عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فنرحب بكم -أيها الإخوة- مع استئناف هذا الدرس في التعليق على كتاب الفضائل من “صحيح مسلمٍ”.
باب تبسمه وحسن عشرته
باب تبسمه وحسن عشرته
حدثنا يحيى بن يحيى: أخبرنا أبو خيثمة، عن سماك بن حربٍ، قال: قلت لجابر بن سمرة: أكنت تجالس رسول الله ؟ قال: “نعم، كثيرًا، كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قام، وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم ” [1].
فوائد من حديث: “أكنت تجالس رسول الله ؟..”
هذا الحديث فيه عدة فوائد:
- أولًا من فوائده: استحباب جلوس المصلي في مصلاه بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، والأحسن: أن يبقى حتى تطلع الشمس طلوعًا حسنًا، يعني: يزول وقت النهي؛ ولهذا جاء في الرواية الأخرى عند مسلمٍ: “حتى تطلع الشمس حسنًا” [2] يعني: طلوعًا حسنًا.
وهذا الوقت من الأوقات الفاضلة، وقد أمر الله تعالى بالتسبيح فيه والذكر: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق:39]، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:42]، والبُكرة: هي أول النهار، يعني: بعد صلاة الصبح، وهذا الوقت ينبغي أن يغتنمه المسلم في الذكر والدعاء ونحو ذلك، قال أهل العلم: وإنما كان عليه الصلاة والسلام يجلس في مصلاه بعد صلاة الصبح؛ لأن ذلك الوقت وقت نهيٍ لا يصلَّى فيه، وهو بعد صلاةٍ مشهودةٍ، وهي صلاة الفجر، إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، وأشغال اليوم لم تأت بعد، يكون الإنسان خاليًا من المشاغل، فيقع الذكر والدعاء على فراغ قلبٍ، وحضور فهمٍ.
وجاء في حديث أبي هريرة عند الترمذي: أن النبي قال: من جلس في مصلاه يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين؛ كان له أجر حجةٍ وعمرةٍ تامةٍ، تامةٍ، تامةٍ [3] لكن هذا الحديث ضعيفٌ، لا يثبت عن النبي ، ويغني عنه حديث جابرٍ هنا الذي ذكر فيه أن النبي كان يجلس في مصلاه حتى تطلع الشمس.
فينبغي لك -أخي المسلم- أن تحرص على اغتنام هذا الوقت الفاضل، وأن تشتغل فيه بالذكر.
واختلف العلماء أيهما أفضل: أن يشتغل فيه بتلاوة القرآن، أو بالذكر والدعاء؟
والذي يظهر أن الأفضل: هو الأصلح لقلب المسلم، لم يرد في ذلك شيءٌ، فالأفضل هو الأصلح لقلب المسلم.
والمرأة في ذلك كالرجل، ينبغي إذا صلت صلاة الفجر أن تبقى في مصلاها تذكر الله حتى تطلع الشمس، فهذه سُنةٌ عن النبي كان يداوم عليها غالبًا، وإنما قلت: غالبًا؛ لأنه في بعض الأحيان كان يخرج بعد صلاة الصبح مباشرةً؛ كما في حديث جويرية رضي الله عنها، لمَّا صلى النبي صلاة الصبح، ثم رجع بعدما أضحى فقال: ما زلتِ على حالك التي تركتك عليها؟، قالت: نعم، قال: لقد قلتُ بعدك أربع كلماتٍ لو وُزِنَت بما قلتِ لوَزَنَتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، سبحان الله وبحمده زنة عرشه، سبحانه وبحمده رضا نفسه، سبحانه الله وبحمده مداد كلماته [4].
لكنه غالبًا عليه الصلاة والسلام يجلس في مصلاه حتى تطلع الشمس مُمْتَثِلًا أمر ربه وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق:39].
