عناصر المادة
- كتاب الوصية
- مبطلات الوصية
- باب المُوصَى له
- التعريف ببعض المصطلحات
- باب المُوصَى به
- باب الموصى إليه
- الأسئلة
كتاب الوصية
كنا قد وصلنا إلى كتاب الوصية، قال المؤلف رحمه الله:
وهو آخر الأبواب معنا في أبواب المعاملات.
وإن شاء الله تعالى الدرس القادم سننتقل لما يسمى بـ”فقه الأسرة”، بِلغة الفقهاء: كتاب النكاح.
كتاب النكاح -إن شاء الله- نبتدئ به، أما بالنسبة للفرائض فهذه -إن شاء الله- سنجعل فيها درسًا مستقلًّا، إن شاء الله تعالى سنجعل فيها درسًا خاصًّا ومستقلًّا، ونربطه بأحد المتون؛ لأنها تحتاج إلى شيءٍ من الشرح والجانب التطبيقي أيضًا، فإن شاء الله تعالى مع الفصل القادم نجعل فيها درسًا خاصًّا، وما دام في النية أنَّا سنجعل للفرائض درسًا خاصًّا؛ فلا داعي لأن نأخذها من “دليل الطالب”، سنتجاوزها، وكذلك العتق أيضًا، هو مرتبطٌ بالفرائض؛ لذلك يذكرون كثيرًا من مسائله في الفرائض؛ ولذلك سننتقل مباشرةً لكتاب النكاح إن شاء الله تعالى.
طيب، نبدأ بكتاب الوصية:
تعريف الوصية
الوصية في اللغة: مأخوذةٌ من وصَّيت الشيء إذا وَصَلْتَه، سميت بذلك؛ لأنها وصلٌ لما كان في الحياة بما بعد الموت؛ وذلك لأن المُوصِي قد وَصَل بعض التصرف الجائز له في حياته؛ ليستمر بعد مماته، هذا من حيث الاشتقاق اللغوي.
وأما في الاصطلاح فهي: الأمر بالتصرف بعد الموت، أو التبرُّع بالمال بعده.
الأمر بالتصرُّف بعد الموت، أي: أمرُ الموصِي في حياته بأمورٍ معينةٍ بعد وفاته؛ كأن يوصي مثلًا بأن يُغسِّله فلانٌ، أو يصلي عليه فلانٌ، أو يُوصِي بتزويج بناته، أو تفريق الثلث، أو نحو ذلك، “الأمر بالتصرف بعد الموت”.
أو التبرع بالمال بعده، أي: أمرُ المُوصِي المتبرِّع بعد مماته بمالٍ في وجوهٍ معينةٍ؛ كأن يوصي مثلًا بربع أو ثلث أو خمس ماله في وجوه البر، أو نحو ذلك.
فالتبرع بعد الموت يسمى وصيةً، أما التبرع في حال الحياة فيعتبر هبةً، التبرع في مرض الموت يسمى عطيةً، بينها هذه الفروق.
مشروعية الوصية
والأصل في الوصية: الكتاب والسنة والإجماع.
أما من الكتاب: قول الله : كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:180]، وقول الله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11]، والآية الأخرى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12].
وأما من السنة: فعدة أحاديث وردت في شأن الوصية؛ منها: وصية سعد بن أبي وقاصٍ لما عاده النبي في حجة الوداع، فقال: يا رسول الله، قد بلغ بي الوجع ما ترى، ولا يرثني إلا ابنةٌ لي، أفأوصي بثلثي مالي؟ قال : لا، قال: فبالشطر؟ يعني: النصف، قال : لا، قال: الثلث؟ قال : الثلث، والثلث كثير، إنك أن تَذَر ورثتك أغنياء، خيرٌ من أن تذرهم عالَةٌ يتكفَّفون الناس، ولعلك أن تُخَلَّف فينتفع بك أقوامٌ ويُضَر بك آخرون [1]، وبالفعل شفاه الله بعدما مرض مرضًا شديدًا ظن أنه سيموت فيه، شفاه الله تعالى وانتفع به أقوامٌ وضُرَّ به آخرون.
فمن الذي انتفع به، ومن الذي ضُرَّ به؟ قاد المسلمين في أي معركةٍ؟ القادسية، وانتفع به المسلمون انتفاعًا عظيمًا، قادهم قيادةً حسنةً في تلك المعركة الفاصلة، وضُرَّ به الفرس، ورُزق أولادًا كثيرين بعد ذلك، رضي الله تعالى عنه.
وأيضًا جاء في “الصحيحين” عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: ما حق امرئٍ مسلمٍ له شيءٌ يُوصِي فيه يبيت ليلتين؛ إلا ووصيته مكتوبةٌ عنده، قال ابن عمر رضي الله عنهما: ما بِتُّ ليلةً بعدما سمعت ذلك من رسول الله إلا ووصيتي عند رأسي [2]، وهنا أرشد النبي إلى كتابة الوصية.
فينبغي لمن كان عنده شيءٌ ويرغب أن يُوصي به، أن يُبادر إلى كتابته، ويُشهد شاهدين، وكم من إنسانٍ كان ينوي أن يوصي ففاجأه الموت ولم يُوصِ؛ فندم ندمًا عظيمًا؟! كم من إنسانٍ يملك ثروةً عظيمةً، وكان من نيته أن يوصي، لكن فاجأه الموت فحرم نفسه من هذا؟! ولذلك فينبغي أن يبادر المسلم، إذا كان عنده شيءٌ يريد أن يوصي فيه، أن يبادر بكتابة وصيته، وأن يُشهد عليها شاهدين.
والوصية -كما سيأتي- هي غير لازمة إلا بالموت، يعني: لا تلزم إلا بالموت؛ فلك أن تُلغيها، ولك أن تُبدِّل وأن تُعدِّل وأن تُضيف، حتى تشطبها وتُلغيها؛ لأنها لا تلزم إلا بالموت، فما الذي تخشى منه؟
إذنْ ينبغي أن يبادر من له شيءٌ عنده يريد أن يوصي به، أن يبادر بكتابة الوصية، وأنا أذكر أن رجلًا أتى إليَّ في هذا الجامع، وقال: إنه يرغب في وصيةٍ، وكانت في بيتٍ له، فقلت له: تأتي بصَكِّ البيت؛ حتى نكتب الوصية ونُشهد شاهدين، فقال: إن شاء الله، ومضت الأيام ولم يأتِ بذلك، وتوفي فجأةً، فأبلغت ورثته بما حصل، ففي البداية بعد الموت قالوا: نحن سنُنفِّذ هذه الوصية ونعتبرها كأنها مكتوبةٌ، ثم بعد مدةٍ عدَلوا عن ذلك؛ ولهذا لا يجعل الإنسان أولاده يتصدقون عليه؛ إما أن يُخرِجوا عنه أو لا يُخرِجوا، وإنما يبادر هو من نفسه، يبادر من نفسه، وإذا كان عنده شيءٌ يريد أن يوصي به فيكتب ذلك، ويُشهد عليه شاهدين.
طيب ما حكم الوصية؟ هل هي مستحبةٌ أو مباحةٌ؟
الوصية تجري عليها الأحكام الخمسة، وإذا قال الفقهاء: “الأحكام الخمسة”، فماذا يعنون بهذا المصطلح؟
مداخلة: …..
الشيخ: نعم، وهي: الوجوب والاستحباب والحرمة والكراهة والإباحة، فتجري على الوصية الأحكام الخمسة، وبيَّنها المؤلف، بيَّن هذه الأحكام الخمسة، قبل ذلك ما قدَّم به المؤلف نشرحه، ثم نأتي لحكم الوصية.
تصح الوصية من كل عاقلٍ لم يُعاين الموت
قال:
هنا المؤلف قال: “من كل عاقلٍ”، ولم يقل: “بالغٍ”؛ وذلك لأن الوصية لا يشترط لها البلوغ، تصح من الصبي المميِّز كما سيأتي، لكن يشترط لها العقل، فلا تصح الوصية من المجنون، ولا تصح من الصبي غير المميز، قال: “من كل عاقلٍ لم يُعاين الموت”.
“لم يُعاين الموت”، يعني: لم تبلغ الروح الحلقوم، فإن عاين الموت؛ يقولون: لا تصح وصيته؛ وعللوا لذلك قالوا: لأنه لا قول له حينئذٍ، ونقل في “منار السبيل” اتفاق الفقهاء على ذلك، ولكن حكاية الاتفاق هذه محل نظرٍ، المسألة فيها خلافٌ بين أهل العلم؛ ولذلك في “تصحيح الفروع” ذكر فيها ثلاثة أقوالٍ، ورجَّح أنها تُقبل ما دام عقله معه:
- ذكر القول بأنها لا تُقبل إذا عاين الموت.
- والقول بأنها لا تُقبل إذا عاين الملك.
- والقول الثالث: أنها تُقبل ما دام عقله ثابتًا؛ وصوَّب هذا، وهذا هو الأقرب: أنه تُقبل الوصية ولو كان عاين الموت، والدليل لهذا: ما جاء في “الصحيحين” عن أبي هريرة أن النبي أتاه رجلٌ فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرًا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أن تَصدَّق وأنت صحيحٌ شحيحٌ تخشى الفقر وتأمُل الغِنى، ولا تُمْهِل -وهذا موضع الشاهد- حتى إذا بلغت الحلقوم، قلتَ: لفلانٍ كذا، ولفلانٍ كذا، وقد كان لفلانٍ [3]، هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلمٌ ودلالته ظاهرةٌ، قال : ولا تُمهِل حتى إذا بلغت -أي الروح- الحلقوم، قلت: لفلانٍ كذا، ولفلانٍ كذا، وقد كان لفلانٍ؛ وهذا دليلٌ على أن الوصية عندما تبلغ الروح الحلقوم صحيحةٌ، لكن الصدقة في حال الصحة أفضل: أن تصدَّق وأنت صحيحٌ شحيحٌ أفضل، ولذلك سؤال الرجل، قال: “يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرًا؟”، فالنبي عليه الصلاة والسلام ذكر الأول ثم ذكر الثاني:
- الأول: أن تَصدَّق وأنت صحيحٌ شحيحٌ في حال الحياة، هذا أفضل.
- لكن عندما تُوصي وأنت في حال الموت، فهذا أيضًا صحيحٌ وإن كان مفضولًا، هذا هو الأقرب والله أعلم.
ثم أيضًا كثيرٌ من المسلمين عندما يحضره الموت؛ يبدأ يُوصي، والمسلمون ينفِّذون وصيته ويقبلونها، فيُشبه أن يكون كالإجماع العملي: أنه إذا أوصى أحدٌ قبل وفاته ونَطَق قال: لفلانٍ كذا، وأوصي بالثلث، أو الربع، أو نحو ذلك؛ أنهم يقبلون ذلك وينفذون وصيته.
