الرئيسية/دروس علمية/شرح أبواب من صحيح مسلم/(9) باب صفة شعر النبي- من حديث “كان رسول الله أحسن الناس وجهًا..”
|categories

(9) باب صفة شعر النبي- من حديث “كان رسول الله أحسن الناس وجهًا..”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا هو الدرس التاسع في التعليق على كتاب الفضائل من “صحيح مسلم”، في هذا اليوم الثلاثاء، السابع والعشرين من شهر الله المحرم، من عام 1442 للهجرة.

ونسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في دينه، وأن يرزقنا العلم النافع والتوفيق لما يحب ويرضى.

تتمة صفة شَعْر النبي وصفاته وحِلْيته

كنا في الدرس السابق في باب صفة شَعْر النبي وصفاته وحِلْيته، ووقفنا عند مسألةٍ وعدنا ببسطها في بداية هذا الدرس، وهي: ما جاء في حديث البراء ، قال: “ما رأيت من ذي لمَّةٍ أحسن في حُلَّةٍ حمراءَ من رسول الله ، شعره يضرب منكبيه بَعِيدُ ما المنكبين”. يقال: لَمَّة، ولِمَّة.

الشاهد قوله: “حلة حمراء”، و”الحُلَّة”: هي إزارٌ ورداءٌ، إذا قيل: حلة. يعني: إزارًا ورداءً.

قوله: “حمراء”. هذا يدل على جواز لبس الأحمر، وهذه المسألة كثر الكلام عنها في الآونة الأخيرة؛ فأحببت أن أذكرها بشيء من التفصيل، وقد فصلت الكلام فيها في كتابِي: “أحكام اللباس المتعلقة بالصلاة والحج”. 

حكم اللباس الأحمر

فأقول: اللباس الأحمر لا يخلو أن يكون قد صبغ بحُمْرة العُصْفُر أو بغيرها.

فإن كان صَبغه بحمرة العصفر فهذا هو اللباس المعَصْفَر، وهذا قد ورد النهي عنه، ولا يجوز لبسه، وهذا ليس محل البحث عندنا، ليس هو محل البحث.

أما إن كان الصَّبغ بحمرة غير المعَصْفَر، يعني اللباس العادي، لكن لونه أحمر، فهذا اختلف فيه العلماء، ومحل الخلاف إنما هو اللباس الأحمر خالص الحمرة، الذي لم يخالط الحمرةَ لونٌ آخر، وهو ما يعبر عنه بالأحمر المصمت، أما الذي خالط الأحمر غيره فهذا لم يقل أحد بكراهته؛ مثل الشماغ الأحمر الذي يلبسه بعض الناس، هذا لا حرج في لبسه ولا كراهة، ولم يقل أحد من أهل العلم بكراهة لبسه، إنما الكلام في اللباس الأحمر الخالص الحمرة فما حكم لبسه؟

للعلماء في ذلك قولان:

  • القول الأول: كراهة لبس اللباس الأحمر اللون، وهذا هو المشهور من مذهب الحنفية، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة.
  • القول الثاني: جواز لبسه، وهذا القول قد أُثر عن عدد من الصحابة؛ منهم: علي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيدالله، والبراء بن عازب ، وأيضًا من التابعين؛ عن: سعيد والنخعي والشعبي رحمهم الله، وهو مذهب المالكية والشافعية ورواية عند الحنابلة، رحم الله الجميع.

ولم أقف على من قال بالتحريم من المتقدمين، لم أقف على من قال بذلك، وإن كان بعض المتأخرين يقول بهذا، وكلام ابن القيم رحمه الله يميل إلى ذلك، هو قال: قد ورد فيه النهي. لكن لم أره صريحًا.

أما المذاهب الأربعة: فلم أقف على قولٍ بتحريم لبس الأحمر؛ وإنما هي دائرة بين الجواز والكراهة.

من قال بالكراهة استدل بأحاديثَ؛ منها: حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: “مر رجل وعليه ثوبان أحمران فسلَّم على النبي فلم يرد عليه” [1]. وهذا الحديث ضعيف من جهة الإسناد، ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله، ولم ينسبه لأحد؛ فهو حديث ضعيف الإسناد.

الحديث الثاني الذي استدلوا به: حديث رافع بن خَدِيج قال: خرجنا مع رسول الله في سفر، فرأى على رواحلنا وعلى إبلنا أَكسِيَةً فيها خيوطٌ حُمرٌ، فقال: ألا أرى هذه الحُمْرَة قد عَلَتكم. فقمنا سراعًا لقول رسول الله حتى نفر بعض إبلنا فنزعناها عنها [2] أخرجه أبو داود، وهو أيضًا حديث ضعيف لا يصح.

وأيضًا: استدلوا بحديث رافع بن يزيد أن رسول الله قال: إن الشيطان يحب الحمرة فإياكم والحمرة [3] أخرجه الطبراني، وهو أيضًا حديثٌ ضعيفٌ، وهذه الأحاديث كلها ضعيفةٌ.

وأيضًا: استدلوا بحديث البراء  قال: “نهانا رسول الله عن المَيَاثِرِ الحُمْرِ” [4]، وهذا الحديث صحيحٌ، أخرجه البخاري رحمه الله في “صحيحه”.

والمقصود بـ “المياثر الحمر”: المياثر: جمع مِيثَرَة، وهي وِطاء كانت النساء تضعه لأزواجهن، وهو من مراكب العجم، ويكون من الحرير، ولذلك هذا الحديث ليس بصريح الدلالة في النهي عن لبس الأحمر، فهذا الحديث المستدل به أخص من الدعوى؛ إذ غاية ما يدل عليه تحريم أو كراهة المياثر الحمر، ولا يدل على تحريم ما عداها مما كان أحمر اللون.

وتحريم المياثر الحمر أو كراهتها ليس لكونها حُمْرًا بل لكونها من حرير، وأيضًا مع ما في ذلك من التشبه بالأعاجم، أو لما في ذلك من السرف.

فليس إذَنْ هذا الحديث صريحًا في تحريم لبس الأحمر.

أما القائلون بالجواز، واستدلوا بعدم الدليل، قالوا: ليس هناك دليل صريح صحيح يدل على كراهة لبس الأحمر فضلًا عن تحريمه.

وما ذكره أصحاب القول الأول؛ إما أحاديث ضعيفة غير صحيحة، أو صحيحة غير صريحة.

قالوا: بل جاء في “الصحيحين” من حديث البراء قال: “رأيت رسول الله في حلة حمراء ما رأيت شيئًا أحسن منه” [5]، وهذا رواه البخاري ومسلم، وهو صريحٌ في أن النبي لبس الأحمر؛ ولو كان مكروهًا لَمَا لبسه النبي .

اعترض بعضهم بأن الحلة التي لبسها النبي لم تكن حمراء خالصة الحمرة، وإنما كانت بردين يمانيين منسوجين بخطوط حمر، وهذا أشار إليه ابن القيم رحمه الله، وقال: بأن من قال إن الحلة حمراء خالصة الحمرة فهم هذا الحديث فهمًا غير صحيح.

ولكن هذا مَحَلُّ نظرٍ؛ إذ إن الصحابي قد وصف الحلة بأنها حمراء، وهو من أهل اللسان؛ فيجب حمل كلامه على المعنى الحقيقي، وهو اللون الأحمر الخالص الحمرة، وأما القول بأن بعضها أحمر دون بعض، فهذا يحتاج إلى دليل أو قرينة، ولا يكون إلا لمُوجِب، وليس في لغة العرب ما يدل على أن الحلة الحمراء تطلق على الحلة المنسوجة بخطوط حمراء، والواجب حمل مقالة الصحابي على لغة العرب؛ لأنها لسانه ولسان قومه.