- أيضًا من فوائد هذا الحديث: جواز الحديث المباح في المسجد؛ فإن الصحابة كانوا يتحدثون في أمر الجاهلية ويضحكون، يعني: يتحدثون حديثًا يؤدي إلى الضحك، وكان عليه الصلاة والسلام يقرهم على ذلك ويتبسم؛ وهذا يدل على جواز الحديث بشرط أن يكون مباحًا، فلو أن أحد جماعة المسجد جلس معك يتحدث معك في أمورٍ مباحةٍ في المسجد؛ فلا بأس، وبعض العامة ينكر هذا، وهذا الإنكار لا وجه له؛ لأن الصحابة كانوا يفعلونه بين يدي النبي ، لكن التوسع في ذلك يُخشى معه مِن أن يَجر الكلامُ المباح كلامًا محرمًا، فيقع الإنسان في الغيبة أو السخرية أو نحو ذلك؛ ولهذا فينبغي عدم التوسع في ذلك، وإلا فأصل الكلام المباح في المسجد لا بأس به، بل يجوز حتى الشعر المباح، كان حسان يلقي الشعر في مسجد النبي ، فلحظ إليه عمر، فقال: “قد كنت أُنشد الشعر فيه بحضرة من هو خيرٌ مني ومنك”، يعني: رسول الله .
- أيضًا من فوائد هذا الحديث: حسن خلق النبي ، حيث كان يجالس أصحابه ولا يترفع عنهم، ويتبسط معهم، ويستمع لحديثهم وحكاياتهم، ويشاركهم أيضًا ويتفاعل معهم، حيث كانوا يضحكون وكان يتبسم، فهذا من كمال حسن الخلق؛ وهذا يدل على أن الإنسان ينبغي أن ينبسط ويتبسط مع الآخرين، فلا يكون منزويًا منقبضًا، وهذا يلحظ على بعض طلبة العلم، تجد أنه لا يدخل مع العامة، ويكون منقبضًا، وهذا خلاف هدي النبي عليه الصلاة والسلام، أكمل الهدي هدي النبي .
كان عليه الصلاة والسلام يجالس أصحابه، ويتحدث معهم، ويستمع إليهم، ويتحدثون الحديث الذي يضحك ويضحكون ويتبسم، لكن بشرط أن يكون ذلك الحديث مباحًا ولا يكون محرمًا، وقد قال عليه الصلاة والسلام: الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم [5]، ثم إنه إذا فعل ذلك طالب العلم؛ كان ذلك أدعى لدعوة العامة إلى الله ، وإلى نشر العلم؛ لأنهم يحبونه إذا فعل ذلك ويألفونه، فالتبسط مع الناس في الحديث هذا من حسن الخلق ومن مكارم الأخلاق، بشرط أن يكون ذلك الحديث مباحًا، ولا يجر إلى الكلام المحرم.
- أيضًا من فوائد هذا الحديث: أنه لا بأس بأن يذكر الإنسان الأعمال التي كان يعملها قبل استقامته مستقبحًا لها وشاكرًا لنعمة الله أن هداه؛ فإن الصحابة كانوا يذكرون الأعمال التي كانوا يعملونها أيام كونهم غير مسلمين؛ استقباحًا لها، وشكرًا لما هداهم الله إليه من الدين الحنيف، بل إن هذا يدخل في الشكر؛ فإن من أبواب الشكر التي يغفُل عنها كثيرٌ من الناس: ذكر نعم الله تعالى، والله تعالى يقول: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [المائدة:7]، فمن الشكر: أن تذكر نعم الله عليك؛ وذلك بأن تعددها على وجه الشكر لله سبحانه، تشكر الله ، تذكر هذه النعم فيما بينك وبين نفسك، وعند الآخرين، فتقول: أنا في كنت في كذا وكذا، وأنعم الله علي بكذا وكذا، اللهم لك الحمد ولك الشكر، فهذا يدخل في الشكر، وهذا المعنى يغفل عنه كثيرٌ من الناس.
ولو تأملنا قول الله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [المائدة:7]، نجد أنها تكررت في القرآن كثيرًا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [الأحزاب:9]، فذِكْر نعم الله تعالى وتعدادها على وجه الشكر هذا من أبواب الشكر، فالصحابة كانوا يذكرون ما كانوا عليه في الجاهلية، ويذكرون أن الله تعالى هداهم؛ وذلك من باب تذكر نعم الله العظيمة عليهم، وهذا يدخل في باب الشكر، وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا [المائدة:20]، هنا موسى يُذكِّر بني إسرائيل، يقول: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [المائدة:20]، ثم ذكر لهم:
- النعمة الأولى: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ [المائدة:20].
- النعمة الثانية: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا [المائدة:20].
- النعمة الثالثة: وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة:20].
فإذنْ تذكير الناس بنعم الله هذا من الشكر، بابٌ من أبواب الشكر، كون الإنسان يذكر نعمة الله عليه، ونعم الله عليه، هذا من أبواب الشكر.
