عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهديه، واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.
أيها الإخوة، هذا هو الدرس الثامن في شرح كتاب “الفضائل” من “صحيح مسلم” في هذا اليوم: الثلاثاء العشرين من شهر الله المُحرم من عام 1442هـ.
وكنا وصلنا إلى:
مُباعدته للآثام واختياره من المُباح أسهله
بابٌ: مُباعدته للآثام، واختياره من المُباح أسهله، وانتقامه لله تعالى عند انتهاك حُرماته.
ساق المُصنف رحمه الله -الإمام مسلم- بسنده قال:
حدثنا قتيبة بن سعيد، عن مالك بن أنسٍ فيما قُرِئَ عليه. ح، وحدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأتُ على مالكٍ: عن ابن شهابٍ، عن عروة بن الزبير، عن عائشة -زوج النبي – أنها قالت: “ما خُيِّرَ رسول الله بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله لنفسه إلا أن تُنْتَهك حُرمة الله ” [1].
ثم ساق المُصنف أيضًا هذا الحديث بعدة رواياتٍ، قال:
وحدثنا زهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم -جميعًا-، عن جريرٍ. ح، وحدثنا أحمد بن عبدة: حدثنا فضيل بن عياض -كلاهما-، عن منصور، عن محمدٍ -في رواية فضيلٍ: ابن شهاب، وفي رواية جريرٍ: محمد الزهري-، عن عروة، عن عائشة.
وحدثنيه حرملة بن يحيى: أخبرنا ابن وهبٍ: أخبرني يونس، عن ابن شهابٍ، بهذا الإسناد نحو حديث مالكٍ.
ثم أيضًا ساقه بروايةٍ أخرى:
حدثنا أبو كُريب: حدثنا أبو أسامة، عن هشامٍ، عن أبيه، عن عائشة قالت: “ما خُيِّرَ رسول الله بين أمرين أحدهما أيسر من الآخر إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه” [2].
وحدثناه أبو كُريب وابن نُمير -جميعًا-، عن عبدالله بن نُمير، عن هشامٍ، بهذا الإسناد إلى قوله: “أيسرهما”، ولم يذكرا ما بعده.
منهج النبي في اختيار الأمور
في هذا الحديث تُبيِّن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أن النبي كان من منهجه في حياته أنه يختار الأيسر، فما خُيِّرَ بين أمرين إلا اختار أيسرهما وأسهلهما والأرفق به وبالناس، ما لم يكن هذا الأيسر حرامًا، فإن كان حرامًا كان أبعد الناس عنه.
وهذا المنهج منهجٌ عظيمٌ، ينبغي أن يحرص عليه المسلم، فيختار أسهل الأمور، ويختار أيسر الأمور، والنبي يقول: اللهم مَن وَلِيَ من أمر أُمَّتي شيئًا فَشَقَّ عليهم فَاشْقُقْ عليه، ومَن وَلِيَ من أمر أُمَّتي شيئًا فَرَفَقَ بهم فَارْفُقْ به [3].
فدعا النبي بالرفق لمَن اختار الرفق والتيسير على الناس، ودعا بأن الله يشقّ على الإنسان إذا اختار المشقة على الناس.
فعلى المسلم أن يكون لديه هذا النَّفَس -نَفَس التيسير والتسهيل على الناس- ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، بشرط ألا يكون ذلك إثمًا، وألا يكون ذلك حرامًا، فإن كان إثمًا أو حرامًا كان عليه الصلاة والسلام أبعد الناس عنه، وهذا هو الواجب على المسلم.
وبعض الناس يستدلُّ بهذا الحديث استدلالًا غير صحيحٍ، فيستدلُّ على الأخذ ببعض الأمور المُحرمة أو المُشتبهة بحجة التيسير على الناس، وهذا غير صحيحٍ، فتجد أن هذا النَّفَس موجودٌ لدى بعض الناس: يَسِّروا على الناس، لا تُشدِّدوا عليهم.
صحيحٌ: التيسير على الناس مطلوبٌ، لكن فيما لم يكن فيه إثمٌ، وفيما لم يكن مُحرمًا.
والأوامر والنواهي فيها مشقةٌ على النفوس، يعني: امتثال الأوامر واجتناب النواهي فيها مشقةٌ على النفوس؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: حُفَّت الجنة بالمكاره، وحُفَّت النار بالشهوات [4]، لكن إذا خرجنا من دائرة الإثم فهنا ينبغي التيسير على الناس، ينبغي أن يكون نَفَس المسلم أنه دائمًا يختار الأيسر والأرفق بالناس، فإذا فعل ذلك فإن الله تعالى يُيسر له أموره، ويرفق به؛ جزاءً وفاقًا.
“وما انتقم رسول الله لنفسه، إلا أن تُنْتَهك حُرمة الله “، كان عليه الصلاة والسلام يُحب العفو، وكان حليمًا، ووصفه ربه بالوصف العظيم: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] الذي جاء بعدة مُؤكدات:
- المُؤكد الأول: حرف التأكيد “إن”.
- المُؤكد الثاني: اللام وَإِنَّكَ لَ.
- المُؤكد الثالث: حرف الاستعلاء “على”.
- المُؤكد الرابع: وصف الخُلُق بأنه عظيمٌ.
فكان عليه الصلاة والسلام ذا خُلُقٍ عظيمٍ، وكان كريمًا، حليمًا، سَمْحًا، يُحب العفو عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك ما كان ينتقم لنفسه قط، لكن إذا انتُهِكَتْ حُرمة الله فإنه ينتصر لله تعالى وينتقم ممن ارتكب ذلك.
فوائد حديث: “ما خُيِّرَ رسول الله …”
في هذا الحديث:
- الحثُّ على العفو والحلم، واحتمال الأذى.
- وفيه أيضًا: الانتصار لدين الله ، وأنه ينبغي الغضب لله ، والغضب حينما تُنْتَهك حُرمات الله .
ولهذا لما سرقت المرأة المخزومية أهمَّ قريشًا أمرُها، فقالوا: مَن يُكلِّم النبيَّ ويشفع في ذلك؟ فقالوا: لا نرى إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله وابن حِبِّه. فكلَّمه شافعًا، فغضب عليه الصلاة والسلام غضبًا شديدًا، وقال: أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟! … وايمُ الله، لو أن فاطمة بنت محمدٍ سرقتْ لقطعتُ يدها [5].
فهنا عليه الصلاة والسلام غضب؛ لأنه وجد مَن يشفع في إسقاط حدٍّ، وكان هذا اجتهادًا من أسامة ، لم يبلغه النهي في هذا، فغضب لأجل ذلك.
فكان إنما يغضب إذا انتُهِكَتْ حُرمة الله ، يغضب لله ، لكن لا يغضب لنفسه، ولا ينتقم لنفسه عليه الصلاة والسلام.
ثم ساق المصنف رحمه الله بعد ذلك أيضًا الحديث عن عائشة رضي الله عنها بلفظٍ أوسع، قال:
حدثناه أبو كُريب: حدثنا أبو أسامة، عن هشامٍ، عن أبيه، عن عائشة قالت: “ما ضرب رسول الله شيئًا قط بيده، ولا امرأةً، ولا خادمًا، إلا أن يُجاهد في سبيل الله، وما نِيلَ منه شيءٌ قط فينتقم من صاحبه إلا أن يُنْتَهك شيءٌ من محارم الله فينتقم لله ” [6].
وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نُمير، قالا: حدثنا عبدة ووكيع. ح، وحدثنا أبو كُريب: حدثنا أبو معاوية -كلهم-، عن هشامٍ، بهذا الإسناد، يزيد بعضهم على بعضٍ.