والقول الراجح -والله أعلم- هو القول الثاني، وهو: أن لبس الأحمر يجوز مطلقًا من غير كراهة؛ وذلك لقوة أدلته، ولو لم يرد من أدلته إلا حديث البراء: “رأيت النبي في حلة حمراء”.

وأما ما استدل به القائلون بالكراهة، فقد استدلوا إما بأحاديث ضعيفة لا تصح، أو بصحيحة لكنها ليست بصريحة الدلالة في كراهة لبس الأحمر، والأصل في ذلك الحل والإباحة.

وعلى هذا؛ نقول: لا بأس بلبس الأحمر مطلقًا من غير كراهة.

هذا ما يتعلق ببحث هذه المسألة.

نعود بعد ذلك لـ”صحيح مسلم”.

كنا قد وصلنا إلى حديث البراء : “ما رأيت ذي لِمَّةٍ أحسنَ في حُلَّةٍ حمراءَ من رسولِ اللهِ “. تكلمنا عن فوائد وأحكام هذا الحديث.

صفات النبي الخُلُقية

قال بعد ذلك:

93 – (2337) حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ، يَقُولُ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا وَأَحْسَنَهُمْ خَلْقًا، لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الذَّاهِبِ وَلَا بِالْقَصِيرِ».

كانت صفاته عليه الصلاة والسلام الخَلقية كاملة، وزينه الله تعالى أكمل تزيين، فكان من أحسن الناس وجهًا، ومن أحسنهم خَلقًا وخُلقًا، فليس بالطويل الذاهب ولا بالقصير، وهذه أكمل الأحوال، كما مرَّ معنا في حديثٍ سابقٍ: أن النبي كان مربوعًا [6]، وفي لفظٍ: كان رَبْعَةً [7]، يعني ليس بالطويل ولا بالقصير؛ لأن الطويل طولًا زائدًا يعتبر نقصًا، والقصير أيضًا يعتبر نقصًا، والكمال بينهما، وهو أن يكون الإنسان مربوعًا، وكما ذكرنا في الدرس السابق، هذا من حكمة الله ، أن جعل أنبياءه على أكمل خلقة؛ ليكون ذلك أبلغ في إقامة الحجة على أقوامهم، فلو كان مثلًا النبي قصيرًا لعيَّره قومه بالقصر ونَبَزُوه بذلك وسخروا من قِصَره، ونبزوه بالألقاب، ولو كان طويلًا كذلك؛ فمن حكمة الله ​​​​​​​ أن جعل الأنبياء أكمل الناس خِلقة حتى يكون ذلك أبلغ في إقامة الحجة عليهم.

ثم ساق المصنف حديث أنس :

94 – (2338) حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: ” كَيْفَ كَانَ شَعَرُ رَسُولِ اللهِ ؟ قَالَ: كَانَ شَعَرًا رَجِلًا لَيْسَ بِالْجَعْدِ وَلَا السَّبْطِ بَيْنَ أُذُنَيْهِ وَعَاتِقِهِ”.

قال: «كان رَجِلًا ليس بالجعد». يعني: كان عليه الصلاة والسلام يُرَجِّل شعره، وشعرُه ليس بالجعد، والجعد معناه: أن يكون في الشعر الْتِواء وتكسير، ولذلك؛ تقول المرأة: جعدت شعري، شعري مجعَّد، تجعيد الشعر، التجعيد: هو أن يكون فيه التواء وتكسير، والسَّبْط: أن يكون الشعر مسترسِلًا لا التواء فيه، يعني أن يكون ناعمًا، فشعر النبي عليه الصلاة والسلام كان بينهما، لم يكن جعدًا ولم يكن سبطًا، بل بينهما، وهذه أكمل الصفات، وكان بين أذنيه وعاتقه، يعني كما ذكرنا في الدرس السابق، كان عليه الصلاة والسلام أطال شعره على عادة العرب، وقلنا: إن هذه المسألة المرجع فيها لعادة المجتمع فإذا كان عادة المجتمع أن الرجال يطيلون شعورهم فالأفضل أن الإنسان يطيل شعره ولا يخالفهم، وإذا كان من عادتهم أنهم لا يطيلون شعورهم كما هو حال معظم الناس اليوم بالنسبة للرجال فلا يطيل شعره، مثل لبس العمامة، مثل لبس الإزار والرداء، هذا يرجع فيها الإنسان إلى عادة قومه.

ثم ساق المصنف حديث أنس : “كان رسول الله يضرب شعره منكبيه”، وأيضًا حديث أنس من طريق أخرى: 

«كَانَ شَعَرُ رَسُولِ اللهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ».

ثم أيضًا ساق حديث جابر بن سمرة  في بعض الصفات الخلقية للنبي .

97 – (2339) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ – وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى – قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ ضَلِيعَ الْفَمِ، أَشْكَلَ الْعَيْنِ، مَنْهُوسَ الْعَقِبَيْنِ». قَالَ:

يعني القائل: شعبة

قُلْتُ لِسِمَاكٍ: مَا ضَلِيعُ الْفَمِ؟

-يعني: ما معنى ضليع الفم-

قَالَ: «عَظِيمُ الْفَمِ».

-يعني واسع الفم، والعرب تمدح بذلك، فسعة الفم صفة كمال في الإنسان وصفة جمال، أجمل من أن يكون الإنسان صغير الفم، إن كان فمه واسعًا هذه صفة جمال وكمال، بخلاف من كان فمه صغيرًا، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان واسع الفم-

قَالَ قُلْتُ: ومَا أَشْكَلُ الْعَيْنِ؟ قَالَ: «طَوِيلُ شَقِّ الْعَيْنِ».

لما قال جابر بن سمرة عن النبي أنه أشكل العين، فسَّر سماك بن حرب “أشكل العين” بأنه طويل شَقِّ العين، هل هذا وصف كمال؟ هنا العلماء قالوا: إن هذا وهمٌ من سماك رحمه الله، وسماك رحمه الله عنده أوهام.

وقال القاضي عياض رحمه الله: هذا وهم من سماك باتفاق العلماء، وهو غَلَطٌ ظاهرٌ، يعني هذا التفسير الذي هو من سماك، وصوابه ما اتفق عليه العلماء، ونقله أبو عبيد وجميع أصحاب الغريب: أن الشُّكْلَة: حُمْرة في بياض العينين، فالأشكل: هو ما فيه حمرة وبياض مختلط، وهو محمود، هذا هو المقصود بقوله: “أشكل العينين”، يعني عيناه فيها حمرة مع بياض.

أما قول سماك رحمه الله بأنه طويل شق العين، يعني: عينُه طويلةٌ، هذه ليست صفة كمال، ولذلك؛ اتفق العلماء على أن هذا وهمٌ من سماك، وأن هذا ليس صوابًا في تفسير الحديث، وأن الصواب كما ذكرنا: أن الشُّكْلة: حُمْرةٌ في بياض العينين.

 قَالَ: قُلْتُ: ومَا مَنْهُوسُ الْعَقِبِ؟ قَالَ: «قَلِيلُ لَحْمِ الْعَقِبِ».