- أيضًا من فوائد هذا الحديث: أن التبسم في وجه الآخرين من حسن الخلق، كان عليه الصلاة والسلام كثير التبسم، وكان تبسمه هو الغالب، لم يكن يضحك ضحكًا بصوتٍ مرتفعٍ في معظم أحيانه، وإنما كان يتبسم، قال جرير بن عبدالله البَجَلي: “ما رآني رسول الله منذ أسلمت إلا تبسم”، وجاء في الحديث الصحيح: تبسمك في وجه أخيك صدقةٌ [6].
فالتبسم عند ملاقاة الآخرين هذا من كمال حسن الخلق، وانظر لحالك عندما يقابلك شخصٌ ويتبسم في وجهك، أو يقابلك شخصٌ آخر عابسًا؛ تجد الفرق كبيرًا بين هذا وذاك، فالذي يقابلك متبسمًا؛ تأنس إليه وتتبسط له، أما الذي يقابلك بوجهٍ مُكْفَهِرٍّ عابسٍ؛ فإنك تنقبض منه وتستوحش منه؛ فإذن ينبغي عند ملاقاة الآخرين أن يلاقيهم المسلم بالبشر وبالتبسم.
باب رحمته بالنساء والرفق بهن
باب: رحمته بالنساء والرفق بهن:
حدثنا أبو الربيع العَتَكي وحامد بن عمر وقتيبة بن سعيدٍ وأبو كاملٍ جميعًا، عن حماد بن زيدٍ، قال أبو الربيع: حدثنا حمادٌ: حدثنا أيوب، عن أبي قِلابة، عن أنس، قال: كان رسول الله في بعض أسفاره وغلامٌ أسود يقال له “أَنْجَشَة” يحدو، فقال له رسول الله : يا أنجشة، رويدك سوقًا بالقوارير [7].
ثم ساق المصنف الحديث برواياتٍ أخرى، لعلنا أولًا نستعرض هذه الروايات، ثم نتكلم عن الحديث في الجملة.
قال:
وحدثنا أبو الربيع العَتَكي وحامد بن عمر وأبو كاملٍ، قالوا: حدثنا حمادٌ، عن ثابتٍ، عن أنسٍ، بنحوه.
وحدثني عمرٌو الناقد وزهير بن حربٍ كلاهما، عن ابن عُلَيَّة، قال زهيرٌ: حدثنا إسماعيل: حدثنا أيوب، عن أبي قِلابة، عن أنسٍ: أن النبي أتى على أزواجه وسَوَّاقٌ يسوق بهن يقال له “أنجشة”، فقال: ويحك يا أَنْجَشَة! رويدًا سَوْقَك بالقوارير، قال: قال أبو قِلابة: تكلم رسول الله بكلمةٍ لو تكلم بها بعضكم لعبتموها عليه [8].
وحدثنا يحيى بن يحيى: أخبرنا يزيد بن زُرَيْعٍ، عن سليمان التيمي، عن أنس بن مالكٍ، ح، وحدثنا أبو كامل: حدثنا يزيد: حدثنا التيمي، عن أنس بن مالكٍ، قال: كانت أم سُلَيمٍ مع نساء النبي ، وهن يسوق بهن سَوَّاقٌ، فقال نبي الله : أي أنجشة، رويدًا سَوْقَك بالقوارير [9].
وحدثنا ابن المُثَنَّى: حدثنا عبدالصمد: حدثني همامٌ: حدثنا قتادة، عن أنسٍ قال: كان لرسول الله حادٍ حسن الصوت، فقال له رسول الله : رويدًا يا أنجشة، لا تكسر القوارير، يعني: ضَعَفَة النساء [10].
وحدثناه ابن بشارٍ: حدثنا أبو داود: حدثنا هشامٌ، عن قتادة، عن أنسٍ، عن النبي ، ولم يذكر: حادٍ حسن الصوت.
الشرح:
هذه القصة ساقها الإمام مسلمٌ بهذه الروايات، وحاصلها: أن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام، وكان معهن أم سُليمٍ وبعض النساء، كن معه في سفرٍ، قال: “في بعض أسفاره”، وقال في “تنبيه المُعْلِم”: إنها حجة الوداع، “وكان معه غلامٌ أسود يقال له: أنجشة، يحدو”.
“يحدو” يقال: حدوت الإبل حدوًا، أي: حثثتها على السير، وكان حسن الصوت، ويأتي ويترنم بأراجيز وبأشعارٍ بأصواتٍ حسنةٍ.
