عناصر المادة
- أحكام البينة واليمين وعدالة الشهود
- عدالة البينة
- الأحوال التي يقضي فيها القاضي بعلمه
- الحالة الأولى
- الحالة الثانية
- تزكية الشهود
- الحكم باليمين عند عدم الشهود أو بطلان شهادتهم
- الحكم بِنُكول المدعى عليه عن اليمين
- حكم الحاكم يرفع الخلاف ولا يزيل الشيء عن صفته باطنًا
- حكم الحاكم المخالف في المذهب
- حكم التقليد في المختلف فيه
- ما تصح فيه الدعوى على الغائب ونحوه
- كتاب القاضي إلى قاضٍ آخر
- باب القِسمة
- باب الدعاوى والبينات
- كتاب الشهادات
- تعريف الشهادة
- حكم تحمل الشهادة وأدائها
- حكم أخذ الأجرة على الشهادة وكتمانها
- حكم الإشهاد على العقود وبيان ما يشهد به
- ذكر صورٍ من الشهادة تختلف أحكامها
- شروط من تقبل شهادته
- البلوغ والعقل والنطق والحفظ
- الإسلام
- العدالة
- ما يعتبر للعدالة في الشهادة
- حكم التحمل قبل حصول شرط الشهادة والأداء بعده
- حكم شهادة العبد وأصحاب الحرف الدنيئة
- حكم شهادة الأعمى
- موانع الشهادة
- باب أقسام المشهود به
- الأول: الزنا
- الثاني: ادعاء الفقر ممن عُرف بالغنى؛ ليأخذ من الزكاة
- الثالث: القود والإعسار وما لا يقصد به المال
- الرابع: المال وما يُقصد به المال
- الخامس: داء دابةٍ ومُوضِحةٍ ونحوهما
- السادس: ما لا يطَّلع عليه الرجال غالبًا
- حكم الشهادة الناقصة عن الكمال
- الشهادة على الشهادة وصفة أدائها
- شروط الشهادة على الشهادة
- ما تقبل به الشهادة من الألفاظ وما لا تقبل به
- رجوع الشهود عن الشهادة
- تعزير شاهد الزور
- باب اليمين في الدعاوى
- كتاب الإقرار
- شروط الإقرار
- حكم إقرار المكره بغير ما أكره عليه
- حكم إقرار المريض لوارثٍ أو غيره
- تكذيب المُقَر له المُقِر
- حكم الإقرار لما لا يملك
- حكم الإقرار بالزوجية
- ما يحصل به الإقرار وما يغيره
- تعليق الإقرار بالشرط
- إذا وُصل الإقرار بما لا يصلح أن يكون له ثمنٌ
- حكم الاستثناء في الإقرار
- حكم من تصرف في شيءٍ ثم أقر به لغيره
- حكم إقرار أحد الوارثين بالدين على مورثه
- باب الإقرار بالمجمل
- ما يُفسَّر به المجمل الذي يُقَرُّ به
- تحديد المجمل المحدد بشيءٍ محتملٍ
- الإقرار المأخوذ من كلام غيره
- إذا اتفقا على عقدٍ وادعى أحدهما فساده
- الإقرار بالشهادتين قبل البلوغ أو قبل الموت
- الأسئلة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
هذا هو الدرس الأخير في شرح “دليل الطالب”، وهو كذلك الدرس الأخير معنا، وبعده سنتوقف خلال فترة الاختبارات والإجازة، ثم يُستأنف الدرس كالمعتاد مع ابتداء الدراسة في شهر شوالٍ إن شاء الله تعالى.
أحكام البينة واليمين وعدالة الشهود
كنا قد ابتدأنا في “كتاب القضاء” ووصلنا إلى قول المؤلف:
عدالة البينة
ويُعتبر في البيِّنة: العدالة ظاهرًا وباطنًا.
يقول المؤلف رحمه الله: “يُعتبر في البينة العدالة”، “البينة” عند الجمهور المقصود بها: شهادة الشهود، يعني: يُعتبر في الشهود، فتكون عبارة المؤلف معناها: يُعتبر في الشهود العدالة ظاهرًا وباطنًا؛ وذلك لقول الله : وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2].
والقول بأنه تُعتبر العدالة ظاهرًا وباطنًا، هذا مما يشق التحقق منه، خاصةً في وقتنا الحاضر، ومع كثرة الناس وضعف الترابط بين كثيرٍ من الناس، فالقول بأنه لا بد من العدالة ظاهرًا وباطنًا، يصعب تحقيقه، خاصةً في الوقت الحاضر؛ ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أنه تكفي العدالة ظاهرًا، وهذا روايةٌ عن الإمام أحمد، واختار هذا القول الخِرَقي وجماعةٌ، وهو مذهب الحنفية؛ وذلك لقول عمر : “المسلمون عدولٌ بعضهم على بعضٍ”، فإن ظاهر كلامه أن المقصود بذلك: العدالة في الظاهر، ولأن العدالة أمرٌ خفيٌّ، سببها الخوف من الله تعالى، ودليل ذلك الإسلام، فإذا وُجد؛ فيُكتفى به، ما لم يقم دليلٌ على خلافه، وهذا هو القول الراجح الذي لا يسع الناس إلا هذا القول في الوقت الحاضر، القول الراجح: أنه يُكتفى بالعدالة ظاهرًا، ولا يُشترط تحقُّقها ظاهرًا وباطنًا.
لكن هل الأصل في المسلم العدالة، أو الأصل في المسلم عدم العدالة؟ من يجيب؟
مداخلة: ……
الشيخ: ما الدليل على أن الأصل العدالة؟
مداخلة: ……
الشيخ: أحسنت، من العلماء من قال: إن الأصل في المسلم العدالة، واحتجوا بأن النبي قَبِل شهادة الأعرابي -لكن الحديث ضعيفٌ- لمَّا قال: إني رأيت الهلال، قال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؟، قال: نعم، قال: فأمر بلالًا بأن يؤذن في الناس بصيام رمضان [1]، والحديث ضعيفٌ.
وقالوا: إن قول عمر : “المسلمون عدولٌ بعضهم على بعضٍ”، يدل على أن الأصل في المسلم العدالة.
والقول الثاني في المسألة: أن الأصل في المسلم عدم العدالة، وهذا اختاره أبو العباس ابن تيمية وابن القيم، رحمهما الله تعالى، بل إن ابن تيمية قد خطَّأ من قال: إن الأصل في المسلم العدالة، انتبه! هذا من الألفاظ الدارجة، ابن تيمية رحمه الله قال: “من قال: إن الأصل في الإنسان العدالة فقد أخطأ، وإنما الأصل فيه الجهل والظلم؛ لقول الله تعالى: وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]”.
وهكذا أيضًا قال ابن القيم: “إذا شُك في الشاهد هل هو عدلٌ أم لا؛ لم يُحكم بشهادته؛ إذ الغالب في الناس عدم العدالة”، والعدالة حادثةٌ تتجدد، والأصل عدمها.
والمَرْداوي له بحثٌ في المسألة في “الإنصاف” يميل إلى أن الأصل في المسلم العدالة، لكن الآية ظاهرةٌ صريحةٌ: إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، الأصل في الإنسان الظلم والجهل؛ لذلك إذا كان مجهول الحال لا نعلم عدالته، فالأصل عدم قبول شهادته؛ ولهذا حتى في مثلًا الرواة في نقل الحديث، إذا قالوا: “إنه مجهولٌ”، هل معنى ذلك: أنه تُقبل روايته أو لا تقبل؟ لا تقبل، حتى تُعلم عدالته، لو كان الأصل في المسلم العدالة؛ لكان الأصل قبول رواية المجهول، لكن الذي عليه العمل عند المحدثين: أن الأصل عدم قبول رواية المجهول.
فإذنْ الصواب: أن الأصل في الإنسان عمومًا عدم العدالة، مسلمًا كان أو غير مسلمٍ، حتى تثبت عدالته.
مداخلة: ……
الشيخ: حتى الإسلام لا يدل، الأصل فيه أنه ظلومٌ جهولٌ، يعني: لا بد أن نتحقق من عدالته، يَثبت بذلك دماءٌ، ويثبت بذلك أموالٌ، ويثبت بذلك فُرُوجٌ؛ فلا بد من التحقق والتثبت.
فالأصل أن نقول: إن هذا مجهولٌ، لا نقبله، لا نعتبره عدلًا إلا إذا استطاع أن يُثبِت أنه عدلٌ.
الأحوال التي يقضي فيها القاضي بعلمه
قال:
إذا قال الفقهاء: “الحاكم” يقصدون به: القاضي.
الحالة الأولى
حكم القاضي بعلمه: أولًا الفقهاء يقولون: إن القاضي لا يحكم بعلمه؛ وذلك لأن تجويز حكم القاضي بعلمه يُفضي: إلى تُهمته، وإلى أن يحكم بما يشتهي، فلو أنه قال: حكمت على فلانٍ بكذا بعلمي أن له عنده حقًّا، هذا غير مقبولٍ؛ ولهذا ابن القيم يقول في زمنه: “لو فُتح هذا الباب، ولاسيما لقضاة الزمان؛ لوَجد كلُّ قاضٍ له عدوٌّ سبيلًا إلى قتل عدوه ورجمه وتفسيقه والتفريق بينه وبين امرأته”، فهذا يُفضي إلى مفاسد عظيمةٍ؛ لهذا قال العلماء: إن القاضي لا يقضي بعلمه.
إذا كان عنده شهادةٌ بأن عند فلانٍ لفلانٍ حقًّا وهو قاضٍ، فما الحل؟ قلنا: لا يقضي بعلمه، يعني: شاهدٌ بأن فلانًا قضى فلانًا حقه، ثم أتت إليه القضية وهو قاضٍ، وما استطاع أن يثبت الحق، فنقول..
مداخلة: ……
الشيخ: نعم، أحسنت، لا يقضي، يُحيل القضية إلى آخر، ويكون شاهدًا، هذا هو المخرج في مثل هذه المسألة.
لكن هنا يقول المؤلف: “للحاكم أن يعمل بعلمه فيما أقَرَّ به في مجلس حكمه”، يعني: فيما يُقِر به في مجلس الحكم، فله أن يعمل بعلمه في هذه الحال.
فلو أنه أقَرَّ بكذا، ثم بعد ذلك سَرَت القضية؛ فللقاضي أن يقول: ألست قلت كذا وكذا في مجلس الحكم؟ فله أن يعمل بعلمه فيما أقَرَّ به في مجلس الحكم، وهذه من الحالات التي يُقبل فيها عمل الحاكم بعلمه.
الحالة الثانية
فيقول الفقهاء: إن القاضي له أن يعمل بعلمه في عدالة الشهود وفسقهم؛ ولهذا إذا كان القاضي يعرف الشهود، يعرفهم بالصلاح والتقوى والعدالة، لا يحتاج إلى أن يطلب تزكيةً، إذا كان يعرفهم بالفسق؛ فله أن يرد شهادتهم، يقول: ما أقبل شهادة هؤلاء، هؤلاء فَسَقَةٌ، فله إذنْ أن يعمل بعلمه في عدالة الشهود وفسقهم، وذكر الموفق بن قدامة هذا إجماعًا، قال: “لا نعلم فيه خلافًا”؛ وذلك لأن الحق قد وضح على حقٍّ لا إشكال فيه.
الجرح والتعديل قلنا: لا بد من تعديل الشاهد؛ إما أن يعلم القاضي عدالته، أو يُؤتى بمن يُعدِّله.
بالنسبة لجرح الخصم للشاهد، هل يكفي الجرح المجمل؟
لا يكفي، لا بد أن يكون الجرح مفصلًا مفسرًا بما يقدح في العدالة، أما الجرح المجمل فلا يكفي، فلو قال: إنه فاسقٌ، لا يُقبل هذا الكلام: فاسقٌ؟ لماذا هو فاسقٌ؟ لو قال: لأنه يشرب الخمر مثلًا، وأتى بما يُثبت أنه يشرب الخمر؛ فهذا يُعتبر جرحًا لهذا الشاهد.
تزكية الشهود
قال:
يعني: من شهادة الشهود.
وذلك لتثبيت عدالتهم.
يعني: إذا كانت القضية تستدعي هذا، ويخشى هذا المدعي أن المدعى عليه يهرب، فطلب منه أن يحبس غريمه حتى يأتي بمن يُزكِّي البيِّنة، من يُزكِّي الشهود؛ فيُجِيبه القاضي، لكن يُحدِّد له، ينتظره ثلاثة أيامٍ.
يعني: عند التزكية لا بد من أن يكون المُزَكِّي يعرف هذا الشاهد، المؤلف يقول: “بالصحبة والمعاملة”، يعني: بأن يكون يعرفه عن قربٍ، وقد أخرج البيهقي في “السنن الكبرى” أن رجلًا شهد عند عمر ، فقال عمر: “لا أعرفك، ولا يضيرك أني لا أعرفك، ائتني بمن يعرف بك”، فأتاه برجلٍ، فسأله عمر ثلاثة أسئلةٍ؛ قال: هل صحبته في سفرٍ؟ قال: لا، قال: تعاملت معه بالدرهم والدينار؟ قال: لا، قال: فهل أنت جاره تعرف مدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال: فأنت إذنْ لا تعرفه” [2]، ذكر عمر هذه الأمور الثلاثة التي يمكن معرفة الإنسان بها.
الأمر الأول: السفر، والسفر خاصةً قديمًا، في الوقت الحاضر لا يمكن معرفة الإنسان بالسفر إلا إذا طالت مدته، لما كان الناس يُسافرون على الإبل وتطول مدة السفر؛ فيُعرف معدن الإنسان وأخلاقه، يُعرف تمامًا، في الوقت الحاضر قد لا يكشف السفر عن حقيقة الإنسان.
كذلك أيضًا الجوار: ضعفت الآن أواصر الجيران، وليست كما كانت فيما سبق، فيما سبق كان الجار يعرف جاره تمامًا، يعرف مدخله ومخرجه، أما الآن فقد لا يعرف أيضًا الجار حتى اسم جاره، فما بالك بحقيقة أمره؟!
لكن يبقى الأمر الثالث هو الذي يصلح لكل زمانٍ: وهو هل عاملته بالدرهم والدينار؟ هذه تصلح في عهد عمر وفي عهد المؤلف، وفي عهدنا، في وقتنا الحاضر هي المحكُّ في الحقيقة، العفة عند التعامل بالأموال هذه دليلٌ على صدق الإيمان، ودليلٌ أيضًا على صدق المعدن؛ ولهذا ربما تجد بعض الناس يتظاهر بالخير والصلاح، لكن عندما يتعامل بالدرهم والدينار؛ يكون شخصًا آخر؛ فإما أن يبخس الناس حقوقهم، أو يتعدى على الآخرين، أو يماطل، أو نحو ذلك، فتبقى هذه الخصلة الثالثة الحقيقةَ صالحةً لزمننا كما هي في زمن عمر .
ولكن أيضًا قد يقال: لو اشترطنا هذا الشرط؛ لشَقَّ ذلك، والله تعالى يقول: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282]، فتكفي العدالة في الظاهر، ولا يُشدَّد في ذلك؛ لأن التشديد يُفضي إلى عدم قبول شهادة كثيرٍ من الناس.
قال:
نعم، إذا ادعى، يعني: إذا جرح في الشهود، أو في المُزَكِّين للشهود؛ فيُقبل كلامه إذا أقام البينة على ذلك، وتبطل الشهادة.
طيب، اجتمع عندنا شهادتان، نقول: الجرح مقدَّمٌ على التعديل هنا، هنا الجرح مقدمٌ على التعديل، فإذا تعارضت بيِّنة الجرح والتعديل في الشاهد؛ يقدم الجرح على التعديل؛ وذلك لأن الجارح معه زيادة علمٍ بأمرٍ باطنٍ خَفِيَ على المعدِّل، أما المُعَدِّل فإنه يُخبِر بأمرٍ ظاهرٍ، ثم إن الجارح مثبِتٌ، والمُعَدِّل نافٍ، والمثبِت مقدمٌ على النافي.
لأنها شهادةٌ بما ليس بمالٍ ولا المقصود منه المال، ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال، أشبه الحدود.
الحكم باليمين عند عدم الشهود أو بطلان شهادتهم
يعني: إذا لم يكن له بينةٌ، ادعى دعوى، قال القاضي: ليس لك بينةٌ، أو أتى ببينةٍ، ثم تبين أن هؤلاء الشهود فسقةٌ؛ استطاع المدعَى عليه أن يثبت ذلك، فيقول القاضي: ليس لك على غريمك إلا اليمين، يعني: اليمين من الغريم؛ لقول النبي في قصة الحضرمي: شاهِداك أو يمينه [3].
قال:
لانقطاع الخصومة.
“يحلف الغريم على صفة جوابه في الدعوى”؛ وذلك لأن الأصل براءة ذمته، فهذا المدعي ادعى بأنه يطلب فلانًا عشرة آلاف ريالٍ، أنكر هذا المدعَى عليه، فيقول: والله ليس له عندي عشرة آلاف ريالٍ، يعني: يكون الجواب: يحلف على صفة جوابه في الدعوى، ثم يُخلَّى سبيله؛ لانقطاع الخصومة.
قال:
لأنه لا يلزمه أكثر من ذلك.
يعني: لو افترضنا أن المدعي أولًا ما وجد شهودًا، ثم بعدما حلف وحُكِم ببراءة المدعى عليه؛ وجد المدعي شهودًا، فله أن يُقيم دعوى جديدةً بعد ذلك؛ فإن الحق قديمٌ لا يُبطله شيءٌ.
الحكم بِنُكول المدعى عليه عن اليمين
قال:
طيب، نفترض الآن أن المدعي ما أتى ببينةٍ، أو البينة كانوا فسقةً (الشهود)، ثم توجهت اليمين للمدعى عليه فرفض أن يحلف، فما الحكم؟
قال: “وإن لم يحلف الغريم”، يعني: المدعى عليه.
وقد قضى النبي بالنُّكول، “النكول” معناه: الامتناع عن الحلف.
فالصواب: هو القضاء بالنُّكول، كما هو المذهب عند الحنابلة؛ لأن هذا الذي نَكَل -يعني امتنع عن الحلف- لولا أنه كاذبٌ لحلف؛ لأنه إذا كان صادقًا فلا يضره الحلف، لأنه حلف على بِرٍّ، فهذه قرينةٌ على كذبه، فإذنْ إذا رفض المدعى عليه الحلف؛ فيُقضى عليه بالنُّكول، لكن لا بد أن يخبره القاضي قبل ذلك، يقول له: إن لم تحلف، وإلا حكمت عليك بالنكول.
وقد جاء في قصة ابن عمر مع زيد بن ثابتٍ لما باع ابن عمر عبدًا على زيد بن ثابتٍ بثمانمئة درهمٍ، واشترط عليه زيدٌ البراءة من كل عيبٍ، ثم إن زيدًا وجد به عيبًا، فترافَعَا إلى عثمان، فقال زيدٌ: أنا شرطت عليه البراءة، فقال عثمان لابن عمر : أتحلف: أنك لما بعته لا تعلم أن به عيبًا؟ قال: لا، فقضى عليه عثمان بالنُّكول، فرد العبدَ على ابن عمر رضي الله عنهما، ويقال: إن ابن عمر باعه بعد ذلك بألفٍ ومئتي درهمٍ، يحتمل أن ابن عمر رضي الله عنهما امتنع عن الحلف تورُّعًا، بعض الناس قد يمتنع تورُّعًا، لكن القاضي يحكم بالنُّكول، سواءٌ امتنع تورعًا، أو امتنع لسببٍ آخر، فيقضى عليه بالنُّكول.
قال:
يعني: قطعًا للحجة، يعني: يُكرِّر عليه، أما القول بالسُّنية فيحتاج إلى دليلٍ، لو قال: الأَوْلى، أو أتى بعبارةٍ مفهِمةٍ، يفهم أنه إن لم يحلف؛ حكم عليه، فهذا هو الأقرب، والقول بالسُّنية يحتاج إلى دليلٍ.