وهذا صحيح، كان عليه الصلاة والسلام قليل لحم العقب، انظر، الصحابة  وصفوا كل شيء بالنسبة للنبي عليه الصلاة والسلام، كل شيء، حتى هذه الأمور الدقيقة، حتى عقبه، هل عقبه كثير اللحم أو قليل اللحم، عينه، كيف شكل عينه؟ كيف شكل شعره؟ فانظر إلى الصحابة ، نَقَلَة الشريعة، ما تركوا شيئًا إلا نقلوه، نقلوا حتى اضطراب لحية النبي عليه الصلاة والسلام في الصلاة، فما تركوا شيئًا إلا نقلوه، رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.

ولذلك؛ فإن الطعن في الصحابة هو في حقيقة الأمر طعن في الشريعة؛ لأن الصحابة هم نَقَلَة الشريعة؛ فالطعن فيهم طعن في الشريعة.

ثم ساق المصنف -رحمه الله أيضًا- حديث أبي الطفيل .

98 – (2340) حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِاللهِ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: أَرَأَيْتَ رَسُولَ اللهِ قَالَ: «نَعَمْ، كَانَ أَبْيَضَ مَلِيحَ الْوَجْهِ».

سؤال أبي الطفيل: أرأيت رسول الله ؟ سببه: أن أبا الطفيل -واسمه عامر بن واثلة الليثي – كان صغيرًا، فقد ولد في عام أُحد، يعني في السنة الثالثة من الهجرة، ومات النبي عليه الصلاة والسلام وعمره تقريبًا سبع أو ثمان سنوات؛ فلذلك طرح عليه هذا السؤال: هل رأيت النبي عليه الصلاة والسلام؟ قال: نعم. ومن كان عمره سبع أو ثمان، يعني لا شك أنه مميز ويتذكر، فوصف أبو الطفيل النبي بأنه كان أبيض مليح الوجه.

وقوله: «مليح الوجه». يعني حسن الوجه.

وكما يقول بعض العامة إذا أرادوا أن يُعبِّروا عن حسن الوجه، قالوا: فلان مملوح، به ملحة، يعني حسن.

قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ: مَاتَ أَبُو الطُّفَيْلِ سَنَةَ مِائَةٍ، وَكَانَ آخِرَ مَنْ مَاتَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ

الإمام مسلم رحمه الله، يأتي أحيانًا ببعض هذه الفوائد واللطائف، فأتى لنا بهذه الفائدة، قال: “مات أبو الطفيل سنة مائة”. وهذا هو أحد الأقوال، والقول المشهور أنه مات سنة مائة وعشرة، وهو أصح.

قال: “وكان آخر من مات من أصحاب رسول الله “. باتفاق العلماء، آخر من مات من الصحابة: هو أبو الطفيل ، وكان قد عُمِّر، يعني قلنا: إنه ولد عام أُحُدٍ، يعني في السنة الثالثة، وما توفي إلا في سنة مائة وعشرة، معنى ذلك: أنَّ عُمُرَه مائةٌ وسبعٌ، فعمِّر، فهو آخر من مات من الصحابة، يعني عمره أطول حتى من أنسٍ ، فهو آخر من مات من الصحابة، آخر من مات من الصحابة: هو أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي، توفي سنة 110 للهجرة، وهذه فائدة عزيزة ذكرها الإمام مسلم رحمه الله.

أيضًا: ساق الحديث من طريق أخرى:

99 – (2340) حَدَّثَنَا عُبَيْدُاللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُالْأَعْلَى بْنُ عَبْدِالْأَعْلَى، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ، وَمَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ رَجُلٌ رَآهُ غَيْرِي، قَالَ فَقُلْتُ لَهُ: فَكَيْفَ رَأَيْتَهُ؟ قَالَ: «كَانَ أَبْيَضَ مَلِيحًا مُقَصَّدًا».

أيضًا: أبو الطفيل  يصف النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الوصف.

وقوله: “رأيته وما رآه أحد غيري”. يعني: أنني تأملت فيه، وضبطت صفاته، فوَصَفَه بأنه أبيض، وكما ذكرنا فيما سبق، أنه أبيض مشوب بحمرة، أزهر اللون.

«مليحًا»: يعني: حسن الوجه، به مُلْحَةٌ وحُسْنٌ وبَهَاءٌ.

وقوله: «مُقصَّدًا». أي: ليس بنحيفٍ ولا بجَسِيمٍ، بل بينهما، ولا طويلٍ ولا قصيرٍ، بل بينهما، فهو عليه الصلاة والسلام مربوعٌ بين الطويل والقصير، وأيضًا متوسطٌ ليس بالنحيف وليس بالجسيم؛ لأن هذه كلَّها نقصٌ، وكون الإنسان نحيفًا نحافةً زائدةً فهذا نقصٌ، وكونه أيضًا بدينًا بدانةً زائدةً فهذا نقصٌ، والوسط هو الكمال، أيضًا: الطول نقص، والقصر نقص، والوسط: أن يكون مربوعًا، هذا هو الكمال، فكان النبي عليه الصلاة والسلام على أكمل خِلقة.

صفة شَيْبِهِ

29 – بَابُ شَيْبِهِ

انتقل المصنف -بعدما ذكر الأوصاف الخِلقية للنبي عليه الصلاة والسلام- للكلام عن الشيب، هل كان النبي عليه الصلاة والسلام فيه شيب؟ وهل خَضَب؟ وإذا كان خضب، خضب بماذا؟ وكم كان عمره حين مات؟ فساق بسنده عن أنس :

100 – (2341) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ إِدْرِيسَ، قَالَ عَمْرٌو: حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ إِدْرِيسَ الْأَوْدِيُّ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: هَلْ خَضَبَ رَسُولُ اللهِ ؟ قَالَ: «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَأَى مِنَ الشَّيْبِ إِلَّا» -قَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ: كَأَنَّهُ يُقَلِّلُهُ- وَقَدْ خَضَبَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ”.

ثم ساق المصنف رحمه الله حديث أنس بعدة روايات، ساقه من طريق أخرى:

عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ خَضَبَ؟ فَقَالَ: «لَمْ يَبْلُغِ الْخِضَابَ، وكَانَ فِي لِحْيَتِهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ». قَالَ: قُلْتُ لَهُ: أَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَخْضِبُ؟ قَالَ فَقَالَ: نَعَمْ، بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ”.

فأنس هنا أثبت الشيب في النبي عليه الصلاة والسلام، ووصفه بأنه كان قليلًا، وأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يخضِب؛ ولهذا قال: «لم يبلغ الخضاب»، وأن أبا بكر كان يخضب بالحناء والكتم [8]، وهذه سنناقشها، يعني: مقولة أنس هذه خالفه صحابة آخرون، فأثبتوا أن النبي عليه الصلاة والسلام خضب، فنحن أولًا سنسوق رواية أنس ، ثم نذكر الرواية الأخرى، ونبين الراجح؛ هل خضب النبي عليه الصلاة والسلام بالفعل، أو لم يخضب؟

أما كون أبي بكر قد خضب؛ فهذا ثابت في “الصحيحين” في هذه الرواية وفي غيرها، أنه خضب بالحناء والكتم، وكذلك عمر خضب بالحناء والكتم، والحناء معروف، وأما الكتم: فنَبْتٌ فيه حُمْرةٌ، يخرج الصبغ منه أسود يميل إلى الحمرة، فهو إذَنْ نبْتٌ إذا صبغ به الشعر خرج اللون أسود مائلًا للحمرة، وإذا وضع معه الحناء يخرج اللون ما بين السواد والحمرة، فأبو بكر وعمر رضي الله عنهما، قد خضبا بالحناء والكتم، أما النبي عليه الصلاة والسلام فهنا أنس ينفي ويقول: كان في لحيته شعرات بيض، وكانت قليلة.