فالأقرب والله أعلم: أنه ما دام عقله ثابتًا، ما دام عقله معه، ما دام بكامل قواه العقلية؛ أن وصيته صحيحةٌ.
وصية المميز والسفيه
قال:
فتصح وصية المميِّز، وتصح وصية السفيه؛ وذلك لأنه إنما حُجِر عليهما؛ لحفظ أموالهما، وليس في وصيتهما إضاعةٌ للمال؛ لأنهما إن عاشا؛ فهو لهما، وإن ماتا؛ فلهما الثواب والأجر، وحينئذٍ فلا مانع من صحة وصيتهما.
يعني مثلًا: صبيٌّ مميِّزٌ مريضٌ مرضًا عضالًا، وله مالٌ ورثه من أبيه أو نحو ذلك، قام وأوصى بالربع، أوصى بالثلث، الصحيح: وصيته صحيحةٌ وتَنفُذ، كذلك لو كان سفيهًا محجورًا عليه وأوصى؛ فتصح وصيته.
حكم الوصية
ثم ذكر المؤلف بعد ذلك حكم الوصية، وكما ذكرنا: أنها تجري عليها الأحكام الخمسة.
تُسن في حق من ترك مالًا كثيرًا
قال:
تُسن في حق من ترك خيرًا؛ لقول الله : كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ [البقرة:180]، والخير المقصود به: المال الكثير عُرفًا، فمن ترك أموالًا كثيرةً عُرفًا، فيسن له الوصية.
والوصية تجوز بالثلث؛ لقول النبي : الثلث، والثلث كثير [4]، والمؤلف يقول: إنها تُسن بالخُمس، يعني: تستحب بالخُمس.
وقال بعض أهل العلم: إن الأولى ألا يستوعب المُوصِي الثلث بالوصية حتى وإن كان غنيًّا؛ لقول النبي : الثلث، والثلث كثيرٌ؛ ولهذا جاء في “الصحيحين” عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: “لو أن الناس غَضُّوا من الثلث، فإن النبي قال: الثلث والثلث كثيرٌ [5].
وهذا هو ظاهر المنقول عن الصحابة : رُوي عن أبي بكرٍ الصديق أنه قال: “أرضى بما رضي الله تعالى به لنفسه”، يريد قول الله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الأنفال:41]، فأوصى أبو بكرٍ الصديق بالخُمس.
وكذلك رُوي عن عليٍّ قال: “لأن أُوصِي بالخُمس أحب إليَّ من أن أوصي بالربع”، وعن العلاء بن زيادٍ قال: أوصى أبي أن أسأل العلماء: أي الوصية أعدل؟ فما تتابعوا عليه فهو وصيةٌ، قال: فتتابعوا على الخمس.
فإذنْ الأفضل ألا يستوعب الإنسان الثلث كاملًا، وإنما يكون أقل من الثلث: إما الخُمس وإما الربع، والخُمس هو الأفضل.
تُكره من فقيرٍ له ورثةٌ فقراء
قال:
يعني: إذا كان الإنسان فقيرًا وله ورثةٌ؛ لا شك أن ورثته أولى من الأباعد؛ ولذلك تُكره الوصية في حقه؛ ولأن الله قال: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ [البقرة:180]، فقال: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا، وهذا الفقير لم يترك خيرًا، ولقول النبي : إنك أن تَذَر ورثتك أغنياء، خيرٌ من أن تذرهم عالةً يتكفَّفون الناس [6]، ولقول النبي : ابدأ بنفسك ثم بمن تعول [7]، وكونه فقيرًا وله ورثةٌ ويذهب ويُعطي هذا المال القليل عنده، يُعطيه الأباعد ويترك ورثته يتكففون الناس، ليس هذا بمحمودٍ، بل هو مكروهٌ، هو صحيحٌ أنه ليس حرامًا، لكنه مكروهٌ؛ لأن الأقربين أولى بالمعروف.
تباح من فقيرٍ له ورثةٌ أغنياء
قال:
إن كان ورثته أغنياء؛ فتباح في حقه الوصية، ولكن القول بأنها تباح في هذه الحال محل نظرٍ، إذا كان ورثته أغنياء؛ فأيهما أقرب: القول بالإباحة أو القول بالاستحباب؟ القول بالاستحباب.
فالأقرب: أنه إذا كان ورثته أغنياء؛ أنها تستحب في حقه.
لكن المؤلف أراد أن يستوعب الأحكام الخمسة، لكن هناك صورٌ للإباحة غير ما ذكر، ومن ذلك ما نصَّ عليه بعض الفقهاء، قالوا: إنها تباح لمن لا وارث له، تباح بجميع المال لمن لا وارث له؛ لأن المنع من الزيادة على الثلث إنما كان لتعلق حق الورثة، وهذا لا وارث له، لكن أيضًا هذا قد يناقَش، إذا كان لا وارث له وأوصى بجميع المال، فهل هذا مجرد مباحٍ؟ نقول: إنه مباح، أو نقول: إنه مستحب؟ هو إلى الاستحباب أقرب.
أيضًا من صور الإباحة: لو كان ورثته أغنياء، وأوصى لغنيٍّ غير وارثٍ، أوصى لغنيٍّ غير وارثٍ، فهذا مباحٌ، لكنه ليس مستحبًّا؛ لأنه أوصى لغنيٍّ.
فإذنْ الإباحة لها عدة صورٍ.
تجب على من عليه حقٌّ بلا بينةٍ
وأما الوجوب قال:
من عليه حقوقٌ لازمةٌ؛ كالديون، يجب عليه أن يوصي بوفائها، سواءٌ كانت هذه الحقوق لله أو للعباد.
الحقوق التي لله تعالى كالزكاة، مثلًا: إنسانٌ عنده زكاةٌ ما أخرجها، أو مثلًا: الكفارات.
حقوقٌ للعباد؛ كأن يكون مطلوبًا بديونٍ، وهذه الديون غير موثَّقةٍ؛ ولذلك المؤلف قال: “بلا بيِّنةٍ”: غير موثقةٍ، ذهب واستلف من رجلٍ عشرة آلاف ريالٍ، ولم يُوثِّق هذا السلف، هنا يجب عليه أن يُوصِي؛ لأنه إذا لم يُوصِ؛ فقد يَضيع حق هذا الدائن؛ لأن الورثة ربما لا يصدقونه إذا لم يكن له بيِّنةٌ، ولا يلزمهم أن يعطوه، وحينئذٍ هو الذي يبوء بالإثم، هذا المدين هو الذي يبوء بالإثم.
فإذا كانت الحقوق غير موثَّقةٍ؛ يجب عليه أن يوصي بأدائها.
تحرم بما زاد على الثلث أو كانت لوارثٍ
قال:
أولًا: تحرم.
قال:
تحرم الوصية بأكثر من الثلث؛ لقول النبي : الثلث والثلث كثيرٌ، ولمَّا قال له سعدٌ : أُوصي بثلثي مالي؟ قال : لا، قال: بالشطر؟ قال : لا، قال: بالثلث؟ قال : الثلث، والثلث كثيرٌ [8]؛ فدل ذلك على أنها تحرم بأكثر من الثلث.
الوارث كذلك تحرم الوصية له؛ لقول النبي : إن الله أعطى كل ذي حقٍّ حقه، فلا وصية لوارث [9]، فلا تجوز الوصية إذنْ للوارث.
الوصية بأكثر من الثلث موقوفةٌ على إجازة الورثة
لكن لو أوصى لوارثٍ بأكثر من الثلث، فما الحكم؟ قال المؤلف:
يعني: لو أوصى بأكثر من الثلث، أو أوصى لوارثٍ، فإن أجاز ذلك الورثة؛ صح ونَفَذت، إن لم يُجز ذلك الورثة؛ فإنها لا تصح ولا تَنفذ.
مداخلة: …..
الشيخ: إي نعم، إذا كان لم يستأذن من الورثة؛ فيأثم.
وقت اعتبار الوصية
قال:
يعني: نحن قلنا: إنه لا تصح الوصية لوارثٍ، ما المعتبر في كونه وارثًا أو غير وارثٍ؟ ما هو الوقت المعتبر؟ الوقت المعتبر: عند الموت؛ لهذا قال: “والاعتبارُ بكون مَن وُصِّي أو وُهب له وارثًا أو لا -يعني أو غير وارثٍ- عند الموت”، قال الموفق بن قدامة: “لا نعلم فيه خلافًا”.
طيب، نوضح هذا بمثالين:
هذا رجلٌ له أخٌ، وهذا الأخ وارثٌ له، فأوصى له بوصيةٍ، أوصى وصيةً لوارثٍ -لأخيه– ثم إن هذا الأخ وُلد له ابنٌ، فهل يصبح أخوه وارثًا له؟ لا يصبح وارثًا له، فحينئذٍ إذا كان عند الموت غير وارثٍ له؛ فحينئذٍ نقول: إن الوصية تكون صحيحةً؛ لأنه لما وصَّى أولًا كان وارثًا له؛ لكونه لا وَلَد له، لكنه وُلِدَ له ولدٌ، لما وُلِدَ له ولدٌ، الولد هذا -الابن- يحجب الأخ؛ وحينئذٍ يُصبح أخوه في هذه الحال غير وارثٍ له؛ فتصح الوصية.
طيب لو كان العكس: أوصى لأخيه باعتباره غير وارثٍ، ثم أصبح وارثًا، يعني: كان له ابنٌ، كان لهذا المُوصِي ابنٌ، ثم مات الابن، فأصبح أخوه يرثه، فنقول: إن هذه الوصية لا تصح؛ لأن الوصية أصبحت لوارثٍ.
فإذنْ المعتبر: هو كونه وارثًا أو غير وارثٍ “عند الموت”، فننظر لحاله عند الموت؛ هل هو وارثٌ فلا تصح الوصية له؟ هل هو غير وارثٍ تصح الوصية له؟ لأنه كما ذكرنا قد تتغير حال الإنسان من كونه وارثًا أو غير وارثٍ، كما في هذين المثالين.
إجازة الوصية لوارثٍ وما زاد على الثلث
قال:
يعني: تكون الإجازة -إجازة الوصية لوارثٍ، وكذلك إجازة الوصية بما زاد على الثلث- “أو الرد” يعني: عدم الإجازة، “بعده” يعني: بعد الموت، وأما ما قبل الموت فلا عبرة به؛ وذلك لأن الموت هو وقت لزوم الوصية، والعطية في معناها.
قال:
نود فقط أن نوضح المصطلحات قبل أن ندخل في هذه، عندنا أربعة أركانٍ للوصية:
- المُوصِي: وهو الذي صدرت منه الوصية.
- المُوصَى له: هو المستفيد من الوصية، المنتفع بالوصية، هذا يسمى “المُوصَى له”.