وهذا هو الذي عليه العمل: القضاء بالنُّكول.
حكم الحاكم يرفع الخلاف ولا يزيل الشيء عن صفته باطنًا
قال:
وحُكْمُ الحاكم يرفع الخلاف.
هذه عبارةٌ مشهورةٌ عند العلماء: “أن حكم الحاكم يرفع الخلاف”، لكن لا بد أن تُفهَم على وجهها الصحيح: حكم الحاكم في المسائل الخلافية يرفع الخلاف، يعني: حكم القاضي، وبعض الناس يُوسِّع هذه العبارة فيجعل أيضًا حكم السلطان يرفع الخلاف، وهذا غير صحيحٍ، وقد أنكر هذا أبو العباس ابن تيمية رحمه الله، قال: إن هذا يؤدي إلى تبديل أمور الدين.
فإذا أتى مثلًا سلطانٌ -ومعظم المسائل الفقهية فيها خلافٌ- للأقوال المرجوحة والأقوال الشاذة، ثم يحكم بها، ويقال: حكم الحاكم يرفع الخلاف؛ هذا يترتب عليه شرورٌ عظيمةٌ.
مقصود العلماء بـ”حكم الحاكم يرفع الخلاف”: ليس المقصود به: السلطان، إنما المقصود به: القاضي، في المسائل التي يقضي فيها أيضًا، وهذا أيضًا مقيدٌ بما إذا لم يخالف حكمُ الحاكم نصًّا ولا إجماعًا.
إذنْ هذه العبارة ليست على إطلاقها؛ ولهذا إذا أخطأ القاضي وحَكم بحكمٍ يُخالف النص أو الإجماع؛ فإنه لا يرتفع الخلاف، ويُنقض حكمه، هذا هو الذي عليه العمل؛ ولذلك عندنا مثلًا: القاضي، ومن بعده الاستئناف، ومن بعده المحكمة العليا، وهم ينظرون في مدى موافقة حكم القاضي للشرع أو عدم موافقته، فإذا أخطأ القاضي؛ فتُرد عليه القضية؛ لكي يُعيد النظر فيها، فإن أبى ورأوا أنه قد أخطأ؛ فيُنقض حكمه.
فإذنْ هذه العبارة لا بد أن نفهمها على وجهها الصحيح.
قال المؤلف:
يعني: هنا حكم الحاكم يرفع الخلاف، لو مثلًا في مسألة “طلاق الحائض” -طلاق الحائض من المسائل الخلافية- لو أن القاضي حكم بوقوع الطلاق، أو بعدم وقوعه؛ فيرتفع الخلاف، فلا يأتي إنسانٌ ويُفتيه بفتوى والقاضي قد حكم مثلًا بعدم وقوع الطلاق، أو بوقوع الطلاق، هذا هو مقصود العلماء بهذه المسألة.
قال: “لكن لا يُزيل الشيء عن صفته باطنًا”؛ لقول النبي : فمن قضيت له بشيءٍ من حق أخيه؛ فلا يأخذ منه شيئًا؛ فإنما أقطع له قطعةً من نارٍ، فليأخذها أو ليدعها [4].
فحكم الحاكم لا يُغيِّر الشيء عن حقيقته، يعني: لا يجعل الحلال حرامًا والحرام حلالًا، فالحرام حرامٌ والحلال حلالٌ، وأحيانًا الإنسان قد يعجز عن إقامة البينة على الحق الذي له فيُحكَم عليه، وهذا لا يُبيح له أن يأخذ ما حَكم له به القاضي.
قال:
يعني: رجلٌ ادعى على امرأةٍ أنه هو زوجها -وهو ليس بزوجها- ووطئها، ثم أتى بشاهدي زورٍ، فيقول: إن هذا كالزنا تمامًا، حتى لو حكم له القاضي بهذه البينة؛ لأنه حَكم بشهود زورٍ، ولهذا يقول: هو كالزنا، وبعضهم يقول: يجب عليه في هذا الحد، بعض الفقهاء يوجب عليه في هذا الحد، كما ذكر ذلك في “منار السبيل”، قال: إنه يجب عليه الحد بهذا.
حكم الحاكم المخالف في المذهب
ثم ذكر الاختلاف بين العلماء، قال:
يعني: عمدًا من ذبيحةٍ أو من صيدٍ.
الشافعية لا يشترطون التسمية، ويُجيزون أكل متروك التسمية عمدًا، الحنابلة يشترطون التسمية، ويقولون: إن متروك التسمية عمدًا لا يحل؛ لأنه كالميتة، فيقول: لو باع حنبليٌّ متروكَ التسمية، لكن حكم بصحته شافعيٌّ؛ فإنه ينفذ؛ تفريعًا على هذه القاعدة: وهي أن حكم الحاكم يرفع الخلاف.
وقد كان التعصب للمذاهب موجودًا فيما سبق، لكن -ولله الحمد- قد زال أو قل التعصب في الوقت الحاضر في العالم الإسلامي، يعني قد نقول: إنه قلَّ، القول بأنه زال مبالغةٌ، لكن قلَّ التعصب كثيرًا، وقد كان فيما سبق هناك تعصبٌ، مرت أوقاتٌ بالأمة الإسلامية التعصب فيها كان شديدًا، لدرجة أن الشافعي لا يصلي خلف الحنفي، والحنفي لا يصلي خلف المالكي، بل المقامات الموجودة في المسجد الحرام كانت موجودةً إلى وقتٍ قريبٍ، إلى عهد الملك عبدالعزيز، فهي كانت موجودةً، والعجيب أن بعض المؤرخين ذكر: أنها بقيت تسعمئة سنةٍ، تسعمئة سنةٍ وهذه المقامات موجودةٌ في المسجد الحرام، كان هناك مقامٌ للحنفي، لا يصلي إلا الحنفية خلف هذا الإمام الحنفي، المالكية يصلون خلف المالكي، والشافعية يصلون خلف الشافعي، والحنابلة يصلون خلف الحنبلي، فكان هذا موجودًا إلى وقتٍ ليس بالبعيد، لكن -ولله الحمد- الآن أُزيلت، وأيضًا قلَّ التعصب للمذاهب.
حكم التقليد في المختلف فيه
قال:
من قلَّد مجتهدًا في صحة نكاحٍ مختَلَفٍ فيه.
أي: زوجته.
يعني: بتغير اجتهاد المجتهِد الذي قلَّده في صحته.
كما لو حكم له حاكمٌ مجتهدٌ بصحة نكاحٍ، فتغيَّر اجتهاده؛ فإنه لا يلزمه أن يفارق زوجته.
إذا حكم الحاكم، إذا اجتهد الإنسان أو القاضي؛ مثلًا: حكم القاضي مجتهدًا في مسألةٍ، ثم تغير اجتهاده بعد ذلك في المسألة التي بعدها، فهل يُنقض اجتهاده في المسألة الأولى؟ لا يُنقض، وحكمه مثلما قال عمر : “تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي”، وهذا حتى ليس فقط في حكم الحاكم، حتى في الاجتهاد في القِبلة، لو كنت في سفرٍ واجتهدت في تحديد القبلة في صلاة الظهر، وصليت بناءً على اجتهادك، ثم لما أتت صلاة العصر واجتهدت، وتغيَّر اجتهادك، هل يلزمك أن تعيد صلاة الظهر؟ لا يلزمك، هذه مطردةٌ.
ما تصح فيه الدعوى على الغائب ونحوه
قال:
يعني: الدعوى كما أنها تصح على الحي؛ تصح على الميت، يدَّعي بأنه يطلب فلانًا الذي قد مات مبلغًا قدره كذا، وكذلك على غير المكلف، يدَّعي مثلًا أنه أنفق على فلان -هذا اليتيم- مبلغًا قدره كذا، ونحو ذلك.
كذلك أيضًا الحكم على الغائب مسافة القصر: وهي أربعة بُرُدٍ، تُعادل (80 كيلو)، وكذا دونها إذا كان مستترًا في البلد لكن بُحث عنه، بَحثوا عنه ولم يجدوه، فيصح الحكم عليه، وهذا هو الذي أخذ به “نظام المرافعات”، نظام المرافعات: إذا ادَّعى إنسانٌ على آخر فتغيب، فإذا تغيب في الجلسة الثانية؛ فإن القاضي يحكم عليه، أخذوا هذا من كلام الفقهاء هنا؛ بأنه يصح الحكم على الغائب إذا كان مستترًا، فكونه يُبَلَّغ ولا يحضر، ثم تأتي الجلسة الثانية ولا يحضر، يقولون: للقاضي أن يحكم عليه في هذه الحال، وهذا الغائب له أن يدفع عن نفسه عند ذلك.
قال: “بشرط البيِّنة في الكل”، وهذا ظاهر كلام المؤلف: أنه على إطلاقه بالنسبة للغائب.
وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يجوز الحكم على الغائب، إلا إذا تعذَّرت إقامة الدعوى عليه حضوريًّا؛ كالمستتر والممتنع من الحضور ونحو ذلك؛ لحديث عليٍّ قال: قال لي النبي : إذا تقدَّم إليك خصمان؛ فلا تسمع كلام الأول حتى تسمع كلام الثاني -أو قال: كلام الآخر– فسوف ترى كيف تقضي، قال عليٌّ : فما زلت بعد ذلك قاضيًا [5]، أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد، وهو حديثٌ حسنٌ.
فالصحيح إذنْ: أنه لا يجوز الحكم على الغائب، إلا إذا تعذَّرت إقامة الدعوى عليه، أما إذا كان لا يتعذَّر -خاصةً في وقتنا الحاضر مع تيسُّر وسائل الاتصالات والمواصلات؛ فالأمور تيسرت أكثر من أي وقتٍ مضى– فلا يُحكم على الغائب إلا إذا تعذَّرت إقامة الدعوى عليه؛ كالمستتر والذي لا يُهتدى إليه مثلًا، والممتنع عن الحضور، أما إذا كان موجودًا لكنه مسافرٌ؛ فهذا يواصَل أو يُتصل به، وكما ذكرت في وقتنا الحاضر، تيسرت وسائل المواصلات.
كتاب القاضي إلى قاضٍ آخر
قال:
هذا يسميه الفقهاء: “كتاب القاضي إلى القاضي”، ويسمى في الوقت الحاضر بأي شيءٍ؟
مداخلة: ……
الشيخ: بـ”الاستخلاف”، أحسنت، يسمى بـ”الاستخلاف”، عند المحاكم يسمونه “استخلافًا”، والفقهاء يسمونه “كتاب القاضي إلى القاضي”، والمراد بـ”كتاب القاضي إلى القاضي”: يعني الأوراق الثُّبُوتية التي يَبعث بها قاضٍ ببلدٍ إلى قاضٍ آخر، والمتضمنة إثبات حجةٍ قامت عند القاضي المُرسِل في دعوى منظورةٍ أمام قاضٍ آخر، أو حكمٍ صادرٍ من قاضٍ ويُطلب تنفيذه من قاضٍ آخر على محكومٍ عليه، أو مثلًا: يدَّعي المدعي، أو المدعى عليه، أن عنده شهودًا في بلدٍ آخر، وأنهم لا يستطيعون الحضور، أو يصعب عليهم الحضور، فيستخلف القاضي القاضيَ الذي في بلد الشهود؛ لكي يستمع إلى شهادتهم ثم يبعث بها إليه، فهذا هو الذي يسميه الناس في الوقت الحاضر بـ”الاستخلاف”، ويسميه الفقهاء بـ”كتاب القاضي إلى القاضي”، وقد أجمعت الأمة على قبوله؛ لقول الله تعالى حكايةً عن بلقيس: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيم إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل:29-31]، فاحتجَّت به، وذكره الله تعالى على وجه الإقرار لها، ولأنه كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي يدعوهم إلى الإسلام، وكاتَب عمَّاله وولاته وسُعاته، فالمسألة هي محل إجماعٍ.
قال:
كأن يكتب: “إلى من يصله كتابي من قضاة المسلمين”، من غير تعيين، أو مثلًا: يكون في المحكمة عددٌ من القضاة، يعني: قاضٍ في قريةٍ كتب إلى المحكمة العامة في الرياض، يكتب: “إلى رئيس المحكمة” مثلًا، أو: “إلى من يصل كتابي هذا إليه من قضاة المحكمة العامة بالرياض”، مثلًا، فهذا مما يسوغ فيه، وفي الوقت الحاضر وُجدت تنظيماتٌ لمثل هذا الاستخلاف، وهذه التنظيمات قُصِد منها الضبط، فينبغي العمل بها، قال: “أو غير معيَّنٍ”.
هذا كان في الزمن السابق، لما كانت المواصلات عندهم على الإبل والحمير، وكان التنقل صعبًا، فيقولون هنا: كتاب القاضي لا بد من أن يقرأه القاضي على شاهدين عدلين ثم يدفعه لهما لتوصيله للقاضي الآخر.
ولكن الصواب في هذا: أنه لا يُحتاج إلى ذلك، وأنه يجوز العمل بكتابته إذا عُرِف خطه، وفي الوقت الحاضر أصبحت الكتابة تُوثَّق الآن بأختامٍ ومظاريف، وبأمورٍ يتحقق معها وصول كتاب القاضي من غير لبسٍ ومن غير تزويرٍ، بل يُقطَع بصحة ذلك؛ ولهذا فما ذكره المؤلف إنما هو مناسبٌ لما هو في زمنه، أما في وقتنا الحاضر فلا يُحتاج إلى هذا كله، ويكفي وصول كتاب القاضي بختمه وبوثائق المحكمة الرسمية، هذا بحد ذاته كافٍ للعمل به.
قال:
وهذا كما قلنا بإجماع العلماء.
باب القِسمة
ثم قال المؤلف رحمه الله:
“القِسمة” من قسمت الشيء إذا جعلته أقسامًا، والقِسم: النصيب.
وقد ذُكرت القِسمة في قول الله : وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ [النساء:8]، وفي قوله سبحانه: وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ [القمر:28].
ووردت في قول النبي : الشُّفعة فيما لم يُقسَم [6].
أنواع القسمة
يقول المؤلف:
يعني: تنقسم القسمة إلى قسمين:
- قسمة تراضٍ.
- وقسمة إجبارٍ.
فما معنى قسمة التراضي؟ وما معنى قسمة الإجبار؟
قسمة التراضي وأحكامها
“قسمة التراضي” بيَّنها المؤلف، قال:
يعني: قسمة التراضي: هي التي تكون فيما لا ينقسم إلا بضررٍ، أو بِرَدِّ عوضٍ؛ هذا ضابطها: قسمة التراضي: هي التي تكون في الأملاك التي لا تنقسم إلا بضررٍ، أو برد عوضٍ.
ومَّثل المؤلف لهذا، قال:
يعني: اثنان مشتركان في محلٍّ صغيرٍ، (متر × متر)، أو (مترين × مترين)، هنا إذا أراد أن يقسم هذا الملك؛ لا بد من التراضي؛ لأن القسمة فيها ضررٌ، لو قسمه الآن (متر × متر)، أصبح (نصف متر × نصف متر)؛ لا يستفيد منه صاحبه، هنا لا بد من التراضي، هذا معنى “قسمة التراضي”.
فإذنْ “قسمة التراضي”: هي التي تكون فيما لا ينقسم إلا بضررٍ أو بِرَد عوضٍ؛ كالحمَّام، والدُّور الصغيرة، والشجر المفرد؛ يعني: اثنان مشتركان في شجرةٍ، كيف يقسمانها؟! لا بد من التراضي على طريقةٍ معينةٍ، حيوانٍ كذلك، سيارةٍ مثلًا، فهذه لا بد فيها من التراضي.
ولا يخلو إما أن يتراضيا، أو لا يتراضيا على القسمة؛ فإن تراضيا، قال:
يعني: عنده محٌّل صغيرٌ، وتراضيا على قسمته، الحق لهما، إذا تراضيا بقسمته على أي طريقةٍ؛ جاز، تراضيا على قسمة الحيوان بطريقةٍ معينةٍ، تراضيا على قسمة السيارة، هذه السيارة قيمتها مثلًا عشرة آلاف ريالٍ، قال: أعطني خمسة آلافٍ وهي لك، مثلًا، إذا تراضيا بأيّ طريقةٍ؛ صح، قال: “صحت”، التكييف الفقهي لها: يقول المؤلف:
إذنْ قسمة التراضي: التكييف الفقهي لها: أنها بيعٌ، يُشترط لها شروط البيع؛ من خيار المجلس، ومن خيار الشرط، ومن سائر شروط البيع.
فإذنْ هذا هو القسم الأول: “قسمة التراضي”، إذا لم يتراضيا فما الحكم؟
قال:
يعني: هما الآن مشترِكان مثلًا في سيارةٍ، فطلب القسمة، رفض، قال: أبدًا، أنا لن أقسم، تكون السيارة بيننا شراكةً مستمرةً إلى الأبد، إلى الممات، هذا غير معقولٍ، قال: أنا أريد حقي، أنا أريد فصل هذه الشراكة، فأبى، فما هو الحكم؟ يقول المؤلف: يُجبَر، إن أبى؛ قال: “فإن أبى؛ بِيع عليهما وقُسِّم الثمن”، تُباع هذه السيارة، ويُقسَّم الثمن بينهما نصفين، أو يُباع هذا الحيوان ويُقسَّم الثمن بينهما، أو يُباع هذا الحانوت أو الحمَّام ويُقسَّم بينهما، هذا هو الحكم في هذا.
وذلك لأنها معاوضةٌ، فلا يُجبر عليها الممتنع؛ كالبيع.
هل يمكن أن يقتسماها بالزمن؟ قال المؤلف:
لكن هذا لا بد أن يكون بالتراضي؛ ولهذا قال: “ولا إجبار في قسمة المنافع”، لو أنه في مثال السيارة قال: تكون لي شهرًا ولك شهرًا، إن تراضيا؛ فلا بأس، لكن إن لم يتراضيا؛ فلا يُجبر، لماذا؟ لأن القسمة بالزمان يأخذ أحدهما قبل الآخر، فلا تسوية لتأخُّر حق الآخر.
إذا قلنا: هذا له شهرٌ، وهذا له شهرٌ، أيهما الأول؟ يَرِد علينا إشكالٌ آخر: من هو الأول الذي يأخذها الشهر الأول؟ فلا بد إذنْ من التراضي هنا، وهذا معنى قول المؤلف: “ولا إجبار في قسمة المنافع”.
مداخلة: …..
الشيخ: لا، هنا يأتي الإجبار عند الرفض، عند الرفض يأتي تدخل القاضي.
قال: “ولكلٍّ الرجوع”.
مداخلة: …..
الشيخ: القرعة أيضًا بالتراضي، إذا ما يوجد تراضٍ؛ لا يؤخذ بالقرعة.
“ولكُلٍّ الرجوع”، فلو رجع أحدهما بعد استيفاء نوبته؛ غرم ما انفرد به، يعني: لكلٍّ منهما الرجوع، يعني: لو أن هذا قال: لي شهرٌ ولك شهرٌ، لمَّا أخذ الشهر الذي له؛ قال: أنا رجعت، فهنا يقول المؤلف: يصح الرجوع، لكن يغرم هذه النوبة التي له للآخَر.
وقال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: “إنها لا تنفسخ حتى ينقضي الدور ويستوفي كلُّ واحدٍ حقه”، وهذا هو الراجح، فإذا اتفقا على قسمة المنافع بالزمن؛ فلا بد من استيفاء الدَّور، ولا تنفسخ حتى يستوفيا جميعًا الدَّور، أما أن يأتي في المنتصف ويقول: أنا فسخت؛ فليس له ذلك، هذا هو القول الراجح.
إذنْ هذه هي قسمة التراضي.
قسمة الإجبار وأحكامها
النوع الثاني، قال المؤلف:
والنوع الثاني: قسمة إجبارٍ.