خُلُق النبي في التعامل مع أهله وعند انتهاك حُرمات الله
هذا الحديث في أوله تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “ما ضرب رسول الله شيئًا قط بيده، ولا امرأةً، ولا خادمًا، إلا أن يُجاهد في سبيل الله”.
كان عليه الصلاة والسلام من كريم خُلُقه أنه لم يكن يضرب الزوجة، أو الخادم، أو الدابة، حتى وإن كان قد يُباح ذلك في بعض الصور، فيُباح -مثلًا- بالنسبة للنَّاشز؛ كما قال الله تعالى: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء:34]، إذا كان غير مُبرِّحٍ، وبالنسبة للدابة كذلك، وأيضًا الخادم لتأديبه، ونحو ذلك.
لكنه عليه الصلاة والسلام لكمال خُلُقه ما كان يضرب أحدًا قط، وهذا يدل على أن الأفضل تركه، ويُعالج الإنسان هذه الأمور بأمورٍ أخرى.
“وما نِيل منه شيءٌ قط فينتقم من صاحبه إلا أن يُنْتَهك شيءٌ من محارم الله فينتقم لله “، هذا يُؤكد ما ذكرناه قبل قليلٍ من أن النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يغضب لنفسه، وإنما يغضب لله .
وهذا الذي ينبغي للمسلم: أن يكون غضبه لله سبحانه، وترك الغضب لله مَنْقَصَةٌ في حقِّ المسلم؛ لأن المسلم ينبغي أن يغضب لله سبحانه، أما أن يرى -مثلًا- انتهاك حُرمات الله ولا يغضب لله، فهذا يدل على ضعف إيمانه؛ إذ إن قوي الإيمان يغضب لله .
باب طِيب ريحه ولِين مَسِّه
باب طِيب ريحه ولِين مَسِّه.
حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة القناد: حدثنا أسباط -وهو ابن نصر الهمداني-، عن سِمَاك، عن جابر بن سَمُرَة قال: صليتُ مع رسول الله صلاة الأولى، ثم خرج إلى أهله وخرجتُ معه، فاستقبله وُلْدَانٌ، فجعل يمسح خَدَّي أحدهم واحدًا واحدًا.
قال: وأما أنا فمسح خدي. قال: فوجدتُ لِيَدِه بَرْدًا أو ريحًا كأنما أخرجها من جُؤْنَة عطَّارٍ [7].
يقول جابرٌ : “صليتُ مع رسول الله صلاة الأولى”، صلاة الأولى هي صلاة الظهر، تُسمى: صلاة الأولى؛ لأنها أول صلاةٍ فُرضتْ، فإن النبي عُرِجَ به ليلة المعراج، ورجع بعدما عُرِجَ به صبحًا، فكانت أول صلاةٍ صلَّاها بعد فرض الصلاة هي صلاة الظهر؛ فلذلك تُسمى: صلاة الأولى، فأول الصلوات هي صلاة الظهر؛ ولهذا نجد الفقهاء يبدؤون بها في كتبهم: “وقت الظهر إذا زالت الشمس”، ثم ينتقلون إلى وقت العصر، إلخ …
إذن مقصود جابرٍ بقوله: “صلاة الأولى” يعني: صلاة الظهر.
قال: “ثم خرج إلى أهله، وخرجتُ معه، فاستقبله وُلْدَانٌ”، كان عليه الصلاة والسلام يهتم بجميع الشرائح، حتى الصبيان يُسلِّم عليهم، ويُلاطفهم، ويُمازحهم، فاستقبله هؤلاء الولدان -يعني: الصبيان- لما يعلمون من كريم خُلُقه عليه الصلاة والسلام.
“فجعل يمسح خَدَّي أحدهم واحدًا واحدًا” وهذا من كريم خُلُقه، كل واحدٍ من هؤلاء الصبيان يمسح خَدَّيه، هذا من كريم خُلُقه عليه الصلاة والسلام؛ لأن كونه وهو النبي الرسول، وهو القائد للأمة، وهو كل شيءٍ بالنسبة للصحابة، ومع ذلك يأتي لهؤلاء الصبيان ويُمازحهم ويُلاطفهم، ويمسح خَدَّي أحدهم، هذا يدل على كريم خُلُقه عليه الصلاة والسلام.
وهذا أيضًا يجعل هؤلاء الصبيان يُحبون النبي عليه الصلاة والسلام إذا رأوا منه هذا اللُّطْف، وهذا التعامل الكريم.
قال جابرٌ : “وأما أنا فمسح خدي، فوجدتُ لِيَدِه بَرْدًا أو رِيحًا” يعني: وجد يد النبي عليه الصلاة والسلام فيها نعومةٌ ولِيُونةٌ، وأيضًا وجد رائحةً طيبةً.
قال: “كأنما أخرجها من جُؤْنَة عطَّارٍ” يعني: رائحتها كانت رائحةً زكيةً، فيها طِيبٌ، كأنما أخرج يده من جُؤْنَة عطَّارٍ، وجُؤْنَة العطار هي: سَفَط العطَّار، السَّفَط الذي فيه متاع العطَّار، وهو ما يُخَبِّئ العطَّار فيه الطِّيب، يقولون: هي سُليلةٌ مُستديرةٌ مُغَشَّاةٌ أَدَمًا تكون مع العطَّارين، يعني مثل: القارورة الصغيرة، ويكون عليها جلدٌ، ويضعون فيها الطِّيب.
فيقول: كأن النبي عليه الصلاة والسلام غمس يده وأخرجها من قارورة الطِّيب هذه، يعني: مُراد جابرٍ: كأن النبي عليه الصلاة والسلام أدخل يده في قارورة الطِّيب ثم أخرجها منها.
وأيضًا سيأتي في الأحاديث الأخرى أنه عليه الصلاة والسلام كانت رائحته رائحةً طيبةً، فنأخذ الأحاديث ونربطها بهذا الحديث، وأيضًا نُبيِّن تفسير العلماء لطِيب رائحة النبي عليه الصلاة والسلام، يعني: هل هو شيءٌ جعله الله تعالى له آيةً، أو أنه عليه الصلاة والسلام كان حريصًا على النظافة وعلى التَّطيُّب؟
أولًا: نقرأ هذه الأحاديث، ثم نُجيب عن هذا السؤال.
قال:
وحدثنا قتيبة بن سعيد: حدثنا جعفر بن سليمان، عن ثابتٍ، عن أنسٍ. ح، وحدثني زهير بن حرب -واللفظ له-: حدثنا هاشم -يعني: ابن القاسم-: حدثنا سليمان -وهو ابن المغيرة-، عن ثابتٍ: قال أنسٌ : ما شَمِمْتُ عنبرًا قط، ولا مِسْكًا، ولا شيئًا أطيب من ريح رسول الله ، ولا مَسِسْتُ شيئًا قط دِيباجًا ولا حريرًا ألين مَسًّا من رسول الله [8].
وحدثني أحمد بن سعيد بن صخر الدارمي: حدثنا حبان: حدثنا حماد: حدثنا ثابتٌ، عن أنسٍ قال: كان رسول الله أَزْهَر اللون، كأن عَرَقَه اللؤلؤ، إذا مشى تَكَفَّأ، ولا مَسِسْتُ دِيباجةً ولا حريرةً ألين من كَفِّ رسول الله ، ولا شَمِمْتُ مِسْكَةً ولا عَنْبَرةً أطيب من رائحة رسول الله [9].
طِيب رائحة رسول الله
كان عليه الصلاة والسلام طيب الرائحة، كل مَن التقى به يقول: ما شممتُ طِيبًا أطيب من رائحته، حتى الصبيان.