- المُوصَى به: هو الشيء المُوصَى به من مالٍ أو منفعةٍ، يعني: المتبرَّع به من مالٍ أو منفعةٍ.
- وعندنا أيضًا المُوصَى إليه، المُوصَى إليه: هو المأمور بتنفيذ الوصية.
فعندنا المُوصِي، والمُوصَى له، والمُوصَى به، هؤلاء من أركان الوصية، الموصى إليه ليس من أركان الوصية، هو مأمورٌ فقط بتنفيذها، فينبغي أن نُفرِّق بين هذه المصطلحات.
الحكم إذا امتنعَ المُوصَى له من القبول ومن الرد
هنا المؤلف يقول:
يعني: هذا أوصى لزيدٍ من الناس بعشرة آلاف ريالٍ بعد وفاته، رأى أن زيدًا رجلٌ فقيرٌ، وأنه غير وارثٍ، فقال: إذا مِتُّ فأعطوه عشرة آلافٍ، فامتنع من القبول ومن الرد، قيل: يا فلان، إن زيدًا أوصى لك، سكت، هل تقبل هذه الوصية؟ فامتنع من القبول ومن الرد، لا هو الذي قَبِل فنقول: قَبِل الوصية، ولا هو الذي ردها فترجع للورثة، لكنه امتنع، قال: لا، أنا ممتنعٌ، لا أقول أقبل ولا أرد، يقول المؤلف: “حُكِم عليه بالرد، وسقط حقه”.
إذنْ نقول: لا بد أن تقبلها أو يسقط حقك، يسقط حقه من الوصية؛ وذلك لعدم قبوله، ولأن الملك مترددٌ بينه وبين الورثة، فأشبه من تحجَّر مواتًا وامتنع من إحيائه، فإنه يؤخذ منه، يأخذه الإمام منه، كذلك الذي امتنع من قبول الوصية أو ردِّها، يسقط حقه وينتقل للورثة.
وإن قَبِل الوصية؛ لا إشكال تكون له، وإن ردَّها؛ ترجع للورثة.
قَبِل الوصية ثم ردَّها، يقول:
إذا قَبِلها؛ دخلت في ملكه، واستقر ملكه عليها فأصبحت كسائر أملاكه، ولا يصح الرد حينئذٍ، إلا إذا رضي الورثة بذلك، فإذا رضي الورثة بردِّها عليهم؛ تعتبر هبةً منه للورثة، هذا هو تكييفها الفقهي.
إذنْ إذا قَبِل؛ دخلت في ملكه شاء أم أبى، فإن رد بعد ذلك، نقول: ليس له الرد إلا إذا رضي الورثة بذلك، فتكون هبةً منه للورثة.
قال:
كسائر العقود؛ وذلك لأن القبول هو سبب ملكه، والحكم لا يتقدم على سببه.
ما حدث من نماءٍ منفصلٍ قبل ذلك فللورثة
يترتب على ذلك، قال:
يعني: لورثة الموصي.
هذا رجلٌ مثلًا أوصى بناقةٍ لرجلٍ فقيرٍ، قال: إذا مِتُّ؛ أعطوا فلانًا هذه الناقة، ثم إن هذه الناقة نتجت عددًا من الإبل، فنتاجها يكون لمَن؟ للورثة، نتاجها يكون للورثة، هو تكون له الناقة فقط، لماذا؟ لأنها إنما تدخل في ملكه من حين القبول، حتى ولو كان النتاج بعد موت المُوصِي وقبل قبوله؛ فتكون للورثة، إذنْ تدخل في ملكه من حين القبول.
مبطلات الوصية
ثم انتقل المؤلف بعد ذلك للكلام عن مبطلات الوصية، ذكر خمسة مبطلاتٍ:
قال:
الأول: رجوع الموصي بقولٍ أو فعلٍ يدل عليه
لقول عمر : “يُغيِّر في وصيته ما شاء”[10]. ولأن الوصية لا تلزم إلا بالموت، فإذا رجع المُوصِي في وصيَّته بطلت الوصية.
يكون هذا الرجوع بقول، بأن يقول: أبطلت وصيَّتي، أو مثلًا بفعل، تكون الوصية مكتوبة في ورقة فيُمزِّقها مثلًا، أو يحرقها، أو أن يبيع المُوصَى به، يبيعه، أو يَهَبَهُ، أو مثلًا يَرْهَنَه، أو نحو ذلك.
الثاني: موت الموصَى له قبل المُوصِي
قال:
لو مات الموصَى له قبل الموصِي؛ تبطل الوصية؛ وذلك لأنها عطيةٌ صادفت ميتًا؛ فلم تصح، لكن استثنوا من ذلك مسألةً، قالوا: إلا إذا كانت بقضاء دينه؛ فإنها تصح.
الثالث: قتل الموصَى له للموصِي
قال:
يعني: قتل الموصَى له للموصي؛ وذلك لأن القتل يمنع الميراث، وهو آكد من الوصية؛ فلأن يمنع الوصية من باب أولى.
الرابع: رد الموصَى له للوصية
قال:
يعني: رد الموصَى له للوصية بعد موت الموصِي؛ وذلك لأنه أسقط حقه في حالٍ يملك قبوله وأخذه.
يعني: إنسانٌ قيل له: إن فلانًا أوصى لك بكذا، قال: ما أقبل، تبطل الوصية ولا نُلزمه، لا يلزم أن يكون الإنسان تحت منَّة غيره، ربما المُوصِي مات، لكن قد يمتنُّ عليه الورثة، أو نحو ذلك، أو قد يكون لا يرغب في هذه الوصية، يرى أنه مستغنٍ، وأنه لا حاجة له بها، أو مثلًا يرى أن ورثة المُوصِي أحق منه بها، أو نحو ذلك.
المهم أنه إذا ردَّ الوصية؛ بطَلَت.
الخامس: تلف العين المعيَّنة الموصَى بها
قال:
إذا تلفت هذه العين المُوصَى بها؛ فإنها تبطل، وقد حكى ابن المنذر الإجماع على ذلك.
باب المُوصَى له
ثم قال المؤلف رحمه الله:
المُوصَى له أحد أركان الوصية كما ذكرنا، وهو المستفيد من الوصية.
من تصح له الوصية
قال:
الوصية عند الفقهاء أوسع من البيع، وأوسع حتى من الهبة، وأوسع من سائر العقود؛ ولذلك ستجدون أنها تصح بالمجهول وبالمعدوم، وهنا قالوا:
قال الموفق بن قدامة: “لا نعلم فيه خلافًا”.
وسبق أن ذكرنا في كتاب الوقف التفريق بين: الوقف على جهةٍ، والوقف على الفرد؛ فالجهة لا بد أن تكون جهة بِرٍّ، ولا يصح أن تكون على جهة معصيةٍ.
أما بالنسبة للفرد من الناس فيصح، لو كان الوقف مثلًا على يهوديٍّ، قريبٌ له يهوديٌّ مثلًا؛ يصح، وذكرنا قصة أن صفية رضي الله عنها وقفت على أخٍ لها يهوديٍّ.
كذلك أيضًا نقول هنا في الوصية، الوصية كذلك تصح حتى للكافر ولو كان مرتدًّا أو حربيًّا.
“كحَمْلٍ”، قال الموفق بن قدامة: “لا نعلم أيضًا خلافًا في صحة الوصية للحمل”، وحينئذٍ إذا خرج هذا الحمل حيًّا؛ فتكون الوصية له، وإذا خرج ميتًا؛ فتكون لورثته.
يعني: في مصلحة هذه البهيمة، فباب الوصية واسعٌ، كذلك أيضًا:
تصح لجهات البِرِّ من باب أولى، وكذلك أيضًا:
كالفيء، لو قال: هذه وصيتي: ربع مالي لله ورسوله، فتُصرف في مصالح المسلمين العامة؛ كالفيء.
إنسانٌ قال: أوصي بأن تحرقوا ثلث مالي، هل نصحح هذه الوصية؟ هل يمكن تصحيحها؟ الفقهاء يقولون: يمكن تصحيحها، فما هي الحيلة في ذلك؟ قال المؤلف:
يعني: حرقٌ بطريقٍ غير مباشرٍ، يعني: نجعلها في تجمير الكعبة، أو تجمير المسجد مثلًا، البخور، يُشترى به بخورٌ.
قال: “وتنوير المساجد”، في السابق كانوا يأتون بالدُّهن لتنوير وإضاءة المسجد، فهنا إذا وصَّى بإحراق ثلث ماله؛ يُصرف في مثل هذه الأمور.
مداخلة: …..
الشيخ: نعم، يُصرف في شراء جمرٍ مثلًا، وطِيب للمسجد، ونحو ذلك، يعني: في الشيء القريب مما وصَّى به، ولا نُبطل وصيته.
مداخلة: …..
الشيخ: نعم، ونصحح وصيته قدر الإمكان.
وإن قال: أوصي.
بدفن ثلث ماله في التراب، قال: إذا مِتُّ ادفنوا ثلث مالي في التراب، فهنا أيضًا الفقهاء يقولون: يمكن أن نصحح وصيته، كيف نصححها؟ قالوا:
“تكفين الموتى” يُدفن هذا في التراب، ونكون قد حقَّقنا ما أراد، هذه من الحيل الفقهية.
قال:
أوصَى برمي ثلث ماله في الماء أو في البحر، قالوا: هنا إذا أوصى برميه في الماء.
في سبيل الله، تصحيحًا لكلامه حسب الإمكان، فبدل أن نبطل هذه الوصية؛ نصححها بمثل هذه الحيل المشروعة.
طيب جهات المعصية؟ هي كالوقف كما ذكرنا، لا تصح الوصية لها؛ ولهذا قال المؤلف:
يعني: أو أي معبدٍ من معابد الكفار.
لأنها منسوخةٌ، وجميع الأديان منسوخةٌ بدين الإسلام، يجب اعتقاد ذلك، ومن اعتقد أنه يجوز التعبد لله بعد بعثة محمدٍ بدينٍ غير دين الإسلام فهو كافرٌ، بل من شك في ذلك، من شك في كفره فهو كافرٌ، هذه المسألة مقطوعٌ بها، ومعلومةٌ من الدين بالضرورة: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]، فكتب التوراة والإنجيل هي منسوخةٌ؛ ولذلك لا تصح الوصية لها.
وذلك لأنهم لا يملكون، ولا فائدة من الوصية لهم، فأشبه ما لو وصَّى لحَجَرٍ، فتُشبه أن تُقاس على الوصية لجهة معصيةٍ.
إذا لم يمكن تحديد هذا المبهم، وبعض أهل العلم يقول: يمكن تصحيح هذا إذا وصَّى لأحد هذين، بأن يُقرَع بينهما، وهذا قولٌ متجهٌ أن يُقرَع بين هذين، وتُصحَّح الوصية.