وعرَّفها المؤلف قال:
ومثَّل المؤلف لهذا بأمثلةٍ، نوضح كلام المؤلف بالأمثلة التي ذكرها، قال:
يعني: اثنان لهما أرضٌ كبيرةٌ، وأراد أحدهما القسمة، فيُجبر على القسمة، لو قال: أنا لن أقسم، أنا أكون شريكًا معك إلى الممات، لن أقسم أبدًا، هل يُقَرُّ على هذا؟ لا يُقَرُّ، الإنسان حُرٌّ، إذا أراد أن ينفصل عن شريكه؛ فلا يُجبَر، فحينئذٍ نقول في هذه الحال: إن أبى المقاسمة؛ فيُجبر على القسمة، وهذا معنى قوله: “قسمة إجبارٍ”.
وهكذا ما يمكن أن يُقسم بلا ضررٍ ولا رد عوضٍ، فيدخل في قسمة الإجبار، والضابط في الضرر المانع من قسمة الإجبار: هو نقص القيمة بالقسمة، إذنْ هذا هو ضابط قسمة الإجبار.
قال:
يعني قسمة الإجبار، التكييف الفقهي له، قال:
يعني: إفرازٌ، التكييف الفقهي لقسمة الإجبار: أنها إفرازٌ، وليست بيعًا.
فإذنْ نخلص من هذا إلى أن قسمة التراضي تكون فيما فيه ضررٌ أو رد عوضٍ، وقسمة الإجبار تكون فيما ليس فيه ضررٌ ولا رد عوضٍ.
التوصيف الفقهي لقسمة التراضي: أنها بيعٌ.
والتوصيف الفقهي، أو التخريج الفقهي لقسمة الإجبار: أنها إفرازٌ.
هذه خلاصة الكلام في هذه المسألة.
انتقل المؤلف للكلام عن المُقاسَمة وأحكامها، قال:
يعني: إذا اتفقا على القسمة؛ فلهما أن يقسما بأي طريقةٍ، إذا اتفقا على أن يَنْصِبا قاسمًا -يعني شخصًا آخر، إما فردًا أو مكتبًا أو نحو ذلك- فلا بأس بهذا.
القاسِم، قال:
يعني: إسلام القاسم.
يعني: يكون القاسم من أهل الخبرة، ممن يَعرف كيف يقسم.
فإذا كان كل واحدٍ منهما له النصف، فعلى كلٍّ منهما نصف الأجرة، أحدهما له ثلاثة أرباعٍ، والآخر ربعٌ؛ الذي له ثلاثة أرباعٍ عليه ثلاثة أرباع الأجرة، والآخر عليه ربع الأجرة، وهكذا.
إذا اتفقا على القرعة؛ تقاسما بالقرعة، يجوز.
وذلك لأن القرعة هي وسيلةٌ لترجيح بعض الأمور التي لا يمكن الترجيح فيها بمرجِّحٍ، وقد وردت في القرآن في موضعين، ووردت في السنة في مواضع، وردت في القرآن في قصة يونس : فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ [الصافات:141]، وقصة مريم عليها السلام: إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ [آل عمران:44]، والنبي كان إذا سافر أقرع بين نسائه، فالقرعة هي مخرجٌ شرعيٌّ عند التساوي في الحقوق والمشاحة فيها وعدم وجود المرجِّح، فإذا تراضيا على القرعة؛ فلا بأس.
فتلزم بالتفرق إذا خَيَّر أحدُهما الآخرَ، ورضيا بذلك بدون قرعةٍ.
لكن:
لما تقاسما بالتراضي أو بالقرعة، أحدهما وجد في نصيبه عيبًا، فيُخيَّر؛ إما فَسَخ هذه القسمة، أو أنه يُمسك نصيبه ويأخذ الأرش، يعني: يعوِّضه صاحبه عن هذا العيب كالمشتري في هذا؛ وذلك لوجود النقص.
لتبيُّن فساد الإفراز، يعني: تقاسما، ثم أحدهما ادَّعى الغبن، قال: أنا والله قبلت بهذا، ثم فهمت المسألة فهمًا خاطئًا، وأنا بهذا مغبونٌ، فادَّعى الغبن بهذه القسمة، فيُقبل قوله في هذا إذا كان بالفعل قد غُبن، فتبطل القسمة؛ ولهذا قال: “وإن غُبِن غبنًا فاحشًا؛ بطلت”؛ لتبيُّن فساد الإفراز.
وأنكره الآخر.
يعني: القسمة، وهذا كله عند عدم وجود البيِّنة.
يعني: لما تقاسما، أحدهما له طريقٌ، والثاني ليس له طريقٌ، ما يستطيع أن يدخل ملكه إلا عن طريق ملك الآخر، يقول: تبطل القسمة، وهذا هو المذهب؛ وذلك لعدم تمكُّن الداخل من الانتفاع بما حصل له بالقسمة.
والقول الثاني في المسألة: أنه إذا كان راضيًا عالمًا أنه لا طريق له؛ جاز ذلك، وهذا هو القول الراجح في المسألة: أنه إذا كان راضيًا عالمًا؛ جاز ذلك، يعني: إنسانٌ رشيدٌ عاقلٌ، يعلم بأنه لا طريق له، رضي بذلك، ما المانع؟! المهم أن يكون عالمًا، يعني: لا يُغرَّر به، ويكون راضيًا بهذا، هذا هو القول الراجح في المسألة.
باب الدعاوى والبينات
ثم قال المؤلف رحمه الله:
تعريف الدعاوى والبينات وممن تسمع الدعاوى
“الدعاوى”: جمع دعوى، والدعوى لغةً: الطلب.
واصطلاحًا: إضافة الإنسان إلى نفسه استحقاق شيءٍ في يد غيره أو ذمته.
و”البينة” معناها: العلامة الواضحة، وهي عند الجمهور: شهادة الشهود.
وقال ابن القيم رحمه الله: إن البينة لا تنحصر بشهادة الشهود، وإنها اسمٌ لما أبان الحق، فكل ما أبان الحق يدخل في البينة؛ وعلى ذلك: تدخل القرائن، بل قال: إن القرائن إذا اجتمعت؛ أحيانًا تكون أقوى من شهادة الشهود.
فمثلًا في الوقت الحاضر أيهما أقوى: صَكُّ العقار الصادر من محكمةٍ مثلًا، أو شهادة شاهدين؟ الصك أقوى، حتى لو كان الصك ليس مكتوبًا فيه شهودٌ، وثيقة التملُّك هذه أقوى من شهادة شاهدين، مع أن الوثيقة هذه قرينةٌ، بعض القرائن تكون أقوى من شهادة الشهود.
وهو: الحر المكلف الرشيد، فغير جائز التصرف لا تصح الدعوى منه، وهذا باتفاق أهل العلم.
أحوال العين المدعاة وحكم كل حالٍ
قال:
الحالة الأولى:
يعني: كلٌّ منهما ادعى أن هذه العين له، وليست هذه العين بيد أحدهما، “ولا ثَمَّ ظاهرٌ” يُرجِّح جانب أحدهما، ولا “بينةٌ”، ما توجد بينةٌ ولا ظاهرٌ، ولا بيد أحدهما، وكلٌّ يدعي هذه العين، ليس عندنا أي مرجِّحٍ، فما الحكم؟
قال:
وقد جاء عن أبي موسى أن رجلين اختصما إلى النبي في دابةٍ، ليس لواحد منهما بينةٌ، فقضى بها بينهما نصفين [7]، وهذا الحديث رواه النسائي وابن ماجه وأحمد، وهو حديثٌ حسنٌ بمجموع طرقه، فهذا الحديث أصلٌ في هذه المسألة.
فإذنْ عند تعارض الدعوى وعدم وجود مرجحٍ -لا بالبينة، ولا بظاهرٍ، ولا بيد أحدهما- على العين، فما لنا حلٌّ إلا أن نقسمها بينهما نصفين؛ كما فعل النبي في هذا الحديث.
مداخلة: ……
الشيخ: إي نعم، قصة سليمان ، هو أتى بحيلةٍ في هذا، لكن يمكن أن يُستدل بها على تقسيم الشيء نصفين، قد تكون في شرع مَن قبلنا، لكن حديث أبي موسى صريحٌ.
قال:
كأنْ يكون مثلًا النزاع بين زوجين في متاع البيت، ولا بينة؛ فما يصلح للرجل؛ يكون للرجل، وما يصلح للمرأة؛ يكون للمرأة، هذا معنى الظاهر، فالظاهر مثلًا: أن الثوب والغُتَرة والشِّماغ، يعني: ملابس الرجل تكون للرجل، ملابس المرأة تكون للمرأة، مثلًا: أدوات الزينة التي تتزين بها النساء تكون للمرأة، يعني: يُعمل بالظاهر في هذا، هذا معنى قوله: “وإن وُجد ظاهرٌ لأحدهما؛ عُمِل به”.
يعني: تكون العين بيد أحدهما ولا بينة، ليس عندنا بينةٌ، لكن العين بيد أحدهما، يدَّعي إنسانٌ على آخر أن السيارة له، والسيارة بيد هذا المدعى عليه.
يعني: فالعين لمن هي بيده، لكن:
وذلك لأن الظاهر من اليد المِلك، فنقول لمن بيده مثلًا هذه السيارة: احلف أنها لك، وتكون له.
إن رفض أن يحلف؟ قال:
وقد سبق أن قلنا: إن الصواب هو القضاء بالنُّكول.
يعني: أنه حتى لو أقام بينةً بعد ذلك؛ لا تُقبل منه.
والقول الثاني في المسألة: أنه إذا أقام بينةً؛ حُكِم له بها، وهذا هو القول الصحيح؛ “فإن الحق قديمٌ لا يُبطله شيءٌ”؛ كما قال عمر ، هذا إنسانٌ رفض أن يحلف، فقُضِي عليه بالنُّكول، ثم بعد ذلك وجد البينة فأقامها، فالصواب: أنه إذا أقام بينةً؛ حُكِم له بها.
يعني: إن تنازعا في شيءٍ، كل واحدٍ أمسك هذا الشيء، نفترض مثلًا: وعاءٌ فيه ذهبٌ، وكل واحدٍ ممسكٌ به، أتيناهم، قال هذا: لي، ويقول هذا: لي، هل توجد بينةٌ؟ ما توجد بينةٌ، ذهبنا بهما للمحكمة مباشرةً للقاضي، وكل واحدٍ ممسكٌ به، فما الحكم؟ ما توجد بينةٌ، ما يوجد ظاهرٌ، يقول المؤلف:
عند تعذُّر البينة وتعذُّر الظاهر وتعذُّر اليد، كما قلنا: القاعدة في هذا هو التناصف، يكون بينهما نصفين؛ وذلك لاستوائهما في الدعوى، وليس أحدهما بأولى من الآخر.
فيكون الحيوان للثاني؛ وذلك لأن تصرفه أقوى، ويده آكد، وهو المستوفي لمنفعة الحيوان.
فلمن يكون؟ أيهما أقوى؟ اللابس، لو كانا في سيارةٍ، أحدهما يقود السيارة، والآخر في الصندوق مثلًا، فلمن تكون؟ تكون لقائد السيارة، وهكذا، يعني: من قوي جانبه؛ تكون له.
تنازع نجارٌ وحدادٌ، فآلة النجار للنجار، وآلة الحداد للحداد، وهذا كله حيث لا بينة.
ونكمل بعد الأذان إن شاء الله.
مداخلة: …..
الشيخ: لا بد، لا بد في جميع المسائل اليمين.
قال:
وهذا ظاهرٌ، أن القول قول صاحب البينة.
يعني: اثنان، كلٌّ منهما ادعى أن هذه العين له، هذا أتى بشاهدين، وهذا أتى بشاهدين، وهذا أتى بمُزَكِّين للشهود، وهذا أتى بمزكين، فإذا تعارضت البينات؛ فإنها تتساقط، تعارضتا وتساقطتا.
ما الحل إذا قلنا الآن: إن البينات تتساقط؟
قال:
الشيء الذي بأيديهما ممسكانه نقسمه بينهما نصفين.
يعني: الشيء الذي ليس بأيديهما يكون فيه القرعة.
وقد رُوي هذا عن ابن عمر وابن الزبير .
انتبه لهذا المصطلح -“الداخل والخارج”- عند الفقهاء، “الداخل” يقصدون به: من بيده العين، و”الخارج”: المدعي الذي ليس بيده العين.
“الداخل”: من بيده العين، و”الخارج”: هو المدعي الذي ليس بيده العين.
يقول: “إن كانت العين بيد أحدهما؛ فهو داخلٌ”، هذا تعريف الداخل، “والآخر” يعني: الذي ليست العين بيده “خارجٌ”.
أيهما تُقدَّم؟ بينة الداخل أو بينة الخارج؟ يقول:
يعني: بينة المدعي الذي ليست العين بيده مقدَّمةٌ، وهذا هو المذهب عند الحنابلة.
واستدلوا بقول النبي : لو يُعطَى الناس بدعواهم؛ لادعى ناسٌ دماء رجالٍ وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه [8].
والقول الثاني في المسألة: أن العين تكون للداخل بيمينه، وهذا هو قول الجمهور.
القول الأول من المفردات، والقول الثاني هو قول الجمهور: أنها تكون للداخل؛ وذلك لأن البيِّنتين تعارضتا، وليس بيِّنة أحدهما بأولى من الآخر، وتبقى اليمين على من أنكر، وهو الداخل، فتكون العين له بيمينه، وهذا هو القول الراجح.
أما حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما فمحمولٌ على ما إذا كان للمدعي بينةٌ وليس للمدعى عليه بينةٌ، ولم يُرِد النبي ما إذا تعارضتا البينتان.
إذنْ نقول: عند تعارض البينتين -أحدهما داخلٌ والآخر خارجٌ- أحدهما بيده العين، والآخر ليس بيده العين، المؤلف يرى: أن بينة الذي ليس بيده العين مقدَّمةٌ، والصواب: أن بينة الذي بيده العين مقدَّمةٌ، يعني: أن بينة الداخل مقدمةٌ على بينة الخارج، هذا هو القول الراجح، ورجحه الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله.
قال:
يعني الداخل، هذا يؤكد رجحان القول السابق.
لأن المتأخر قد قامت القرينة على كذبه، فيُقدَّم الأسبق تاريخًا.
أن تكون العين بيد ثالثٍ، ليس بيد المدعي ولا المدعى عليه.
هذا الثالث الآن طمع فيها، وادعاها لنفسه.
يحلف لهذا الرجل يمينًا، وللثاني يحلف له يمينًا ويأخذها، هذا كله حيث لا بينة؛ وذلك لأن العين بيده، فيُقدَّم ويُرجَّح جانبه.
يعني: هذا الثالث.
يعني: هذان الرجلان.
وهو: مثلها إن كانت مثليَّةً، وقيمتها إن كانت متقومةً؛ يقول: لأن تركه لليمين أشبه بالإتلاف، أشبه ما لو أتلفها، فيأخذان منه هذه العين مع البدل.
يقتسمانها نصفين إن أقرَّ بها لهما جميعًا.
هذا إذا أقرَّ بها لهما، لماذا يحلف لكل واحدٍ منهما يمينًا؟ لأنه الآن أقرَّ بها لهما جميعًا، وكلٌّ منهما يدعي أنها له، فلا بد من أن يحلف بالنسبة إلى النصف الذي أقر به لصاحبه؛ لأنه يدعيه والآخر يُنكِر.
وذلك لتصديقهما له في دعواه.
لأن صاحب الحق غير مُعيَّنٍ.
يعني: هذه المسائل دقيقةٌ نادرة الوقوع، يكفي تصور عبارة المؤلف فيها، وإلا فهي من المسائل نادرة الوقوع، وقد يذكر الفقهاء بعض المسائل نادرة الوقوع؛ لأجل أنه إذا وقعت يكون طالب العلم متصوِّرًا لها، وأيضًا من باب تمرين الذهن.
كتاب الشهادات
قال المؤلف رحمه الله:
تعريف الشهادة
“الشهادات”: جمع شهادةٍ، مشتقةٌ من المشاهدة؛ لأن الشاهد يُخبِر عما شاهده، وهي: الإخبار بما علمه بلفظ: “أشهد” أو “شهدت”، أو ما كان في معناها.
حكم تحمل الشهادة وأدائها
قال المؤلف:
فإذا قام به من يكفي؛ سقط الإثم عن الباقين، وإذا لم يقم بها من يكفي؛ تعيَّن وأصبح فرض عين؛ لقول الله : وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا [البقرة:282].
يعني: أداء الشهادة فرض عينٍ على مَن تحمَّلها متى دُعِي إليها؛ لقول الله تعالى: وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة:283].
قال:
القول بالوجوب محل نظرٍ، لكن لو قال المؤلف: “يُستحب له كتابتها”، لكان هذا أجود، فمتى تحمَّلها؛ يُستحب له أن يكتبها؛ لئلا ينساها.
حكم أخذ الأجرة على الشهادة وكتمانها
لأنها من الأمور التي يجب بذلها مجانًا، ولا يجوز أخذ الأجرة عليها؛ لهذا ما يفعله بعض الناس عند المحكمة، يأتي بشهودٍ ويُعطيهم مقابلًا، هذا لا يجوز، ولا يحل لهم هذا المال.
يعني مثلًا: الشاهد في مكة، ويريد أن يأتي به إلى الرياض؛ لكي يُؤدِّي الشهادة، قال: أنا أريد تذكرة الطائرة، فلا بأس أن يُعطيه تذكرة الطائرة، أو حتى كان في البلد نفسه، وقال: أريد أجرة سيارة الأجرة، فلا بأس.
قال:
وهذا بالإجماع؛ لقول الله تعالى وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة:283].
أي: لا يُضمَّن من بان فسقه من الشهود، لا يُضمَّن.
حكم الإشهاد على العقود وبيان ما يشهد به
يجب الأشهاد في عقد النكاح؛ وذلك لأن عقد النكاح من شروطه إعلان النكاح، والحد الأدنى للإعلان هو شهادة شاهدين.
فيقول:
يعني: الإشهاد في البيع هل هو واجبٌ؟ ليس واجبًا، وإنما مستحبٌّ، والدليل على هذا أن النبي باع واشترى ولم يُشهد، ولو قلنا: إنه يجب الإشهاد في البيع؛ لقلنا: لو ذهبتَ لمحل التسوق، لو ذهبتَ لبقالةٍ، يجب عليك أن تُشهد شاهدين، هذا يلحق الناس به حرجٌ عظيمٌ، لكن نقول: الإشهاد يُستحب، خاصةً في الأشياء الكبيرة، أما الأشياء اليسيرة فلا يُحتاج الإشهاد عليها.
الإشهاد على الطلاق هل يجب؟ كذلك مستحبٌّ، الإشهاد على الرجعة: مستحبٌّ، إذنْ الإشهاد عامةً مستحبٌّ، إنما يجب في شيءٍ واحدٍ: وهو النكاح فقط.
على أن هناك من أهل العلم من قال: حتى لا يجب الإشهاد على النكاح، إنما الواجب هو الإعلان، وهذا رأي الإمام ابن تيمية رحمه الله، يقول: يكفي الإعلان، إذا حصل الإعلان؛ كفى، لكن الجمهور على أنه لا بد، أنه يجب الإشهاد على النكاح.
قال:
والعلم إما:
يعني: الشاهد يجب عليه ألا يشهد إلا بما تأكَّد وتحقَّق منه؛ إما برؤيةٍ، وهذه تختص بالأفعال؛ كأن يشهد مثلًا على قتلٍ، أو سرقةٍ، أو غصبٍ، أو نحو ذلك، أو سماعٍ؛ كأن يسمع مثلًا طلاقًا أو إقرارًا، أو بالاستفاضة حتى بأن يشتهر عند الناس أن هذا الملك لفلانٍ، أو نحو ذلك؛ فلهذا قال الموفق بن قدامة رحمه الله: أجمعوا على صحة الشهادة بالاستفاضة على النَّسَب، يشهد بأن فلانًا هو ابن فلانٍ، قال: واختلفوا فيما سواه.
