ما قاله إنما هو على سبيل الظن، كما في هذا الحديث، قال: ما أظن يُغني ذلك شيئًا.
إذن الأصل أن ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام وحيٌ إلا إذا دلت القرينة على أن ما قاله على سبيل الظنِّ في الأمور الدنيوية، فهذا هو تحقيق هذه المسألة.
والنبي عليه الصلاة والسلام كان في مكة، ومكة كانت بلدًا تجاريًّا، تَفِدُ إليه التجارة من أقطار الدنيا: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا [القصص:57]، يُجْبَى جبايةً، ليس باختيار الناس، وإنما جبايةٌ بإقدار الله : يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ، فمكة كانت بلدًا تجاريًّا، ولم تكن بلدًا زراعيًّا.
لما هاجر النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، المدينة بلدٌ زراعيٌّ، وكان فيها النخيل، وكان النخيل كثيرًا، فالنبي عليه الصلاة والسلام ليس من أهل الزراعة، ولا الفلاحة، ولم يُعايش الزراعة، ولا الفلاحة، ولا باشر شيئًا من ذلك، فخفيتْ عليه تلك الحالة، يعني: لما رأى التلقيح، أول مرةٍ يرى هذا المظهر، وأهل الزراعة يعرفون أن النخلة إذا لقحتْ تطيب ثمرتها وتزيد، يأخذون من طلع الذكر الذي يُسمى: الفحل، ويضعونه في النخلة -في طلع النخلة- فيكون التمر تمرًا جيدًا، ويكثر التمر، وإذا لم تلقح النخلة فإنه يكون شِيصًا، كما جاء في رواية حديث عائشة رضي الله عنها: “فخرج شِيصًا”، والشِّيص: هو البُسْر الرديء الذي إذا يبس صار حَشَفًا.
فالنبي عليه الصلاة والسلام قال هذا على سبيل الرأي، فلما قيل لهؤلاء الصحابة أيضًا لم يقل لهم مباشرةً كما في حديث طلحة ، لم يقل لهم مباشرةً، قال: ما أظن يُغني ذلك شيئًا، قال: فأُخبروا بذلك، فلما أُخبروا تركوه، ولما أُخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأنهم تركوه قال: إن كان ينفعهم فليصنعوه، ورواية أنه أصبح شِيصًا إنما جاءت في الرواية الأخيرة -رواية عائشة وأنس- والتي قلنا: إن بعض أهل العلم قال: إنها غير ثابتةٍ.
فينبغي إذن أن يُفْهَم هذا الحديث على الوجه الصحيح.
إذن الأصل أن ما قاله النبي وحيٌ، سواء قال ذلك في أمور العبادة، أو في المعاملات، أو في الطب، أو في الاقتصاد، أو في أي أمرٍ من الأمور، كل ما قاله النبي حقٌّ ووحيٌ: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى إلا إذا دلَّت القرينة على أنه إنما قال ذلك على سبيل الظن في الأمور الدنيوية، فهنا تكون مقولته في هذه الحال كمقولة غيره؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: إنما أنا بشرٌ، إذا أمرتكم بشيءٍ من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيءٍ من رأيٍ يعني: على سبيل الظن فإنما أنا بشرٌ.
باب فضل النظر إليه وتمنِّيه
باب فضل النظر إليه وتمنِّيه:
حدثنا محمد بن رافع: حدثنا عبدالرزاق: أخبرنا معمر، عن همَّام بن مُنَبِّهٍ، قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة ، عن رسول الله . فذكر أحاديث، منها: وقال رسول الله : والذي نفسُ محمدٍ في يده، ليأتينَّ على أحدكم يومٌ ولا يراني، ثم لأن يراني أحبُّ إليه من أهله وماله معهم.
قال أبو إسحاق: المعنى فيه عندي: لأن يراني معهم أحبُّ إليه من أهله وماله، وهو عندي مُقدَّمٌ ومُؤخَّرٌ [13].
يعني: هذا اللفظ بهذا السياق قد لا يكون واضحًا، لكن جاءت رواية سعيد بن منصور مُفسرةً للمقصود بلفظ: ليأتين على أحدكم يومٌ لأن يراني أحبُّ إليه من أن يكون له مثل أهله وماله ثم لا يراني أي: أن رؤية النبي تكون عنده أفضل وأحظى من أهله وماله، هذا هو معنى الحديث.