أيضًا: ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث من طريق أخرى:

102 – (2341) وحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: أَخَضَبَ رَسُولُ اللهِ ؟ قَالَ: «إِنَّهُ لَمْ يَرَ مِنَ الشَّيْبِ إِلَّا قَلِيلًا».

ثم ساقه من طريق أخرى:

قَالَ: سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ خِضَابِ النَّبِيِّ ؟ فَقَالَ: «لَوْ شِئْتُ أَنْ أَعُدَّ شَمَطَاتٍ كُنَّ فِي رَأْسِهِ فَعَلْتُ». وَقَالَ: «لَمْ يَخْتَضِبْ، وَقَدِ اخْتَضَبَ أَبُو بَكْرٍ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَاخْتَضَبَ عُمَرُ بِالْحِنَّاءِ بَحْتًا».

«بحتًا»: يعني: خالصًا، وعمر  ورد عنه هذا وهذا، ورد عنه أنه اختضب بالحناء فقط، وورد عنه أنه أيضًا اختضب بالحناء والكتم.

ثم أيضًا مسلم رحمه الله، أطال في الروايات، ساق أيضًا حديث أنس من طريق أخرى:

عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: «يُكْرَهُ أَنْ يَنْتِفَ الرَّجُلُ الشَّعْرَةَ الْبَيْضَاءَ مِنْ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، قَالَ: وَلَمْ يَخْتَضِبْ رَسُولُ اللهِ ، إِنَّمَا كَانَ الْبَيَاضُ فِي عَنْفَقَتِهِ وَفِي الصُّدْغَيْنِ وَفِي الرَّأْسِ نَبْذٌ».

«وفي الرأس نبذ»: يعني: شعرات متفرقة، هذا هو المقصود بقوله: «وفي الرأس نبذ».

ثم ساق أيضًا الحديث من طريق أخرى:

عن أبي إياسٍ، عَنْ أَنَسٍ: “أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ شَيْبِ النَّبِيِّ فَقَالَ: مَا شَانَهُ اللهُ بِبَيْضَاءَ”.

يعني: نَفَى الشيب.
ثم ساقه:

عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ، «هَذِهِ مِنْهُ بَيْضَاءَ». وَوَضَعَ زُهَيْرٌ بَعْضَ أَصَابِعِهِ عَلَى عَنْفَقَتِهِ، قِيلَ لَهُ: مِثْلُ مَنْ أَنْتَ يَوْمَئِذٍ؟ فَقَالَ: «أَبْرِي النَّبْلَ وَأَرِيشُهَا».

يعني: أنه كان شابًّا، فأثبت أبو جُحيفة الشيب في النبي عليه الصلاة والسلام.

وساق المصنف رحمه الله حديث أبي جحيفة أيضًا من طريق أخرى:

قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ أَبْيَضَ قَدْ شَابَ، كَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يُشْبِهُهُ».

وساقه من طريق أخرى:

بِهَذَا وَلَمْ يَقُولُوا: أَبْيَضَ قَدْ شَابَ.

وأيضًا: ساق المصنف رحمه الله الحديث عن جابر بن سمرة أنه:

سُئِلَ عَنْ شَيْبِ النَّبِيِّ فَقَالَ: «كَانَ إِذَا دَهَنَ رَأْسَهُ لَمْ يُرَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِذَا لَمْ يَدْهُنْ رُئِيَ مِنْهُ».

يعني: رئي منه الشيب.

وساق المصنف أيضًا حديثًا: 

عَنْ سِمَاكٍ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ، يَقُولُ: ” كَانَ رَسُولُ اللهِ قَدْ شَمِطَ مُقَدَّمُ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، وَكَانَ إِذَا ادَّهَنَ لَمْ يَتَبَيَّنْ، وَإِذَا شَعِثَ رَأْسُهُ تَبَيَّنَ.

يعني: كان فيه شيب، لكن إذا دهن رأسه لم يتبين الشيب، وإذا شَعِث -إذا لم يَدهُن رأسه- تبيَّن.

صفة لحيته

 وَكَانَ كَثِيرَ شَعْرِ اللِّحْيَةِ.

كان عليه الصلاة والسلام كَثَّ اللِّحية.

 فَقَالَ رَجُلٌ: وَجْهُهُ مِثْلُ السَّيْفِ؟ قَالَ: لَا، بَلْ كَانَ مِثْلَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَكَانَ مُسْتَدِيرًا، وَرَأَيْتُ الْخَاتَمَ عِنْدَ كَتِفِهِ..

سنتكلم عن الخاتم في الباب الآتي.

هل خضب النبي شعره؟

طيب، الآن أنس  نفى الخضاب، وقال: إن الشيب في النبي عليه الصلاة والسلام كان قليلًا، أبو جحيفة أثبت الشيب في النبي عليه الصلاة والسلام.

الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: قد شهد به غير أنس  عن النبي أنه خضب، قال: وليس من شهد بمنزلة من لم يشهد، فأحمد رحمه الله أثبَتَ خضاب النبي ومعه جماعة من المحدثين، وأما مالك رحمه الله فقد أنكره، مالك رحمه الله أنكر خضاب النبي عليه الصلاة والسلام، وأما أحمد رحمه لله فأثبته.

جاء في “صحيح البخاري” رحمه الله، عن أم سلمة رضي الله عنها، أنها أخرجت لهم شعرات من شعر النبي حُمْرًا مخضوبةً [9]؛ لأن أم سلمة رضي الله عنها كان عندها جُلْجُلٌ من فضة [10] فيه شعرات من شعر النبي عليه الصلاة والسلام، فأخرجت هذه الشعرات فرآها من رآها مخضوبة، ولم يَرَوْها بيضاء ولا سوداء؛ إنما مخضوبة.

وابن القيم رحمه الله في “زاد المعاد” نسب هذا الحديث للبخاري، وقال: “مخضوبة بالحناء والكتم”. وراجعتُ صحيح البخاري فلم أجد هذه الزيادة؛ وإنما لفظ البخاري: “أخرجت لهم شعرات من شعر رسول الله حُمْرًا مخضوبةً”، ولم أجد زيادة: «بالحناء والكتم»، فيظهر أنها وهم منه رحمه الله، وهو معذور في هذا؛ لأنه صنَّف كتابه في السَّفَر، فلو كانت هذه محفوظة، لو كانت في “صحيح البخاري” لحسمت الخلاف في هذه المسألة، إذا كان ذلك بالحناء والكتم، لكن قوله: “مخضوبة”. أيضا تُقرِّب المعنى.

جاء في مسند الإمام أحمد رحمه الله، أن النبي لما حَلَق رأسه في حجة الوداع عند المنحر، قسم منه على رجال، كان الصحابة يأخذون شعر النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا هو مخضوب بالحناء والكَتَم [11]، وهذا أخرجه أحمد بسند صحيح.

فإذَنْ، عندنا الآن رواية أم سلمة رضي الله عنها، أن الشعرات التي في الجُلْجُل من الفضة مخضوبة، وقلنا: بالحناء والكتم لم ترد في رواية البخاري [12].

لكن رواية أحمد رحمه الله في شعر النبي عليه الصلاة والسلام الذي اقتسمه عدد من الصحابة مخضوب بالحناء والكتم، فكون النبي عليه الصلاة والسلام خضب هذا ثابت.

وأما إنكارُ أنسٍ له فلم يره؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يدهن شعره، وكان يخضب أيضًا بالحناء والكتم، ومن خضب بالحناء والكتم يميل للحمرة، أسود مع أحمر قد لا يتبين الخضاب.