فقال عليه الصلاة والسلام له: يا أنجشة، رُوَيْدَك، رفقًا بالقوارير، أو قال: سَوقًا بالقوارير.
“القوارير”، يعني: ضعفة النساء، وسميت بذلك؛ تشبيهًا بقارورة الزجاج؛ لضعفها وإسراع الانكسار إليها.
معنى قوله: رفقًا بالقوارير
واختلف العلماء في المراد بهذا الحديث على قولين:
- القول الأول: أن معناه: أن أنجشة كان حسن الصوت، وكان يحدو بهن ويُنشِد نشيدًا من القريض ومن الأراجيز وما فيه تشبيبٌ، فلم يؤمن من فتنتهن بذلك، فأمر بالكف عن ذلك.
فمعنى: رفقًا بالقوارير يعني: بالنساء؛ حتى لا تحصل الفتنة، يَفْتَتِنَّ بصوتك.
- والقول الثاني: أن المراد به: الرفق في السير؛ قالوا: لأن الإبل إذا سمعت الحداء والصوت الحسن بالشعر وبالأراجيز؛ فإنها تسرع في المشي؛ لأنها تستلذ ذلك، فإذا أسرعت المشي أزعجت الراكب، فنهاه عليه الصلاة والسلام عن ذلك؛ لأن النساء يضعفن عند شدة الحركة، فيُخشى سقوطهن أو لحوق الضرر بهن.
إذنْ هنا قولان:
- القول الأول: أن المقصود بقوله: رفقًا بالقوارير، يعني: حتى لا تحصل الفتنة من هؤلاء النساء بصوتك الحسن.
- والقول الثاني: أن المقصود: أن صوتك الحسن يحث الإبل على سرعة السير؛ فهذا يؤدي إلى الإضرار بالراكب على الإبل ومنهم النساء الضعيفات.
والأقرب: هو القول الأول، وقال القاضي عياضٌ: هذا أشبه بمقصوده ؛ وذلك أن المرأة بطبيعتها ربما تحب الصوت الحسن من الرجال، وبعض النساء يكون عندهن ضعفٌ شديدٌ في هذا الجانب، فربما تفتتن بصوت ذلك المنشد بصوتٍ حسنٍ، ويتعلق قلبها به، فكأنه عليه الصلاة والسلام يقول: يا أنجشة، صوتك حسنٌ، انتبه لا تفتن النساء اللاتي يستمعن إليك، هذا هو الأقرب في معنى هذا الحديث.
فوائد من حديث رفقًا بالقوارير
وهذا الحديث فيه فوائد؛ منها:
- أولًا: رحمة النبي بالنساء، فإنه قال: رفقًا بالقوارير، فخصهن بذلك، وعلى كلا القولين في معنى الحديث: فهو يدل على رحمته عليه الصلاة والسلام بالنساء، وقد شبههن بالقوارير تشبيهًا بقارورة الزجاج؛ لضعفها وإسراع الانكسار إليها.
- أيضًا من فوائد هذا الحديث: جواز الحُدَاء، وهو الترنم بالأراجيز والأصوات الحسنة، وبالشعر الملحَّن، هذا لا بأس به، وقد كان معروفًا عند العرب، كانوا يترنمون بالأشعار ويأتون بها بأصواتٍ ملحنةٍ، فهذا جائزٌ ولا بأس به، ويسميه بعض الناس “نشيدًا”، ويسميه غيرهم بتسمياتٍ أخرى.
فإذا كانت هذه غير مصحوبةٍ بالمعازف؛ فلا بأس بها، كانت تُفعل بحضرة النبي كما في هذا الحديث.
أما إذا كانت مصحوبةً بالمعازف؛ فإنها محرمةٌ؛ لأدلةٍ كثيرةٍ؛ منها:
قول النبي عليه الصلاة والسلام، كما في “البخاري” معلقًا بصيغة الجزم: ليكونن في أمتي أقوامٌ يستحلون الحِرَ والحرير، والخمر والمعازف [11]، فقَرَن المعازف بالخمر وبالحِرَ (بالزنا)؛ فهذا يدل على تحريمه، أما إذا كان بدون معازف؛ فلا بأس بها.