ثم ذكر المؤلف مسألةً ختم بها باب المُوصَى له.
قال:
الشُّرَّاح وضحوا المقصود بهذين السطرين؛ لأن فيهما إشكالًا، لكن أفصحوا عن مراد المؤلف، قالوا: المعنى: أنه إذا أوصَى بثلث ماله لمن تصح له الوصية، أي: وبثلث ماله الآخر لمن لا تصح، يعني: كأنه أوصى بثلثي ماله.
يعني: كان ثلث ماله لمن تصح له؛ لأن من أُشرِك معه لا تصح الوصية له؛ كمن مثلًا أوصَى بثلث ماله لزيدٍ من الناس، ثم الثلث الآخر لمَلَكٍ من الملائكة، لجبريل مثلًا، أو نحو ذلك، فهنا كان الكل لمن تصح له، لزيدٍ من الناس.
لو أوصَى لحيٍّ وميتٍ؛ كان للحي النصف فقط
المسألة الثانية:
يعني: بالثلث فقط.
الفرق بين المسألة الأولى والثانية:
- المسألة الأولى: أوصى بثلث ماله لمن تصح له الوصية، وبثلث ماله الآخر لمن لا تصح، فيكون الكل لمن تصح له.
- المسألة الثانية: أوصى بالثلث فقط، ليس بالثلثين، بالثلث فقط لحيٍّ وميتٍ، يعني: شرَّك بينهما، فيكون للحي النصف فقط، يعني: نصف الثلث، هكذا وضَّح ذلك الشُّرَّاح.
الوصية لأهل سِكَّته ولجيرانه
ثم قال المؤلف رحمه الله:
السِّكة والزقاق معانيها متقاربةٌ: وهي الطريق الضيق، نافذًا كان أو غير نافذٍ، فيكون إذنْ إذا أوصى لأهل الزقاق أو السكة؛ يكون لهم حال الوصية وتُصرَف لهم.
يعني: لو أوصى لجيرانه، قال:
إنسانٌ أوصى بمالٍ للجيران، المؤلف يقول: توزع بين أربعين دارًا من جميع الجهات، واستدلوا لذلك بحديث أبي هريرة أن النبي قال: الجار أربعون دارًا هكذا وهكذا وهكذا [11]، ولكن هذا الحديث أخرجه أبو يعلى، وإسناده ضعيفٌ، بل شديد الضعف، ولا يصح بحالٍ؛ ولهذا الصواب في تحديد الجِوَار: أن المرجع فيه إلى العرف، تحديده بأربعين دارًا لا يثبت فيه شيءٌ، والناس الآن يُفرِّقون بين من كان جارًا ومن لم يكن جارًا، يقول: فلانٌ من جيراننا، فلانٌ بعيدٌ، ليس من الجيران، فالناس يُفرِّقون بين هذا وهذا.
فالصواب: أن المرجع في تحديد الجوار إلى العرف.
التعريف ببعض المصطلحات
ثم انتقل بعد ذلك المؤلف للكلام عن التعريف ببعض المصطلحات، المؤلف بدأ في آخر كتاب المعاملات يتفَنَّن، فقام بتعريف بعض المصطلحات؛ من باب التيسير على طالب العلم، مع أن هذا ليس من منهج المؤلف أن يفعل ذلك، لكن ربما أنه في آخر كتاب المعاملات أراد أن يوضح هذه المصطلحات؛ لأجل أن يستفيد منها طالب العلم.
مصطلحاتٌ تطلق على من لم يبلغ
قال:
يعني: هذه المصطلحات كلها تطلق على من لم يبلغ، يعني: على الولد من ولادته إلى حين بلوغه يطلق عليه: الصغير، ويطلق عليه: الصبي، ويطلق عليه: الغلام، ويطلق عليه: يافعٌ، ويطلق عليه: يتيمٌ.
واليتيم هو شرعًا ولغة أيضًا: ما تعريف اليتيم؟ من لا أب له، وفي غير بني آدم: من لا أم له، يعني في الحيوان: من لا أم له، لكن في بني آدم: من لا أب له، من ماتت أمه هل يعتبر يتيمًا؟ ماتت أمه ولم يمت أبوه، هل يُعتبر يتيمًا؟ لا يعتبر، يسمونه “عَجِيًّا”، إن مات أبوه وأمه يسمونه “لَطِيمًا”.
إذنْ عندنا اليتيم: من لا أب له، والعَجِيُّ، بالعين والجيم والياء المشددة: من لا أم له، من لا أب له ولا أم له يسمى “لطيمًا” عند العرب، “لَطِيمٌ” باللام والطاء والياء والميم.
الصبي المميز
قال:
هذه مسألةٌ تكلمنا عنها عند قول النبي : مُرُوا أبناءكم بالصلاة لسبعٍ، متى يؤمر الصبي؟ قلنا: إن الفقهاء اختلفوا في حد سن التمييز؛ فمنهم من قال: إن المميِّز: هو من يفهم الخطاب ويرد الجواب. وقال آخرون: إن التمييز يُحد بسنٍّ: وهو سن السابعة.
والحقيقة: أن من الناحية النظرية التعريف الأول أجود، لكنه من الناحية العملية غير منضبطٍ، “من يفهم الخطاب ويرد الجواب”، ربما أحيانًا طفلٌ عمره ثلاث سنواتٍ يفهم الخطاب ويرد الجواب، يتحاور معك، يُكلمك ويُحاورك، وتسأله أسئلةً ويجيبك، أليس كذلك؟ عمره ثلاث سنواتٍ، أربع سنواتٍ، وهو ليس بمميزٍ بالإجماع، فما تنضبط هذه المسألة؛ لذلك الأقرب: هو أن يُحد بالسن التي ورد بها الشرع: وهي سبعٌ، لكن أيضًا نريد أن نفهم السَّبع، ما معنى السَّبع؟ إذا قيل: عمره سبعٌ، يعني: أتم سبع سنين ودخل في الثامنة، فكثيرٌ من الناس إذا أتم ستًّا ودخل في السابعة، قالوا: عمره سبعٌ، يقولون: هذا مميِّزٌ، وهذا غير صحيح،ٌ معنى سبعٍ: أتم سبع سنين ودخل الثامنة، وإذا قيل: عشرٌ، أتم عشرًا ودخل الحادية عشرة، وإذا قيل: خمس عشرة، أتم خمس عشرة سنةً ودخل السادسة عشرة، ولذلك إذا سُئلت: كم عمرك، فكثيرٌ من الناس يقول: عمري مثلًا ثلاثون، تجد عمره تسعًا وعشرين سنةً وأشهرًا، هذا ليس عمره ثلاثين، عمره تسعةٌ وعشرون حتى يُتم الثلاثين ويدخل الحادية والثلاثين فيكون عمره ثلاثين، هكذا تُفهم؛ ولذلك الناس في السنة الأولى يطبقونها تطبيقًا صحيحًا، في السنة الأولى إذا كان عمر الطفل مثلًا ستة أشهرٍ، عشرة أشهرٍ، ما يقولون: عمره سنةٌ، حتى يُتم السنة الأولى ويدخل الثانية، هكذا أيضًا بقية السنين تكون كالسنة الأولى تمامًا.
مداخلة: ……
الشيخ: حديث محمود بن الربيع في “صحيح البخاري”: عَقلتُ مَجَّةً مَجَّها النبي وأنا ابن خمس سنين [12]، هذا يدل على أنه قد يعقل من دون السَّبع، لكن الكلام في الأعم الأغلب، أن أغلب الناس يميِّزون في السن السابعة، إذا أتمُّوا سبعَ سنين، هذا هو الغالب.
مداخلة: ……
الشيخ: هذا يدل على التحمُّل، أنه يمكن أن الإنسان يفهم ويتحمَّل ويعقل في هذه السِّن، ربما بعض الحاضرين يعقل أشياء في هذه السِّن، وعمره خمس سنين، أو ست سنين، أو حتى ربما أقل، يتذكرون أشياء ويعقلونها في هذه السن، فهذا لا ينافي القول بأن التمييز عند سبع سنين.
مداخلة: ……
الشيخ: نعم، الطفل سيأتي الآن، الذي بعده مباشرةً.
الطفل مَن دون سبع سنين
قال:
“الطفل” إذا قيل: طفلٌ هو من دون سبع سنين، من كان عمره أقل من سبعٍ، هذا يُسمَّى طفلًا، فإذا بلغ سبع سنين؛ لا يقال: إنه طفلٌ، وإنما يقال له: صبيٌّ، أو صغيرٌ، أو غلامٌ، أو يافعٌ، أو..
المراهق مَن قارب البلوغ
قال:
“المراهق: مَن قارَب البلوغ”، وهذا خلافًا للمصطلح عند بعض التربويين، عندهم: أن المراهق، أو سن المراهقة من السنة الثانية عشرة إلى العشرين، أو اثنين وعشرين سنةً، هذا المصطلح الخاص بهم، لكن المصطلح المعروف عند الفقهاء: أن المراهق: هو مَن قارَب البلوغ.
الشاب والفتى مِن البلوغ إلى الثلاثين
“من البلوغ إلى الثلاثين” يقال له: شابٌّ، بعد الثلاثين لا يقال: شابٌّ، ليس شابًّا، وإنما له مصطلحٌ آخر.
كذلك يقال: فتًى، من البلوغ إلى الثلاثين.
الكَهْل مِن الثلاثين إلى الخمسين
ما بين الثلاثين إلى الخمسين لا يقال له: شابٌّ، وإنما كَهْلٌ، ويقال: إن الكهل: من جاوز الثلاثين إلى إحدى وخمسين، يعني: مِن واحدٍ وثلاثين إلى واحدٍ وخمسين يقال له: كَهْلٌ.
وبعض الفقهاء يذكر ضابطًا آخر، فالكَهْل: مَن وَخَطَه الشيب، لكن هذا يختلف باختلاف الناس، يعني الشيب يختلف باختلاف الناس اختلافًا كبيرًا وله عدة أسبابٍ.
الشيخ من الخمسين إلى السبعين
قال:
يعني: من بعد الخمسين إلى السبعين يقال له: شيخٌ.
يعني: من بعد السبعين يقال له: هَرِمٌ، بعد السبعين إلى آخر عمره يقال له: هَرِمٌ.
هذه المصطلحات أفادنا المؤلف رحمه الله بها.
الأيِّم والعازب
ثم قال:
ولذلك يقول الله : وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ [النور:32]، يعني: الأيامي: مَن لا زوج له، فأمر الله تعالى بإنكاحهم، وكذلك العازب، وهذا مصطلحٌ معروفٌ ومشهورٌ، العازب، والعُزَّاب يعني: مَن لا زوج له، ويطلق على الرجل والمرأة.