ومقصود الحديث: حثّ النبي الصحابة على مُلازمة مجلسه ومشاهدته حضرًا وسفرًا؛ للتأدب بآدابه، وتعلم الشرائع وحفظها وتبليغها، وإخبارهم بأنهم سيندمون على ما فرطوا فيه من المُجالسة والمُلازمة.
فهذا حثٌّ من النبي عليه الصلاة والسلام للصحابة؛ لكي يُلازموه ويُجالسوه ويحفظوا أحاديثه ويُبلغوها الأمة.
عبَّر بعض الصحابة عن الأثر والتغير الذي وجدوه بعد وفاة النبي بقولهم: “ما سوَّينا التراب على رسول الله حتى أنكرنا قلوبنا”، يعني: تغيرت أحوالهم وأمورهم بعد وفاة النبي ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان بين ظهرانيهم، فكان إذا عرضت لأحدهم مشكلةٌ أو أراد أن يسأل عن شيءٍ من أمور دينه أو نحو ذلك أتى النبيَّ فأجابه وأرشده، وهذا يجده الإنسان مع إنسانٍ كان يُلازمه ثم فقده فجأةً، فيجد الوحشة والتغير.
باب فضائل عيسى
باب فضائل عيسى :
حدثني حَرْمَلَة بن يحيى: أخبرنا ابن وهبٍ: أخبرني يونس، عن ابن شهابٍ: أن أبا سلمة بن عبدالرحمن أخبره: أن أبا هريرة قال: سمعتُ رسول الله يقول: أنا أولى الناس بابن مريم، الأنبياء أولاد عَلَّاتٍ، وليس بيني وبينه نبيٌّ.
عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام هو آخر الأنبياء قبل نبينا محمدٍ عليه الصلاة والسلام، فليس بينه وبين نبينا محمدٍ نبيٌّ، والنبي وُلد عام الفيل سنة 570م، فيكون 570م من ميلاد المسيح عيسى ابن مريم، فيكون الفارق بين نبينا محمدٍ عليه الصلاة والسلام وبين عيسى خمسمئةٍ وسبعون عامًا، وهذا يدل على أنه لم يكن بين النبي وعيسى نبيٌّ، وهي فترةٌ طويلةٌ: خمسمئةٍ وسبعون عامًا لم يُرسَل للناس نبيٌّ، تُعتبر فترةً طويلةً، وهذا يُبطل قول مَن قال: إنه كان هناك أنبياء. وقول مَن قال: إن خالد بن سنان كان نبيًّا. هذا الحديث يُبطل ذلك؛ ولهذا أخبر الله تعالى أن نبينا بُعث على فترةٍ من الرسل.
قال: أنا أولى الناس بابن مريم، النبي عليه الصلاة والسلام هو أولى الناس بعيسى؛ لأنه لم يكن بينه وبينه نبيٌّ، ولأن الأنبياء متفقون على أصلٍ واحدٍ وهو التوحيد؛ ولهذا لما قدم النبي المدينة ووجد اليهود يصومون عاشوراء قال: نحن أولى بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه [14].
وهنا يقول: أنا أولى الناس بابن مريم؛ لأن الأنبياء متفقون على أصل التوحيد؛ ولهذا قال المُفسرون في قول الله : إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [آل عمران:55].
قالوا: إن المراد بقول الله: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أن المقصود بهم المؤمنون من أمة محمدٍ ؛ لأن دين الإسلام جعله الله تعالى ناسخًا للأديان قبله، كما قال سبحانه: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].
فيكون قوله: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ المقصود بـالَّذِينَ اتَّبَعُوكَ يعني: بعد بعثة محمدٍ أنهم المؤمنون من هذه الأمة.
جميع الأنبياء متفقون في أصل التوحيد
قال: الأنبياء أولاد عَلَّات المقصود بالعَلَّات الضَّرائر، وأولاد العَلَّات هم الإخوة لأبٍ، وفي الرواية الأخرى قال: الأنبياء أبناء عَلَّات [15]، وفي رواية حديث أبي هريرة الأخرى قال: الأنبياء إخوةٌ من عَلَّات، وأمهاتهم شتَّى، ودينهم واحدٌ [16] يعني: كأنه يقول: الأنبياء كأنهم إخوةٌ لأبٍ.