النووي رحمه الله في “شرحه على مسلم” لما ذكر الخلاف قال: المختار أنه صبغ في وقت، وتركه في معظم الأوقات، فأخبر كل بما رأى وهو صادق.

فالنووي رحمه الله يقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام صبغ وترك الصبغ، فأنسٌ  حدَّث بما رآه من أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن قد خضب، وغيرُه حدَّث بما رآه أنه عليه الصلاة والسلام قد خضَب، وقول النووي رحمه الله قول مُتَّجِهٌ، لكن الأقرب -والله أعلم- أنه عليه الصلاة والسلام كان يخضب بالحناء والكتم، وأن هذا الخضاب قد لا يتضح بسبب قلة الشيب في النبي عليه الصلاة والسلام، وأيضًا بسبب أن الحناء والكتم يجعل اللون ما بين الأسود والأحمر.

ومما يؤيد هذا: أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قد خضبا بالحناء والكتم، كما قلنا هذا ثابت عنهم في “الصحيحين”[13]، فلو كان عليه الصلاة والسلام لم يختضب قط لما فعلاه؛ لأنهما حريصان على اتباعه، والاقتداء به، فكون أبي بكر وعمر رضي الله عنهما يخضبان بالحناء والكتم؛ هذا يدل على أنهما قد اتبعا النبي في ذلك.

وعلى هذا؛ فالأقرب: أن النبي عليه الصلاة والسلام وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كل قد خضبوا بالحناء والكتم، هذا هو الأقرب في هذه المسألة.

هل الأفضل الخضاب أو عدمه؟

تأتينا مسألة أخرى، وهي: هل الأفضل الخضاب، أو الأفضل عدم الخضاب، وأن يترك الشعر أبيض؟

نقول: الأفضل هو الخضاب، بل ورد الأمر به في قول النبي عليه الصلاة والسلام: إن اليهود والنصارى لا يخضبون فخالفوهم [14] متفق عليه، وهذا أمر، وأقل ما يُفيده الأمر الاستحباب.

وقد سألتُ هذا السؤال شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله: أيهما أفضل للرجل؛ الخضاب، أو أن يبقي شعره أبيض بدون خضاب؟ قال: السُّنة الخضاب.

والإمام أحمد رحمه الله يقول: إني لأرى الرجل قد خضب شعر رأسه فأفرحُ بذلك؛ لأنه أحيا السُّنة.

فالخضاب إذا كان بغير الأسود فهذا سُنة، وهو أفضل من ترك الشعر بدون خضاب.

حكم الخضاب بالسواد

أما الخضاب بالأسود؛ فهذه المسألة اختلف فيها العلماء على ثلاثة أقوال:

  • القول الأول: الكراهة، وهذا هو الصحيح من مذهب الحنابلة.
  • والقول الثاني: التحريم .
  • والقول الثالث: الإباحة.

وسبب الخلاف في المسألة: راجع للخلاف في ثبوت النهي عن الخضاب بالأسود، وقد ورد في ذلك قصة أبي قحافة  والد أبي بكر الصديق ر لما أُتي به ورأسه كالثُّغَامَة بيضاءُ، فقال النبي : غيروا شعر هذا رواه مسلم بهذه الرواية، ثم ساق الإمام مسلم رحمه الله هذا الحديث برواية فيها زيادة: وجَنِّبُوه السواد [15]، وزيادة: وجنبوه السواد. اختلف في ثبوتها، والأقرب -والله أعلم- أنها مدرجة، وأنها ليست ثابتة؛ ومما يدل لذلك: أن أبا الزبير، راوي هذا الحديث عن جابر  سئل: أسمعته يقول: وجنبوه السواد؟ قال: لا.

ثم إن الإمام مسلم رحمه الله يورد الرواية الصحيحة، ويورد بعدها الرواية الضعيفة للتنبيه على ضعفها، كما أشار إلى ذلك في مقدمته، فكأنه أورد الرواية بزيادة: وجنبوه السواد؛ للتنبيه على ضعفها، كما أورد مثلًا حديث: ولا تخمروا رأسه [16]. أتى بالرواية الصحيحة، ثم ساق بعد ذلك الحديث بزيادة: ولا وجهه [17] للتنبيه على ضعفها.

فعلى هذا؛ تكون زيادة: «وجنبوه السواد». غير محفوظة.

وورد في ذلك: حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي يقول: يكون في آخر الزمان قوم يخضبون بهذا السواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة [18] رواه أحمد، لكن هذا الحديث ضعيفٌ أيضًا، لا يصح ولا يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام، بل إن ابن الجوزي عدَّه في الموضوعات.

وعلى هذا؛ فالقول الراجح: أنه لا بأس بالخضاب بالأسود، الصبغ بالأسود، لا بأس به.

وحتى القول بالكراهة يحتاج إلى دليل، وليس هناك دليل ظاهر، إذا قلنا إنه لم يثبت في ذلك نهي؛ فالأقرب الجواز من غير كراهة.

ومما يدل لهذا: ما ذكره ابن القيم رحمه الله في “زاد المعاد” عن تسعة من أصحاب النبي أنهم خضبوا بالسواد، ومنهم الحسين رحمه الله، في صحيح البخاري، ولا شك أن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام لو كان الخضاب بالسواد مكروهًا -فضلًا عن أن يكون محرمًا- لكانوا أبعد الناس عنه.

ولا يقال: إن هذا اجتهاد، ولعله لم يبلغهم النهي؛ لأن الخضاب بالسواد يكون في اللحية هذا أمر ظاهر، والصحابة من أعظم الناس نصحًا وقيامًا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 وعلى هذا؛ فالأقرب -والله أعلم- هو القول بالجواز، أنه يجوز الخضاب بالسواد.

ولو أراد المسلم أن يحتاط فخلط الصبغ الأسود بحناء مثلًا ونحوه، أو أنه كان خضابه بالبني مثلًا لكان هذا فيه خروج من الخلاف، وفيه احتياط.

إذَنْ، هذا هو تحقيق القول في كون النبي عليه الصلاة والسلام خضب أم لم يخضب، وأيضًا في القول الراجح في حكم الخضاب بالسواد.

خاتم النُّبُوُّة

قال: 30 – بَابُ إِثْبَاتِ خَاتَمِ النُّبُوَّةِ، وَصِفَتِهِ، وَمَحَلِّهِ مِنْ جَسَدِهِ

109 – (2344) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عن عُبَيْدُاللهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ سِمَاكٍ، أَنَّهُ سَمِعَ جابرَ بْنَ سَمُرَةَ، يَقُولُ: “كَانَ رَسُولُ اللهِ قَدْ شَمِطَ مُقَدَّمُ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، وَكَانَ إِذَا ادَّهَنَ لَمْ يَتَبَيَّنْ، وَإِذَا شَعِثَ رَأْسُهُ تَبَيَّنَ.

يعني: كان الشيب أحيانًا يتبين، وأحيانًا لا يتبين كما بيناه.

وَكَانَ كَثِيرَ شَعْرِ اللِّحْيَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ: وَجْهُهُ مِثْلُ السَّيْفِ؟ قَالَ: لَا، بَلْ كَانَ مِثْلَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَكَانَ مُسْتَدِيرًا، وَرَأَيْتُ الْخَاتَمَ –يعني خاتم النبوة- عِنْدَ كَتِفِهِ مِثْلَ بَيْضَةِ الْحَمَامَةِ، يُشْبِهُ جَسَدَهُ”.