جابر بن سَمُرَة يقول: “وجدتُ لِيَدِه ريحًا كأنما أخرجها من جُؤْنَة عطَّارٍ”.
وهنا أنسٌ يقول: “ما شممتُ مِسْكَةً ولا عَنْبَرةً أطيب من رائحة رسول الله “.
طِيب الرائحة هنا قيل: إن النبي عليه الصلاة والسلام اختُصَّ بهذا، فهو شيءٌ أكرمه الله تعالى به، فكانت صفته الطِّيب، وإن لم يمسَّ طِيبًا، وقد ذكر هذا النووي وغيره.
وقيل: إنه عليه الصلاة والسلام كان يُحب الطِّيب، وكان يستعمل الطِّيب كثيرًا، وكان حريصًا على النظافة، فلا تُشَمُّ منه رائحةٌ كريهةٌ.
والقول بأن هذا من خصائص النبي ، وأنه مما أكرمه الله به يحتاج إلى دليلٍ، وهذا نجده كلامًا مُرسلًا من بعض العلماء تفقُّهًا منهم، لكن ليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل على هذا.
والذي يظهر -والله أعلم- أن النبي كان يُحب الطِّيب، وكان حريصًا على الطِّيب، وعلى ألا تُشَمَّ منه رائحةٌ كريهةٌ، وكان حريصًا على النظافة جدًّا، هذا هو الأظهر، والله أعلم في ذلك.
ولهذا نجد هذا في المجتمع، فنجد بعض الناس لا يكاد يُرى إلا ورائحة الطِّيب تنبعث منه، ويكون مُحبًّا للطِّيب وللنظافة.
كان النبي عليه الصلاة والسلام كذلك يُحب الطِّيب، ويتطيب إذا خرج للناس، وكان حريصًا على النظافة، لم تُشَمَّ منه رائحةٌ كريهةٌ قط.
وينبغي للمسلم أن يقتدي بالنبي في الحرص على النظافة، وعلى كمال الطهارة، فإن بعض الناس ربما يُهْمِل نظافته، ويُخالط الناس؛ فتُشَمَّ منه روائح كريهةٌ مُؤذيةٌ.
فأقول: ينبغي أن يحرص المسلم على النظافة؛ يحرص على أن يغتسل، وأن يتنظَّف بالمُنظفات، وأن يتطيب، خاصةً عندما يريد أن يلتقي بالناس، وأن يُخالطهم.
فالأقرب -والله أعلم- أنه عليه الصلاة والسلام كان من شدة حرصه على النظافة وعلى الطِّيب كان الصحابة لا يشمون منه رائحةً كريهةً، بل لا يشمون منه إلا الطِّيب الحسن.
وأيضًا كان عليه الصلاة والسلام يحرص على الادِّهان؛ لأن شعره كان طويلًا -كما سيأتي-، وكان يُرجِّل شعره، وأيضًا يحرص على أن يدَّهن، ومَن يدَّهن يكون لجلده نعومةٌ؛ ولهذا وصف أنسٌ النبيَّ عليه الصلاة والسلام فقال: “ما مَسِسْتُ شيئًا قط دِيباجًا ولا حريرًا ألين مَسًّا من رسول الله “.
وليس معنى ذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان مُتْرَفًا، كلا، هو عليه الصلاة والسلام كان يمر عليه الشهر والشهران والثلاثة وما أُوقد في بيته نارٌ، وربما ربط على بطنه الحجر من شدة الجوع، لكنه كان حريصًا على النظافة، وحريصًا على الادِّهان، وحريصًا على التَّطيب.
وهذه مَعَانٍ ينبغي أن يحرص عليها المسلم.
وفي حديث أنسٍ قال: “كان رسول الله أَزْهَرَ اللون”، الأزهر اللون هو الأبيض المُستنير، وهو أحسن الألوان، فكان أبيض في صفاءٍ، والواصفون للنبي عليه الصلاة والسلام يقولون: “كان أبيض مَشُوبًا بحُمْرَةٍ”.
قال: “كأن عَرَقَه اللؤلؤ” يعني: في الصفاء والبياض.
“إذا مشى تَكَفَّأ” كان الصحابة يصفون مِشْيَة النبي عليه الصلاة والسلام: كأنما يَنْحَطُّ من صَبَبٍ، ليست مِشْيَة البطيء المُتَمَاوت، ولا السريع جدًّا، إنما بينهما، فكان كأنما يَنْحَطُّ من صَبَبٍ، يعني: رأيتَ الماء عندما ينزل من مكانٍ مُرتفعٍ إلى مكانٍ مُنخفضٍ؟ كيف يمشي؟
كان عليه الصلاة والسلام إذا مشى كذلك، وهذه أكمل صفات المشي كما قال ابن القيم وغيره، فلم يكن يمشي مُتَمَاوتًا كما يفعل بعض الناس، ولا أيضًا بسرعةٍ كبيرةٍ، إنما بينهما: كأنما يَنْحَطُّ من صَبَبٍ؛ ولهذا قال: “إذا مشى تَكَفَّأ” يعني: مَن يراه يرى كأنما يَنْحَطُّ من صَبَبٍ، ويميل يمينًا وشمالًا، وهذه مِشْيَة أهل الحزم والعزم، تجد أنهم يمشون بهذه الطريقة، لا مِشْيَة المُتَمَاوتين، ولا مِشْيَة المُتَبَخْتِرين المُتَكَبِّرين.
طِيب عَرَق النبي والتَّبرك به
باب طِيب عَرَق النبي والتَّبرك به.
ساق المصنف رحمه الله في الكلام عن عَرَق النبي عليه الصلاة والسلام عدة أحاديث، ابتدأها بحديث أنسٍ قال:
حدثني زهير بن حرب: حدثنا هاشم -يعني: ابن القاسم-، عن سليمان، عن ثابتٍ، عن أنس بن مالكٍ قال: دخل علينا النبي فَقَالَ عندنا، فَعَرِقَ، وجاءت أمي بقارورةٍ، فجعلتْ تَسْلِتُ العرقَ فيها، فاستيقظ النبي ، فقال: يا أم سُليم، ما هذا الذي تصنعين؟ قالت: هذا عَرَقك نجعله في طِيبنا، وهو من أطيب الطِّيب [10].
أنس بن مالكٍ لما قدم النبي المدينة كان عمره عشر سنين، وأمه هي أم سُليم، وأم سُليم تزوجها مالكٌ، وأنجبتْ له أنسًا، ثم إنه خرج إلى الشام وتوفي، فكان أنسٌ يتيمًا، ولما قدم النبي عليه الصلاة والسلام المدينة كانت امرأةً عاقلةً ذات حكمةٍ، فقالت: “يا رسول الله، هذا أنسٌ غلامٌ يخدمك، ادعُ اللهَ له”. وهبتْ أنسًا لخدمة النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا من كمال عقلها؛ لأنها تريد أن يختلط به، ويتعلم منه، ويستفيد منه، وقالت: “ادعُ اللهَ له”، قال: “فدعا لي بثلاث دعواتٍ، رأيتُ منها اثنتين في الدنيا، وأنا أرجو الثالثة في الآخرة”، قال: اللهم أكثر ماله وولده، وأَطِلْ عمره، واغفر ذنبه، قال: “فأكثر الله مالي، حتى إني أكثر الأنصار مالًا، وأطال الله في عمري حتى جاوزتُ المئة، حتى استحييتُ من أهلي، واشتقتُ للقاء ربي”. وأكثر الله تعالى ولده حتى جاوزوا المئة، وأطال الله عمره، وقال: “وأنا أرجو الثالثة”، وهي مغفرة الذنوب [11].
أم أنسٍ هي أم سُليم، تزوجها أبو طلحة.