هذه فائدةٌ لغويةٌ: الإخوة الأشقاء يُقال لهم: أولاد أعيان، والإخوة لأبٍ: أولاد عَلَّات، والإخوة لأم: أولاد أَخْيَاف؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: الأنبياء إخوةٌ من عَلَّات يعني: كالإخوة من الأب، أمهاتهم شتَّى، ودينهم واحدٌ، دينهم واحدٌ الذي هو التوحيد، وأمهاتهم شتى، المقصود بذلك الشرائع، يعني: شرائعهم مختلفة، لكنهم متفقون على الدعوة إلى أصل التوحيد: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].
فقوله: أولاد عَلَّات المعنى: أن أصل إيمانهم واحدٌ، وأن شرائعهم مختلفةٌ، فإنهم متفقون في أصل التوحيد، وأما فروع الشرائع فوقع الاختلاف فيها.
جميع الأنبياء متفقون في أصل التوحيد، جميع الأنبياء من نوحٍ فمَن بعده كلهم دعوا إلى التوحيد: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ، وأما الشرائع فمختلفة؛ فالصلاة عندنا نحن المسلمين تختلف عن الصلاة التي كانت -مثلًا- عند قوم موسى ، أو عند الأمم السابقة، فالصلاة عندنا خمس صلواتٍ، وفي الأمم السابقة كانت تختلف؛ فلم تكن عندهم خمس صلواتٍ، يُقال: كانت عندهم صلاتان، فالشرائع إذن مختلفةٌ، لكن الأصل واحدٌ، فالأنبياء جميعًا دعوا إلى التوحيد، فهم متفقون في الأصل، والشرائع مختلفةٌ، فهذا معنى قول النبي : الأنبياء إخوةٌ من عَلَّات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحدٌ.
ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث بعدة رواياتٍ، وهذا هو المقصود به.
كل بني آدم يمسُّه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها
ثم قال المصنف رحمه الله في فضائل عيسى أيضًا:
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عبدالأعلى، عن معمر، عن الزُّهري، عن سعيدٍ، عن أبي هريرة : أن رسول الله قال: ما من مولودٍ يُولَد إلا نَخَسَه الشيطان، فيستهلُّ صارخًا من نَخْسَة الشيطان إلا ابن مريم وأمه، ثم قال أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36] [17].
ثم ساق هذا الحديث أيضًا بلفظ:
يَمَسُّه حين يُولَد، فيستهلُّ صارخًا من مَسَّةِ الشيطان إياه، وفي حديث شعيب: من مسِّ الشيطان [18].
ثم ساقه بلفظ:
كل بني آدم يَمَسُّه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها [19].
ثم ساقه بلفظ:
صياحُ المولود حين يقع نَزْغَةٌ من الشيطان [20].
سبب صياح المولود حينما يخرج من بطن أمه
أخبر النبي أن المولود عندما يُولَد ينخسه الشيطان، وتقع نزغةٌ من الشيطان، وينخسه نخسةً فيصيح المولود، وأن هذا حصل لجميع الناس باستثناء عيسى ابن مريم وأمه؛ وذلك لأن امرأة عمران قالت: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36]، وقد استجاب الله تعالى دعاءها، لكن هل هذا يختص بعيسى أو يشمل جميع الأنبياء؟
قولان لأهل العلم، والأقرب هو اختصاصه بعيسى ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال: إلا ابن مريم وأمه.
وهذه النَّخسة من الشيطان، هذا أمرٌ لا يُعرف إلا عن طريق الوحي، لا يُدركه الناس بتجاربهم وأمورهم الحسية، فالنبي عليه الصلاة والسلام أخبر أن سبب صياح المولود حينما يخرج من بطن أمه هو نَخْسَة الشيطان.
لماذا يفعل الشيطان ذلك؟
الشيطان يفعل ذلك لأنه عدوٌّ للإنسان؛ ولهذا قال القرطبي رحمه الله: “هذا الطعن من الشيطان ابتداء التسليط”، فكأنه من أول ما خرج إلى الدنيا ينخسه، هذا ابتداء التسليط، لكن كيد الشيطان في الوسوسة فقط، وكيد الشيطان ضعيفٌ، والله تعالى قد عصم منه المُخلصين، قال: إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:40].