البكر والثيب
من رجلٍ أو امرأةٍ، البكر لا يختص بالأنثى، يشمل حتى الذكر؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في حديث عبادة : البكر بالبكر، جَلْد مئةٍ وتغريب عامٍ [13]، ومعلومٌ أن أحدهما ذكرٌ والآخر أنثى، فإذنْ البكر يطلق على من لم يتزوج من رجلٍ أو امرأةٍ.
مداخلة: ……
الشيخ: لا، يُرجم، تأتينا -إن شاء الله- في كتاب الحدود، المحصن: مَن وطِئ في نكاحٍ صحيحٍ ولو طلَّق.
أيضًا مَن لم يتزوج وامتد به العمر يقال له: العانس، العانس: هو من لم يتزوج، أو تأخَّر في التزويج، العنوسة تطلق على الذكور وعلى الإناث أيضًا، يعني: كما أنها مشهورةٌ على الإناث؛ تطلق كذلك على الذكور.
فالمتزوج، يعني من تزوج يقال له: ثيِّبٌ، لكن المُحْصَن: من وَطِئ في نكاحٍ صحيحٍ.
ولهذا قال المؤلف:
إذا زالت البكارة؛ أصبحت المرأة ثيِّبًا، البكارة تزول بالنكاح، تزول كذلك بأسبابٍ أخرى؛ ومن ذلك: أن تزول مثلًا بوطءِ شبهةٍ، أو بالزنا، أو تزول حتى باليد، أو تزول بأسبابٍ أخرى؛ ولذلك قالوا: حتى (الطمرة) أحيانًا من الفتاة قد تزول بها البكارة، وأحيانًا الضربة الشديدة على الفتاة قد تزول بها البكارة؛ لذلك زوال البكارة ليس بدليلٍ على زناها، فلو أن رجلًا وجد مثلًا امرأةً زالت بكارتها؛ ليس بدليلٍ قاطعٍ على زناها، قد تكون زالت بسببٍ آخر.
الأرامل
قال:
فالنساء التي فارقهن أزواجهن بموتٍ هذا واضحٌ، يقال لها: أرملة فلانٍ، وكذلك المطلقات عند بعض أهل العلم أيضًا يطلق عليهن: أرامل.
الرَّهط
يعني: ما بين الثلاثة إلى العشرة.
باب المُوصَى به
ثم قال المؤلف رحمه الله:
وهو أحد أركان الوصية، والمُوصَى به: هو الشيء المُوصَى به من مالٍ أو منفعةٍ، يعني: المتبرَّع به من مالٍ أو منفعةٍ يقال له: مُوصَى به.
الوصية بما يصح بيعه وبما لا يصح بيعه
والمُوصَى به بابه واسعٌ، ليس مثل المبيع في المعاوضات مثلًا، أو المستأجَر في الإجارة يُشتَرط له شروطٌ، بابه واسعٌ؛ ولذلك قال المؤلف:
تصح الوصية بما يصح بيعه وبما لا يصح بيعه.
يعني: كل هذه تصح الوصية بها.
الوصية بالمعدوم
قالوا: لأن الوصية تجري مجرى الميراث، وهذه تُورَث عنه، وبذلك يتبيَّن ضعف قول الحنابلة في عدم جواز هِبَة هذه الأمور، ورجحنا في الدرس الماضي أن هذه تجوز هبتها؛ وذلك لأن الموهوب له: إما غانمٌ وإما سالمٌ، فنقول: لماذا تجيزون الوصية بها وتمنعون الهبة بها مع أن بابهما واحدٌ؟! ولذلك الصواب: أن عقود التبرعات يُغتفر فيها الجهالة والغرر، إنما اشتراط انتفاء الجهالة والغرر في المعاوضات خاصةً، أما التبرعات؛ من الهبة والعطية والوصية، هذه يُغتفر فيها، يصح أن يَهَب الجمل الشارد، يصح أن يهب أو يوصي بالطير في الهواء والسمك في الماء؛ لأن الموهوب له أو الموصى له إما غانمٌ وإما سالمٌ؛ ولأن منع الشارع من الغرر لماذا؟ لما يفضي له من المنازعة والخصومة، وفي باب الهبة، في أبواب التبرعات عمومًا؛ كالهبة والوصية لا يفضي إلى المنازعة، هل مثلًا من وَهب لآخر جملًا شاردًا يأتي ويخاصم؟ يقول: أنت وهبت لي الجمل، والجمل شاردٌ وهذا فيه غررٌ؟ لا يمكن، هذا يقول: كثر خيرك، أنت وهبت لي هذه، أو أوصيت لي هذه الوصية؛ فلذلك تفريق الحنابلة بين الوصية والهبة، هذا مما يُضعف قولهم في الهبة، والصواب: أن بابهما واحدٌ، كما رجح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
فإذنْ تصح الوصية بالمجهول، وتصح الوصية بالمعدوم؛ وذلك لأن الموصَى له إما غانمٌ وإما سالمٌ، فهو كالموهوب له على القول الراجح؛ ولهذا قال:
يعني: استثنى مسألة:
لماذا استثنى الفقهاء هذه المسألة؟
استثنوا هذه المسألة؛ قالوا: لحرمة التفريق بين الأم وولدها، وقد ورد النهي عن التفريق بين الأم وولدها [14]، فلو كان المُوصَى به حمل أَمَةٍ؛ فلا يجوز أن يُفرَّق بين الأم الأمة وولدها لأجل هذه الوصية، طيب ماذا نفعل للمُوصَى له؟ نعطيه قيمة هذا الحمل، نُعطيه قيمته متى؟ يوم وَضْعِه، فنقول: نُقدِّر قيمة هذا الرقيق يوم وضعه، فنعطيك قيمته، أما أن نُفرِّق بين هذه الأمة وولدها؛ فهذا قد ورد النهي عنه، وهذا السبب الذي لأجله استثنى الفقهاء هذه المسألة: “فإن حصل شيءٌ؛ فللموصَى له، إلا حملَ الأَمَة، فقيمته يوم وَضْعِه”.
الوصية بغير المال
قال:
باب الوصية كما ذكرنا واسعٌ، تصح حتى بغير المال.
ما هو الكلب المباح النفع؟
هو كلب الصيد والحرث والماشية، تصح الوصية به، ورجحنا أيضًا في الدرس السابق: أنه تصح هبته.
“وزيتٍ متنجسٍ”، لكن قيَّد ذلك كثيرٌ من الفقهاء، قالوا: لغير مسجدٍ، يعني: كانوا في السابق يُوقِدون على الزيت، ما كان عندهم كهرباء، ما كان عندهم أيضًا نفطٌ -الذي هو البترول- فكانوا ماذا يفعلون؟ يوقدون على الزيت، يأخذون الودك ويوقدون عليه، الدُّهن الآن لو أذبته وأشعلت فيه نارًا؛ يضيء، فكانوا في السابق يضيئون بيوتهم، ويضيئون المساجد، يضيئون بهذا الزيت.
الوصية بالمنفعة
قال:
يعني: عن الرقبة، مجرد منفعةٍ؛ لصحة المعاوضة عليها، ذكر المؤلف لها أمثلةً:
أُوصِي بأن عبدي فلانًا يخدم فلانًا طيلة حياته مثلًا، أو مدةً معينةً.
أُوصِي بدفع مثلًا الإيجار لفلانٍ لمدة عشر سنواتٍ.
الوصية بالمبهم
يعني: أقل ما يسمى ثوبًا؛ وذلك لأنها صحت بالمعدوم؛ فالمجهول أولى.
لاحظ هنا: أن الفقهاء وسعوا باب الوصية والموصى به، قالوا: يجوز بالمجهول وبالمعدوم وبالمبهم؛ وذلك لأنه -كما ذكرنا- المُوصَى له إما غانمٌ وإما سالمٌ؛ لذلك لا نشترط العلم، وانتفاء الجهالة والغرر كما نشترط في المعاوضات.
إن اختلف الاسم بالعُرف والحقيقة؛ غُلِّبت الحقيقة
قال:
“إن اختلف الاسم”، يعني: اسم المُوصَى به، اختلف العُرف مع الحقيقة اللغوية فأيهما يُقدَّم؟ المؤلف يقول: تُقدَّم الحقيقة اللغوية على العُرف، وعللوا لذلك؛ قالوا: لأنها الأصل، ويُحمَل عليها كلام الشارع.
والقول الثاني في المسألة: أنه إذا تعارضت الحقيقة اللغوية والعُرف؛ يقدم العرف على الحقيقة اللغوية؛ وذلك لأنه هو المتبادر إلى ذهن الموصي، فهو الأقرب إلى مقصود الموصي، واختار هذا القول الموفق بن قدامة رحمه الله، وهو الراجح.
إذنْ الراجح: أن العُرف مقدمٌ؛ لأننا الآن نبحث عن أقرب ما يمكن لقصد الموصي، أيهما أقرب لقصده: الحقيقة اللغوية أو العرف؟ لا شك أن العرف أقرب.
والمؤلف ذكر أمثلةً لهذا، قال:
يعني: في الحقيقة اللغوية، لكن لو كان هناك عُرفٌ؛ فعلى القول الراجح يُعمل بالعرف، ويشمل الضأن والمعز، لكن هنا قلنا: العُرف مقدَّمٌ.
في الحقيقة اللغوية، لكن لو كان هناك عُرفٌ، فيقدم العرف على القول الراجح.
والعبد يطلق على الذكر؛ لقول الله : وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32]، جعلهم الله تعالى قسمين: عبادًا، جمع عبدٍ، وإماءً، جمع أَمَةٍ، وهذا يدل على أن العبد يطلق على الذكر، والأمة تطلق على الأنثى.
قال:
الحِجْر: هو الأنثى من الخيل.
الأَتَان: الأنثى من الحمار، والناقة والبقرة معروفةٌ، اسم للأنثى، هذا في الحقيقة اللغوية.
أي: للذكر والأنثى في الحقيقة اللغوية.
في الحقيقة اللغوية.
يعني: من الضأن.
هذه كلها في الحقيقة اللغوية، وعلى رأي المؤلف: الحقيقة اللغوية مقدمةٌ على العرف، ورجحنا: أن العرف مقدمٌ.
لكن هنا المؤلف في المسألة الأخيرة قدم العرف، لاحِظ آخر مسألةٍ قال:
لأن الاسم في العرف لا يقع إلا على ذلك، وهنا على رأي المؤلف: أنها لا تُقدَّم الحقيقة اللغوية على العرف، بل يقدَّم العرف؛ وعللوا لذلك بأن الحقيقة اللغوية قد أصبحت مهجورةً فيما عدا هذه الثلاثة؛ لأن الدابة هي كل ما دب على الأرض، لكنها عرفًا تطلق على هذه الثلاثة، وهذا مما يُضعف رأي المؤلف، وكما ذكرنا من علامة القول المرجوح: كثرة الاستثناءات، عدم اطِّراده، لاحِظ أن المؤلف قال: تُقدم الحقيقة اللغوية، ثم استثنى هذه المسألة، لكن الصواب: أن العرف مقدَّمٌ على الحقيقة اللغوية إذا كان هذا العرف منضبطًا.