فالشهادة على النَّسب بالاستفاضة محل إجماع، أما الشهادة بالاستفاضة على غيره محل خلافٍ، والصحيح: أنها إذا كانت ظاهرةً ومستفيضةً بين الناس، لا بأس أن يشهد بالاستفاضة، فيقول مثلًا: طيلة أعمارنا ونحن نسمع بأن هذا الملك لفلانٍ، أو نحو ذلك.
يعني: هذا رأى شخصًا يتصرف في هذا المِلك تصرُّفَ المُلَّاك؛ يبني ويهدم ويُعِير ويؤجِّر، فله أن يَشهد بأن هذا مِلكه؛ لأن تصرفه على هذا الوجه مدةً طويلةً بلا منازعٍ دليلٌ على صحة المِلك؛ فجرى مجرى الاستفاضة.
وهذا هو الأحوط، وهو الورع، أن يقول: أشهد بأن فلانًا يده على هذا المِلك ويتصرف فيه ويبني وكذا، هذا هو الورع، فلا يقول: أشهد بأنه مِلكٌ لفلانٍ؛ لأنه لا يدري، قد يكون هذا غاصبًا له ويتصرف فيه تصرُّف المُلَّاك، فالورع أن يشهد باليد والتصرف، ولا يشهد بالمِلك.
ذكر صورٍ من الشهادة تختلف أحكامها
قال:
يعني: لم تقبل شهادتهما؛ لأنه لا بد من التعيين، فيكونا قد شهدا بغير معيَّنٍ، فلا يمكن العمل بهذه الشهادة.
يعني: الألف تثبُت، تثبُت الشهادة بشهادة هذين الشاهدين، والألف الآخر؟
الآن عندنا شاهدان، شاهد شهد بالألف، وشاهد آخر شهد بالألفين، فنقول: الألف الآن ثبتت بشاهدين، الألف الثانية تثبت بشاهد واحد مع يمين المدعي، والصحيح هو ثبوت الملك في الأموال بشاهد ويمين.
فطُرق إثبات الحكم: شهادتين، أو: شاهدٍ ويمينٍ، شهادة رجلين، أو رجلٍ وامرأتين، أو شاهدٍ ويمينٍ، أو بالنُّكول، كل هذه من طرق الإثبات، هذا معنى كلام المؤلف.
لأن قوله: “قضاه بعضَه”، يقولون: يُناقض شهادته بأن عليه ألفًا، فإذا قال: إن عليه ألفًا، ثم قال: قضاه بعضَه، يقولون: ما تجتمع كلمة “عليه” و”قضاه”؛ فتكون الشهادة فيها تناقضٌ، فإذا كانت الشهادة تتضمن تناقضًا؛ فإنها تبطل.
يقولون: لأنه رجوعٌ عن الشهادة بخمسمئةٍ، وإقرارٌ بغلط نفسه، ولا تناقض في هذه العبارة.
طبعًا هذا الكلام يقال لأناسٍ يفهمون مدلول اللغة العربية ويعرفون معناها، ويعرفون الفرق بين “عليه” و”قضاه”، لكن في وقتنا الحاضر كثيرٌ من الناس، من العامة، لا يفهمون هذه المعاني؛ ولهذا فالمعوَّل عليه هو عرف هؤلاء، العرف عندهم، ماذا يقصدون بهذه العبارة وماذا يريدون بها، ولا يأتي قاضٍ ويأخذ هذه العبارات ويُطبِّقها على الناس في وقتنا الحاضر؛ لأن كثيرًا من الناس الآن لا يعرفون مقتضى قواعد اللغة العربية؛ فلهذا يُعمل فيه بعرف الناس، وما يريدون به في كلامهم وفي لغتهم وفي تخاطباتهم، ولا يُتقيَّد بهذه العبارات التي ذكرها المؤلف.
قال:
“لا يَحل لمن” يعني: لمن تحمَّل شهادةً وأخبره عدلٌ باقتضاء الحق.
يعني: معنى هذا الكلام: من تحمَّل شهادةً، وأخبره عدلٌ بأن فلانًا قد قضى هذا الذي عليه، هو يشهد بأن فلانًا يطلب فلانًا مثلًا ألف ريالٍ، ثم أتى إنسانٌ وقال: أشهد بالله العظيم أن فلانًا قد قضى، أعطاه هذه الألف، ردَّها عليه، فلا يجوز أن يذهب ويشهد عند القاضي بأن فلانًا يطلب فلانًا ألفًا؛ لأن وجود شهادةٍ بأنه قد قضى الحق، يعني: تجعل شهادته لا يُحتاج إليها، بل لا يجوز له أن يُدلي بها؛ لأنه حينئذٍ يُضلِّل القاضي بهذا، هذا معنى كلام المؤلف.
فإذنْ إذا أخبره عدلٌ باقتضاء الحق، بأن هذا مثلًا المدين قد قضى الدين، هذا يجعل الحق قد انتهى؛ فلا يحِلُّ له أن يشهد.
أراد المؤلف بهذا الرد على بعض الفقهاء الذين يقولون: إن الشيء إذا وقع أمام ملأٍ من الناس؛ فلا بد من أن تكون الشهادة فيه مستفيضةً، أن يشهد فيه عددٌ من الشهود، وأنه لا تكفي شهادة شاهدين، فيقول المؤلف: تكفي شهادة شاهدين في هذا، ولا يُشترط الاستفاضة في عدد الشهود، فلو شهد اثنان على من طلَّق في جمعٍ من الناس أنه طلق؛ يكفي، أو أنه أعتق، أو شهد على خطيبٍ، قال كلامًا على المنبر؛ تكفي شهادة شاهدين، ولا يلزم إحضار أكثر من شاهدين.
فأراد المؤلف بالتنصيص على هذه العبارة أن يرُدَّ على بعض الفقهاء الذين قالوا: إنه لا بد من الاستفاضة في هذا.
شروط من تقبل شهادته
ثم انتقل المؤلف بعد ذلك لشروط من تقبل شهادته:
البلوغ والعقل والنطق والحفظ
قال:
لقول الله تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [البقرة:282]، والصبي ليس من الرجال، لكن قال بعض الفقهاء: تُقبل شهادة الصبيان في الجِراح خاصةً، وفيما بينهم، فإذا شهدوا قبل الافتراق؛ وإنما قال الفقهاء: “قبل الافتراق”؛ حتى لا يُلَقَّنوا، فإذا كان هناك جِراحٌ، ثم شهد الصبيان قبل الافتراق على الجِراحات؛ فتُقبل شهادتهم، وهذا رُوي عن ابن الزبير ، وقال إبراهيم النخعي: كانوا يُجيزون شهادة بعضهم على بعضٍ في الجِراحات وقبل الافتراق.
لأن هؤلاء قولهم على أنفسهم غير مقبولٍ؛ فعلى غيرهم من باب أولى.
لا تُقبل شهادة الأخرس، قال:
فإذا أدَّاها بخطه فتُقبل؛ لدلالة الخط على اللفظ.
فالمُغَفَّل الذي يكثر منه الذهول والخطأ والغلط والسهو، هذا لا تُقبل شهادته، لكن من كان يَقِل منه ذلك فتُقبل، يعني البشر..، كل بني آدم خطَّاءٌ، كلٌّ يحصل منه الخطأ والسهو، كلامنا فيمن كثر منه، بحيث أصبح سِمَةً غالبةً عليه، معروفًا بكثرة الخطأ، بكثرة النسيان، بكثرة الذُّهول، هذا لا تُقبل شهادته.
الإسلام
فلا تُقبل شهادة الكافر، قال:
لقول الله تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2]، والكافر غير عدلٍ، ولقول الله تعالى: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282]، والكافر غير مرضيٍّ، لكن أجاز بعض الفقهاء شهادة بعضهم على بعضٍ، واختار هذا أبو العباس ابن تيمية رحمه الله.
العدالة
والعدالة تحتاج إلى أن نقف عندها؛ حتى نُفصِّل الكلام فيها، فلعلنا نفتتح بها -إن شاء الله تعالى- الدرس بعد الصلاة.
ما يعتبر للعدالة في الشهادة
صلاح الدين
…. الصلاح في الدين واستعمال المروءة.
قال:
أداء الفرائض واجتناب المحرم، هذا متفقٌ عليه في العدالة، فإذا كان مثلًا لا يُؤدِّي الفريضة، لا يصلي مثلًا، هذا ليس بعدلٍ، لكن قوله: “برواتبها”، يُفهَم منه أن من لم يأت بالسنن الرواتب؛ فإنه ليس بعدلٍ، وأخذوا هذا من قول الإمام أحمد فيمن داوم على ترك صلاة الوتر: “إنه رجل سوءٍ لا ينبغي أن تُقبل له شهادةٌ”.
ولكن هذا محل نظرٍ؛ إذ إن هذه الرواتب وصلاة الوتر ليست واجبةً، وإنما هي مستحبةٌ، وهذه المقولة عن الإمام أحمد أولًا: في ثبوتها عنه نظرٌ، ثانيًا: يحتمل أنه قالها يقصد بها شيئا معينًا، أو نحو ذلك، فهي لا تُؤخذ على إطلاقها؛ ولهذا الصواب: أن من ترك الرواتب، أو ترك الوتر، فإن هذا غير قادحٍ في عدالته.
“واجتناب المحرم”، وفسر المؤلف المقصود بذلك: وهو اجتناب الكبيرة، قال:
وذلك لأنه إذا أتى بكبيرةٍ؛ كان فاسقًا، والكبيرة هي؟ سبق أن عرَّفنا الكبيرة في دروس سابقة، تكرَّر معنا هذا، ما هي؟
مداخلة: ….
الشيخ: نعم، كل معصيةٍ ورد فيها حدٌّ في الدنيا أو وعيدٌ في الآخرة؛ من لعنةٍ أو غضبٍ أو سخطٍ أو نارٍ أو نفي إيمانٍ، هذا هو الضابط في الكبيرة، فجميع المعاصي التي فيها حدودٌ من الكبائر؛ يعني: الزنا من الكبائر، القذف من الكبائر، شرب الخمر من الكبائر، كذلك ما ورد فيه لعنةٌ، أيُّ معصيةٍ فيها: لَعَنَ الله من فعل كذا، ولعنَ رسول الله من فعل كذا، فهي كبيرةٌ، مثلًا: لعن الله النامصة والمتنمِّصة [9]، لعن الله الواصلة والموصولة [10]، هذا كله يدل على أن هذه من الكبائر، لا يؤمن مَن لا يأمَن جارُه بوائقه [11]، هذا يدل على أن أذية الجار من الكبائر، لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه [12]، هذا في الجملة، لا يدخل الجنة نمَّامٌ [13]، هذا يدل على أن النميمة من الكبائر، وهكذا.
كذلك أيضًا قال: ولا يدمن على الصغيرة، عند بعض أهل العلم: أن الإدمان على الصغيرة يُحوِّلها إلى كبيرةٍ، وبعضهم -كالشوكاني- يرى أن الإدمان على الصغيرة ليس في منزلة ارتكاب الكبيرة.
استعمال المروءة
قال:
يعني: فيما يُعتبر في العدالة.
يعني: لا بد أيضًا مع الصلاح في الدين من أن يكون لديه مروءةٌ، فلا يفعل أمرًا يخالف المروءة، وضح المقصود المؤلف بهذا التعريف ويتضح أكثر بالأمثلة التي ذكرها.
قال:
ما معنى “مُتَمَسْخِرٍ”؟ الذي يَسخَر من الناس ويستهزئ بهم، ويغلب عليه السخرية.
يعني: الرقَّاص الذي يرقص في الحفلات ونحوها، يقول: لا تقبل شهادته.
الشَّعْبَذة: هي خفة في اليدين؛ كالسحر ونحوه.
يعني: لا تقبل شهادته.
هذه أمثلة ذكرها المؤلف لما هو موجودٌ في زمنه مما يُنافي المروءة، لكن في وقتنا الحاضر يختلف الأمر، فالمرجع في ذلك إلى العرف، ففي عرفنا هل مدُّ الرجلين بحضرة الناس ينافي المروءة؟ في وقتنا الحاضر ليس ينافي المروءة، وأن نقول: لا تُقبل شهادته، قد يمدُّ رجليه؛ لتعبٍ في رجليه، ليُريد أن يستريح، فالذي يظهر أن هذا يرجع للعرف.
فمثلًا: إذا كان في بلدٍ يلبسون الغترة أو الشماغ، وما لبس غترةً ولا شماغًا، يقولون: ما تُقبل شهادته؛ لأن هذا يخالف المروءة، وينافي المروءة، وهذا يرجع للعرف.
يعني: يأتي بالنُّكت والمُضحِكَات، هذا أيضًا -كما قلنا- المرجع فيه للعرف.
وهذا أيضًا مرجعه للعرف، في بعض البيئات يعتبرون الأكل في السوق ينافي المروءة، وكذلك أيضًا الأكل في المطعم في بعض البيئات، كانوا قديمًا هنا في المملكة يعتبرونه منافيًا للمروءة، لكن في الوقت الحاضر هل ينافي المروءة؟ الآن لا ينافي المروءة، لكن قديمًا الأكل في المطاعم كانوا يعتبرونه ينافي المروءة، فالمرجع في ذلك للعرف.
على كل حالٍ: هذه الأمثلة التي ذكرها المؤلف لا يُحتاج لها، نحتاج أن نضبطها، نقول: استعمال المروءة: هو أن يجتنب ما ينافي المروءة، والضابط في ذلك: العرف، الضابط في هذا: أن نربطه بالعرف، ما عدَّه الناس في العرف منافيًا للمروءة؛ كان مسقِطًا للشهادة، وما لا فلا.
حكم التحمل قبل حصول شرط الشهادة والأداء بعده
ثم قال المؤلف رحمه الله:
يعني: إذا زال المانع؛ تُقبل الشهادة، نحن لم نقبل شهادة الصغير؛ لأنه صغيرٌ، فإذا بلغ؛ تُقبل شهادته، كذلك المجنون إذا عقل؛ تُقبل شهادته، والكافر إذا أسلم؛ تُقبل شهادته، والفاسق إذا تاب من فسقه؛ تُقبل شهادته.
حكم شهادة العبد وأصحاب الحرف الدنيئة
وذلك لعموم الأدلة، فالحر في الشهادة كالعبد، والله تعالى يقول: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [البقرة:282]، والعبد من رجالنا؛ فتُقبل شهادته.
قال:
فهذا ليس شرطًا في قبول الشهادة، فتُقبل شهادة الزَّبَّال والحجَّام والحدَّاد ونحو ذلك، إذا كان صالحًا في دينه ولم يأت بما ينافي المروءة.
شهادة ولد الزنا هل تُقبل؟ نعم، تُقبل شهادة ولد الزنا، قد يكون من أصلح الناس ومن أتقى الناس، ولا يُؤاخذ بجريرة والديه، فتُقبل شهادته، لكن إنما ذُكرت؛ لأن بعض الفقهاء قالوا: لا تُقبل شهادته، وهو قولٌ ضعيفٌ، والصواب: أنه تُقبل شهادته.
حكم شهادة الأعمى
قال:
مراد المؤلف: أنه تُقبل شهادة الأعمى؛ ولهذا قال:
فالبصر ليس شرطًا في الشهادة؛ فتُقبل شهادة الأعمى بما سمع، وتُقبل شهادته بما رأى قبل العمى.
موانع الشهادة
ثم انتقل المؤلف بعد ذلك للكلام عن موانع الشهادة، قال:
الأول: الملك أو البعضية أو الزوجية
كأن يكون الشاهد رقيقًا عند السيد، ويريد أن يشهد لسيده، فلا تُقبل شهادته؛ لأن الرقيق مِلكٌ للسيد.
فلا تُقبل شهادة أحد الزوجين للآخر؛ لأنه متهمٌ بشهادته له، ولتبسُّط كلٍّ منهما في مال الآخر.
يعني: بأن يشهد أحد الزوجين للآخر بعد الطلاق، ولا تُقبل -يقولون- لأنه يمكن أن يُعيدها بعد الشهادة، فيكون متهمًا في هذا، وهذا ليس على إطلاقه، بعض العلماء يقبل الشهادة في مثل هذه الحال، إذا لم يكن هناك ثَمَّ تهمةٌ؛ فتُقبل، خاصةً شهادته لامرأةٍ طلقها، فالأقرب أنه تُقبل الشهادة إذا لم يكن ثَمَّ تهمةٌ.
حتى لو كانت بينونةً كبرى، يعني: إنسانٌ شهد لامرأةٍ بأنها تطلب فلانة كذا، وقد طلقها وأبانها، على كلام المؤلف لا تُقبل، والصحيح: أنه إذا لم يكن ثَمَّ تهمةٌ؛ فتُقبل.
يعني: لا تُقبل شهادة الفروع للأصول، ولا شهادة الأصول للفروع.
وسبق في الدرس السابق: أن ذكرنا قصة عليٍّ لمَّا فقد درعه، وأُخبر بأنه عند يهوديٍّ، وكان هو أمير المؤمنين، فقال لليهودي: الدرع درعي، قال اليهودي: ليس درعك، وقد تخاصما إلى شُرَيحٍ، فقال شريحٌ لعليٍّ : البيِّنة، فأتى بالحسن والحسين رضي الله عنهما، فقال: هما والداك، ولا تُقبل شهادتهما، فقال: كيف لا تُقبل وقد سمعتُ رسول الله يقول: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة [14]، فلم يقبل شريحٌ شهادة الحسن والحسين لعليٍّ رضي الله عنهم، فتعجَّب هذا اليهودي وانبهر من الموقف! أمير المؤمنين، يَحكم ليس الجزيرة العربية، يحكم الشام والعراق، ويُخاصم أحد رعيته بل يخاصم يهوديًّا ليس مسلمًا حتى، ويُحكم عليه بكونه لم يجد البيِّنة! قال: إن هذا الدين الذي هذا شأنه إنه لدين حقٍّ، فأسلم، وكانوا يقولون: قاتل مع عليٍّ ، وقُتل معه في إحدى المعارك! فكانت هذه القصة من العجب!
فهنا الشاهد: أن شُريحًا لم يقبل شهادة الحسن والحسين رضي الله عنهما لأبيهما عليٍّ .
الثاني: كونه يجر بها نفعًا لنفسه
يعني: يجر بهذه الشهادة نفعًا لنفسه، وضح المؤلف المقصود بأمثلةٍ، قال:
“لرقيقه”، عندكم “لرفيقه”؟!
هو الأقرب لرقيقه؛ لأن قوله: “ومُكاتَبِه”، يدل على أن المقصود: الرقيق؛ وذلك لأنه ينتفع بهذه الشهادة، فإن الرقيق نفعه يرجع للسيد، وكذلك أيضًا المُكاتَب عبدٌ ما بقي درهمٌ.
وذلك لأنه قد يسري هذا الجرح إلى نفسه فيموت فتجب الدية للشاهد بشهادته، فكأنه شهد لنفسه، يعني: هذه الشهادة تجلب منفعةً ومصلحةً لهذا الشاهد، هذا المجروح قد يموت، وإذا مات؛ فله ديةٌ، فالدية تجب على الجارح الذي جرحه، فينتفع إذنْ الشاهد بهذه الشهادة؛ فلا تُقبل الشهادة.
وذلك لأنه يجُرُّ نفعًا بهذا، ومتَّهَمٌ بهذه الشهادة.
كذلك؛ لأنه متهمٌ في هذا، إذا كان الأجير يشهد لمؤجِّره فيما استأجره فيه، فهو يجر -يعني الشاهد- بهذا نفعًا لنفسه؛ فلا تُقبل شهادته له.
فإذنْ الضابط في هذا: أن كل شهادةٍ يجر الشاهد بها نفعًا لنفسه لا تُقبل، وهذا هو الذي عليه العمل.
الثالث: أن يدفع بها ضررًا عن نفسه
ووضح المؤلف هذا بأمثلةٍ:
وكذلك شبه العمد؛ وذلك لأن جرحهم لهؤلاء الشهود هم متَّهمون في هذا الجرح؛ لأنهم متَّهمون في دفع الدية عن أنفسهم، فهم يريدون أن يجرحوا هؤلاء الشهود؛ حتى لا تثبت الدية فيطالَبون بها، فيريدون دفع الضرر عن أنفسهم.