فهذه النَّخسة من الشيطان؛ لأن الشيطان عدوٌّ للإنسان، فأول ما يخرج إلى الدنيا ينخسه بهذه النخسة؛ فيصيح المولود، وهذا من تقدير الله وتمكينه لهذا الشيطان بفعل ذلك، ولله تعالى الحكمة البالغة في هذا، لكن عيسى ابن مريم وأمه مريم ابنة عمران لم يحصل لهما ذلك؛ لأن امرأة عمران عوَّذت مريم وذُريتها من الشيطان: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36].
ولا تلازم هنا بين نخسة الشيطان ومسألة الصلاح أو عدم الصلاح، فإنه -كما قلنا- يحصل هذا حتى للأنبياء باستثناء عيسى ابن مريم وأمه، وإلا حصلت هذه النخسة حتى للأنبياء، فقد يكون الإنسان صالحًا وتحصل هذه النَّخسة، بل نبيًّا وتحصل هذه النَّخسة، فهذا لا يضر، ولله الحكمة البالغة في تقدير ذلك.
كل إنسانٍ مُوكل به قرينٌ من الجن
جاء في “صحيح مسلم” رحمه الله عن ابن مسعودٍ : أن النبي قال: ما منكم من أحدٍ إلا وقد وُكِّل به قرينه من الجنِّ، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخيرٍ [21]، فالنبي الشيطان الذي معه أسلم فلا يأمره إلا بخيرٍ.
فكل إنسانٍ من بني آدم مُوكل معه شيطانٌ، وهذا الشيطان هو القرين: ما منكم من أحدٍ إلا وُكِّل به قرينه من الجن، كل إنسانٍ معه قرينٌ من الجن، معه شيطانٌ مُتفرغٌ لإضلاله، مهمته إضلال هذا الإنسان، لكن الله من رحمته بعباده أن جعل الذكر حصنًا للإنسان: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِمَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ [الناس:1-4]، ليس له سلطانٌ على الإنسان إلا بالوسوسة فقط، ليس للشيطان طريقٌ على الإنسان إلا بالوسوسة، يُوسوس له، يُزين له المعصية، ويُثبطه عن الطاعة فقط.
الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ أي: الذي ينخنس ويهرب ويكفّ وينقبض إذا ذكر العبدُ ربَّه، فإذا وجدتَ وساوس قل: “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم” تجد أن هذه الوساوس تنقشع عنك تلقائيًّا: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت:36].
هذا الحديث -حديث أن صياح المولود حين يقع نزغةٌ من الشيطان- أنكره الزمخشري والمعتزلة، وقالوا: إن معناه: إن كل مولودٍ يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها.
وقال الزمخشري: “لو كان إبليس يحصل منه ذلك ومُلِّك إبليس على الناس ونخسهم لامتلأت الدنيا صراخًا”.
وهذا عجيبٌ من الزمخشري أن يقول ذلك، يعني: النبي عليه الصلاة والسلام أخبر بهذا، وما قاله عليه الصلاة والسلام وحيٌ.
وأما قوله: “لامتلأت الدنيا صراخًا” هذا غير صحيحٍ، فنحن نرى أن كل مولودٍ يخرج من بطن أمه يصيح، لكن الزمخشري فهم أن الصراخ يستمر، وهذا غير صحيحٍ، فالصراخ يكون فقط عند خروج المولود من بطن أمه.
فهذه المقولة من الزمخشري -عفا الله عنا وعنه- مقولةٌ باطلةٌ أنكرها عليه أهل العلم، وهذا الحديث على ظاهره كما أخبر النبي بأن صياح المولود حين يقع نزغةٌ من الشيطان، لكن الله تعالى عصم منها عيسى ابن مريم وأمه؛ لأن أم مريم -وهي امرأة عمران- عوَّذتها وذُريتها بالله من الشيطان الرجيم: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36].