قال أنسٌ : “دخل علينا النبي فَقَالَ عندنا”، قوله: “فَقَالَ عندنا” يعني: نام للقيلولة، وهي مُنتصف النهار، وكان من عادة العرب أنهم يقيلون؛ لأنهم كانوا لا ينامون بعد صلاة الفجر، فمَن يقوم بعد صلاة الفجر ولا ينام يحتاج إلى القيلولة منتصف النهار، فكان هذا معروفًا عند العرب.
ولذلك في قول الله : أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان:24] استنبط بعض العلماء أن الحساب يكون منتصف ذلك اليوم؛ يوم عرصات القيامة الذي مقداره خمسون ألف سنةٍ، وقد رُوي هذا عن ابن مسعودٍ، ورُوي أيضًا عن بعض التابعين، يوم عرصات القيامة خمسون ألف سنةٍ.
فقول الله : وَأَحْسَنُ مَقِيلًا القيلولة تكون عند منتصف النهار، قالوا: فهذا دليلٌ على أن الفصل والقضاء بين الناس يكون بعد خمسٍ وعشرين ألف سنةٍ.
وهذه -يا إخواني- مدةٌ زمنيةٌ طويلةٌ، يعني: كم عمرك أيها الإنسان؟ كم تعيش؟ ستين؟ سبعين؟ مئة سنةٍ؟ كم نسبتها لهذا اليوم الطويل: خمسون ألف سنةٍ؟
وإذا قلنا: إن الحساب يكون بعد خمسٍ وعشرين ألف سنةٍ، فكم نسبتها كذلك إلى خمسٍ وعشرين ألف سنةٍ؟
إذن قَالَ النبي عليه الصلاة والسلام عندهم.
كيف يَقِيل عندهم؟ وما علاقة أم سُليم بالنبي عليه الصلاة والسلام؟
أم سُليم وفعلها مع عَرَق النبي
أم سُليم من محارم النبي هي وأختها أم حَرَام، وكانت أم سُليم خالة النبي من الرضاع، وكذلك أختها أم حرام بنت مِلْحَان خالة النبي عليه الصلاة والسلام من الرضاع، وعلى ذلك الرواية في الصحيحين: أنها كانت تَفْلِي شعر رسول الله [12].
فأم سُليم وأختها أم حرام كانتا من محارمه؛ ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يأتيهما، ويدخل عندهما، ويتبسَّط عندهما.
فدخل بيت أم سُليم، فنام عندها للقيلولة، فعَرِقَ، وكان عليه الصلاة والسلام كثير العَرَق، ويقولون: إن كثرة العَرَق من الأمور الجيدة.
يقول بعض الأطباء والمُختصين: إن خروج العَرَق من الإنسان دليلٌ على جودة صحته، وأن هذا أحسن ممن لا يتعرَّق.
كان عليه الصلاة والسلام كثير العَرَق.
قال أنسٌ : “وجاءت أُمي” التي هي أم سُليم بنت مِلْحَان، الخزرجية، الأنصارية، التي هي خالة النبي عليه الصلاة والسلام من الرضاع.
جاءت بقارورةٍ، “فجعلتْ تَسْلِتُ العَرَقَ فيها” يعني: تجمع العَرَقَ في هذه القارورة.
“فاستيقظ النبي فقال: يا أم سُليم، ما هذا الذي تصنعين؟ قالت: هذا عَرَقُك نجعله في طِيبنا”، لماذا قالت هذا؟
لأن الصحابة كانوا يتبركون بآثار النبي ، قالت: “هذا عَرَقُك نجعله في طِيبنا، وهو من أطيب الطِّيب”.
يقول: كان عَرَقُ النبي عليه الصلاة والسلام يَفُوح طِيبًا، وكانوا يحرصون على التَّبرك بآثاره: بشعره، وعَرَقه، وجميع آثاره، وهذا -كما ذكرنا في الدرس السابق– من خصائص النبي ، فمن خصائص النبي التَّبرك بآثاره: كشعره، وعَرَقه، ونحو ذلك.
وأما غير النبي فلا يجوز التَّبرُّك بآثاره؛ ولهذا لم يكن الصحابة يتبركون بآثار أبي بكرٍ الصديق، ولا عمر بن الخطاب، ولا عثمان، ولا علي، ولا العشرة المُبشرين بالجنة، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه.
فالتَّبرُّك بآثار غير النبي بدعةٌ، وإنما الذي يجوز هو التَّبرُّك بآثار النبي فقط، فكان الصحابة يحرصون على التَّبرُّك بآثاره.
ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث بروايةٍ أخرى فقال:
وحدثني محمد بن رافع: حدثنا حُجَين بن المُثنى: حدثنا عبدالعزيز -وهو ابن أبي سلمة-، عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالكٍ قال: كان النبي يدخل بيت أم سُليم فينام على فراشها، وليست فيه.
كما ذكرنا هي من محارمه.
قال: فجاء ذات يومٍ فنام على فراشها، فأُتِيَتْ.
يعني: أتاها آتٍ.
فقيل لها: هذا النبي نام في بيتكِ على فراشكِ.
وكانوا يُحبون ذلك، ويفرحون به.
قال: فجاءت وقد عَرِقَ، واستَنْقَع عَرَقُه.
يعني: اجتمع عَرَقُه.
على قطعة أديمٍ.
أي: جِلْدٍ.
على الفراش، ففتحتْ عَتِيدَتها.
العَتِيدَة هي الصندوق الصغير الذي تجعل فيه المرأة متاعها، أو ما يَعِزُّ من متاعها.
ففتحتْ عَتِيدَتها، فجعلتْ تُنَشِّف ذلك العَرَقَ فتَعْصِره في قواريرها؛ ففزع النبي ، فقال: ما تصنعين يا أم سُليم؟! فقالت: يا رسول الله، نرجو بركته لصبياننا. قال: أَصَبْتِ [13].
فَصَوَّبها النبي على هذا الفعل، وهذا يدل على جواز التَّبرُّك بآثار النبي .
ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث بروايةٍ أخرى فقال:
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عفان بن مسلم: حدثنا وُهيب: حدثنا أيوب، عن أبي قِلابة، عن أنسٍ، عن أم سُليم: أن النبي كان يأتيها فَيَقِيل عندها، فَتَبْسُط له نِطْعًا.
يعني: جِلْدًا.
فَيَقِيل عليه، وكان كثير العَرَق، فكانت تجمع عَرَقَه فتجعله في الطِّيب والقوارير، فقال النبي : يا أم سُليم، ما هذا؟ قالت: عَرَقُك أَدُوفُ به طِيبي [14].
“أَدُوفُ” يعني: أخلط به طِيبي.
فكانت تأخذ عَرَقَ النبي عليه الصلاة والسلام وتَسْلِتُه وتخلطه بطِيبها؛ لأجل التَّبرُّك بعَرَق النبي .
ثم بعد ذلك ساق المصنف رحمه الله أحاديث في كيفية نزول الوحي على النبي عليه الصلاة والسلام، لكن فيها ذكر العَرَق.
قال:
حدثنا أبو كُريب محمد بن العلاء: حدثنا أبو أسامة، عن هشامٍ، عن أبيه، عن عائشة قالت: إن كان لَيُنْزَلُ.
يعني: يُنزل القرآن.
على رسول الله في الغداة الباردة، ثم تَفِيض جبهته عَرَقًا [15].