فإذا كان هناك دينٌ على مفلسٍ، فأتى الغرماء وقالوا: إن هؤلاء الشهود الذين يشهدون بهذا الدَّين على المفلس نجرح فيهم، نجرح في شهادتهم، فلا تُقبل شهادتهم؛ لأن هؤلاء الشهود يريدون بذلك دفع الضرر عن أنفسهم، حتى لا يأتي هذا الدين، ويَدخل الدائن معهم في قسمة الغرماء.
لأنه متهمٌ بقصد دفع الضمان عن نفسه.
وذلك للتهمة؛ لأنه متهمٌ بدفع الضرر عن نفسه.
القاعدة في هذا: أن من يشهد ويريد بذلك نفعًا لنفسه، أو دفع ضررٍ عن نفسه، لا تُقبل شهادته، يعني: بغض النظر عن الأمثلة التي ذكرها المؤلف.
الرابع: العداوة لغير الله
يُفهم منه: أنه إذا كانت العداوة لله؛ فإنها غير مؤثرةٍ في الشهادة؛ فإن المؤمن يوالي المؤمنين، ويعادي الكافرين، ومَن مثلًا: لا يحب الفاسق، ويحب المؤمن، فإذا كانت العداوة لله ؛ فلا تُؤثِّر، لكن إذا كانت لغير الله؛ فإنها مؤثرةٌ في قبول الشهادة، لكن نحتاج إلى معرفة ضابط “العدو”، إذا قيل: فلانٌ عدوٌّ، ما هو ضابط العدو؟ الفقهاء ذكروا لهذا ضابطًا، ما هو الضابط؟ قال المؤلف:
يقولون: كل من يفرح بمساءتك ويغتم لفرحك؛ فهو عدوٌّ، هذا هو الضابط في العدو: الإنسان الذي إذا أتتك مصيبةٌ؛ يفرح بها، وإذا أتاك خيرٌ؛ اغتمَّ؛ يعتبر عدوًّا لك، فلا تقبل شهادته، وهذا الضابط ظاهرٌ، كيف يُعرف هذا؟ كيف يُعرف أن فلانًا عدوٌّ لفلانٍ؟ بالقرائن، يشهد عليه شهودٌ بأنه قد اغتم لفرح فلانٍ، فلانٌ مثلًا ساق الله له رزقًا، أو نحو ذلك، فاغتم وشهد الشهود عليه، أو مثلًا حصلت له مصيبةٌ ففرح بهذه المصيبة وتشمَّت به، فهذا يُعتبر عدوًّا له، فلا تُقبل شهادته في هذه الحال، تُعتبر هذه من موانع الشهادة.
قال:
لا تُقبل الشهادة على العدو في هذه الحال، وجاء في الحديث، وإن كان في سنده مقالٌ، وبعضهم يحسنه: لا تُقبل شهادة ذي غِمْرٍ على أخيه [15]، ذي غِمْرٍ يعني: ذي عداوةٍ وحقدٍ على أخيه، لكن حتى لو لم يصح هذا الحديث فالعمل عليه عند أهل العلم، لكن بشرط الإثبات، بشرط إثبات العداوة، وإلا فبعض الناس إذا شهد عليه أحدٌ يدَّعي أنه عدوٌّ له، هل يُصدَّق بهذا؟ ما يُقبل كلامه، لا بد أن تُثبِت أن هذا عدوٌّ لك، وإلا لا يُقبل كلامك.
قال:
فتُقبل شهادته فيه ولو كان عدوًّا؛ وذلك لأن القصد من الشهادة في النكاح: هو إعلانه، وهذا يحصل بشهادة الصديق وبشهادة العدو، يحصل الإعلان، فيتحقق المقصود.
الخامس: العصبية
يعني: الخامس من موانع الشهادة: العصبية.
إذا كان جماعةٌ متعصِّبين على جماعةٍ؛ لا تُقبل شهادتهم، أو شخصٌ متعصِّبًا ضد شخصٍ؛ لا تُقبل شهادته.
كيف يُعرف تعصبه؟
بالقرائن كذلك، يأتي هذا بشهودٍ يشهدون بأن فلانًا متعصِّبٌ ضده، وأنه يتكلم فيه، وأنه عُرف بين الناس بالعصبية، هذا لا تُقبل شهادته.
السادس: الشهادة المُعادَة بعد أن رُدت لتهمةٍ
فلا تُقبل؛ للتهمة في ذلك؛ لأنه ربما تاب حتى تُقبل شهادته.
فلا تُقبل شهادته؛ للتهمة.
فلا تُقبل كذلك؛ وذلك لأجل التهمة.
يعني: بأنْ أسلم الكافر، وكُلِّف غير المكلف، ونطق الأخرس، وأعاد الشهادة، فإنها تُقبل؛ لأن ردَّها لهذه الموانع، من الأمور المقبولة التي لا غضاضة فيها ولا تُهمة، بخلاف ما سبق.
باب أقسام المشهود به
ثم قال المؤلف رحمه الله:
يعني: الذي يُشهَد به ما هو؟ قسَّمه المؤلف إلى ستة أقسامٍ، قال:
الأول: الزنا
وهذا تكلمنا عنه لما شرحنا “باب الزنا” بالتفصيل.
قال:
وهذا بالإجماع: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4]، فالشهادة في الزنا لا بد فيها من أربعةٍ، وهذا بالإجماع.
تكلمنا عن هذا بالتفصيل، لا بد أن تكون الشهادة صريحةً، لا تحتمل التأويل.
يشهدون عليه أنه أقر أربع مراتٍ، وسبق أن ذكرنا خلاف العلماء في الإقرار في الزنا، هل يكفي فيه مرةً واحدةً، أو يشترط أن يُقر أربع مراتٍ؟ وقلنا: المذهب أنه لا بد فيه من أربعٍ، والراجح: يكفي واحدة، وقلنا: الراجح في جميع الحدود أنه يكفي فيها الإقرار مرةً واحدةً، وأنه لا يحتاج إلى تكرار الإقرار، تكرار الإقرار أشبه بالعبث، إلا إذا كان هناك اشتباهٌ في الإقرار، أو نحو ذلك؛ فيمكن أن يعاد، أما إذا أقر بكلامٍ واضحٍ بيِّنٍ، فلا يُطلب منه أن يُعيد الإقرار مرةً أخرى.
الثاني: ادعاء الفقر ممن عُرف بالغنى؛ ليأخذ من الزكاة
وذلك لحديث قبيصة ، وفيه أن النبي قال: إن المسألة لا تحل إلا لثلاثةٍ..، وذكر منهم: رجلًا أصابته فاقةٌ، حتى يقول ثلاثةٌ من ذوي الحِجَا من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقةٌ [16]، رواه مسلمٌ.
فهذا رجلٌ معروفٌ أنه غنيٌّ، لكن ادعى الفقر، فيقولون: لا بد من ثلاثة رجالٍ يشهدون بذلك، وهذا هو الذي عليه كثيرٌ من الفقهاء.
وقال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: إنه لا يُحتاج إلى طلب الشهادة بذلك، وأن من ادعى فقرًا ولم يُعرف بغنًى فيجوز إعطاؤه من الزكاة، واستدل بقول النبي للرجلين الجَلْدَيْن اللذين أتياه: إن شئتما أعطيتكما، ولا حظَّ فيها لغنيٍّ ولا لقوي مكتسِبٍ [17]، وذكر معنًى آخر، قال: لو طالبنا الفقير بالبينة على فقره؛ لأدَّى ذلك إلى مفسدةٍ: وهي حرمان كثيرٍ من الفقراء من الزكاة، وإذا لم نُطالب الفقير بالبينة، أيضًا هناك مفسدةٌ: وهي إعطاء الزكاة مَن لا يستحقها، أي المفسدتين أشد: إعطاء الزكاة مَن لا يستحقها، أو حرمان الفقير المستحق؟ حرمان الفقير المستحق أشد، وهذا هو القول الراجح في المسألة: أنه لا تُشترط البينة لإثبات فقر الفقير لأجل إعطائه من الزكاة، بل يُكتفى بظاهر الحال، لكن إذا شك الإنسان فيه؛ يعظه كما وعظ النبي الرجلين الجَلْدَين، يقول: لا حظَّ فيها لغنيٍّ، هذه زكاةٌ ولا حَظَّ فيها لغنيٍّ ولا لقويٍّ مكتسِبٍ.
مداخلة: …..
الشيخ: أما هذا الحديث فسيأتي: أن المقصود به هنا في دعوى الإعسار، في دعوى الإعسار لا بد فيه من ثلاثة شهودٍ كما سيأتي في الأمر الثالث الذي ذكره المؤلف، أما في الإعطاء من الزكاة لا يحتاج إلى بينةٍ، لكن المؤلف جعل هذا في مسألةٍ ضيقةٍ: وهي أنه إذا عُرِف بالغنى، ثم ادعى أنه فقيرٌ، ونقول: حتى في هذه المسألة المهم أنه لا يُعرف بالغنى، يعني: إنسانٌ لا يُعرف، مثلًا أن عنده عقاراتٍ، لا يُعرف أن عنده أموالًا، يدَّعي الفقر، فهذا يجوز إعطاؤه من الزكاة من غير طلب البينة، وهذه المسألة الحقيقةَ تُريح الإنسان، يعني: لك ظاهر الحال، إذا ظهر أنه فقيرٌ؛ فأعطِهِ من الزكاة، ولا يُشترط مطالبته بالبينة المثبِتة لفقره، لو أعطاه على أنه فقيرٌ، ثم تبيَّن أنه غنيٌّ هل يُجزئ؟ يُجزئ نعم؛ ولهذا قال الفقهاء: إذا دفع الزكاة لمن ظنه فقيرًا فبان غنيًّا؛ أجزأه.
الثالث: القود والإعسار وما لا يقصد به المال
“القَوَد وما يُوجب الحد والتعزير”، هذا لا إشكال في أنه لا بد فيه من رجلين فأكثر، لكن قوله: “الإعسار”، الجمهور أن الإعسار يثبت بشهادة اثنين.
والقول الثاني في المسألة: أنه لا يثبت إلا بشهادة ثلاثة رجالٍ، وقد اختار هذا ابن القيم رحمه الله، واستدل بالحديث السابق: وهو حديث قَبيصة : ورجلٌ أصابته فاقةٌ، حتى يقول ثلاثةٌ من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقةٌ [18]، وعلى هذا من ادعى الإعسار؛ يُشترط فيه ثلاثة شهودٍ على القول الراجح، وعلى المذهب: يُشترط فيه شاهدان.
قال:
يعني: لا بد فيها من شهادة رجلين؛ لقول الله تعالى في الرَّجعة: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2]، ويُقاس عليها ما ذكره المؤلف.
الرابع: المال وما يُقصد به المال
ومثَّل له المؤلف بأمثلةٍ، قال:
فيكفي في الشهادة فيه:
لقول الله تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282].
لحديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن النبي قضى بالشاهد واليمين [19]، رواه أحمد والترمذي، وهو حديثٌ صحيحٌ، بل هو في “صحيح مسلمٍ” من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما: “قضى بالشاهد واليمين”، في “صحيح مسلمٍ”.
وهكذا أيضًا شهادة أربع نسوةٍ؛ لأن النسوة لا تُقبل شهادتهن منفرداتٍ، لا بد أن يكون معهن رجالٌ؛ إما رجلٌ وامرأتان مثلًا، أما أربع نساءٍ فلا تُقبل، وكذلك أيضًا امرأتان ويمينٌ لا تُقبل، فالنساء لا تُقبل شهادتهن منفرداتٍ، وهذا عند الحنابلة، والمسألة فيها خلافٌ بين أهل العلم، لكن هذا هو الذي أيضًا عليه العمل.
وذلك لأن من حلف قد ثبت الحق له بشاهدٍ ويمينٍ، الآن وُجد شاهدٌ، وهو قد حلف، فثبت الحق له، أما من لم يحلف؛ فإنه لم يثبت الحق له؛ لأنه ليس عنده إلا شاهدٌ واحدٌ فقط.
الخامس: داء دابةٍ ومُوضِحةٍ ونحوهما
يقولون: في الأمراض ونحو ذلك، “داء دابةٍ” أو غيرها، أو حتى الآدميين، عندما يحتاج القاضي إلى معرفة هذا الداء وتشخيصه، وهكذا الشجاج أيضًا، فيُكتفى فيه بقول طبيبٍ واحدٍ ثقةٍ، يقول: عند عدم غيره، أما إذا وُجِد غيره؛ فلا بد من اثنين، وفي الوقت الحاضر يُوجد غيره، الأطباء كُثرٌ، لكن المؤلف يتكلم عما هو موجودٌ في زمنه، يقول: إنه قد يَعسُر وجود اثنين، فالأطباء في وقت المؤلف قليلٌ؛ فلذلك المؤلف يحكي ما هو موجودٌ في زمنه.
يعني: عند العلماء قاعدةٌ: أن المُثبِت مقدَّمٌ على النافي؛ لأن المُثبِت عنده زيادة علمٍ.
السادس: ما لا يطَّلع عليه الرجال غالبًا
يعني: هذا ما يُقبل فيه امرأةٌ واحدةٌ عدلٌ، وهو: ما لا يطلع عليه الرجال غالبًا، ومثَّل له المؤلف بأمثلةٍ:
وقال الموفق بن قدامة: “لا نعلم خلافًا في قبول النساء المنفردات في الجملة”، ويدل لهذا حديث عقبة بن الحارث ، قال: تزوجت أم يحيى فأتت أَمَةٌ سوداء فقالت: قد أرضعتكما، فذهبت للنبي فقال: دعها، قلت يا رسول الله، إنها كاذبةٌ، قال: كيف وقد قيل؟! [20]، أخرجه البخاري في “صحيحه”.
وهذا يدل على قبول قول المرأة في الرضاع إذا كانت ثقةً، وهكذا أيضًا ما ذكره المؤلف من الأمور الخاصة بالنساء التي لا يطلع عليها إلا النساء غالبًا؛ كالبكارة مثلًا ونحوها، فيكفي فيها امرأةٌ عدلٌ.
الأحوط؛ لأنه إذا كان في الرجال لا تُقبل شهادة رجلٍ واحدٍ بل لا بد من رجلين؛ فالنساء من باب أولى.
حكم الشهادة الناقصة عن الكمال
قال:
القصاص لا يثبت إلا بشهادة الرجال، والنساء لا مدخل لهن في إثبات القصاص ولا الحدود.
قال:
يعني: شهد رجلٌ وامرأتان بسرقةٍ، فلا يثبت قطع يد السارق، لكن يثبت المال للمسروق منه؛ لأن شهادة رجلٍ وامرأتين تُقبل في المال، ولا تقبل في الحدود.
ثبت المال؛ لأن شهادة الرجل وامرأتين، أو الرجل ويمينٍ، تُقبل في المال وفيما كان في معنى المال، ولا تَطلُق زوجته؛ لأن الطلاق لا يثبُت إلا بشهادة رجلين، ولا يثبت الطلاق باليمين، ولا بشهادة النساء.
هناك مسألةٌ مهمةٌ بالنسبة لشهادة الشهود: هل يُحلَّف الشهود إذا ارتاب القاضي فيهم؟ القاضي شك في شهادة الشهود، فهل للقاضي أن يُحلِّفهم أم لا؟ هؤلاء شهودٌ، والقاضي تفرَّس فيهم وشكَّ وارتاب فيهم.
مداخلة: …..
الشيخ: إي نعم، أحسنت، الأصل: أن الشهود لا يُحلَّفون، كما قال سبحانه: وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ [البقرة:282]، لكن لو ارتاب القاضي فيهم، فذهب بعض المحققين من أهل العلم -كابن القيم وجماعةٍ- إلى أن القاضي له أن يُحلِّفهم، وحكى ابن حزمٍ القول بتحليف الشهود عن ابن وضَّاحٍ وغيره، وقال ابن القيم: “إنه ليس ببعيد، فقد شُرع تحليفهما في غير مِلَّتِنا”، ويُروى عن شُريحٍ أنه حَلَّف الشهود، فقيل له: قد أحدثت، قال: أحدث الناس فأحدثنا.
فالصواب: أنه إذا ارتاب القاضي فيهم؛ له أن يُحلِّف الشهود، وهذه المسألة ينتفع بها القضاة؛ لأنه أحيانًا يظهر للقاضي ويغلب على ظنِّه كذب هؤلاء الشهود، فيرى أن تحليفهم قد يردعهم عن الشهادة التي ربما يثبُت بها حقُّ من ليس له هذا الحق.
فالصواب إذنْ كما قال ابن القيم، وهو قول ابن حزمٍ وجماعةٍ: أن القاضي إذا ارتاب في الشهود؛ فله أن يُحلِّفهم.
الشهادة على الشهادة وصفة أدائها
قال:
الشهادة على الشهادة جائزةٌ في الأموال؛ ولهذا نُقل الإجماع على إمضاء الشهادة على الشهادة في الأموال؛ وذلك لأن الشهود قد يحصل لهم ويعتريهم ما يعتري البشر؛ من الموت والمرض ونحو ذلك، فربما يكون هذا الحق لا يثبت إلا بشهادة هذين الشاهدين، فلو مات أحدهما؛ تعذَّر إثباته، فهنا للإنسان أن يُشهِدَ على شهادة هؤلاء الشهود.
قال:
يعني: معناها.
فيشهد على شهادته، يعني: الشاهد الأصل يطلب من الشاهد الفرع أن يَشهد على شهادته، يقول: اشهد بأن فلانًا أشهدني على كذا.
يعني: رجلٌ وامرأتان على رجلٍ وامرأتين.
وذلك لأن الفرع بدلٌ عن الأصل، فشهادة الفرع تحكي شهادة الأصل.
شروط الشهادة على الشهادة
شروط الشهادة على الشهادة أربعة شروطٍ:
كالأموال، فلا تُقبل في الجنايات والحدود؛ وذلك لأنها لا تخلو من شبهةٍ، والحدود تُدرأ بالشبهات.
لكن وقع النزاع بين العلماء: هل تُقبل في القصاص أو لا تقبل؟ فمن العلماء من قال: تُقبل الشهادة على الشهادة في القصاص، ومنهم من قال: إنها لا تُقبل، والمذهب: أنها لا تقبل.
لأن شهود الأصل إذا كانوا موجودين؛ يُؤتى بهم، ولا يُصار إلى شهود الفرع إلا عند تعذُّر شهود الأصل.
تعذُّر شهود الأصل بماذا؟ إما بالموت أو بالمرض، لا يستطيع أن يحضر، أو بالسفر.
لا تُقبل شهادة الفرع مع وجود شهود الأصل.
دوام عدالة الشهود -شهود الأصل وشهود الفرع- إلى صدور الحكم، فلو طرأ فسقٌ على شهود الأصل، أو شهود الفرع؛ لم تُقبل الشهادة على الشهادة في هذه الحال؛ لأن الشهادة هنا مبنيةٌ على شهادة الشهود جميعًا: شهود الأصل، وشهود الفرع.
يعني: ثبوت عدالة شهود الأصل، وعدالة شهود الفرع.
لا مانع من أن يعدِّل الفرع الأصل، أو الأصل الفرع، وذكره ابن قدامة اتفاقًا؛ لأن شهادتهما بالحق مقبولةٌ؛ فكذلك أيضاً في التعديل من باب أولى.
قال:
يعني: لا يصح أن يُعَدِّل الشاهد رفيقه؛ لأن هذا يُؤدِّي إلى انحصار الشهادة في شاهدٍ واحدٍ.
بعدما شهد شهود الفرع، شهود الأصل قالوا: ما أشهدنا أصلًا هؤلاء بشيءٍ، فيقول: إن الفريقين لا يضمنان، لماذا؟ لأن شهود الفرع لم يثبُت كذبهم، هم شهدوا، ولم يثبت كذلك رجوع شهود الأصل؛ لأن الرجوع إنما يكون بعد الشهادة، إنما هم أنكروا أصل الشهادة.