ثم الركن الأخير معنا من أركان الوصية: المُوصَى إليه.
باب الموصى إليه
قال:
الجزء الأخير معنا، وليس ركنًا كما نبَّهنا على هذا في أول الدرس: المُوصَى إليه ليس ركنًا.
الأركان: المُوصِي، والمُوصَى له، والمُوصَى به، والصيغة، هذه الأركان الأربعة، فالمُوصَى إليه ليس من أركان الوصية، لكنه هو الجزء الأخير معنا في كتاب الوصية.
المُوصَى إليه: هو المأمور بتنفيذ الوصية، يعني: المأمور بالتصرف بعد الموت في المال وغيره، فهو الذي عُهد إليه بتنفيذ الوصية، ذكر المؤلف له شروطًا.
شروط الموصى إليه
قال:
الشرط الأول: أن يكون مسلمًا
هذا الشرط الأول في المُوصَى إليه: أن يكون مسلمًا، فلا يصح أن يكون المُوصَى إليه كافرًا، لا تصح وصية المسلم ويجعل المُوصَى إليه كافرًا، لكن أن تكون الوصية من كافرٍ إلى كافرٍ؛ تصح، كما سيأتي، لكن تكون من مسلمٍ ويجعل الموصى إليه كافرًا، هذه لا تصح؛ ولذلك قالوا: لأن الكافر ليس من أهل الولاية على المسلم، قال الوزير بن هُبَيرة: “اتفقوا على أن الوصية إلى الكافر لا تصح”. ليس الوصية لكافرٍ، إلى الكافر يعني: أن يكون هو الذي يُنفِّذ الوصية.
الشرط الثاني: التكليف
قال:
فلا تصح إلى غير مكلفٍ؛ كالمجنون والصبي؛ لأنهما ليسا بأهلٍ للتصرف في أموالهما؛ فلا يَلِيَان أموال غيرهما من باب أولى.
الشرط الثالث: الرشد
قال:
لا بد أن يكون رشيدًا، لا تصح الوصية للسفيه، يعني: لا يكون المُوصَى إليه سفيهًا.
الشرط الرابع: العدالة
العدالة؛ فلا تصح لفاسقٍ، ومن الفقهاء من لا يشترط هذا الشرط، ويرون أنه يصح أن يكون المُوصَى إليه فاسقًا، لكن يضم الحاكم إليه أمينًا، وهذا القول روايةٌ عن الإمام أحمد، وهو الأقرب، وعليه عمل الناس، فإذا كان المُوصَى إليه غير موثوقٍ أو فاسقًا؛ فلا نسحب الوصية من عنده، وإنما نضم إليه أمينًا يكون معه، ويُراقب معه مثلًا.
مثلًا: إذا كان مالًا ويحتاج الصرف إلى الشيكات، نطلب أن يكون التوقيع من توقعين، يكون الشيك عليه توقيعان: توقيع هذا الإنسان الفاسق، وتوقيع الأمين الذي ضممناه إليه، هذا قولٌ متجهٌ، وهنا قال:
يعني: تكفي العدالة الظاهرة.
الوصية للأعمى
يعني: يصح أيضًا أن يكون المُوصَى إليه أعمى، فالعمى لا يمنع من أن يكون مُوصًى إليه.
الوصية للمرأة
وهذا يدلُّ على أنه لا تُشترط الذكورية في المُوصَى إليه، يصح أن يكون المُوصَى إليه امرأة، وعلى هذا لو أن رجلًا أوصى بأن تكون زوجته هي الوصي على أولاده يصح أو لا؟
يصح، يصح فيجعلها هي المُوصَى إليه أو الوصي على أولاده، ويدل لذلك أن عمر أوصى أن تتولَّى أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها نَظَارة وقفه بخيبر.
ويُعلِّلون لذلك يقولون: لأن المرأة أيضًا من أهل الشهادة، وما دام أنها من أهل الشهادة تصح الوصية إليها كالرجل، فإذًا المرأة يصح أن تكون مُوصَى إليه، يصح أن تكون الوصي.
إنسان مثلًا حضرته الوفاة وعنده أطفال، فرأى أن أفضل من يُوصي على هؤلاء الأطفال أمهم، فلا بأس، يجعلها هي الوصي عليهم، وهذا الذي عليه العمل أيضًا في المحاكم، وربما تكون المرأة -خاصة إذا كانت هذه المرأة عاقلة ورشيدة- أولى من البعيد، يعني: أولى من أن يجعل الوصي عليهم عمهم مثلًا، أو أحد الأقارب، ربما تكون الأم أكثر شفقة، بشرط أن تكون هذه الأم عاقلة رشيدة.
الوصية للرقيق
كذلك يصح أن يكون المُوصَى إليه رقيقًا.
لأن منافع هذا الرقيق للسيد، فلا تفوت على السيد بغير إذنه.
يعني: تصح من كافرٍ إلى كافرٍ عدْل في دينه، فمن كافرٍ إلى كافرٍ تصح، لكن سبق أن قلنا: الوصية من المسلم إلى الكافر لا تصح.
قال:
يعني: لا بد في الأمرين جميعًا، عند الوصية لا بد من هذه الشروط، وعند الموت كذلك.
يعني: أن يقبل الإيصاء في حياة المُوصِي، وأن يعزل نفسه متى شاء؛ لأنه متصرفٌ بالإذن فهو كالوكيل، فلو أن رجلًا جعل المُوصَى إليه فلانًا، وفلانٌ ما رغب؛ فله أن يعزل نفسه، لكن تنقل الوصية إلى شخصٍ آخر.
حكم الوصية المعلقة
قال:
يعني: الفقهاء يوسِّعون في باب الوصية من جهة الجهالة والغرر، هذه لا تأثير لها، كذلك أيضًا في من جهة التعليق والتأقيت لا تأثير لها؛ ولذلك قالوا: “تصح الوصية معلَّقةً”.
كل هذا يصح، حتى مع التعليق، مع أن الجمهور في المعاوضات يمنعون التعليق.
كذلك تصح، ومن ذلك قول النبي : أميركم زيدٌ، فإن قُتل فجعفرٌ، فإن قتل فعبدالله بن رواحة [15]، هذه فيها تعليقٌ.
وتصح مؤقَّتةً؛ كـ: زيدٍ وصِيٌّ سنةً ثم عمر، فالوصية بابها واسعٌ، ولا مانع يمنع من ذلك.
قال:
الوصي كالوكيل، والوكيل ليس له أن يوكِّل إلا بإذن الموكِّل، الوكيل ليس له التوكيل إلا بإذن موكِّله، فيقولون: الوصي كالوكيل.
والقول الثاني في المسألة: أن الوصي له أن يوصي؛ لأنه قائمٌ مقام الأب، فمَلَك ذلك كالأب، وهذا هو القول الراجح، فلو جعل إنسان مثلًا وصيًّا على أمواله، ثم حضرته الوفاة، أو قبل أن تحضره الوفاة كتب بأن الوصي على هذه الأموال من بعدي فلانٌ، فعلى القول الراجح أن له ذلك.
وإنما له -يعني الحاكم- الاعتراض عليه لعدم أهليته، أو لبعض تصرفاته، لكن لا نظر له مع الوصي الخاص كما ذكرنا ذلك في باب الوقف، وذكرنا أن الناظر الخاص أولى من نظارة الحاكم، الحاكم له الولاية العامة على الأوقاف وعلى الوصايا، لكن الولاية الخاصة تكون للوصي أو لناظر الوقف.
لا تصح الوصية إلا في شيءٍ معلومٍ
آخر فصلٍ معنا في كتاب الوصية.
قال:
“لا تصح الوصية إلا في شيءٍ معلومٍ يَملك الموصي فعله”؛ لأن الوصية إذا كانت بشيءٍ مجهولٍ؛ فلن يستطيع الموصَى إليه تنفيذها؛ فلا بد أن تكون بشيءٍ معلومٍ يستطيع الموصَى إليه أن يُنفِّذه، فإذا كان يملك الموصي فعل ذلك الشيء؛ تصح الوصية به؛ لأن الموصي أصيلٌ، والوصي فرعه، ولا يملك الفرع ما لا يملكه الأصل.
مثَّل المؤلف لهذا بأمثلةٍ:
قال:
هذه أمثلةٌ لما تصح فيه الوصية.
حكم النظر في أمرِ غيرِ مكلَّفٍ
طيب، هنا قال: “والنظر في أمرِ غيرِ مُكلَّفٍ”، أما المكلف فلا تصح الوصية عليه؛ وذلك لعدم ولاية الموصي في حال الحياة، يعني: رجلٌ له ابنٌ عمره عشرون سنةً، وقال: الوصي على ابني: فلانٌ من الناس، هل تصح هذه الوصية؟ لا تصح؛ لأنه إنسانٌ مكلَّفٌ رشيدٌ، الوصية تكون على القاصر، أما المكلف لا تصح الوصية عليه، تكون هذه الوصية غير صحيحةٍ.
قال:
لانتقال الدَّين إلى مَن لا ولاية عليه، يعني: لو أوصى باستيفاء الدين، بأن ديوني يستوفيها فلانٌ من الناس، وله ورثةٌ، وهؤلاء الورثة راشدون، كذلك أيضًا لا تصح هذه الوصية.
قال:
يعني: هو إذا وُصِّي بشيءٍ معينٍ، وحُدِّد ذلك الشيء؛ فإنه يتحَدَّد بما حُدِّد، ولا يكون وصيًّا في غيره.
الأجنبي مقصودٌ به هنا: من ليس بوارثٍ ولا وصيٍّ، يعني إنسانٌ ما له علاقةٌ أصلًا بالوصية، لكن تدخَّل وصَرَف الموصَى به.
يعني: إنسانٌ يَعرف أن هناك وصيةً لفلانٍ من الناس، وليس وارثًا ولا وصيًّا، أخذ هذا المال، ويعرف أن فلانًا أوصى به للمسجد، وَجَدَه عند بيت فلانٍ، أخذه ووضعه في المسجد، فيقولون: إنه لا يضمن لو تلف أو سُرق، لا يضمن؛ وذلك لمصادفته لصرف مستحقه.
يعني: لم يجز للوصي أخذه؛ وذلك لأنه مُنفِّذٌ كالوكيل في تفرقة المال، يعني: هذا الوصي نفترض مثلًا قال: أوصِي بتفريق ثلث مالي على الفقراء والمساكين، هذا الوصي -الذي يُعبِّر عنه الفقهاء بـ”المُوصَى إليه”- فقيرٌ، هل له أن يأخذ منه؟ ليس له ذلك؛ كالوكيل، لو وُكِّلت في توزيع زكاةٍ أو صدقةٍ؛ ليس لك أن تأخذ منها إلا بإذن المُوكِّل.