كان عليه الصلاة والسلام إذا أتاه الوحي يُعاني من ذلك مُعاناةً شديدةً، ويتفَصَّد عَرَقًا، وتَفِيض جبهته عَرَقًا؛ ولهذا ساق المصنف رحمه الله الحديث بروايةٍ أخرى فقال:
ح، وحدثنا محمد بن عبدالله بن نُمير -واللفظ له-: حدثنا محمد بن بشر: حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة: أن الحارث بن هشام سأل النبي : كيف يأتيك الوحي؟ فقال: أحيانًا يأتيني في مثل صَلْصَلَة الجرس، وهو أشدُّه عليَّ، ثم يَفْصِم عني وقد وعيتُه.
يعني: يُفارق على أن يعود.
وأحيانًا مَلَكٌ في مثل صورة الرجل، فَأَعِي ما يقول [16].
ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث:
عن عبادة بن الصامت قال: كان نبي الله إذا أُنزل عليه الوحي كُرِبَ لذلك، وتَرَبَّد وجهه [17].
“تَرَبَّد” يعني: تغيَّر وصار لونه كالرماد.
ثم ساق الحديث أيضًا من طريقٍ آخر:
عن عبادة قال: كان النبي إذا نزل عليه الوحي نَكَسَ رأسه، ونكس أصحابه رؤوسهم، فلما أُتْلِيَ عنه رفع رأسه.
“أُتْلِيَ عنه” يعني: ارتفع عنه الوحي، أو انْجَلَى؛ ولذلك جاء في بعض النُّسخ: “فلما أُجْلِيَ عنه”.
قال النووي رحمه الله: ووقع في بعض النُّسخ: “أُجْلِيَ” بالجيم، وفي رواية ابن ماهان: “انْجَلَى”، ومعناهما: أُزيل عنه وزال عنه. وفي رواية البخاري: “انْجَلَى”.
وهو بمعنًى واحدٍ.
هذه الأحاديث تدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يُعاني مُعاناةً شديدةً عند نزول الوحي عليه، حتى إنه ليَتَفَصَّد عَرَقًا، وحتى إن وجهه ليتغير فيُصبح كلون الرماد من شدة ما يُعاني عليه الصلاة والسلام.
وتفسير ذلك -والله أعلم-: أن الملائكة خُلِقَتْ من نورٍ، والبشر خُلِقُوا من طينٍ، فعندما يأتي المَلَك المخلوق من نورٍ، وينزل على البشر المخلوق من طينٍ؛ هنا مع هذا الاختلاف يجد النبي عليه الصلاة والسلام هذا الثِّقَل.
وقيل: إن السبب في ذلك -والله أعلم- من باب تربية النبي عليه الصلاة والسلام؛ حتى يتعود على الصبر، ويتحمل أكثر، فالله تعالى أعلم، لكنه عليه الصلاة والسلام كان يُعاني ويتفَصَّد عَرَقًا، ويتغير وجهه.
وكذلك يُنكِّس رأسه، والصحابة يعرفون ذلك؛ فيُنكِّسون رؤوسهم، والله تعالى يقول: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:5].
وأورد المصنف رحمه الله هذا الحديث للإشارة إلى ورود العَرَق فيه، يتفَصَّد عَرَقًا: “تفيض جبهته عَرَقًا”.
من فوائد حديث: “كيف يأتيك الوحي؟ …”
من فوائد هذا الحديث: ذِكْر بعض الطرق التي كان الوحي يأتي إلى النبي فيها، وذكر هنا طريقتين:
- الأولى: أن يأتيه مثل صَلْصَلَة الجرس، وهو صوتٌ مُتداركٌ يسمعه ولا يُثْبِته أول ما يقرع سمعه حتى يفهمه.
قالوا: والحكمة في ذلك -أنه يأتيه على صورة صَلْصَلَة الجرس- حتى يتفرَّغ سمعه، ولا يبقى فيه ولا في قلبه مكانٌ لغير صوت المَلَك.
الإنسان عندما يسمع صوتًا مثل الجرس، ثم بعد ذلك يأتي إنسانٌ يُكلمه ينتبه ويُركِّز معه في الاستماع.
قيل: إن هذه هي الحكمة، والله أعلم.
فكان يأتيه في مثل صَلْصَلَة الجرس، قال: وهو أشدُّه عليَّ. - وأحيانًا يأتيه على صورة رجلٍ، كما في حديث عمر قال: كنا جلوسًا عند النبي فأتاه رجلٌ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحدٌ، فأسند رُكبتيه إلى رُكبتيه، وجعل كفَّيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فسأله عن الإسلام، وعن الإيمان، وعن الإحسان، وعن الساعة، وعن أشراطها، ثم قال عليه الصلاة والسلام: هذا جبريل أتاكم يُعلمكم دينكم [18]، فأتى جبريل على صورة رجلٍ، فقد يتشكَّل المَلَك ويأتي على صورة رجلٍ.
وقد يأتي النبيَّ عليه الصلاة والسلام على صورة صَلْصَلَة الجرس، وقد يراه في المنام، فقد تكون رؤيا، ورؤيا الأنبياء حقٌّ، بل إن أول ما كان يأتي النبيَّ عليه الصلاة والسلام من الوحي الرؤيا الصالحة، فكان ما يراه في منامه يراه يقظةً كفَلَق الصُّبْح.
وأيضًا فيه من الفوائد: قدرة المَلَك على التَّشكُّل بالصور، والملائكة خلقٌ عظيمٌ، خلقهم الله تعالى من نورٍ، والملائكة يختلفون عن البشر اختلافًا كبيرًا؛ لأنهم مخلوقون من نورٍ.
ويقول بعض أهل العلم: إن خِلْقَة أهل الجنة يوم القيامة تكون كخِلْقَة الملائكة، أي: أنهم يستمرون في الحياة من غير زيادة نموٍّ، وأنهم يبقون على خِلْقَتهم، والملائكة تبقى على خِلْقَتها من غير نموٍّ، خلقهم الله : لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20].
أما البشر فينمو الإنسان في الدنيا إلى أن يهرم ويموت، لكن أهل الجنة يكونون كالملائكة، يكونون أبناء ثلاثٍ وثلاثين، ويبقون على هذه الحالة من غير زيادة نموٍّ، يتمتعون بنعيم الجنة، ويكونون مُخلَّدين أبد الآباد على هذه الخِلْقَة، مع ارتفاع السَّآمة عنهم: لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [الكهف:108].
إذن الملائكة خلقٌ عظيمٌ من خلق الله ، ولهم أجنحةٌ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ [فاطر:1]، وقد تتشكل الملائكة بالصور، والنبي عليه الصلاة والسلام رأى جبريل على صورته الحقيقية مرتين: مرةً في الأرض، ومرةً في السماء؛ مرةً في الأرض له ستمئة جناحٍ، قد سَدَّ الأُفق، ومرةً في السماء: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىعِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَىعِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم:13-15].
الصحيح في تفسير الآية: أن الضمير يرجع على جبريل : رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى يعني: مرةً أخرى ليلة المعراج، وإلا فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يَرَ ربَّه، وإنما كلَّمه الله ، لكنه لم يَرَ ربه، ولما سأله أبو ذرٍّ : هل رأيتَ ربَّك؟ قال: نورٌ أنَّى أراه؟ [19].
صفة شعره وصفاته وحِلْيَته
ننتقل بعد ذلك إلى باب: صفة شعره وصفاته وحِلْيَته.
هذا الباب ساق المصنف فيه أحاديث كثيرةً في بيان خِلْقَتِه عليه الصلاة والسلام، وليس خُلُقه.
فابتدأ أولًا بشعره، قال:
حدثنا منصور بن أبي مُزاحم ومحمد بن جعفر بن زياد، قال منصور: حدثنا، وقال ابن جعفر: أخبرنا إبراهيم -يعنيان: ابن سعد-، عن ابن شهابٍ، عن عبيدالله بن عبدالله، عن ابن عباسٍ قال: كان أهل الكتاب يَسْدِلون أشعارهم.