آخر حديثٍ معنا في فضائل عيسى -وبه نختم- حديث أبي هريرة قال:
قال رسول الله : رأى عيسى ابن مريم رجلًا يسرق، فقال له عيسى: سرقتَ؟ قال: كلَّا، والذي لا إله إلَّا هو. فقال عيسى: آمنتُ بالله، وكذَّبْتُ نفسي [22].
عيسى عليه الصلاة والسلام رأى رجلًا يسرق، فقال: سرقتَ؟ فأنكر وحلف له بالله، قال: كلا، والذي لا إله إلا هو، فقال عيسى: آمنتُ بالله، وكذَّبتُ نفسي؛ وذلك لأن عيسى عليه الصلاة والسلام لما رآه حلف بالله تعالى كذَّب ما ظهر له من ظاهر سرقته، وقال: لعله أخذ هذا المال من وجهٍ له فيه حقٌّ، أو أخذه بإذن صاحبه، أو لم يقصد الغصب أو الاستيلاء، أو لغير ذلك، فلما حلف له بالله أسقط عيسى ظنَّه، وقال: آمنتُ بالله، وكذَّبتُ نفسي.
والنبي يقول: مَن حُلِف له بالله فَلْيَرْضَ [23]، فالأصل أن الإنسان إذا حلف له غيره بالله العظيم أنه يرضى بهذا الحلف إذا كان يثق فيمَن حلف.
فهنا عيسى عليه الصلاة والسلام لما رأى الرجل يسرق قال: سرقتَ؟ قال: كلا، والذي لا إله إلا هو، فقال عيسى: آمنتُ بالله، وكذَّبتُ نفسي.
فإذا حلف لك إنسانٌ بالله تعالى فخذه بظاهره، وقل: لعل هذا الأمر -يعني- يحتمل كذا، ويحتمل كذا، كما حصل من عيسى عليه الصلاة والسلام، فهذا من فضائله عليه الصلاة والسلام.
أخذ بعض العلماء من هذا الحديث فائدةً وهي: دَرْء الحدود بالشبهات، والحدود تُدْرَأ بالشبهات، هذا باتفاق أهل العلم.
وأيضًا أخذوا منه: منع القضاء بالعلم، فإن عيسى عليه الصلاة والسلام قال: آمنتُ بالله، وكذَّبتُ نفسي، يعني: لم يقضِ بعلمه.
واستدلَّ النَّسائي رحمه الله بهذا الحديث على كيفية الاستحلاف؛ بأن مَن أُريد استحلافه فأفضل صيغةٍ أن يقول: والله الذي لا إله إلا هو.
ونكتفي بهذا القدر في التعليق على كتاب “الفضائل” من “صحيح مسلم” حتى نُجيب على ما تيسر من الأسئلة.
الأسئلة
السؤال: ما القدر الواجب على المسلم تعلمه من العلم الشرعي؟
الجواب: هو ما لا يسع المسلم جهله من أمور الدين: ما لا يسع المسلم جهله من أمور التوحيد، وما لا يسع المسلم جهله من أمور الصلاة، وما لا يسع المسلم جهله من الزكاة، ومن الصيام، ومن سائر الواجبات.
السؤال: ما التوجيه لمَن يتساهل بصلاة الجماعة؛ مُتعللًا بالظروف الراهنة؟
الجواب: الذي يتعلل بالظروف الراهنة فلا يصلي مع الجماعة هل يتعلل بالظروف الراهنة أيضًا في أمور دنياه؟!
هل هو مُلازمٌ لبيته؟ لا يخرج من بيته؟
إذا كان كذلك فقد يكون هذا عذرًا، لكن إذا كان لا يتعلل بالظروف الراهنة في أمور دنياه، بل يذهب إلى الأسواق، ويذهب لقضاء حوائجه، فإذا أتت الصلاة في المسجد تعلل بهذه الظروف! فهذا العذر غير مقبولٍ، فلو كان صادقًا في ذلك ما خرج لأمور دنياه، فالناس عادةً يصدقون في أمور دنياهم.
فنقول لهذا الذي لا يصلي مع الجماعة في المسجد: إذا كنت ستبقى في بيتك، لن تخرج من البيت، فهذا عذرٌ مقبولٌ، أما إذا كنت في أمور دنياك تذهب للأسواق، وتذهب لقضاء الحوائج، وتذهب لجميع أمورك الدنيوية، فإذا أتت الصلاة في المسجد قلتَ: إنني معذورٌ بسبب الظروف الحالية! فهذا يدل على أنك غير صادقٍ في ذلك.