وأيضًا ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث:

عن جابرِ بنِ سمُرَةَ قَالَ: «رَأَيْتُ خَاتَمًا فِي ظَهْرِ رَسُولِ اللهِ ، كَأَنَّهُ بَيْضَةُ حَمَامٍ».

وساق أيضًا المصنف رحمه الله هذا الحديث: قال:

عن السائبِ بنِ يزيدَ قال: ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَى رَسُولِ اللهِ ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَجِعٌ، «فَمَسَحَ رسول الله وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ قمت فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ، ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ زِرِّ الْحَجَلَةِ».

وهذه الأحاديث تُبيِّن خاتم النبوة، خاتم النبوة كان موجودًا في النبي عليه الصلاة والسلام، وكان كما وصفه جابر بن سمرة ، مثل بيضة الحمامة بين كتفيه، ووصفه أيضًا السائب بن يزيد بأنه مثل زِرِّ الحَجَلَة.

والحَجَلَة: هي بيت كالقبة لها أزرارٌ وعُرًى، وقيل: إن الحجلة: الطائر المعروف، الحَجَل، وزِرُّها بيضتها، لكن الأشهر عند العلماء هو المعنى الأول.

وجاء في “صحيح البخاري” رحمه الله: كانت بضعة ناشزة، يعني مرتفعة من جسده.

وساق المصنف رحمه الله حديث عبدالله بن سَرْجِسَ قال:

رَأَيْتُ النَّبِيَّ وَأَكَلْتُ مَعَهُ خُبْزًا وَلَحْمًا. أَوْ قَالَ: ثَرِيدًا. قَالَ فَقُلْتُ لَهُ: أَسْتَغْفَرَ لَكَ النَّبِيُّ ؟ –يعني قال: اللهم اغفر له-  قَالَ: نَعَمْ، وَلَكَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ[محمد: 19]. قَالَ: ثُمَّ دُرْتُ خَلْفَهُ، فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، عِنْدَ نَاغِضِ كَتِفِهِ الْيُسْرَى.

“عند ناغض”: الناغض: هو أعلى الكتف.

“عند ناغض كتفه اليسرى” يعني: في هذا المكان.

 جُمْعًا عَلَيْهِ.

“جُمْعًا” يعني: كجمع الكف، وهو صورته بعد أن تجمع الأصابع، يعني هكذا.

عليه خِيلَانٌ.

“خيلان”، جمع خالٍ: وهو الشامة في الجسد، يسميها العامة حبة خال، يعني: مثل حبة الخال، ولكن حبة الخال كبيرة.

 كَأَمْثَالِ الثَّآلِيلِ.

فهذه هي صفة خاتم النبوة في النبي عليه الصلاة والسلام: أنه بين كتفيه مثل حبة الخال الكبيرة، ومثل بيضة الحمامة، ومثل زِرِّ الحِجَال في هذا المكان، فهذا آية من آيات النبي عليه الصلاة والسلام، وهو خاتم النبوة.

قال القاضي عياض رحمه الله: هذا الخاتم هو أثر شق الملكين بين كتفيه؛ لأن الملكين شقا صدره واستخرجا قلبه وغسلاه وملآه حكمة وعلمًا، وضعَّف النووي هذا القول، قال: وهذا الذي قاله القاضي عياض رحمه الله، ضعيف بل باطل؛ لأن شق الملكين إنما كان في صدره وبطنه، كلام النووي رحمه الله متجه، لا علاقة لهذا الخاتم بشق الملكين؛ فشق الملكين في الصدر والبطن، ما له علاقة بهذا الخاتم.

فهذا الخاتم آية من آيات النبي عليه الصلاة والسلام، جعلها الله دلالة عليه، يسمى خاتم النبوة، هو مثل حبة الخال الكبيرة، ومثل بيضة الحمامة بين كتفيه، يعني آية من آيات النبي عليه الصلاة والسلام.

عُمُر النبي

باب قدر عُمُرِه وإقامتِه بمكة.

ذكر المصنف رحمه الله ثلاث روايات: 

الرواية الأولى: عن أنس قال:

«كَانَ رَسُولُ اللهِ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ، وَلَا بِالْقَصِيرِ، وَلَيْسَ بِالْأَبْيَضِ الْأَمْهَقِ، وَلَا بِالْآدَمِ، وَلَا بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ، وَلَا بِالسَّبِطِ، بَعَثَهُ اللهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ، وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ، وَتَوَفَّاهُ اللهُ عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً، وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ».

الكلام طبعًا عن الشيب تكلمنا عنه بالتفصيل، وقلنا: الصواب أنه عليه الصلاة والسلام كان فيه شيب، وأنه قد خضب بالحناء والكَتَم.

أما قوله: «ليس بالطويل البائن ولا بالقصير». هذا تكلمنا عنه، وقلنا: إنه عليه الصلاة والسلام كان مربوعًا وسطًا.

«وليس بالأبيض الأَمْهَق» يعني: ليس شديد البياض؛ لأن هذا غير مقبول، شديد البياض.

«ولا بالآدم» يعني: الأسود الأسمر، كان عليه الصلاة والسلام بينهما، يعني أبيض أزهر اللون، لكن ليس شديد البياض، وليس أيضًا شديد السمرة.

«وَلَا بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ، وَلَا بِالسَّبِطِ»، هذه تكلَّمنا عنها، قلنا: إن شعره بينهما بين الجعد والسبط.

قال: «بعثه الله على رأس أربعين سنة». الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يبعثون على رأس الأربعين، إذا أتموا أربعين سنة؛ لأن أربعين سنة، هي سن الكمال والنضج البشري، فالإنسان قبل الأربعين لم ينضج النضج التام، إنما يصل إلى النضج والكمال عند الأربعين، وأما قبل الأربعين فيكون منه حماس، ويكون منه اجتهادات، ويكون منه أشياء، تتغير آراؤه فيما بعد، وربما لا يقبلها، وربما يعيب نفسه فيما بعد على هذه التصرفات، لكن إذا بلغ سن الأربعين بلغ سن الكمال والنضج البشري، ولهذا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يبعثون على هذه السن، سن الأربعين.

وقول أنس : «أقام بمكة عشر سنين، وبالمدينة عشر سنين»، بالمدينة عشرًا صحيح، أما مكة عشرًا، خالفه في ذلك صحابة آخرون، أنه أقام بمكة ثلاث عشرة سنة.

ثم ساق المصنف رحمه الله أيضًا حديث أنس  من عدة طرق، وقال: 

«قُبِضَ رَسُولُ اللهِ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَأَبُو بَكْرٍ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَعُمَرُ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ».

هذا هو عمر النبي عليه الصلاة والسلام: ثلاث وستون سنة، وسبحان الله! وافق عُمُرَ النبي عُمُر أبي بكر الصديق وعُمُر عُمَر رضي الله عنهما، النبي عليه الصلاة والسلام وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما، كانت أعمارهم ثلاثًا وستين، وقال عليه الصلاة والسلام: أعمارُ أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك [19]. أي: أن متوسط أعمار هذه الأمة ما بين الستين إلى السبعين.

ثم ساق المصنف رحمه الله حديث عائشة رضي الله عنها:

«تُوُفِّيَ النبي وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً».

مدة إقامة النبي بمكة بعد البعثة

ثم ساق حديث ابن عباس رضي الله عنهما: 

قَالَ: قُلْتُ لِعُرْوَةَ: “كَمْ كَانَ النَّبِيُّ بِمَكَّةَ؟ قَالَ: عَشْرًا. قَالَ: قُلْتُ: فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: ثَلَاثَ عَشْرَةَ “.