يعني: شعورهم.
وكان المشركون يَفْرُقُون رؤوسهم، وكان رسول الله يُحب مُوافقة أهل الكتاب فيما لم يُؤمر به، فَسَدَلَ رسول الله ناصيته، ثم فَرَقَ بعد.
وحدثني أبو الطاهر: أخبرنا ابن وهبٍ: أخبرني يونس، عن ابن شهابٍ، بهذا الإسناد نحوه [20].
قال: “كان أهل الكتاب يَسْدِلون أشعارهم”، النبي عليه الصلاة والسلام كان له شعرٌ طويلٌ على عادة العرب، فالعرب في زمنه عليه الصلاة والسلام كانوا يُطيلون شعورهم، فكان على عادة العرب في ذلك؛ فكان شعره طويلًا.
“وكان المشركون يَفْرُقُون رؤوسهم”، و”أهل الكتاب يَسْدِلون أشعارهم” يعني: شعورهم.
سَدْل الشعر معناه: إرساله وإرخاؤه من غير أن يُقسم لنصفين، يعني: يُرسل الشعر من غير أن يَفْرُقه، هذا هو السَّدْل، فيُرسل على الجبين، ويُرسله على الجوانب، وآخر الشعر من غير أن يَفْرُقه، فهذا معنى السَّدْل، يعني: الإرسال.
وأما فَرْق الشعر فمعناه: إلقاء الشعر على جانبي الرأس، يعني: يُقسم الشعر نصفين: نصفه عن يمينه، ونصفه عن يساره.
وما زال الناس يستخدمون هذا المصطلح، يقولون: فَرَقَ شعره، أو شعره مَفْرُوقٌ، هذا هو المقصود: أنه يقسم الشعر نصفين: نصفه عن الجانب الأيمن، ونصفه عن الجانب الأيسر.
كان المشركون يَفْرُقُون شعورهم، بينما أهل الكتاب -كان الموجود من أهل الكتاب اليهود- كانوا لا يَفْرُقون، وإنما يَسْدِلون شعورهم.
وكان عليه الصلاة والسلام لما هاجر من مكة إلى المدينة يُحب مُوافقة أهل الكتاب، ومُخالفة المشركين، فكان عليه الصلاة والسلام يَسْدِل شعره مُوافقةً لأهل الكتاب.
ثم بعد فتح مكة، وبعد أن أظهره الله تعالى على المشركين، ما بقي مشركون في جزيرة العرب، ما بقي إلا أهل الكتاب، فكان عليه الصلاة والسلام بعد ذلك يُحب مُخالفة أهل الكتاب؛ ولذلك أصبح في آخر الأمر يَفْرق شعره، قال: “فَسَدَلَ رسول الله ناصيته، ثم فَرَقَ بعد” يعني: في آخر حياته أصبح يَفْرق شعره.
ونظير هذا أنه عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة ووجد اليهود يصومون عاشوراء، كان يُحب مُوافقة أهل الكتاب، فقال: نحن أحقُّ بموسى، فصامه وأمر الناس بصيامه [21]، ثم بعد فتح مكة كان يُحب مُخالفة أهل الكتاب؛ لأنه أظهره الله على المشركين، فقال: لئن بقيتُ إلى قابلٍ لأصومَنَّ التاسع [22]؛ تحقيقًا لمُخالفة اليهود.
فعلى هذا تُفهم هذه الأحاديث: كان عليه الصلاة والسلام بعد الهجرة يُحب مُوافقة أهل الكتاب ومُخالفة المشركين، وبعد فتح مكة يُحب مُخالفة أهل الكتاب، وأما المشركون فقد أظهره الله تعالى عليهم.
وسَدْل الشعر وفَرْقه كلاهما جائزٌ، لكن الفَرْق في الشعر أولى من السَّدْل؛ لأنه آخر ما كان عليه رسول الله ، وهذا الفَرْق يقولون: إنه لا يكون إلا مع كثرة الشعر؛ فلذلك النبي عليه الصلاة والسلام آخر ما استقرَّ عليه أمره فَرْق شعره؛ فلهذا قالوا: إن فَرْق الشعر أولى من سَدْله.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في “فتح الباري”: “جمعتُ المسائل التي وردتْ فيها الأحاديث بمُخالفة أهل الكتاب فزادتْ على ثلاثين حُكْمًا، وقد أودعتُها كتاب “القول الثَّبْت في الصوم يوم السبت””.
ولا أدري هل هذا الكتاب مطبوعٌ أم لا؟
طبعًا اتِّخاذ الشعر بالنسبة للنساء هذا أمره ظاهرٌ، لكن بالنسبة للرجال فإن اتِّخاذ الشعر وتطويله سُنةٌ؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام كان شعره طويلًا، وكان يُرجِّل شعره ويدهنه، وكان يُرسله في أول الأمر، ثم فَرَقَه في آخر الأمر.
ضابط تطويل الشعر بالنسبة للرجل
نقول: إن تطويل الشعر بالنسبة للرجل هو كلبس العمامة والإزار والرداء، هذا القول الراجح فيه: أن الإنسان يتبع فيه عادة قومه -أهل بلده- ولا يَشُذُّ عنهم، فإذا كانت عادة الناس في البلد أنهم يُطيلون شعورهم فينبغي أن يُطيل الإنسان شعره، كما كان عليه الأمر في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا كانت عادة الناس في البلد أن الرجال لا يُطيلون شعورهم، وأن إطالة الشعر للنساء، فهنا الأفضل ألا يُطيل شعره، كما عليه الحال في أكثر بلدان العالم الإسلامي اليوم، إن لم يكن في جميعها.
فإذا كانت عادة الناس أن الرجال لا يُطيلون شعورهم، فالأفضل ألا يُطيل شعره، ومثل ذلك لبس العمامة، يتبع الإنسان فيه عادة أهل بلده، فإذا كان -مثلًا- في بلدٍ مثل المملكة، فالناس ما تلبس العمائم، فلا يأتي إنسانٌ ويلبس عمامةً، ويقول: أقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام، أو الإزار والرداء إذا كان في بلدٍ الناس ما تلبس الإزار والرداء، فلا يأتي ويلبس إزارًا ورداءً، ويقول: أنا أقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام.
هذه الأمور كلها يرجع فيها الإنسان لعادة قومه، بل إن الإنسان إذا أراد الاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام وخالف عادة قومه في هذه الأشياء؛ فقد وقع في الشُّهرة التي ورد فيها الذمُّ في قوله عليه الصلاة والسلام: مَن لبس ثوب شُهْرَةٍ في الدنيا ألبسه الله ثوب مَذَلَّةٍ يوم القيامة [23].
إذن يتبع الإنسان عادة أهل بلده، وعلى ذلك فإطالة الشعر نقول: إذا كان أهل البلد لا يُطيل فيها الرجال شعورهم، فالأفضل والأقرب للسُّنة أن الإنسان لا يُطيل شعره، لكن لو قُدِّر أن مُجتمعًا يُطيل فيه الرجال شعورهم، فتأتي هذه المسألة -مسألة السَّدْل والفَرْق-، وأن الفَرْق أفضل من السَّدْل؛ لأنه هو الذي استقرَّ عليه أمر النبي .
النبي عليه الصلاة والسلام أطال شعره، وكان عظيم الجُمَّة كما سيأتي في الحديث -حديث البراء- يقول: “عظيم الجُمَّة”، والجُمَّة هو شعر الرأس من بعد شَحْم الأُذنين إلى قريبٍ من المَنْكِب، فإذا ألمَّ بالمَنْكِب فهو اللِّمَّة، وإذا كان فوق شَحْمَة الأذن فهو الوَفْرَة.