ما تقبل به الشهادة من الألفاظ وما لا تقبل به
قال:
يعني: بعض الفقهاء يشترطون أن يأتي بهذه الألفاظ في الشهادة، والصحيح: أن كل لفظٍّ يُؤدِّي معنى الشهادة فإنه يُقبل، وأين الدليل الدال على انحصار الشهادة في هذه الألفاظ؟ لا دليل، فتضييق المسألة وحصر الشهادة بهذه الألفاظ يحتاج إلى دليلٍ، والصحيح: أن كل ما يُؤدِّي معنى الشهادة؛ فإنه مقبولٌ.
رجوع الشهود عن الشهادة
قال:
إن رجع الشهود بعد حكم الحاكم؛ فإنه لا يُنقَض الحكم، وهؤلاء الشهود يضمنون بما ترتب على ذلك الحكم، نقول: أنتم الذين تسبَّبتم الآن في هذا الحكم، فيضمنون بدل ما شهدوا به من المال، يعني: يضمنون ما ترتَّب على شهادتهم التي شهدوا بها ثم تراجعوا عنها.
تعزير شاهد الزور
قال:
نعم، إذا عَلِم القاضي بشهادة شاهد الزور، فإن القاضي ينبغي أن يُعَزِّره تعزيرًا يناسب المقام.
مر معنا التعزير، التعزير يكون بأي شيءٍ؟ هل فيه عقوبةٌ معينةٌ؟ لا، بما يراه القاضي، ما يراه القاضي رادعًا عقوبةً لذلك المُعزَّر ورادعًا لغيره لا ينحصر في السجن ولا في الجَلد بل يشمل كل ما كان فيه ردعٌ لغيره وعقوبةٌ لهذا المعزَّر.
قال:
القاضي مناسبًا للتعزير.
قال: “ما لم يخالف نصًّا”، يعني: لا يُعزَّر بتعزيرٍ يُخالف فيه نصًّا؛ كحلق اللحية مثلًا ونحو ذلك، وإنما يكون التعزير بما يراه من الأمور التي ليس فيها مخالفةٌ للنصوص، هذا مراد المؤلف.
يعني: ينبغي عندما يُعَزِّره بالجلد، يذهب للمكان الذي اشتهرت شهادته فيه، فيُجلد في ذلك المكان، وهذه هي فائدة التعزير: أنه يُعَزَّر في المكان الذي اشتهرت شهادته فيه.
وهكذا أيضًا بالنسبة لإقامة الحدود والقصاص، الذي عليه العمل الآن: أن القصاص يكون في الحي الذي وقع فيه القتل، هذا في الحقيقة من الأمور الجيدة، في السابق كان في مكانٍ محدَّدٍ، الآن يكون في الحي الذي وقع فيه القتل، هذا أبلغ في الردع وأبلغ في الزجر.
وهكذا أيضًا بالنسبة للحدود، يعني: الأحسن أن يُجلد في المكان الذي اشتهرت فيه تلك المعصية التي وجب بسببها الحد.
باب اليمين في الدعاوى
قال المؤلف رحمه الله:
هذا حديثٌ عن النبي ، حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما [21]، وقد أجمع العلماء على معناه: أن البيِّنة على المدَّعِي، واليمين على من أنكر، وهذه قاعدةٌ عظيمةٌ من قواعد القضاء: أن البينة على المدَّعِي واليمين على من أنكر.
المواضع التي لا يحلف فيها المنكر
قال:
وهذا باتفاق العلماء؛ وذلك لأن ما كان من حقوق الله لا يُطالب فيها باليمين؛ لأن مبناها على الستر ودرء الحدود بالشبهة.
وهكذا أيضًا التعزير، قال: “ولو قذفًا”.
فلا تُطلب اليمين على هؤلاء، لو ادُّعِيَ على إنسانٍ أنه لا يصلي، فأنكر وقال: أنا أصلي، فهل تُطلب منه اليمين؟ بناءً على كلام المؤلف: لا تُطلب منه اليمين، لا تُطلب منه.
قال:
لأن ذلك لا يُقضى فيه بالنُّكول، فلا فائدة من إيجاب اليمين عليه، إلا في شهادة الشهود على ما ذكرناه، أن القاضي إذا ارتاب في شهادة الشهود، أو رأى فيه تَلَكُّؤًا؛ فله أن يُحلِّفه على القول الراجح، أما على المذهب فلا يُحلَّف الشاهد مطلقًا.
قال:
إذنْ المنكِر يُحلَّف في ماذا؟ أجاب المؤلف عن هذا السؤال: أنه في حقوق الآدميين التي يقصد منها المال.
وذلك للحديث السابق، ولقول النبي : لو يُعطى الناس بدعواهم؛ لادَّعى قومٌ دماء رجالٍ وأموالهم، ولكن اليمين على من ادُّعِيَ عليه [22]، وفي الحديث الآخر: البينة على المُدَّعي، واليمين على من أنكر [23].
قال:
مَرَّت معنا هذه المسألة أن الصواب من أقوال الفقهاء فيها: القضاء بالنُّكول، وذكرنا قصة عثمان في هذا.
صفة اليمين على نفي فعل نفسه وعلى الدعوى على غيره
يعني: على القطع، فإذا حلف على نفي فعلٍ على نفسه؛ لا بد من أن تكون اليمين قاطعةً، وهكذا لو حلف على نفي دَينٍ عليه، لا بد أن تكون اليمين قاطعةً، فلا يُقيِّدها مثلًا بالعلم، مثلًا: ادُّعِيَ عليه أن عليه عشرة آلاف ريالٍ، يقول: والله إن هذا الرجل لا يطلبني عشرة آلاف ريالٍ، ولا يقول: لا أعلم أنه يطلبني عشرة آلاف ريالٍ، فإذا كان على فعلٍ على نفسه، متعلِّقٍ بنفسه؛ فلا بد فيها من القطع، من البَتِّ، لكن إذا كان على غيره:
هنا يقول: لا أعلم بأن فلانًا يطلب فلانًا كذا، يحلف مثلًا: والله إني لا أعلم بأن فلانًا يطلب فلانًا كذا.
فإذنْ إذا حلف على نفسه؛ هنا على البَتِّ والقطع، وعلى غيره؛ بنفي العلم.
وذلك فيما يُقبل فيه الشاهد واليمين، يعني: أتى بالشاهد، وقيل: إنه يُطلب منك اليمين، فحتى يكون هناك شاهدٌ ويمينٌ؛ يُطلب منه اليمين، هنا اليمين لا بد أن تكون على البَتِّ والقطع، فلا تكون مثلًا على نفي العلم.
وذلك لأن الحق لهؤلاء، فلكل واحدٍ منهم يحلف يمينًا، إلا إذا رضوا بيمينٍ واحدةٍ، فيكفي ذلك؛ لأن الحق لهم، وقد رضوا بإسقاطه.
تغليظ اليمين
ثم انتقل المؤلف للكلام عن تغليظ اليمين، قال:
مقصود المؤلف بـ: “فيما له خطرٌ”، يعني: فيما له قيمةٌ وشأنٌ كبيرٌ، أما الأشياء الصغيرة فلا تُغلَّظ فيها اليمين.
وتغليظ اليمين يكون بالصيغة وبالزمان وبالمكان والهيئة، بهذه الأمور الأربعة.
وقد أشار المؤلف لهذه الأمور الأربعة؛ قال:
يعني: جناية لا توجب القصاص، وإنما توجب الدِّيَة، فهنا القاضي يُغلِّظ اليمين.
يعني: لا في اليسير الذي دون النصاب، لا تُغلَّظ فيه اليمين، إنسانٌ ادعى على آخر مليونًا مثلًا، ووُجدت القرائن التي تدل على صدق المدعي، لكنه عجز عن إقامة البينة، فالقاعدة هنا: أن اليمين على من أنكر، المدعى عليه أنكر، هنا ينبغي للقاضي أن يطلب تغليظ اليمين.
كيف تُغلَّظ اليمين؟
قال:
يعني: في الصيغة، هنا تغليظ اليمين الذي ذكره المؤلف في الصيغة، قال:
يعني: هذه العبارة بهذا اللفظ لا دليل عليها، بل إن قوله: “الطالب الغالب”، هل الطالب الغالب من أسماء الله؟ هذه تَرِد على ألسنة العامة، ليست من أسماء الله تعالى؛ ولهذا فالصواب: أنه لا يحلف بها، ولا يقال: الطالب الغالب، ولا يوصف الله تعالى بهذا، الطالب الغالب، وإنما يقول: والله الذي لا إله إلا هو، أو بأي صيغةٍ تُفيد التغليظ من غير تقيد بهذه العبارة التي ذكرها المؤلف.
قال:
يعني: يأتي بعبارةٍ تُناسب هذا اليهودي.
يعني: كذلك أيضًا النصراني يأتي بعبارةٍ تُناسب ديانته، هذا بالنسبة للتغليظ في الصيغة.
أما التغليظ في المكان، فبعض الفقهاء يقولون: إن التغليظ في المكان يكون بمكة ما بين الركن والباب، وعند منبر الجامع، ولكن هذا لا دليل عليه، يعني: لا دليل يدل على هذا، اللهم إلا أن يقال: في المسجد، أو في مكة، فلا شك أن اليمين فيها ليست كاليمين في غيرها.
قلنا: التغليظ كذلك بالزمان، التغليظ بالزمان هذا ذكره الله تعالى في قوله: تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ [المائدة:106]، يعني: كبعد العصر مثلًا، مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ، أجمع المفسرون على أن المقصود بها: بعد العصر.
والتغليظ في الهيئة بأن يكون قائمًا لا جالسًا.
فإذنْ يكون التغليظ في الصيغة، وفي المكان، وفي الزمان، وفي الهيئة.
والصحيح: أنها لا تتقيد بشيءٍ معينٍ، لكن المكان يكون مكانًا معظَّمًا؛ كالمسجد، أو كمكة مثلًا أو المدينة، الزمان -كما ذكرنا- من بعد صلاة العصر، أو مثلًا يكون زمانًا شريفًا فاضلًا، الهيئة يكون قائمًا، الصيغة: والله الذي لا إله إلا هو، ونحو ذلك.
قال القاضي لهذا، طلب منه أن يقول: والله الذي لا إله إلا هو، يعلم خائنة الأعين، وما تُخفي الصدور، قال: أبدًا، أنا أقول: والله ما أُغلِّظ، ما أقبل التغليظ، فهل يُعَد ناكلًا؟ يقول المؤلف: إنه لا يُعَد ناكلًا، وقد حُكِيَ هذا إجماعًا.
وقال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: “إنه متى قلنا: إن التغليظ مستحبٌّ؛ فينبغي أنه إذا امتنع منه الخصم؛ يكون ناكلًا”، فتكون حكاية الإجماع غير صحيحةٍ، وذكر بعضهم: أنه إجماعٌ، لكن هناك من خالف؛ ولهذا قيل: إنه إذا أبى التغليظ؛ لزمه، وإلا ما الفائدة من التغليظ؟ إذا كنا لن نقضي عليه بالنُّكول؛ فما الفائدة من التغليظ؟! وهذه المرجع فيها للقضاء، الخلاف فيها قويٌ، هل إذا أبى التغليظ؛ يكون ناكِلًا؟ الحقيقة قولُ ابن تيمية قولٌ وجيهٌ، وقول الجمهور كذلك قولٌ وجيهٌ أيضًا، فقد يأبى التغليظ؛ لأنه يرى أنه لا داعي لهذا التغليظ، يقول: أنا أحلف، لكن من غير تغليظٍ، كيف يُعتبر ناكِلًا؟!
قد يقال: إن التغليظ إذا قلنا: إنه مستحبٌّ، إذنْ ما الفائدة منه إذا كُنَّا لا نقضي عليه بالنُّكول؟!
لكن الأظهر والله أعلم، أو الأقرب: أنه إذا قبل الحلف من غير تغليظٍ لا يُعَد ناكلًا، كيف نعتبره ناكلًا وقد حلف؟ لكن كونه يأبى التغليظ ربما لأنه يرى أن التغليظ غير مناسبٍ بالنسبة له، أو نحو ذلك، أو أن هذه المسألة لا تستحق التغليظ فيها باليمين، أو لغير ذلك من الأسباب.
قال:
يعني المرجع في ذلك للحاكم واجتهاد الحاكم في هذا؛ إن رأى التغليظ؛ غلَّظ، وإن رأى ترك التغليظ؛ فيكون مصيبًا في ذلك، هذه العبارة ليس من عادة المؤلف أن يُعبِّر بهذا الأسلوب، لكن هذا لعله من باب التنويع في العبارة، والمؤلف في آخر المتن أراد أن يتَفَنَّن في بعض العبارات، ثم بعد ذلك ختم المؤلف هذا المتن بكتاب الإقرار، ولعلَّنا قبل أن ننتقل لكتاب الإقرار، ننبِّه الإخوة جميعًا، باعتبار أن هذا الدرس هو الدرس الأخير، وأيضًا نشرح فيه آخر الكتاب وسنُنهي المتن، أعَدَّ لي الإخوة عشاءً بعد نهاية هذا الدرس -إن شاء الله- في مصلى النساء، فجزاهم الله تعالى خيرًا، وجميع الإخوة مدعوون لهذا.
الأمر الثاني: الدرس سيتوقف -إن شاء الله تعالى- في فترة الاختبارات والإجازة، ويُستأنف كالمعتاد في شهر شوالٍ، ووعدنا بتسمية الكتب التي سنشرع فيها، نحن في شرح “دليل الطالب” لم نشرح الفرائض، وَعَدْنا بتخصيصه بدرسٍ؛ حتى نكون قد شرحنا جميع أبواب الفقه، فلا بد من أن يكون أحد الكتابين في الفرائض، فهذا ليس محل بحثٍ، يعني: يكون إذنْ أحد الدرسين في الفرائض، وأنا عندي كتاب -إن شاء الله تعالى- سيخرج قريبًا، وَعَدَ الناشر بأنه سيخرج قبل أقل من شهرٍ على كلامه، فإن شاء الله في شهر شوالٍ يكون قد خرج، في تسهيل حساب الفرائض، فيه طرقٌ جديدةٌ ومبتكرةٌ في حساب الفرائض، في المناسخات، وفي الحمل، طُرُقٌ توصلتُ إليها من خلال التأمل، ومن خلال التدريس المتكرِّر للفرائض، وحُكِّمَتْ أيضًا من قِبَل مختصين، حَكَّمتُها من باب الاطمئنان على صحة الاجتهاد، حُكِّمت أكثر من مرةٍ، ولكن الكتاب هو في حساب الفرائض، ولم أجعله في الفقه؛ لأني رأيت أن فقه الفرائض لن آتي فيه بجديدٍ، فيكون كلامي فيه مكرَّرًا، فجعلت الكتاب في الحساب، فيحتاج إلى أن نرتبط بكتابٍ في فقه الفرائض، ومن أشهر الكتب وأيسرها وأوضحها، وحتى أسهلها للحفظ: “الرَّحبِيَّة”، فلعلَّه يكون الدرس في “متن الرَّحبِيَّة” إن شاء الله تعالى، ويتميز هذا المتن بسهولته وسهولة عبارته وسهولة حفظه أيضًا، وقد جعل الله تعالى له القبول، فإذا وصلنا إلى الحساب؛ انتقلنا للكتاب إن شاء الله تعالى، كتاب “تسهيل حساب الفرائض”، لكن نبدأ أولًا في فقه الفرائض، هذا الكتاب الأول.
الكتاب الثاني: وردتني عدة مقترحاتٍ أعطانيها الشيخ فهد، مقترحاتٌ عديدةٌ، لكن كان من أجودها: أننا قد درسنا الفقه الذي دوَّنه فقهاؤنا السابقون، درسناه كاملًا من الطهارة إلى الإقرار، وأمضينا قُرابة ثلاث سنواتٍ، فيقترح بعض الإخوة: أن نُكمل هذا الفقه بالفقه المعاصر، بحيث يكون من حضر معنا هذه السنوات قد استوعب الفقه الذي دونه الفقهاء، وكذلك الفقه المعاصر، بفقه النوازل والمسائل المعاصرة.
رأيت أن هذا هو أوجه المقترحات، يعني: لو أتينا بمتنٍ آخر، كأننا أعدنا تدريس كلام الفقهاء من جديدٍ، لكن إذا أتينا بالفقه المعاصر وفقه النوازل؛ يكون هذا مُكَمِّلًا لشرحنا في “دليل الطالب”، ما أدري، ترون هذا مناسبًا؟ ثم أيضًا: هذا لن يطول، يعني: هي مسائل منتقاةٌ نذكرها، ولا تتجاوز سنةً بالكثير، يعني: ربما نُنهي أكثرها في أقل من السنة، فإن رأيتم هذا مناسبًا..
مداخلة: ……
الشيخ: إن شاء الله تعالى، بعدما ننتهي نبدأ بمتنٍ آخر، لكن القصد من متنٍ إلى متنٍ، يعني: بعض الإخوة لم يستحسنوا هذا، قالوا: نريد شيئًا في الفقه المعاصر، بحيث إن من يحضر معنا هذه الدروس يكون قد استوعب ما دَوَّنه الفقهاء السابقون، وما قاله الفقهاء المعاصرون، يكون تكاملت عنده المادة العلمية.
مداخلة: ……
الشيخ: هذا أنا شرحته قديمًا، قبل سِت أو سبع سنواتٍ في إحدى الدورات، لكن طبعًا سيكون العرض مختلفًا، والمسائل أيضًا سنَزيدها، لن نقتصر على تلك المسائل.
مداخلة: ……
الشيخ: إن شاء الله تعالى يكون أصلًا لكتابٍ بإذن الله.
مداخلة: ……
الشيخ: بالتجربة لا يمكن الجمع، نحن في “دليل الطالب” نُشير لهذا، نُشير للمسائل المعاصرة، لكن إذا خصَّصنا المسائل المعاصرة بدرسٍ؛ يكون هذا أبلغ في التحرير والتكييف، ونستفيد أيضًا منكم في جمع هذه المسائل، نستفيد من الإخوة جميعًا في جمع هذه المسائل والنوازل، يعني: نجعل الدرس من فقه النوازل، فنبدأ من العبادات، نبدأ مثلًا من نوازل في الطهارة، نوازل في الصلاة، نوازل في الزكاة، النوازل في الحج، النوازل في البيوع، في المعاملات، النوازل في الأسرة، نأتي عليها كلها، وكذلك الدرس الأول سيكون مقدمةً تأصيليةً.
مداخلة: ……
الشيخ: هذا جربناه، في “دليل الطالب” أصلًا نذكر المسائل المعاصرة، إلا في الأبواب الأخيرة، لكن ليست عمليةً، هذه من الناحية النظرية جيدةٌ، لكن ليست عمليةً، وإن شاء الله تعالى سنرجع للمتن، لكن نعتبر هذه فترة استراحةٍ؛ لأجل أن نأخذ فيها قدرًا كبيرًا من النوازل، نُسلِّط الضوء عليها ثم نرجع بعد ذلك لمتنٍ من متون الفقه، من “الزاد” أو غيره.
أنا رأيت -من خلال استقراء المقترحات- أن هذا هو أفضل المقترحات؛ لأنه أيضًا -يا إخوان- بعض طلاب العلم عندهم قصورٌ في تصور المسائل المعاصرة، يعني: عنده إلمامٌ بما دَوَّنه الفقهاء السابقون، لكن المسائل المعاصرة لا يوجد عنده حتى الحد الأدنى لفهم تلك المسائل، وهذا يُعتبر خللًا، يُعتبر قصورًا، تجد أحيانًا بعض كبار طلاب العلم عندهم قصورٌ في فهم المسائل المعاصرة، والآن قلَّ من يشرح المسائل المعاصرة ويتصوَّرها تصوّرًا جيدًا ويَعرِضها للناس، هذا قليلٌ جدًّا؛ ولهذا أنا رأيت أن هذا هو أفضل المقترحات المقدمة، وكما ذكرت: كلها ستكون قصيرةً، يعني: أشهرًا فقط، ثم ننتهي منها ونأخذ متنًا آخر، فتكون هذه بمثابة الاستراحة بين متنين، يعني: سنبدأ -إن شاء الله تعالى- في متنٍ آخر، لكن يكون بينهما هذه الدروس في فقه النوازل.