وساق المصنف رحمه الله من طريق أخرى:

قال عروة: فَغَفَّرَهُ -يعني قال: غفر الله له- إِنَّمَا َأخَذَهُ مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ. يعني: قول الشاعر أبي قيس، صرمة بن أبي أنسٍ :

ثَوَى في قريشٍ بِضْعَ عَشْرَةَ حِجَّةً …………………..

ولكن الصواب: هو قول ابن عباس رضي الله عنهما، يعني عروة رحمه الله قال عن ابن عباس: غفر الله له؛ وأنه قد وَهِم، وأن النبي عليه الصلاة والسلام إنما قام في مكة عشر سنين، ونحن نقول: غفر الله لعروة؛ وهم في هذا، والصواب: ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما من أن النبي إنما أقام بمكة ثلاث عشرة سنة، وليس عشر سنين.

ثم أيضًا ساق هذا الحديث:

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ، «مَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَتُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ».

ثم ساقه من طريق أخرى: أنه مكث بمكة ثلاث عشرة سنةً يُوحَى إليه، وبالمدينة عشرًا، ومات وهو ابن ثلاثٍ وستين.

ثم أيضًا ساق هذا الحديث:

عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ عَبْدِاللهِ بْنِ عُتْبَةَ، فَذَكَرُوا سِنَّ رَسُولِ اللهِ ، فَقَالَ: بَعْضُ الْقَوْمِ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَكْبَرَ مِنْ رَسُولِ اللهِ . قَالَ عَبْدُاللهِ بنُ مسعودٍ: «قُبِضَ رَسُولُ اللهِ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَمَاتَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَقُتِلَ عُمَرُ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ».

ثم أيضًا ساق رحمه الله هذا الحديث:

عَنْ جَرِيرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ، يَخْطُبُ فَقَالَ: «مَاتَ رَسُولُ اللهِ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ». قال معاوية: «وَأَنَا ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ» يعني أنا متوقع موافقتهم.

ثم ساق رحمه الله هذا الحديث أيضًا:

عَنْ عَمَّارٍ، مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ: كَمْ أَتَى لِرَسُولِ اللهِ يَوْمَ مَاتَ؟ فَقَالَ: مَا كُنْتُ أَحْسِبُ مِثْلَكَ مِنْ قَوْمِهِ يَخْفَى عَلَيْهِ ذَاكَ. قَالَ قُلْتُ: إِنِّي قَدْ سَأَلْتُ النَّاسَ فَاخْتَلَفُوا عَلَيَّ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَعْلَمَ قَوْلَكَ فِيهِ. قَالَ: أَتَحْسُبُ؟ قَالَ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «أَمْسِكْ أَرْبَعِينَ بُعِثَ لَهَا، خَمْسَ عَشْرَةَ بِمَكَّةَ يَأْمَنُ وَيَخَافُ، وَعَشْرَ مِنْ مُهَاجَرِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ».

ثم أيضًا ساق رحمه الله هذا الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما:

أَنَّ رَسُولَ اللهِ ، «تُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ».

وساقه من رواية أخرى:

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «أَقَامَ رَسُولُ اللهِ بِمَكَّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، يَسْمَعُ الصَّوْتَ وَيَرَى الضَّوْءَ –يسمع الصوت، يعني: صوت الهاتف من الملائكة، ويرى الضوء، يعني: نور الملائكة– سَبْعَ سِنِينَ، وَلَا يَرَى شَيْئًا، وَثَمَانَ سِنِينَ يُوحَى إِلَيْهِ، وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْرًا».

ذكر الإمام مسلم رحمه الله طُرُقَ هذه الأحاديث وجَمَعَها، وفيها اختلاف، وهذا الاختلاف كما ذكرنا يرجع إلى ثلاث روايات:

روايةٌ: أنه توفي وهو ابن ستين.

وروايةٌ: توفي وأنه ابن خمس وستين.

وروايةٌ: أنه توفي وهو ابن ثلاث وستين.

وأصح هذه الروايات: أنه توفي وهو ابن ثلاث وستين، عمره ثلاث وستون سنة، وهذا هو الذي عليه أكثر الروايات، وهو الذي نقله أكثر الصحابة.

فأصح الروايات أن النبي عليه الصلاة والسلام توفي وعمره ثلاث وستون.

تأولوا رواية أنسٍ : ستين. قالوا: إنه اقتصر فيها على العقود، وترك الكسر، وهذا معروف عند العرب، يعني إذا كان واحدًا وستين، يقول: ستين. اثنين وستين: ستين. ثلاثًا وستين: ستين. يحذف الكسر، وأما الخمس والستون، أيضًا قالوا: إنها متأوَّلة؛ لأن العرب أيضًا أحيانًا تحذف الكسر.

وعلى كل حال؛ فالصواب: أن النبي توفي وعمره ثلاث وستون.

وأما إقامته بمكة: فالصحيح: أنها ثلاث عشرة سنة، وإقامته بالمدينة عشر سنين، أي إنه بقي في البعثة والرسالة ثلاثًا وعشرين سنة، ومع ذلك غيَّر وجه التاريخ، انظر إلى بركة عمر النبي عليه الصلاة والسلام، فقط بقي ثلاثًا وعشرين سنة في البعثة والرسالة، ومع ذلك انظر إلى عظيم بركته، وإلى عظيم أثره عليه الصلاة والسلام، ثلاث وعشرون سنة فقط، هي مدة بعثته ورسالته، فما أعظم بركة وقت النبي ! لا شك أن الله تعالى بارك في عمره، وبارك في وقته، وإلا، فثلاث وعشرون سنة هي في مقياسنا تعتبر قصيرة، لكن الله جعلها في وقتها بركة عظيمة، وجعل في عمره بركة عظيمة.

وما توفي إلا وقد أكمل الله به الدين، وأتم به النعمة، وكما يقول أبو ذر : ما توفي رسول الله وطائر يطير بجناحيه إلا وقد ذكر لنا منه علمًا.

ونقف عند (باب في أسمائه )، نفتتح به الدرس القادم إن شاء الله تعالى.

وأما الآن فنجيب عما تيسر من الأسئلة.

الأسئلة والأجوبة

كم مدة الجفاف الذي يُعتبر به طهارة المرأة؟

السؤال: من كان علامة طهرها الجفاف، كم مدة الجفاف الذي إذا استمر يعتبر طهرًا؟

الجواب: أرجح ما قيل في هذه المسألة: أن مدة الجفاف يوم وليلة، فإذا حصل الجفاف من المرأة يومًا وليلة فأكثر، فإن هذا يعتبر طهرًا، وعلامة الطهر من الحيض تكون بأحد أمرين:

الأمر الأول: بالقَصَّة البيضاء: وهو سائلٌ أبيضُ تعرفه النساء، لكن هذه القَصَّة البيضاء لا تخرج من جميع النساء؛ وإنما من بعضهن، فالتي لا تخرج منها القصة البيضاء، أو أنها تضطرب أو تتأخر كثيرًا، تنتقل إلى العلامة الثانية: وهي الجفاف، يوم وليلة فأكثر، فإذا حصل الجفاف وانقطع الدم من المرأة يومًا وليلة فأكثر، فهذا علامة على طهرها.

حكم الدعاء ب «اللهم اجعله هاديًا مهديًّا»

السؤال: هل يجوز الدعاء: «اللهم اجعله هاديًا مهديًّا»؟

الجواب: نعم، هذا دعا به النبي لبعض الصحابة، قال: اللهم اجعله هاديًا مهديًا [20]. هذا من الأدعية العظيمة.