وعلى ذلك الحديث: أن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام بعد وفاته قَصَصْنَ شعورهن إلى الوَفْرة، وهذا يدل على أن المرأة يجوز لها أن تَقُصَّ شعر رأسها ما لم تتشبه بالرجال.
إذن إلى شَحْم الأذنين الوَفْرة، وما بعد شَحْم الأذنين إلى قريبٍ من المَنْكِب هذا يُسمى: الجُمَّة، وإلى فوق المَنْكِب: اللِّمَّة، والنبي عليه الصلاة والسلام كان عظيم الجُمَّة، يعني: كان شعره إلى مَنْكِبه، وهذا سيأتينا في الحديث التالي.
قال:
حدثنا محمد بن المُثنى ومحمد بن بشار، قالا: حدثنا محمد بن جعفر: حدثنا شعبة، قال: سمعتُ أبا إسحاق قال: سمعتُ البراء يقول: كان رسول الله رجلًا مَرْبُوعًا، بعيد ما بين المَنْكِبين، عظيم الجُمَّة إلى شَحْمَة أُذُنيه، عليه حُلَّةٌ حمراء، ما رأيتُ شيئًا قط أحسن منه [24].
ثم ساق أيضًا المصنف رحمه الله هذا الحديث بروايةٍ أخرى:
عن البراء قال: ما رأيتُ من ذي لِمَّةٍ أحسن في حُلَّةٍ حمراء من رسول الله ، شعره يضرب مَنْكِبيه، بعيد ما بين المَنْكِبين، ليس بالطويل، ولا بالقصير.
قال أبو كُريبٍ: له شعرٌ [25].
وأيضًا ساقه بروايةٍ أخرى عن البراء قال:
كان رسول الله أحسن الناس وجهًا، وأحسنه خَلْقًا، ليس بالطويل الذاهب، ولا بالقصير [26].
“كان رسول الله رجلًا مَرْبُوعًا” المَرْبُوع ليس بالطويل، ولا بالقصير، بينهما، وهذه أكمل حالات الإنسان، يعني: الإنسان إما أن يكون طويلًا، أو قصيرًا، أو مَرْبُوعًا، يعني: وسطًا، الأكمل هو المَرْبُوع الذي يكون وسطًا بين الطويل والقصير، فالقِصَر -يعني- بعض الناس يعتبره عيبًا، وأيضًا الطول المُفْرط بعض الناس يعتبره عيبًا، لكن الوسط يُسمى: المَرْبُوع، وهذه أكمل الحالات الخَلْقية.
كان عليه الصلاة والسلام مَرْبُوعًا يعني: ليس بالطويل، ولا بالقصير.
قال: “بعيد ما بين المَنْكِبين” يعني: عريض أعلى الظهر، واسع الصدر، وهذه يقولون: إنها أكمل حالات الإنسان.
“عظيم الجُمَّة” تكلمنا عنها قبل قليلٍ، يعني: شعره طويلٌ إلى الجُمَّة، وهي ما بعد شَحْم الأُذنين إلى قريبٍ من المَنْكِبين.
لكن في الرواية الأخرى قال: “ما رأيتُ من ذي لِمَّةٍ” يعني: كان عليه الصلاة والسلام أحيانًا شعره إلى المَنْكِبين، وأحيانًا يُغطِّي المَنْكِب.
“عليه حُلَّةٌ حمراء، ما رأيتُ شيئًا قط أحسن منه “.
لبس عليه الصلاة والسلام حُلَّةً حمراء، وهذه سنتكلم عنها بعد قليلٍ، يعني: بشيءٍ من التَّفصيل.
إذن فالنبي عليه الصلاة والسلام الصفات الخَلْقية هنا ذُكِرَ بعضها: أنه كان مَرْبُوعًا، ليس بالطويل، ولا بالقصير، وكان شعره طويلًا، وعظيم الجُمَّة إلى المَنْكِب، وأحيانًا يُغطي المَنْكِب.
وكان أحسن الناس وجهًا، وأحسنهم خَلْقًا، فزيَّنه الله تعالى أكمل تزيينٍ، وهذا من حكمة الله : أن جعل كمال الصفات الخَلْقية للأنبياء والرسل؛ لأن النبي أو الرسول لو أتاهم وفيه عاهةٌ ما تقبَّل الناسُ منه، وربما سخروا منه، يعني: لو كان -مثلًا- أعور سيسخرون بعَوَرِه، ويجعلونه قضيةً، فلو كان فيه أي عيبٍ خَلْقِي سيسخر هؤلاء منه.
فكان من حكمة الله أن جعل الأنبياء والرسل على أكمل الصفات، وأكمل الخلق، فكان عليه الصلاة والسلام من حيث الطول والقصر مَرْبُوعًا -وسطًا بينهما-، وكان شعره طويلًا: تارةً إلى المَنْكِب، وتارةً يُغطي المَنْكِب، وكان أحسن الناس وجهًا، وأحسنهم خَلْقًا.
وهنا مسألةٌ مهمةٌ، وهي: لبس الأحمر، قال: “في حُلَّةٍ حمراء”، فالنبي عليه الصلاة والسلام لبس الأحمر، وهذه المسألة يكثر السؤال عنها.
ولعلنا نتكلم عن هذه المسألة في الدرس القادم -إن شاء الله-؛ لأنها تحتاج إلى أن نقف معها وقفةً، ونبسط الكلام فيها: حكم لبس الأحمر، وهل فيه كراهةٌ؟ وهل ورد فيه نهيٌ؟ والأحاديث المروية في ذلك.
وهذه بحثتُها في رسالة (الماجستير): أحكام اللباس المُتعلقة بالصلاة والحج، بحثتُها بحثًا مُوسعًا، سآتي بخلاصته -إن شاء الله- في الدرس القادم يوم الثلاثاء القادم؛ لأني لا أريد الآن أن أذكر المسألة مُختصرةً، وإنما أريد أن أبسط الكلام فيها في أول الدرس القادم، إن شاء الله.
فأكتفي بهذا القدر في التعليق على “صحيح مسلم”، ونُجيب عما تيسر من الأسئلة.
الأسئلة
السؤال: ما الجمع بين التواضع وعدم أخذ الزينة للرجال بالتَّكلُّف، والأمر بالزينة الواردة في القرآن وفعل بعض الصحابة؟
الجواب: التَّكلُّف المقصود به: التَّرف، فالتَّرف لم يرد إلا على سبيل الذَّم، فالمبالغة في التَّنعُّم والتَّرف هذا مذمومٌ؛ ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يمشي حافيًا أحيانًا [27]، ويأمر بالاحتفاء أحيانًا [28]، لكن عند الصلاة أمر الله بأخذ الزينة: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، فينبغي للإنسان أن يأخذ كامل زينته في الصلاة: يلبس أحسن ملابسه، حتى لو صلَّى في بيته وحده يلبس أحسن ملابسه.
بعض الناس إذا صلى في البيت يُصلي بملابس النوم، وهذا خلاف السنة، فالسنة أن الإنسان يلبس أحسن ملابسه، كما لو أردتَ أن تُقابل ضيفًا، أو تذهب لمناسبةٍ مهمةٍ؛ تلبس أحسن ملابسك، كذلك أيضًا في الصلاة، فينبغي أخذ الزينة في الصلاة، وكذلك أيضًا عند مُقابلة الناس ينبغي للإنسان أن يلبس ملابس حسنةً.