قال:
يعني: حتى الفقهاء يُشدِّدون في هذا، يقولون حتى: لا يجوز له أن يدفعها إلى أقاربه الوارثين؛ لأنه متهمٌ في ذلك، قد يحابيهم.
ولو كانوا فقراء؛ لأنه قد وصَّى بإخراجه عنهم، فلا يرجع إليهم.
لكن في قول المؤلف: “ولا دفعه إلى أقاربه الوارثين”، لو كان أقاربه الوارثون ينطبق عليهم الوصف، ولم يكن في ذلك محاباةٌ لهم، الصحيح: أنه يصح، لماذا يُحرَم هؤلاء الفقراء؛ لكونهم أقارب للمُوصَى إليه؟ ما الدليل لذلك؟
الصحيح: أنه إذا انطبق الوصف من فقرٍ أو غيره على أقارب الوصي الوارثين، ولم يكن هناك محاباةٌ ثَمَّ؛ فيصح أن تكون فيهم الوصية، وتُنَفَّذ فيهم الوصية.
قال:
أي: موجودةً، هذا إنسانٌ مات بمكانٍ ولا حاكم فيه، يعني: ما يوجد قاضٍ ولا وصيٌّ، وله تَرِكةٌ، وُجِد معه مالٌ مثلًا، أو سيارةٌ، أو مثلًا هاتفٌ جوالٌ، أو نحو ذلك، واحتاجوا إلى تجهيزه -لا تقيسوه على حالنا، حال الناس الآن ميسورةٌ، لكن تمرُّ بالمسلمين أوقاتٌ يكون فيها فقرٌ، ما يجدون ما يجهزون به هذا الميت- فهنا يُباع بعض تركته، تُباع ويُجهَّز منها.
طيب، إن كان ليس معه شيءٌ، مات بمكانٍ، ولا يُترك، تجهيز الميت فرض كفايةٍ، هنا قال:
“له الرجوع على تركته بما غرمه إن نوى الرجوع”؛ لأنه قام عنه بواجبٍ، ولئلا يمتنع الناس من فعله مع الحاجة إليه، لكن هنا بهذا الشرط: “إن نوى الرجوع”، أما إذا لم ينوِ الرجوع، نوى التبرع؛ ليس له الرجوع، هذا في مسائل كثيرةٍ: في مسألة الضمان، في المسألة هنا، في مسائل كثيرةٍ يُفرَّق بين مَن نوى الرجوع ومَن تبرَّع، مَن كان متبرعًا؛ ليس له الرجوع.
من قضى دينًا عن غيره متبرعًا، إنسانٌ مثلًا طلب منه الدائن عشرة آلاف ريالٍ، وأجبره الدائن عن طريق الشرطة بسداد الدين، أتى إنسانٌ ودفع العشرة الآلاف ريالٍ للدائن، فهل لهذا الذي دفع العشرة الآلاف ريالٍ الرجوع على المدين؟
فيه تفصيلٌ؛ إن كان نوى الرجوع؛ له الرجوع، إن كان ما نوى الرجوع؛ ليس له الرجوع.
طيب لو وصلت المسألة للقضاء؛ فالقاضي يُحلِّف هذا الشخص: هل نويت الرجوع أم لا؟ وهذا هو الذي عليه العمل في المحاكم: يُحلِّفونه، فإن حلف أنه نوى الرجوع؛ فيملك الرجوع، وإن كان قد تبرع؛ فليس له أن يرجع عليه.
هذه أبرز الأحكام المتعلقة بالوصية.
الوصية الواجبة
بقي مسألةٌ أخيرةٌ فقط نختم بها:
هناك شيءٌ اسمه “الوصية الواجبة” عند أهل القانون، ومعناها: أن يموت ولدٌ في حياة والده وله إخوةٌ، ولهذا الوالد أولادٌ، يعني: هذا الرجل له مجموعة أبناءٍ، مات أحد أبنائه في حياته، وهذا الابن الميت له أولادٌ، يعني: أحفاد هذا الجد، فعند القانونيين يقولون: يجب على الجد أن يُوصي لأحفاده بنصيب والدهم، فإذا كان له ثلاثة أبناءٍ؛ يجب عليه أن يُوصِي بثلث التركة لأحفاده، فإن لم يُوصِ؛ فإنها تكون لهم، يعني: شاء أم أبى، وهذه الوصية عند القانونيين -وهي باطلة في الفقه الإسلامي؛ لأن أولاد المتوفَّى محجوبون بأي شيءٍ؟ بأعمامهم، المسألة فيها: هالكٌ عن ثلاثة أبناءٍ، وأبناء ابنٍ، فأبناء الابن محجوبون بأعمامهم، وحينئذٍ لا يرثون شيئًا، القول بوجوب الوصية هذا باطلٌ، لكن إذا قيل باستحباب الوصية؛ باعتبارهم أقارب غير وارثين؛ لا بأس، فيُستحب للجد أن يُوصِي لهم، أما أن نوجب عليه ذلك؛ فهذا باطلٌ في الفقه الإسلامي، وهذه تسمى “الوصية الواجبة” عند القانونيين، وهي معمولٌ بها: في مصر وفي دول الخليج وفي الشام، وهي باطلةٌ في الفقه الإسلامي، لا نوجب على الجد أن يوصي لأحفاده، إنما يستحب له ذلك.
هذه أبرز الأحكام المتعلقة بالوصية.
وبهذا نكون قد انتهينا من أبواب المعاملات، وإن شاء الله تعالى نحاول إذا أمكن أن ننتهي من متن “دليل الطالب” في هذا الفصل، أو بالكثير في الفصل القادم إن شاء الله تعالى، نحن مددنا الخطة، فنضع حدًّا أقصى، وهو الفصل القادم -على أكثر تقديرٍ- إن شاء الله تعالى.
نحن طلبنا: مَن كان يكتب ملخَّصًا؛ يقدمه، ووضعنا لذلك بعض الحوافز، لكن نريد أن نسمي من يستلم كتاباتٍ أو ملخَّصاتٍ: الأخ فهد، مَن كان عنده ملخصٌ أو كتابةٌ؛ يسلمها للأخ فهد، وننظر لأفضل الملخصات، ونعلن عنها إن شاء الله تعالى في درسٍ قادمٍ.
طيب، نجيب عما تيسر من الأسئلة:
الأسئلة
السؤال: أحسن الله إليكم وبارك فيكم، هذا السائل يقول: هل يكفي في إثبات الوصية كتابتها مع الختم عليها بخاتم المُوصِي ثم وضعها في ظرفٍ، فيقوم المُوصِي بالإشهاد على ما في هذا الظرف من وصيةٍ، دون إطلاع الشهود على تفاصيل الوصية؟
الجواب: لا بد من إطلاع الشهود على ذلك؛ إذ إن الشهود كيف يشهدون على شيءٍ لا يعرفونه؟! لا قيمة لشهادتهم حينئذٍ؛ ولذلك مِثل هذا عند المنازعة قد لا تثبت به الوصية؛ فلا بد إذنْ أن يطلع الشهود على الوصية، وأن يكتبوا أسماءهم ويوقِّعوا عليها، حتى إذا احتِيجَ إليها؛ يُرجع لهم.
السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: هل هناك تفريقٌ بين القتل العمد وشبه العمد والخطأ في باب الوصية؟
الجواب: هو لعله يقصد إذا قتَل المُوصَى له المُوصِيَ:
- إذا قتله عمدًا؛ الحكم واضحٌ: أنه يُحرَم من الميراث.
- إذا قتله شبه عمدٍ: يُحرَم من الوصية.
- إذا قتله شبه عمدٍ أو خطأً: فجمهور الفقهاء كذلك على أنه يُحرَم من الوصية؛ كالميراث.
ولكن حوادث السيارات على وجه الخصوص دَرَسَها مجلس “هيئة كبار العلماء” قبل سنواتٍ، وأصدر قرارًا بأن القتل خطأً عن طريق حوادث السيارات، وأيضًا يدخل في ذلك الوصية، أيضًا المُوصَى له بالنسبة للمُوصِي: أنه لا يُحرَم القاتل من الميراث إلا إذا كان هناك شُبهةٌ، أو قامت القرينة على أنه قصد ذلك، وكان هناك ملابساتٌ.
أما إذا لم يكن هناك شُبهةٌ؛ فلا يُحرَم من الميراث؛ لأن المتسبِّب في الحادث أيضًا هو متسبِّبٌ على نفسه، يعني: إذا كان مثلًا هو الذي يقود السيارة، فتسبَّب مثلًا في وفاة والده، أيضًا يحتمل أن يموت هو، فالتهمة بعيدةٌ عنه حينئذٍ، وربما يكون هذا من أبَرِّ أولاده، فكيف نحرم هذا الولد البار بأبيه من الميراث، وغير البار هو الذي يأخذ الميراث؟! هذا لا يتفق مع قواعد الشريعة؛ ولذلك مجلس هيئة كبار العلماء هنا في المملكة قرَّر أنه في حوادث السيارات يُورَّث القاتل من المقتول، إلا إذا كان هناك شُبهةٌ.
كذلك أيضًا نقول بالنسبة للوصِي، المُوصَى له يستحق الوصية إذا كان القتل بالنسبة لحوادث السيارات.
السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: ما درجة حديث: ثلاثٌ جِدهن جدٌّ، وهزلهن جِدٌّ..، وما معنى هذا الحديث؟
الجواب: الحديث ثابتٌ، ثلاثٌ جِدُّهن جِدٌّ، وهزلهن جدٌّ: النكاح والطلاق والرَّجعة [16]، ومعناها: أنه يستوي فيها -من حيث الحكم- الجد والهزل، فلو قال: زوَّجتك ابنتي، قال: قبلت، حتى لو كان هازلًا؛ ينعقد النكاح، كذلك الطلاق، لو قال لزوجته: أنت طالقٌ، ثم قال: أنا أمزح؛ فيقع الطلاق، كذلك أيضًا في الرَّجعة، هذه أمورٌ لا يدخلها الهزل ولا..، أمورٌ عظيمةٌ ليست محلًّا للهزل والمزاح ونحو ذلك.
السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: لعن الله الواشمة والمستوشمة [17]، ما الدليل على أن الرجال يدخلون في هذا اللعن؟
الجواب: الشريعة إذا حرَّمت شيئًا؛ فإنها تُحرِّم ما كان في معناه؛ لأن الشريعة لا تُفرِّق بين المتماثلين؛ ولذلك مثلًا في العِلَّة الربوية، الذي ذُكِرَ ستة أصنافٍ: الذهب بالذهب، والفضة الفضة، والبُرُّ بالبُرِّ، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح [18]، لكن جمهور الفقهاء قاسوا عليها ما اتفق معها في العلة، لا نقصُر الربا على هذه الأمور الستة، كذلك أيضًا بالنسبة للوشم، لا يختلف بين كونه في رجلٍ أو امرأةٍ؛ لأنه عُلِّل ذلك بكونه تغييرًا لخلق الله، وهذا لا يختلف من كونه في رجلٍ أو كونه في امرأةٍ.
السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: هل يبدأ طالب العلم في الفقه بآيات الأحكام، ثم أحاديث الأحكام، أم بالمتون؟
الجواب: المهم لطالب العلم أن يُنظِّم وقته، وأن يستثمر وقته، وأن يسعى لتحصيل المَلَكة، تحصيل الملكة هو الأهم، وضربت مثالًا، دائمًا أُكرِّر هذا المثال: لو قيل: إن فلانًا يحفظ ألف كتابٍ في الطب وليس بطبيبٍ، وفلانٌ من الناس ما يحفظ أي كتابٍ في الطب، لكنه طبيبٌ، واحتجت للعلاج، فإلى أيهما تذهب؟ الأول أو الثاني؟ الثاني ما يحفظ أي كتابٍ، الأول يحفظ ألف كتابٍ، فلماذا لا تذهب إليه؟ الأول وإن كان يحفظ؛ إلا أنه ليس عنده مَلَكةٌ في الطب، الثاني ما يحفظ أي كتابٍ، لكن عنده مَلَكةٌ في الطب؛ هكذا أيضًا نقول: بالنسبة للعلوم الشرعية، يعني: المهم هو تحصيل المَلَكة، المَلَكة يعني: يكون الإنسان عنده قدرةٌ على تحرير المسائل، والبحث والمناقشة والترجيح، والاستيعاب لكلام أهل العلم، هذا هو المقصود، أن يكون مثلًا يستطيع وحده أن يُصوِّر المسائل ويناقشها ويحررها، وليس هذا فيه تقليلٌ من الحفظ، الحفظ مهم جدًّا، لكن ليس هو كل شيءٍ بل إن من أعظم أسباب تحصيل المَلَكة هو الحفظ، فعندما مثلًا يُحرِّر المسألة إذا كان مستحضرًا للأدلة والنصوص؛ هذا مما يُساعده على تحرير المسألة، فإذنْ يجمع طالب العلم بين الحفظ وبين السعي لتحصيل الملكة العلمية.
وأعظم ما يُحصِّل المَلَكة العلمية: تحرير المسائل الخلافية، الفقه هو مسائل خلافٍ، يا إخوان، المسائل المجمع عليها هذه أمرها واضحٌ، تحفظها وتُحصِيها، لكن المسائل الخلافية كيف تتعامل معها، هذا هو الذي يُحصِّل الملكة لدى طالب العلم.
السؤال: أحسن الله إليكم يقول: شخصٌ أنجزتُ له معاملةً بقيمةٍ ماليةٍ معينةٍ، ولم يعطني الثمن، ثم أتاني لأُنجِزَ له معاملةً أخرى؛ فاشترطت عليه مبلغًا، فإذا أعطاني إياه؛ لن أُنجز له معاملته إلا بمبلغٍ آخر، فما حكم ذلك؟
الجواب: هذا السؤال مجملٌ، لا ندري هل الأخ مثلًا موظفٌ في دائرةٍ حكوميةٍ؟ إذا كان موظفًا؛ لا يجوز له أن يشترط ذلك، وإذا كان ليس له علاقةٌ بالدائرة الحكومية، وإنما يأخذ مقابل أتعابٍ؛ فيجوز ذلك، فالسؤال مجملٌ فلم يُبيِّن السائل حاله.
مداخلة: إذا كانت معاملةً شخصيةً؟
الشيخ: إذا كانت معاملةً شخصيةً كما يقول؛ لا يُخدَم بخيلٌ، يُعطيه مقابل أتعابه، لكن المهم أنه ما يكون موظفًا في تلك الدائرة.
السؤال الأخير: أحسن الله إليكم، تعدَّدت الأسئلة حول حكم المظاهرات، خصوصًا بعد إصدار بيانٍ من “هيئة كبار العلماء”، نرجو من فضيلتكم التعليق على هذا الأمر؟
الجواب: نحن تكلمنا في أكثر من درسٍ عن هذا الموضوع، ولا بأس أن نعيد الكلام ولو على سبيل الاختصار:
قلنا: إن المظاهرات هنا في المملكة لا تجوز؛ لأن الدولة تمنع من ذلك، ولي الأمر يمنع، فكون ولي الأمر يمنع، وتقول: لا، أنا سأقوم بالمظاهرة، هذه منازعةٌ لولي الأمر، ولي الأمر تجب طاعته ما لم يأمر بمعصيةٍ، فإذا أمرك بترك أمرٍ أنت ترى أنه في الأصل مباحٌ، لكنه قال لك: لا، لا أريدك أن تفعل هذا الفعل لمصلحةٍ معتبرةٍ، أو لمصلحةٍ يراها هو؛ فحينئذٍ تجب طاعته في ذلك.
والخروج في المظاهرة -مع منع ولي الأمر الصريح لها- يُعتبَر من قَبِيل المنازعة، وقد جاء في حديث عبادة بن الصامت قال: “بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في المنشط والمَكْره، وفي العسر واليسر”، إلى أن قال: “وألا ننازِع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بَوَاحًا عندكم فيه من الله برهانٌ” [19]، بهذه الشروط:
- أولًا الشرط الأول: أن يكون كفرًا.
- والشرط الثاني: أن يكون بَوَاحًا صريحًا.
- وعندكم من الله فيه برهانٌ واضحٌ، وحجةٌ واضحةٌ.
- فهنا تجوز المنازعة بشرطٍ رابعٍ، أيضًا اتفق عليه العلماء: وهو أن يكون هناك قدرةٌ.
فإذا تحققت هذه الشروط؛ جاز، لكن هنا في المملكة الولاية شرعيةٌ، وما دام ولي الأمر منع من ذلك؛ فلا تجوز مثل هذه المظاهرات، وهذا الذي يُفتِي به كبار علماء البلد.
ثم أيضًا ليست هذه سبيلًا للإصلاح، هنا في المملكة -ولله الحمد- النظام الأساسي للحكم نصَّ على أن الدستور هو الكتاب والسنة، فيمكن أن يكون إصلاح ما قد يُرى من أخطاءٍ أو قصورٍ أو نحو ذلك، داخل هذا الأمر، عن طريق هذا الدستور نفسه، نصَّ الدستور على أن الكتاب والسنة هما النظام الأساسي للحكم، والأخطاء واردةٌ، حتى الإنسان في أسرته، تقع أخطاءٌ داخل الأسرة الضيقة، ما بالك إذا كانت دولةً كبيرةً، والنبي يقول: الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم [20].
وأخشى ما أخشاه أن تُستَغل مثل هذه الأمور من قِبَل بعض الطوائف المنحرفة؛ كالشيعة، لتحقيق مآربهم، فهم يريدون أن يقتنصوا الفرص، يرون أن أمامهم الآن فرصةً كبيرةً وذهبيةً؛ لأجل أن يصطادوا في الماء العكر، ويحققوا أهدافهم، وأهداف دولٍ من ورائهم؛ ولذلك ينبغي أن نتنبه لهذا، ونكون مع ولاة أمرنا يدًا واحدةً، وكما ذكرت: ما يكون فيه من أخطاءٍ أو قصورٍ فالدين النصيحة، وتكون بأساليبها المعروفة المعتبرة شرعًا، هذا -كما ذكرت- إذا كانت الولاية شرعيةً وولي الأمر يَمنع.
أما إذا كان يسمح بها؛ كما في بعض الدول مثلًا يسمح بها، ولها أنظمةٌ خاصةٌ بها، فالأصل أنها تجوز؛ ولذلك لا يصح أن تقول: المظاهرات حرامٌ بإطلاقٍ، أو كانت الولاية غير شرعيةٍ؛ كأن كان الحاكم ليس مسلمًا مثلًا، وهذه لها تفاصيلها، لا يُطبَّق ما كان هنا في المملكة على ما كان خارج المملكة، فأنا أعتبر من الخطأ التعميم في مثل هذه الأحكام، لكن بالنسبة للمملكة: فعامة كبار علماء هذه البلاد يُفتون بتحريم المظاهرات؛ لأن ولي الأمر منع من ذلك، والخروج فيها من قَبِيل المنازعة لولي الأمر.
وطالب العلم -على وجه الخصوص- ينبغي أن يكون مُعظِّمًا للنصوص، لا يكون كالعامي، بعض طلاب العلم كأنهم عوام، سبحان الله! كأنهم عوام! لا في تحليل الأحداث، ولا في النظر لمثل هذه الأمور، ولا..، فينطلق من منطلق عواطف وحماسٍ، ينبغي لطالب العلم أن ينطلق من منطلق نصوصٍ شرعيةٍ، الله تعالى أعلم وأحكم، فما دامت المسألة فيها نصوصٌ، ومُحكَمةً بنصوصٍ؛ فينبغي لطالب العلم أن يُوجِّه العامة، لا أن يكون هو الذي يُثير العامة؛ فلذلك تلاحظ الفرق كبيرًا بين من كان عنده رسوخٌ في طلب العلم، وبين من كان ينطلق من منطلق الهوى، أو الحماس غير المنضبط، فتجد أنه ربما يكون أسوأ من العامة في مثل هذه الأمور.
نسأل الله للجميع الفقه في الدين والعلم النافع، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 1295، ومسلم: 1628. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 2738، ومسلم: 1627. |
^3 | رواه البخاري: 1419، ومسلم: 1032. |
^4, ^6, ^8 | رواه البخاري: 3936. |
^5 | رواه البخاري: 2734، ومسلم: 1629. |
^7 | رواه مسلم: 997، بنحوه. |
^9 | رواه أبو داود: 3565، والترمذي: 2120، وابن ماجه: 2713، وقال الترمذي: حديث حسن. |
^10 | رواه البيهقي: 12654. |
^11 | رواه أبو يعلى: 5982، وابن حبان في المجروحين: 2/ 77. |
^12 | رواه البخاري: 77، بنحوه. |
^13 | رواه مسلم: 1690، بنحوه. |
^14 | رواه الترمذي: 1566، وأحمد: 23499، بلفظ: من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة، وقال الترمذي: حديث حسن غريب. |
^15 | رواه البخاري: 4261، بنحوه. |
^16 | رواه أبو داود: 2194، والترمذي: 1184، وابن ماجه: 2039، وقال الترمذي: حسن غريب. |
^17 | رواه البخاري: 5347. |
^18 | رواه مسلم: 1587. |
^19 | رواه البخاري: 7055. |
^20 | رواه مسلم: 55. |