السؤال: هل مَن مات بسبب (كورونا) يُعدّ من الشهداء؟
الجواب: يُرجى له ذلك؛ وذلك لأن (كورونا) يُشبه الطاعون، والنبي أخبر أن مَن مات بالطاعون فهو شهيدٌ، فمَن مات إذن بهذا الوباء (كورونا) يُرجى أن يكون شهيدًا كمَن مات بالطاعون.
السؤال: هل الاعتماد على الحساب الفلكي في النفي دون الإثبات يعمّ جميع الأشهر أو شهر رمضان؟
الجواب: يعمّ جميع الأشهر، ومعنى الاعتماد عليه في النفي دون الإثبات يعني: إذا نفى أهل الحساب والفلك رؤية الهلال بعد غروب شمس اليوم التاسع والعشرين بشكلٍ قاطعٍ؛ لأن القمر يغرب قبل الشمس -مثلًا-، فهنا يُؤخذ برأيهم في النفي، لكن في الإثبات إذا قالوا: إن الهلال سيبقى بعد غروب الشمس وقتًا يمكن معه رؤية الهلال، ولم يتقدم بالشهادة أحدٌ؛ فلا يُؤخذ بقولهم في الإثبات.
فهذا معنى قول بعض العلماء: يُؤخذ بالحساب بالنفي دون الإثبات، ومن أشهر مَن قال بذلك ابن السُّبكي.
السؤال: الذكر المُضاعف: “سبحان الله عدد خلقه” هل يُقال: “سبحان الله وبحمده عدد خلقه، سبحان الله وبحمده رضا نفسه، سبحان الله وبحمده زِنَة عرشه”، أم يُقال: “سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزِنَة عرشه”؟
الجواب: الذكر المُضاعف هو الوارد في حديث جويرية رضي الله عنها لما مرَّ النبي بها بعدما صلى صلاة الصبح وهي تُسبح، ثم رجع بعدما أضحى، فقال: ما زلتِ على الحال التي فارقتكِ عليها؟ قالت: نعم، قال: لقد قلتُ بعدك أربع كلماتٍ ثلاث مراتٍ لو وُزنتْ بما قلتِ منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، سبحان الله وبحمده زِنَة عرشه، سبحان الله وبحمده رضا نفسه، سبحان الله وبحمده مِداد كلماته، فهذا يُسميه العلماء: الذكر المُضاعف.
والنبي عليه الصلاة والسلام خرج بعدما صلى صلاة الصبح، ورجع بعدما أضحى، قُرابة ثلاث ساعاتٍ، فمعنى ذلك: أن مَن أتى بالذكر بهذه الصيغة: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، سبحان الله وبحمده زِنَة عرشه، سبحان الله وبحمده رضا نفسه، سبحان الله وبحمده مِداد كلماته ثلاث مراتٍ، فكم بقي يُسبح؟
ثلاث ساعاتٍ.
وهذا فضل الله، وفضل الله يُؤتيه مَن يشاء، وهذا يدل على عظيم ثمرة التَّفقه: أن الإنسان الذي عنده فقهٌ يُحصِّل أجورًا عظيمةً بأعمالٍ يسيرةٍ.
ونكتفي بهذا القدر.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه مسلم: 2358. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 540، ومسلم: 2359. |
^3, ^5, ^6, ^7 | رواه مسلم: 2359. |
^4 | رواه مسلم: 12. |
^8 | رواه مسلم: 2360. |
^9 | رواه مسلم: 2361. |
^10 | رواه مسلم: 2362. |
^11 | رواه مسلم: 2363. |
^12 | رواه البخاري: 1265، ومسلم: 1206. |
^13 | رواه مسلم: 2364. |
^14 | رواه البخاري: 3943، ومسلم: 1130. |
^15, ^16 | رواه مسلم: 2365. |
^17, ^18, ^19 | رواه مسلم: 2366. |
^20 | رواه مسلم: 2367. |
^21 | رواه مسلم: 2814. |
^22 | رواه مسلم: 2368. |
^23 | رواه ابن ماجه: 2101، والبيهقي في “السنن الكبرى”: 20723. |