مداخلة: ……
الشيخ: لا، تكون عناوين مسائل، لن تكون في كتابٍ، إن شاء الله تعالى ما نشرحه سيكون أصلًا لكتابٍ بإذن الله، مثل: “فقه المعاملات المالية المعاصرة” الذي طُبع، كان أصله دورةً شرعيةً، ثم طُوِّر إلى أن خرج على هيئة كتابٍ، ولله الحمد نَفِدت الطبعة الأولى في أسبوعين، هذا يدلُّ على تشوُّف طلاب العلم لمثل هذه الكتب وحرصهم عليها، وعلى أيضًا قِلَّتها في الساحة، قليلٌ مثل هذا الطرح في الفقه في الساحة، فأيضًا نريد أن يكون هذا الدرس أصلًا لكتابٍ ينفع الله تعالى به المسلمين.
ونريد أيضًا أن نستفيد منكم -يا إخوان- سواءٌ في جمع المسائل أو حتى في تصويرها، إذا صوَّرتها مثلًا وكان التصوير غير دقيقٍ، يمكن أن نستفيد من الإخوة، أو حتى في حكمها ممكنٌ أيضًا، ذكرنا آراءَ معاصرين، يذكر أحد الإخوة رأيًا لأحد كبار المعاصرين مثلًا لم نقف عليه، فنريد أيضًا أن نستفيد من الإخوة جميعًا في شرح هذه المادة.
طيب يا إخوة، “كتاب الإقرار” طويلٌ ونود للأسئلة أن نُرجئها للأخير حتى ننتهي.
كتاب الإقرار
الإقرار الحقيقة المؤلف أطال فيه، وفقهاء الحنابلة يُطيلون فيه تطويلًا كبيرًا، ويذكرون مسائل ربما لا نحتاج إليها كثيرًا في وقتنا الحاضر، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا يُؤخِّر فقهاء الحنابلة الإقرار فيجعلونه آخر الأبواب؟ ولعل الإقرار له علاقةٌ بالبيع مثلًا، له علاقةٌ بالمعاملات، لماذا جعلوه آخر الأبواب؟ قالوا: تفاؤلًا بأن يُختَم للمؤلف بالإقرار بالتوحيد؛ لقول النبي : من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله، دخل الجنة [24]، وبعض الفقهاء يختم كتابه بكتاب العتق؛ تفاؤلًا بأن يعتقه الله من النار، لكن عامة فقهاء الحنابلة يختمون كتبهم بكتاب الإقرار.
والإقرار: هو الاعتراف بالحق؛ كما يقال: الإقرار هو سيد الأدلة، لا يمكن للإنسان العاقل الرشيد أن يُقِرَّ على نفسه إلا بما حصل منه، فهو سيد الأدلة، وعند الفقهاء قاعدة: أن لا عذر لمن أقر.
شروط الإقرار
وذكر المؤلف المسائل المتعلقة بالإقرار، ابتدأ أولًا بشروطه:
قال:
يعني: لا يصح الإقرار إلا من المكلف: وهو العاقل البالغ، وكذلك: المختار، فلا يصح الإقرار من المكرَه.
“ولو هازلًا”: يعني: الإقرار حتى من الهازل فإنه معتبرٌ، ويُؤاخذ به، “بلفظٍ أو بكتابةٍ” سواءٌ كان الإقرار ملفوظًا به -تكلَّم به- أو كان مكتوبًا، “لا بإشارةٍ”؛ لأن الإشارة قد تكون غير واضحةٍ، “إلا من أخرس”، إذا كانت الإشارة مفهومةً؛ لقيامها مقام النطق.
وذلك لأن ما أُذِن لهما فيه قد زال فيه الحجر عنهما؛ فيصح تصرفهما فيه.
حكم إقرار المكره بغير ما أكره عليه
لأنه غير مكرهٍ على ما أقر به، ومسائل الإقرار هذه -كما ذكرت- لن نُفصِّل فيها، وإنما يكفي تصوُّر عبارة المؤلف؛ لأن أكثر هذه المسائل لا يُحتاج لها، وإنما يذكرها المؤلف، حتى لو احتاج الإنسان لها؛ تكون حاضرةً في الذهن، ومن باب تمرين الذهن، لكن يكفينا القول بأن الإقرار هو سيد الأدلة، وأن من أقر بشيءٍ؛ لزمه، وأنه لا عذر لمن أقر.
وذلك لأن الإضافة تكون لأدنى ملابسةٍ؛ فلا تُنافي الإقرار، فإذا قال: كتابي هذا لزيدٍ، فقد أقر في الحقيقة واعترف.
حكم إقرار المريض لوارثٍ أو غيره
وهذا باتفاق العلماء؛ لأنه غير متهمٍ في حقه، ما دام أنه غير وارثٍ.
كذلك أيضًا؛ لأنه غير متهمٍ.
وذلك لأنه إذا أقر لوارثٍ وهو مريضٌ فهو متهمٌ؛ لأنه يريد نفع هذا الوارث.
يعني: الاعتبار إنما يكون حالة الإقرار، يعني: إذا أقر، هل ننظر لهذا الذي أقر: هل هو وارثٌ، أو ليس بوارثٍ؟ متى الوقت المُعتَبر؟ حالة الإقرار.
أما في الوصية:
قال:
أما الوصية: فالوقت المُعتَبر: هو الموت.
تكذيب المُقَر له المُقِر
لتكذيبه، إذا أقر له بشيءٍ، فقال: كلامك غير صحيحٍ، كذَّبه؛ بطل الإقرار.
لأنه مالٌ بيده، فهو أشبه باللُّقطة، والمُقَر له كذَّبه.
حكم الإقرار لما لا يملك
قال:
لأن المال -مال القِنِّ- للسيد.
يصح الإقرار للمسجد، يقول مثلًا: هذا المال للمسجد، هذا الوقف للمسجد، أو الطريق، أو المقبرة، فيصح.
ولو كان مُطلِقًا.
يعني: أقر بمالٍ لهذه الدار، أو لهذه البهيمة، يقولون: البهيمة لا تَملِك، والدار لا بد أن يُعرَف المالك لها، فلا يصح الإقرار عندهم بها.
مثلًا: كأن يقول: إن السبب هو إجارةٌ، أو غصبٌ، أو نحو ذلك.
فيصح له الإقرار.
فإن وُلِد ميتًا، و”لحملٍ”، يعني: هنا يقول: يصح الإقرار.
في بعض النسخ: “فإن ولد ميتًا، أو لم يكن حملٌ”، وفي النسخة الأخرى: “ولحملٍ وُلِد ميتًا”، والصواب: “فإن وُلِد ميتًا، أو لم يكن حملٌ؛ بطل” الإقرار؛ لأنه إقرارٌ لمن لا يصح أن يملك.
يعني: وإن وَلدت هذه المرأة حيًّا فأكثر؛ “فله” يعني: هذا المُقَرُّ به “بالسوية” حتى ولو كان ذكرًا وأنثى، كما لو أقر لرجلٍ وامرأةٍ بمالٍ، فيُقسم بينهما بالسوية.
حكم الإقرار بالزوجية
كذلك يصح إقراره وإرثه بالزوجية؛ ولهذا قال: “صح، وورثه”.
فإنه لا يرثه في هذه الحال.
ما يحصل به الإقرار وما يغيره
لأن هذه الألفاظ تدل على تصديق هذا المدَّعِي.
يقولون: إذا قال: أنا أُقر، فليس إقرارًا وإنما هو وعدٌ، “لا إن قال: أنا أُقر”.
فيقولون: لا يلزم من هذه الكلمات الإقرار، وهذا محل نظرٍ، والمرجع في ذلك: عرف الناس في مخاطباتهم؛ فإذا كان في عرف الناس في مخاطباتهم أن هذا إقرارٌ؛ فيُعتبر إقرارًا، من غير أن يُتقيَّد بهذه الألفاظ التي ذكرها المؤلف وندخل في هذه التفاصيل.
يعني: عندما يُسأل الإنسان سؤالًا بالنفي: أليس حصل كذا؟ فإن قال: نعم؛ فمعنى ذلك: أنه أراد النفي؛ إذ الصواب أن يقول: “بلى”، إذا أراد الإثبات، لكن العامة لا يُفرِّقون، فقد يقال: أليس حصل كذا؟ فيقول: “نعم”، ويقصد: “بلى”؛ ولذلك المرجع في ذلك إلى معرفة مقاصد الناس في ألفاظهم من غير أن نتقيَّد بهذه العبارات التي ذكرها المؤلف، لكن لا بد أن نتصوَّر ما ذكره.
قال:
وهذه -كما ذكرنا- ترجع إلى مقاصد الناس وعرفهم، لكن المؤلف يقول: إن هذه العبارات كلها تفيد الإقرار.
تعليق الإقرار بالشرط
يقول: إنه لم يصح في هذه الحال؛ لأنه علَّق ثبوته على شرطٍ، والإقرار إخبارٌ سابقٌ، فلا يتعلَّق بشرطٍ مستقبَلٍ، ولكن الصواب في هذا: أن المرجع في ذلك إلى مقاصد الناس وعرفهم في تلك الألفاظ، يعني: كثيرٌ من الناس هل يفهمون مثل هذه التفاصيل؟ لا يفهمونها، فالمرجع في ذلك إلى: ما قصدك بهذا الكلام، وما العرف في هذا اللفظ ومؤداه؟
وذلك لأنه لا يُعلم إلا منه.
يقول: لأن ذلك وعدٌ بتصديقه له في شهادته لا تصديقٌ؛ لأنه قال: إن شهد زيدٌ فهو صادقٌ، فيكون هذا وعدًا بتصديقه له، لا أنه يعني تصديقًا.
إذا وُصل الإقرار بما لا يصلح أن يكون له ثمنٌ
قال:
لأنه أقر بثمن الخمر، وقدَّره بالألف، وثمن الخمر فاسدٌ لا يجب، لكن:
قالوا: لأن ما ذكر بعد قوله: “عليَّ ألفٌ” رفعٌ لجميع ما أقر به، فلا يُقبل في المسألة الأولى كاستثناء الكُلِّ، أما في المسألة الثانية إذا قال: ألفٌ من ثمن خمرٍ؛ فإنه يلزمه؛ لصحة الإقرار في هذه الحال، وقلنا: الصواب في ذلك: معرفة مقاصد المُقِرِّين وعرفهم في ذلك.
حكم الاستثناء في الإقرار
يقولون: لأن هذا من لغة العرب، والله تعالى يقول: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا [العنكبوت:14]، فصحَّ استثناء النصف فأقل.
يعني: أن هذا الإقرار صحيحٌ.
وسبقت معنا هذه المسألة: هل يُشترط اتصال المستثنى بالمستثنى منه أو لا يُشترط؟ ورجحنا: أنه لا يُشترط، وسبق أن ذكرنا الدليل لذلك.
لأنه متحِدٌ في الجنس وفي النوع.
يعني: المؤلف يريد أن يتناول مباحث لغويةً: هل الاستثناء لا بد فيه من أن يكون أقل من النصف، أو يصح أكثر من النصف؟ هذه المسألة مبحوثةٌ عند الأصوليين، والمذهب عند الحنابلة: أنه لا يصح إلا أقل من النصف، والذي عليه كثيرٌ من الأصوليين: أنه يصح أكثر من النصف، هذه مطروقةٌ في كتب الأصول، لا نريد أن ندخل في تفاصيلها.
حكم من تصرف في شيءٍ ثم أقر به لغيره
قال:
يعني: إقراره؛ وذلك لأنه إقرارٌ على غيره، فإقرار الإنسان لِمَا يقبل على نفسه، ولا يقبل إقرار الإنسان على غيره.
وذلك لأنه فوَّته عليه بتصرفه فيه.
فإنه لزيدٍ؛ لإقراره به، ولا يُقبل رجوعه عنه؛ لأن حقَّ الآدمي لا يُقبل الرجوع عنه.
وعندنا قاعدة: “لا عذر لمن أقر”.
لإقراره له، كما قلنا: لا يُقبل التراجع عن هذا الإقرار.
في بعض النسخ: “ولا يَغرم”، والصواب: “ويَغرم”.
وذلك لإقراره له بالملك.
لأنه شهد له به، أشبه -يقولون- ما لو شهد له بمال غيره.
حكم إقرار أحد الوارثين بالدين على مورثه
يعني: إذا ادُّعِيَ على الميت، فأحد الورثة أقر والآخر لم يقر، يقول: إن المقر يُلزَم بما أقر به، وفي هذا المثال الذي ذكره المؤلف: خَلَّف ابنين ومئتين، فادَّعى شخصٌ مئة دينارٍ على الميت، صدَّقه أحد الورثة وأنكر الآخر، فإن المُقِرَّ هذا يُلزَم بالنصف.
لأنه حينئذٍ يُقضى له بالشاهد واليمين، يُقضى بالشاهد واليمين وتكون المئة الباقية بين الابنين، كما لو شهد بها غير الابن وحلف المدعي.
باب الإقرار بالمجمل
قال، آخر باب معنا:
المجمل: هو ما احتمل أمرين فأكثر على السواء.
ما يُفسَّر به المجمل الذي يُقَرُّ به
قال:
صحَّ إقراره.
يعني: إذا قيل له: فسِّره؛ فإنه يلزمه تفسيره، يعني قال له: عليَّ شيءٌ، طيب ما هو هذا الشيء؟ له عليَّ كذا وكذا، ما هو؟ يُؤمَر بتفسيره.
قال: لا، ما أفسر، له علي شيءٌ وما أفسره، فيجبر، ما هو هذا الشيء؟ طيب إن رفض، قلنا: يا فلان، فسر لنا ما هو هذا الشيء؟ رفض، ما هو الحل؟ يقول المؤلف:
يُحبَس.
ما هو هذا الشيء.
“حُبِس حتى يفسر”، والغالب: أن الإنسان السَّوي لا يمكن أن يفعل هذا، يعني: يُقِرُّ بمجملٍ ثم يُرفض التفسير! فغالبًا أن مثل هذا يكون إما عنده مرضٌ نفسيٌّ، أو يكون غير سويٍّ، فالإنسان السَّوي إذا أقَرَّ بشيءٍ يُفسِّره، لكن المؤلف يذكر هذه المسألة من باب الافتراض.
أقل ما يسمى مالًا.
وذلك لاحتمال أنه يقصد بهذا الشيء حَدَّ قذفٍ أو شيئًا غير مالٍ.
لأنه ما من مالٍ إلا وهو عظيمٌ بالنسبة لما هو دونه، فيقولون: يُقبل تفسيره بأقل متموَّلٍ.
مداخلة: …..
الشيخ: أقل ما يسمى مالًا، يعني: مئة ريالٍ، لو قال: له عليَّ مالٌ عظيمٌ، قال: أقصد مئة ريالٍ، نقول: مئة ريالٍ لهذا الفقير المعدَم تُعتبر مالًا عظيمًا، فيصح التفسير.
لو قال: أنا أمزح، أنا كنت أقول: له عليَّ مالٌ عظيمٌ، لكن كنت مازحًا. لا عذر لمن أقَرَّ -ما دام أنه أقَرَّ- حتى لو كان مازحًا.
لأن أقلَّ الجمع ثلاثةٌ.
يقول: يعني تٌفسَّر بالرفع أو بالنصب أو الجر، يقول:
ولأن تقديره: شيءٌ هو درهمٌ.
وأما إذا كان درهمًا، “له عليَّ.. درهمًا”، يقولون: هو تمييزٌ، فيلزمه درهمٌ واحدٌ.
أما إذا قال: “له عليَّ .. درهمٍ”.
لأنه بالجر مخفوضٌ، يعني مجرورٌ، كأنه يقول: له عليَّ بعض درهمٍ.
“أو وَقَف” يعني: قال: “له عليَّ درهمْ” وسكت، ما قال: درهمٌ، ولا درهمًا، ولا درهمٍ، فيقولون: إنه يَلزمه بعضُ درهمٍ؛ لأنه يحتمل أن يكون المقصود: له عليَّ بعض درهمٍ، هذا طبعًا لمن يفهم هذه الألفاظ ويعرفها، وقلنا الصواب في هذه المسائل كلها: أن المرجع لمقاصد المتكلمين، ويُرجع في ذلك للعرف.
“كان المبهم” يعني: في هذه الأمثلة.
يعني: له عليَّ ألفٌ ودرهمٌ، يعني: ألفُ درهمٍ ودرهمٌ، هذا معنى: ألفٌ ودينارٌ، يعني: ألفُ دينارٍ ودينارٌ، ألفٌ وثوبٌ، يعني: ألفُ ثوبٍ وثوبٌ، فيقول: إن المبهَم يكون من جنس المعيَّن؛ لأن العرب تكتفي بتفسير إحدى الجملتين عن الأخرى.
تحديد المجمل المحدد بشيءٍ محتملٍ
قال:
لأنه إذا قال: ما بين درهمٍ وعشرةٍ؛ فيصدق على الثمانية.
لأنه جعل العشرة هنا غايةً، وهي غير داخلةٍ، وهذا لمن يفهم اللغة العربية، ويفهم مقاصدها، أما في الوقت الحاضر: فالمرجع لمقاصد المتكلمين، ويُرجع في ذلك للعرف.
يعني: لزمه ثلاثة دراهم؛ يقول: لأن قوله: “قبله وبعده”، ألفاظٌ تجري مجرى العطف، “قبله درهمٌ وبعده درهمٌ”، “ودرهمٌ ودرهمٌ ودرهمٌ”، فتجري مجرى العطف، فيلزمه ثلاثة دراهم.
يعني يلزمه ثلاثةٌ.
طيب، إن قال أنا أردت التأكيد؟ قال:
لأن اللفظ يحتمله.
يقولون: يلزمه الدرهم والدينار؛ وذلك لأن الإضراب رجوعٌ عمَّا أقَرَّ به لآدميٍّ، فلا يصح.
فيلزمه درهمٌ؛ لأنه هو المُقِرُّ به، أما قوله: “في دينارٍ”، فهي محتمِلةٌ، فيلزمه فقط الدرهم.
يعني: الدرهم والدينار، أو: مع دينارٍ، لزمه الدرهم والدينار.
لإقراره به، إذا قال: درهمٌ في عشرةٍ، يعني: لزمه هذا الدرهم، أما العشرة فيحتمل “في عشرةٍ”: أنها محلٌّ للَّغو، أو في عشرةٍ لي، فهي غير صريحةٍ، فيلزمه درهمٌ واحدٌ.
فيُعمل بالعرف.
في بعض النسخ: “يُرِد”، والصواب: “يُرِيد”.
يعني: إذا كان هذا هو العرف.
لأنه أقر على نفسه بالأغلظ؛ كأنه قال: درهمٌ مع عشرةٍ.
طيب إن قال:
يقولون: إقراره بالأول وليس بالثاني، يعني: إقراره بالتمر وليس بالجراب، إقراره بالسيف وليس بالقِراب، وإقراره بالثوب وليس بالمنديل؛ لأن إقراره لم يتناول هذا الظرف، وإنما يتناول الأول فقط.
يقولون: لأن الفصَّ جزءٌ من الخاتم، فهو إقرارٌ بهما جميعًا.
الإقرار بالشجرة هو إقرارٌ بالشجرة فقط، فلا يُعتبر إقرارًا بأرضها.
وذلك لأنه غير مالكٍ للأرض؛ وإنما للشجرة.
الإقرار المأخوذ من كلام غيره
ثم قال:
يعني: في “كتاب الإقرار”.
إذا اتفقا على عقدٍ وادعى أحدهما فساده
يعني: من بيعٍ أو إجارةٍ أو غير ذلك.