وهذا لا يدخل في الكِبْر، بل اعتبره النبي عليه الصلاة والسلام من الجمال، لما سأله رجلٌ قال: “يا رسول الله، إن الرجل يُحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنةً”، يعني: هل هذا من الكِبْر؟ قال: إن الله جميلٌ يُحب الجمال، الكِبْر: بَطَرُ الحقِّ، وغَمْطُ الناس [29].
فكون الإنسان يلبس الملابس الحسنة، والنِّعال الحسنة، والمركب الحسن، هذا من الجمال الذي يُحبه الله ، والله يُحب إذا أنعم على عبده نعمةً أن يُرى أثر نعمته عليه، لكن المذموم هو التَّرف؛ المبالغة في التَّرف، والمبالغة في التَّنعُّم.
السؤال: أيُّهما أفضل: “اللهم صلِّ وسلم على رسولك محمدٍ” أو “اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمدٍ”؟
الجواب: الأمر في هذا واسعٌ، هو رسولٌ، وهو نبيٌّ، لكن إذا قلت: “اللهم صلِّ وسلم على رسولك محمدٍ” يعني: هذا هو الأكمل؛ لأن كل رسولٍ نبيٌّ، وليس كل نبيٍّ رسولًا.
السؤال: ما حكم أداء النافلة بعد خروج وقتها؟
الجواب: يُشرع ذلك، وهذا يُعتبر قضاءً، فإذا فاتت الإنسان السنة الراتبة يُشرع له أن يقضيها؛ لعموم قول النبي : مَن نام عن صلاةٍ أو نسيها فليُصلها إذا ذكرها [30].
السؤال: وهل أداء النبي لسُنة الظهر بعد العصر خاصٌّ به؟
الجواب: نعم، هو خاصٌّ به كما قالت أم سلمة رضي الله عنها، قالت: يا رسول الله، أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: لا [31].
السؤال: المُؤذن كثير التَّغيُّب، هل للشخص الأذان بدله، أو يترك المسجد بدون أذانٍ؛ خشية إعانته على عدم المُواظبة؟
الجواب: الأفضل أن يُؤذِّن فينال بذلك أجرًا، ويشهد له مَن سمعه، فإن المُؤذن لا يسمع صوته إنسٌ ولا جنٌّ ولا شيءٌ إلا شهد له يوم القيامة، ولو يعلم الناس ما ورد في النداء من الفضل والأجر والثواب لتنافسوا عليه، حتى يقترعوا عليه، فالأفضل هو أن تُؤذن بدلًا عنه، وتحتسب الأجر والثواب عند الله .
السؤال: هل يصح جمع الذِّكْر بعد الصلاة دفعةً واحدةً، فأقول: “سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر ثلاثًا وثلاثين”؟
الجواب: الأفضل هو التكرار؛ لأن هذا هو الذي وردتْ به السنة: “سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر” تُكررها ثلاثًا وثلاثين.
أما أن تقول: “سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر ثلاثًا وثلاثين” فهذا لم يرد، إنما الذي ورد صيغٌ قريبةٌ من هذا، تقول: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزِنَة عرشه، ومِدَاد كلماته هذا قد جاء في حديث جويرية بنت الحارث رضي الله عنها [32].
أما الذِّكْر الوارد بعد الصلاة فيكون مُكررًا ثلاثًا وثلاثين.
السؤال: والدتي تُوفيتْ وهي قد حَجَّتْ، وأردنا جمع مبلغٍ من المال، فهل الأفضل في حقِّنا وحقِّها أداء الحج، أم نتصدق به عنها؛ ليحجَّ بهذا المبلغ شخصٌ آخر لم يسبق له حجٌّ؟
الجواب: الأفضل أن تُحْجِجوا عنها؛ لأن الحجَّ أجره عظيمٌ، وثوابه جزيلٌ، وثواب الحجِّ يصل للميت، فالأفضل أن تُحْجِجوا عنها.
السؤال: مَن كان قادرًا على القيام وصلى النافلة جالسًا على الأرض، أو على الكرسي، يُومِئ إيماءً بالركوع والسجود، هل صلاته صحيحةٌ؟
الجواب: نعم، صلاته صحيحةٌ، لكن يكون له نصف أجر القائم كما ورد ذلك عن النبي .
القيام في صلاة النافلة ليس ركنًا، إنما هو ركنٌ في صلاة الفريضة، وأما النافلة فإنه مُستحبٌّ، فإذا صلى الإنسان قاعدًا في صلاة النافلة مع قُدرته على القيام صحَّتْ صلاته، ويكون له نصف أجر القائم.
السؤال: إذا شككتُ في الملابس هل هي طاهرةٌ أم نجسةٌ؟ هل أُصَلِّي؟
الجواب: تبني على اليقين، واليقين هو الطهارة، واليقين لا يزول بالشك، الأصل هو طهارة الملابس، فإذا شككتَ لا تلتفت لهذه الشكوك، والالتفات لهذه الشكوك يقود إلى الوسواس، فلا تلتفت للشكوك: لا في الملابس، ولا حتى في الطهارة، ولا في البقعة، ولا في أي شيءٍ، عند العلماء قاعدةٌ عظيمةٌ: “اليقين لا يزول بالشك”.
السؤال: ما معنى: الشك بعد العبادة لا يُلتفت إليه؟
الجواب: هذه قاعدةٌ مفيدةٌ جدًّا، وهي: أن الشك بعد الفراغ من العبادة لا يُلتفت إليه، فإذا فعلتَ أية عبادةٍ ثم طرأ الشك بعد الفراغ منها لا تلتفت لهذا الشك.
مثلًا: إذا صليتَ وفرغتَ من الصلاة، ثم شككتَ: هل صليتَ ثلاثًا أو أربعًا؟ لا تلتفت لهذا الشك.
إذا طُفْتَ سبعة أشواطٍ، وبعدما فرغتَ من الطواف شككتَ: هل كان الطواف ستةً أم سبعةً؟ لا تلتفت لهذا الشك.
فالشك الطارئ على العبادة بعد الفراغ منها لا يُلتفت إليه، هذه قاعدةٌ مفيدةٌ ونافعةٌ.
نكتفي بهذا القدر، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1, ^2 | رواه مسلم: 2327. |
---|---|
^3 | رواه مسلم: 1828. |
^4 | رواه مسلم: 2822. |
^5 | رواه البخاري: 3475، ومسلم: 1688. |
^6 | رواه مسلم: 2328. |
^7 | رواه مسلم: 2329. |
^8, ^9 | رواه مسلم: 2330. |
^10, ^13 | رواه مسلم: 2331. |
^11 | رواه البخاري: 1982، ومسلم: 2481، وأبو يعلى في “مسنده”: 4236، وابن سعدٍ في “الطبقات الكبرى”: 5/ 326. |
^12 | رواه البخاري: 2788، ومسلم: 1912. |
^14 | رواه مسلم: 2332. |
^15, ^16 | رواه مسلم: 2333. |
^17 | رواه مسلم: 2334. |
^18 | رواه مسلم: 8. |
^19 | رواه مسلم: 178. |
^20 | رواه مسلم: 2336. |
^21 | رواه البخاري: 2004، ومسلم: 1130. |
^22 | رواه مسلم: 1134. |
^23 | رواه ابن ماجه: 3606، وأحمد: 5664. |
^24, ^25, ^26 | رواه مسلم: 2337. |
^27 | رواه البزار في “مسنده”: 3512. |
^28 | رواه أحمد: 23969، والبيهقي في “شعب الإيمان”: 6469. |
^29 | رواه مسلم: 91. |
^30 | رواه أبو يعلى في “مسنده”: 3086، والطبراني في “المعجم الأوسط”: 6129. |
^31 | رواه أحمد: 26678، وابن حبان: 2130. |
^32 | رواه مسلم: 2726. |