حكم صلاة تحية المسجد قبل غروب الشمس

السؤال: دخلت المسجد قبل أذان المغرب بعشر دقائق تقريبًا، هل أصلي تحية المسجد أو أجلس؟

الجواب: قبل غروب الشمس بعشر دقائق، هذا وقت النهي الشديد المغلظ، والخلاف في المسألة خلاف قوي، فإن أمكن أن تخرج من الخلاف وتحتاط ولا تجلس في المسجد في هذا الوقت، فهذا هو الأكمل والأفضل، فإن أمكن مثلًا أن تبقى قائمًا تنتظر هذا الوقت خاصة أنه وقت قصير، فهذا هو الأكمل والأفضل.

أما إذا لم يمكنك ذلك، وأتيت بتحية المسجد، فأرجو ألا يكون عليك حرج؛ لأنك لم تتحَرَّ الصلاة في هذا الوقت، والمنهي عنه هو التَّحَرِّي ولهذا؛ جاء في بعض الروايات: لا تَتَحَرَّوا أن تصلوا عند طلوع الشمس ولا عند غروبها [21].

لماذا لم يرد عن النبي الاستعاذة من الخوف؟

السؤال: لماذا لم يرد عن النبي الاستعاذة من الخوف، وقد استعاذ من الهمِّ والحزن والعجز والكسل؟

الجواب: الخوف لا بد أن يعتري الإنسان؛ ولذلك موسى عليه الصلاة والسلام -وربه يكلمه، ربه خالقه، خالق الكون- لما ألقى عصاه فإذا هي حية تسعى، خاف موسى، بل ولَّى مدبرًا ولم يعقب، لم يلتفت، فناداه ربه سبحانه، قال: يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ[القصص: 31]. فهذا خوف طبيعي يأتي للإنسان، حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فالخوف إذا كان له سبب فلا يعتبر منقصة بالنسبة للإنسان، بل إنه ربما يكون نعمةً أن يخاف الإنسان من الشرور؛ حتى يتجنبها.

ما الذِّكر الوارد بين السجدتين؟

السؤال: ماذا أقول بين السجدتين في الصلاة؟

الجواب: المشروع أن تقول بين السجدتين في الصلاة: ربِّ اغفر لي، ربِّ اغفر لي [22]. تكررها، وجاء في رواية أنه يقال: ربِّ اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني واجبرني وعافني [23]، لكن هذه الرواية لا تثبت من جهة الصناعة الحديثية، والأقرب من حيث الرواية، هو أن تقول: ربِّ اغفر لي. تكررها، سواء كان ذلك في صلاة الفريضة، أو في صلاة النافلة.

حكم إزالة المرأة شعر الرجل وحكم إزالته بالليزر

السؤال: ما حكم إزالة الرجل للشعر بالليزر؟ وهل يجوز أن تقوم به ممرضة؟

الجواب: لا ندري ما المقصود بالشعر؛ إن كان المقصود شعر اللحية فهذا لا يجوز؛ فإن حلق اللحية مُحرَّم، وإن كان المقصود به الشعر الذي يستحب أخذه، كشعر الإبط، فهذا لا بأس به، لكن بالنسبة لشعر العانة لا يجوز أن يَجعل غيرَه يأخذ شعر العانة من رجل أو امرأة أجنبي عنه، إلا أن تكون زوجته، أما بالنسبة لرجل أجنبي أو امرأة أجنبية يأخذ شعر العانة؛ فهذا يترتب عليه كشف العورة، وهذا لا يجوز، حتى بالنسبة للمرأة أيضًا، حتى المرأة مع المرأة، لا يجوز أن ترى عورة المرأة المغلظة، لكن بعض المراكز الطبية تُعَلِّم الشخص، تعطيه الليزر، وتعلمه الطريقة، وهو الذي يقوم بإزالة الشعر بنفسه، هذا لا بأس به، أما بالنسبة لشعر الإبط فلا بأس بأن يستعين بغيره، شعر الساق لا بأس بإزالته بالليزر وبغيره، وهكذا شعر اليدين لا بأس بإزالته؛ لأنه من الشعر المسكوت عنه.

فالشعور تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

  • قسم نهى الشارع عن أخذه: وهو شعر اللحية.
  • وقسم ندب إلى أخذه: وهو شعر الإبط، وشعر العانة، وشعر الشارب بالنسبة للرجل؛ لأن الأفضل حَفُّه وليس حلقه.
  • وشعر مسكوت عنه: وهو بقية شعور الجسم، كالشعر الذي ينبت على الساقين وعلى اليدين، فهذا الأصل أنه يجوز أخذه، ولا حرج في أخذه بأية طريقة.

من صلى ثنتي عشر ركعة هل يبنى له كل يوم بيت؟

السؤال: قوله : ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعًا غير الفريضة، بنى الله له بيتًا في الجنة هل المقصود كل يوم بيت؟

الجواب: الحديث: ما من عبد يصلي لله تعالى في اليوم والليلة..، إلا بنى الله له بيتًا في الجنة [24]. هذا هو الظاهر، أنه كل مرة يبنى له بيت، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة [25]. فإذا قالها مرتين غُرست له نخلتان، إذا قالها ألف مرة غُرست له ألف نخلة، وهذا يدل على عِظَم الجنة وعظيم سعتها، والله تعالى أخبر عن عرضها، قال: عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ [آل عمران:133]. إذا كان عرضها السماوات والأرض فما بالك بطولها؟! 

حكم من اختلفا في اتجاه القبلة

السؤال: إذا اختلفت أنا وصاحبي في اتجاه القبلة، فهل يصلي كل واحد منا لوحده؟

الجواب: أما إذا كنتما في الحضر فالحضر ليس محل اجتهاد، الحضر تنظران لمحراب المسجد، تسألان أحدًا، فليس لكما الاجتهاد، إذا كنتما في السفر فتجتهدان، فإذا اختلف اجتهادكما، كل واحد منكما يصلي إلى الجهة التي يغلب على ظنه أنها هي القبلة، ولا يقلد صاحبه فيها.

ونكتفي بهذا القدر.

والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه أبو داود: 4069، والترمذي: 2807.
^2 رواه أبو داود: 4070.
^3 رواه الطبراني في المعجم الأوسط: 7708.
^4 رواه البخاري: 5838.
^5, ^6 رواه البخاري: 3551، ومسلم: 2337.
^7 رواه البخاري: 3547.
^8 رواه البخاري: 3919.
^9, ^12 رواه البخاري: 5896.
^10 الجلجل: إناء صغير يتخذ من الفضة أو النحاس. ينظر: “فتح الباري” لابن حجر: 10/ 353، و”عمدة القاري” للعيني: 22/ 49.
^11 رواه أحمد: 16475.
^13 سبق تخريجه.
^14 رواه البخاري: 3462، ومسلم: 2103.
^15 رواه مسلم: 2102.
^16, ^17 رواه مسلم: 1206.
^18 رواه أحمد: 2470.
^19 رواه الترمذي: 2331، وابن ماجه: 4236.
^20 رواه البخاري: 3020، ومسلم: 2475.
^21 رواه البخاري: 1191، 1192، ومسلم: 833.
^22 رواه أبو داود: 874، والنسائي: 1144.
^23 رواه أبو داود: 850، والترمذي: 284، وابن ماجه: 898.
^24 رواه مسلم: 728.
^25 رواه الترمذي: 3464.