فساد ذلك العقد؛ لأنه مثلًا كان غير مكلَّفٍ، أو نحو ذلك.
والآخر ادَّعى صحة العقد.
قال:
لأن الأصل في العقود الصحة.
ادَّعى شيئًا بيَدِ غيرهما بأنه شراكةٌ بينهما، فأقَرَّ لأحدهما بالنصف، يقول: فالمُقَرُّ به يُقسم بينهما نصفين؛ لاعترافهما أنه لهما على الشيوع.
في أنه لُقَطةٌ؛ وذلك لأن أمره بالصدقة يدل على تَعَدِّيه في هذا المال، فيلزمهم الصدقة بجميعه، حتى لو كذبوه أنه لُقَطَةٌ، ربما يكون مالًا اغتصبه، أو مالًا محرمًا، فقال لهم: إنه لُقَطةٌ؛ لأجل ألا يُحرَج، فيلزمهم الصدقة بجميعه.
الإقرار بالشهادتين قبل البلوغ أو قبل الموت
ثم قال:
يعني بالشهادتين.
ختم المؤلف بهذا؛ حتى يُختَم له بالشهادة كما قلنا، ثم دعا بهذا الدعاء، قال:
يعني: بالشهادتين.
وصلى الله وسلم على أشرف العالم، وسيد بني آدم، وعلى سائر إخوانه من النبيين والمرسلين، وآل كلٍّ وصحبه أجمعين، وعلى أهل طاعتك أجمعين، من أهل السماوات والأرضين.
الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، فله الحمد حتى يرضى، وله الحمد على كل حالٍ، والحمد لله وحده.
ونحن نقول: والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
يعني: ألف وتسع عشرة.
والجامع الأزهر بناه الفاطميون، ومعلومٌ عقيدة الفاطميين، الذين هم العُبيديون، ويسمون أنفسهم بالفاطميين، وهم العبيديون، كفَّرهم العلماء، زنادقةٌ، لكنهم بنوا هذا الجامع لما احتلوا بلاد مصر، وأرادوا ببناء الجامع الأزهر نشر المذهب الشيعي، وجعلوه في البداية… وسبحان الله! قيَّض الله تعالى صلاح الدين الأيوبي فاجتث التشيع من مصر من أصله، فلم يَعُدْ له أثرٌ، وتحوَّل ذلك الجامع الأزهر الذي يُقصد به نشر التشيع إلى نشرٍ للسنة وللفقه وللعلم، وله الآن أكثر من ألف سنةٍ، الجامع الأزهر له الآن أكثر من ألف سنةٍ وهو يُدرِّس العلوم، نفع الله تعالى به نفعًا عظيمًا، فكانت تُدَرَّس فيه جميع المذاهب الأربعة، فالمؤلف كان من علماء الأزهر في ذلك الزمان، فرغ من تأليفه سنة تسع عشرة بعد الألف.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وبهذا نكون قد انتهينا من شرح “دليل الطالب”.
ونسأل الله للجميع الفقه في الدين، والعلم النافع، ونعتذر الحقيقة عن الإطالة، لكننا أردنا إنهاء هذا المتن، فنعتذر عن الإطالة، مع أننا حرصنا على الاختصار، قدر الإمكان، خاصةً في الأبواب الأخيرة، خشية الإطالة، وكما ذكرنا بعض المسائل التي ذكروها ترجع إلى ضوابط أو قواعد يكفي طالب العلم أن يفهمها وأن يعرفها.
نأخذ أسئلةً خفيفةً بحدود ثلاث دقائق، لعلها تكفينا؛ لأن الوقت الآن متأخرٌ.
الطلاب: أحسن الله إليك فضيلة الشيخ.
الشيخ: تنبيهان قبل الأسئلة:
أولًا: وُزِّعت أوراق استماراتٍ على الطلاب، استمارات سيُعَبَّأ فيها بعض البيانات من أرقام الجوالات، حتى يتم التواصل معهم، من لم يُسجِّل اسمه؛ يُسجِّل اسمه في هذه الاستمارة؛ حتى يتم التواصل معهم بالرسائل.
أمرٌ آخر: بعض الإخوة يسألون عن دروس “دليل الطالب”، بإذن الله في نهاية الأسبوع الحالي، أو الأسبوع القادم، سيتم تنزيل ما تبقى من مواد “دليل الطالب”.
مداخلة: ….
الشيخ: نعم، الإخوة جزاهم الله خيرًا يُنزلونها صوتًا، وإن شاء الله تعالى هناك فكرةٌ بأن تُفرَّغ وتكون على هيئة مجلداتٍ الحقيقة، والطهارة الآن مفرَّغٌ، لكن فقط يحتاج إلى مراجعةٍ، وستُفرَّغ -إن شاء الله تعالى- المادة كاملةً، وبإذن الله تعالى يكون كتابًا كبيرًا له عدة مجلداتٍ، على غرار “الشرح الممتع” بإذن الله تعالى، وأصله هو هذا الدرس المبارك، فنسأل الله تعالى أن يجعل فيه البركة، ومن أحب أن يتبرع بجهده في التفريغ وفي خدمة هذا الكتاب؛ فنُرحِّب به، يُنسِّق مع الإخوان مع الشيخ فهد، والشيخ ياسر يُنسِّق معهم، ويكون هذا من العلم الذي يُنتفع به.
يعني مثلًا: “الشرح الممتع”، انظر إلى هذا النفع العظيم والأجر لمؤلِّفه ولمن أيضًا فرغه ونشره، وكذلك أيضًا هذا أتوقع -بإذن الله تعالى- أن يكون كتابًا كبيرًا وفي مجلداتٍ، لكن يحتاج إلى وقتٍ وجهدٍ، أولًا في التفريغ، وفي خدمة الكتاب، وفي مراجعته، وإعادة الصياغة، فهذا يحتاج إلى جهدٍ كبيرٍ، لكننا -إن شاء الله تعالى- سنبدأ بالجزء الأول: وهو الطهارة، ويقع في..، ما أدري كم صفحةً؟ (170) صفحةً، الطهارة فقط، أو أكثر من هذا، يعني: فقط الطهارة أكثر (170) صفحةً، في حدود ما بين (170) صفحةً إلى (200) صفحةٍ، هذا للطهارة، ما بالك ببقية الأبواب، فهو يحتاج حقيقةً إلى جهدٍ جماعيٍّ؛ لإخراج هذا الكتاب، فمن أراد أن يتبرَّع بجهده؛ فنكون له من الشاكرين، ويشترك معنا جميعًا في الأجر.
الأسئلة
السؤال: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، هذا السائل يقول: ما هو حكم الإقرار الذي يتم بين الكفيل السعودي وبين العامل الأجنبي عند قدومه المملكة، وقبل أن يتسلم وظيفته؛ بمجموعةٍ من الإقرارات؛ مثل استلام كافة المستحقات، وتقديم الاستقالة، واستلام كافة الرواتب، وغيرها؟
الجواب: إذا كان هذا الإقرار كاذبًا؛ فهذا لا يجوز، لا يجوز أن يُكرَه هذا العامل على الإقرار بإقراراتٍ غير صحيحةٍ، هذا من الكذب، ولا يجوز مثل هذا.
السؤال: أحسن الله إليك فضيلة الشيخ، هذا السائل يقول: توجد بعض الشركات تطلب توظيف السعوديين؛ لأجل نظام (السَّعْوَدة)، فتتفق مع هذا الموظف بإعطائه راتبًا ما يُقارب ألف ريالٍ، مقابل لا شيء، فما الحكم في ذلك؟
الجواب: هذا لا يجوز لعدة أمورٍ:
أولًا: أن هذا فيه كذبٌ والْتفافٌ على الأنظمة التي يُقصد منها مصلحة المجتمع، فهذا النظام يُقصد منه توظيف هؤلاء الشباب العاطلين، وبعض هذه الشركات لا تريد أن تُوظِّف هؤلاء الشباب، تلْتَفُّ على هذا النظام المقصود منه مصلحة المجتمع، وتأتي بأناسٍ وتقول: نحن نُعطيكم مبلغًا زهيدًا، ونُدلِّس على الجهات الحكومية بأن عندنا موظفين سعوديين والأمر ليس كذلك، فهذا العمل لا يجوز، ولا هذا التصرف، ولا يحِلُّ أخذ هذا المال، بل ينبغي إنكار مثل هذا، وفيه مخالفةٌ أيضًا لولي الأمر، وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، وهذا من المعروف الذي تجب الطاعة فيه؛ لأن هذا فيه مصلحةٌ للمجتمع جميعًا، فمثل هذا التصرُّف تصرُّفٌ غير جائزٍ، ولا يجوز التعامل مع هذه الشركات، بل ينبغي الإنكار عليها، والإبلاغ عنها.
السؤال: أحسن الله إليكم، هذا سائلٌ يقول: هل يُشرع عند ختم الكتاب سجود الشكر؟
الجواب: سجود الشكر يُشرع عند تجدُّد نعمةٍ أو اندفاع نقمةٍ، فيظهر لي أنه ليس هناك نعمةٌ متجدِّدةٌ هنا، فالكتاب كل مرةٍ نشرح جزءًا من أبواب العلم، فلا يظهر أن سبب الشكر أنه قائٌمٌ في مثل هذه الحال.
السؤال الأخير: أحسن الله إليكم يقول: هل تحرِّم الرضاعة إذا كان عن طريق شفط الحليب ووضعه في رضَّاعة الأطفال؟
الجواب: نعم، العبرة بأن حليب هذه المرأة دخل في جوف هذا الآدمي، ولو كان بهذه الطريقة التي ذكرها الأخ السائل؛ ولهذا ذكر الفقهاء: أنه حتى لو كان عن طريق وَجُورٍ، أو عن طريق سَعُوطٍ، أنه يَثبت به التحريم، بل ذكروا حتى لو أن هذا اللبن -لبن الآدمية- أصبح جُبنًا فأكله هذا الطفل، يقولون: يحصل به التحريم، ما بالك بهذا؟! هذا من باب أولى أنه يحصل به التحريم.
لعلنا نكتفي بهذا القدر؛ نظرًا لتأخُّر الوقت.
مداخلة: …..
الشيخ: طيب، حتى يُحضَّر العشاء نأخذ الأسئلة.
هناك شيءٌ مكتوبٌ؟
مداخلة: …..
الشيخ: أرادو قسمتها؟ طيب هل القسمة يلحقهم ضررٌ بها؟ إذا كان لا يلحقهم ضررٌ فيُجبَرون على القسمة، تُعتبر قسمة إجبارٍ، أما لو كانت الأرض صغيرةً ويلحقهم ضررٌ؛ تُعتبر قسمة تراضٍ، لا بد من رضاهم، يكون على هذا التفصيل، … الضابط، وينطبق على أي مثالٍ، قسمة التراضي: هي التي لا تكون إلا بضررٍ أو رَدِّ عوضٍ، قسمة الإجبار: هي التي تكون من غير ضررٍ، ومن غير رد عوضٍ، هذا هو الضابط، وينطبق على أي مثالٍ.
مداخلة: …..
الشيخ: طيب، بالنسبة للأول: أخونا الشيخ عبدالله يقول: إن المؤلف له مخطوطاتٌ في اللغة العربية، وأنها لم تُطبع، وتحتاج إلى عنايةٍ من طلاب العلم لطباعتها، هل وقفت على شيءٍ من هذا؟
مداخلة: …..
الشيخ: هو الحقيقةَ الجامع الأزهر -كما ذكرت- له أكثر من ألف سنةٍ، لا بد أن يكون فيه كتبٌ ومخطوطاتٌ كثيرةٌ، له أكثر من ألف سنةٍ، وهو يُخرِّج العلماء، وفيه تدريسٌ ومؤلفاتٌ، فلا شك أن فيه مخطوطاتٍ كثيرةً.
مداخلة: …..
الشيخ: هناك دورةٌ في “جامع الراجحي” ستكون في “مدارج السالكين” كاملةً لعددٍ من المشايخ، وسيكون نصيبي أحد هذه الأيام، وهذه الحقيقةَ فرصةٌ لطالب العلم أن يَمر على جميع الأبواب، طبعًا “مدارج السالكين” كمُنطَلَقٍ لا يُتقيَّد به، لكن كمُنطَلَقٍ يُنطَلَقُ منه، وستكون في حدود أسبوعٍ في “جامع الراجحي” في حي الجزيرة، فهي فرصةٌ، فهي تبدأ في: 19/ 7، لمدة أسبوعٍ.
مداخلة: …..
الشيخ: لا، هذه في حالةٍ خاصةٍ، في حالة الشهادة على الشهادة، يقول: لا بد أن تستمر حتى صدور الحكم، أما لو أنه مثلًا شهد وقت الشهادة، أو أدلى بالشهادة، يعني: كان عدلًا، ثم حكم القاضي بموجب شهادته، ثم فسق بعد ذلك، هنا لا يضر، لكن لو أنه أيضًا شهد الشاهد، ثم فسق قبل صدور الحكم، هذا مؤثِّرٌ في الحقيقة.
مداخلة: …..
الشيخ: نعم يا شيخ علي، عندك شيءٌ؟
مداخلة: …..
الشيخ: إي نعم، المرأة المحِدَّة الأصل أنها تبقى في بيت زوجها، هذا هو الأصل، لكن إذا خشِيَت وخافت على نفسها؛ فلا بأس أن تنتقل لبيت أحدٍ من محارمها، أو أنه مثلًا: طلب منها إيجارًا ولا تستطيع دفعه، يكون هذا عذرًا لها، أما إذا كان بيت الزوج مهيَّئًا؛ فالأصل: أنها تبقى في بيت زوجها، هذا هو الأصل.
مداخلة: …..
الشيخ: لكن هل تخشى على نفسها لو بقيت؟ إذا كانت تخشى على نفسها؛ فلا بأس أن تنتقل؛ لأن أيضًا المرأة إذا لم يكن لها محرمٌ، فقد تكون محل طمعٍ من بعض الرجال، إذا كانت تخشى على نفسها؛ فلا بأس أن تنتقل.
مداخلة: …..
الشيخ: لا، لا يكون ناسخًا، إذا اجتهد القاضي في مسألةٍ وحَكم فيها، ثم بعد مدةٍ من الزمن تغيَّر اجتهاده وحَكم في مسألةٍ أخرى بحكمٍ آخر، فحكمه الثاني لا ينسخ الحكم الأول، الحكم الأول مبنيٌّ على اجتهاده، قد يكون الصواب في الحكم الأول، قد يكون الصواب في الحكم الثاني؛ ولهذا قال الفقهاء: إن الاجتهاد لا يُنقض بالاجتهاد.
وهذا من عظمة هذه الشريعة الحقيقة، ولهذا إذا اجتهد طالب العلم، حتى لو أخطأ، إذا اجتهد فأصاب؛ فله أجران، وإذا اجتهد وأخطأ؛ فله أجرٌ واحدٌ، وقد جاء في “صحيح البخاري” أن النبي قال: لا يُصَلِّيَنَّ أحدٌ منكم العصر إلا في بني قريظة، الصحابة اختلفوا في فهم المقصود؛ فبعضهم أخذ بظاهر اللفظ، قالوا: ما نصلي العصر إلا في بني قريظة ولو غربت الشمس، وقال آخرون: لا، ما أراد النبي هذا، إنما أراد حثَّنا على المسير، فصلوا العصر في وقتها في الطريق، فبلغ النبي ذلك، قال ابن عمر رضي الله عنهما: ولم يُعنِّف أيًّا من الطائفتين [25].
طيب، أيُّ الطائفتين أفقه؟ التي صلت العصر في وقتها في الطريق، أو التي أخَّرت العصر حتى وصلت بني قريظة؟
التي صلت في الطريق أفقه -كما قال ابن القيم- لأنها نظرت إلى مقصود النبي عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا فالنظر إلى مقاصد الشريعة من الأمور المهمة لطالب العلم.
وأيضًا يُستفاد من هذه القصة: أن مَن أخذ بظاهر اللفظ لا يُعنَّف عليه؛ لأنه مجتهدٌ، من قال: أنا والله آخذ بظاهر هذا النص، فلا يُنكَر عليه، لكن من حيث الفقه، فالأفقه: هو من أخذ بمقصود الشارع من هذا الحكم.
مداخلة: …..
الشيخ: لا؛ لأن الظاهرية أحيانًا تكون هناك أشياء واضحةٌ تمامًا، ومع ذلك يأخذون بظاهر اللفظ، مثل: لا يبُولَنَّ أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه [26]، فيقولون: لو تغوَّط؛ جاز! الغائط أبلغ من البول!
مثلًا: قول ابن حزمٍ: إن من لم يضطجع بعد ركعتي الفجر؛ بطلت صلاته! هذا لا يتفق مع الأصول والقواعد الشرعية، فعندهم مثل هذه الأقوال الكبيرة التي أَضعفت مذهب الظاهرية، لكن لكل قومٍ وارثٌ، يوجد ظاهرية العصر، في الوقت الحاضر هناك ظاهرية العصر، هم يتبعون ظاهرية ابن حزمٍ في هذا، نجد أنهم يتمسَّكون بظاهر النص، ويَغفُلون عن مقاصد الشارع.
مداخلة: …..
الشيخ: ما يكون ناسخًا، لا، قد يكون رأيه الأول هو الصواب، ما ندري.
مداخلة: …..
الشيخ: لعلنا نختم بهذا السؤال.
مداخلة: …..
الشيخ: الأول اجتهادٌ، والثاني اجتهادٌ.
مداخلة: …..
الشيخ: هذه -إن شاء الله تعالى- سنَبسُط الكلام فيها عندما نتكلم في الفرائض عن “مسألة المشرَّكة”، سنتكلم عن هذه المسألة، لكن الأول اجتهادٌ، والثاني اجتهادٌ، فالأول يرفع الخلاف في تلك القضية، والثاني يرفع الخلاف في القضية الثانية.
لعلنا نكتفي بهذا القدر، وندعو الإخوة جميعًا لتناول طعام العشاء.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.
الحاشية السفلية
^1 | رواه أبو داود: 2340، والترمذي: 691، والنسائي: 2113، وابن ماجه: 1652. |
---|---|
^2 | رواه البيهقي: 20427. |
^3 | رواه البخاري: 2515، ومسلم: 138. |
^4 | رواه البخاري: 7185، ومسلم: 1713. |
^5 | رواه أبو داود: 3582، والترمذي: 1331، والنسائي: 8420، وابن ماجه: 2310، وأحمد: 1210 |
^6 | رواه البخاري: 2213. |
^7 | رواه أبو داود: 3613، والنسائي: 5955، وابن ماجه: 2330، وأحمد: 19603. |
^8 | رواه البخاري: 2514، ومسلم: 1711. |
^9 | رواه البخاري: 4886، ومسلم: 2125. |
^10 | رواه البخاري: 5941. |
^11 | رواه البخاري: 6016، ومسلم: 46. |
^12 | رواه البخاري: 13، ومسلم: 45. |
^13 | رواه البخاري: 6056، ومسلم: 105. |
^14 | رواه الترمذي: 3768، والنسائي: 8113، وأحمد: 11636، وابن حبان: 6959. |
^15 | رواه أبو داود: 3601، وابن ماجه: 2366، وأحمد: 6940. |
^16 | رواه مسلم: 1044. |
^17 | رواه أبو داود: 1633، وأحمد: 23113. |
^18, ^23 | سبق تخريجه. |
^19 | رواه مسلم: 1712، وأبو داود: 3608، والترمذي: 1344، وابن ماجه: 2369، وأحمد: 2886. |
^20 | رواه البخاري: 2640. |
^21 | رواه ابن أبي عاصم في الديات: ص 40، والبيهقي: 21243. |
^22 | رواه البخاري: 4552، ومسلم: 1711، بنحوه. |
^24 | رواه أبو داود: 3116، وأحمد: 22034. |
^25 | رواه البخاري: 946، ومسلم: 1770. |
^26 | رواه البخاري: 239، ومسلم: 282. |