وهذا يقودنا إلى معرفة حكم ما يسمى بـ(الشيلات): الشيلات إذا كانت بدون معازف؛ فلا بأس بها، إذا كان شخصٌ يأتي بشعرٍ ملحَّنٍ بصوتٍ حسنٍ؛ هذا لا بأس به، يأتي بقصيدةٍ وينشدها بصوتٍ ملحنٍ، هذا لا بأس به، أما إذا كانت مصحوبةً بمعازف؛ فإنها لا تجوز، إذا كانت مصحوبةً بأصواتٍ بشريةٍ متداخلةٍ على وجه لا يشبه المعازف؛ لا بأس بها.
إذنْ عندنا الشعر الملحن كان يسميه بعض السلف غناءً، هذا لا بأس به، واشتبه هذا على بعض الناس، فأتوا بهذه الآثار المروية عن بعض الصحابة والتابعين، والتي فيها تسمية الشعر الملحن غناءً، وقالوا: إن هذا يدل على أنهم يستمعون للأغاني، وهذا كلام غير صحيحٍ، بل حكى ابن رجبٍ وغيره من أهل العلم الإجماع على تحريم الاستماع للمعازف، وأن ما أُثِر في ذلك عن بعض السلف المقصود به: الشعر الملحن.
- أيضًا من فوائد هذا الحديث: هنا ذكر النووي قال من فوائده: مباعدة النساء من الرجال، ومن سماع كلامهم، إلا الوعظ ونحوه، يعني: ما كان يخشى من الفتنة فينبغي ألا يكون المجلس فيه مختلطًا بين الرجال والنساء.
هنا في هذا الحديث قال: قال أبو قِلابة: “تكلم رسول الله بكلمة” لو تكلم بها بعضكم؛ لعبتموها عليه”، قال بعض الشراح: إن أبا قلابة قال هذا الكلام لأهل العراق لما كان عندهم شيءٌ من التكلف، ومن كان يتنطع في العبارة لا يأتي بمثل هذه الألفاظ، يجتنب مثل هذه الألفاظ، كونه عليه الصلاة والسلام يقول: رفقًا بالقوارير، يقول: إن هذه كلمةٌ لو قالها، لو تكلم بها بعضكم؛ لعبتموها عليه؛ لما في هؤلاء من التكلف والتنطع، هذا هو مقصود أبي قلابة بهذه الكلمة.
ثم قال المصنف رحمه الله:
باب قُرْبه من الناس وتبركهم به وتواضعه لهم
قال النووي رحمه الله:
باب: قربه من الناس وتبركهم به وتواضعه لهم
قال الإمام مسلمٌ في “صحيحه”:
حدثنا مجاهد بن موسى وأبو بكر بن النضر بن أبي النضر وهارون بن عبدالله جميعًا، عن أبي النضر، قال أبو بكرٍ: حدثنا أبو النضر -يعني هاشم بن القاسم- حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابتٍ، عن أنس بن مالكٍ قال: كان رسول الله إذا صلى الغداة؛ جاء خَدَمُ المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناءٍ إلا غمس يده فيها، فربما جاءوه في الغداة الباردة، فيغمس يده فيها [12].
الشرح:
هذا الحديث يَذكر فيه أنسٌ أن النبي كان إذا صلى صلاة الفجر؛ جاءه خدم المدينة وجواريهم، والولدان والصبيان، أتوا بالأواني التي فيها الماء؛ لأجل أن يغمس النبي يده في هذا الماء، فيتبركوا به.
قال: “فما يؤتى بإناءٍ إلا غمس يده فيها”، وهذا يدل على جواز التبرك بالنبي ، كان الصحابة يتبركون بالنبي ، يتبركون بإدخال يده في الماء، ويتبركون بشعره، ويتبركون بكل شيءٍ يقع منه عليه الصلاة والسلام، وهذا خاصٌّ بالنبي .
والنووي رحمه الله في “شرحه على مسلمٍ” قال: إنه يدل على جواز التبرك بآثار الصالحين، وقد أخطأ في ذلك كما قال كثيرٌ من المحققين من أهل العلم، قالوا: إن هذا الحديث لا يدل على جواز التبرك بآثار الصالحين؛ وذلك لأن الصحابة لم يفعلوه مع غير النبي ، ولم يفعلوه مع الخلفاء الراشدين، لم يفعلوه مع أبي بكرٍ الصديق، ولا عمر، ولا عثمان، ولا عليٍّ، ولا العشرة بالمبشرين بالجنة، ولم يفعلوه مع أحدٍ قط سوى النبي ، لو كان مشروعًا؛ لنقل عن الصحابة .
ثم إن التبرك بآثار الصالحين قد يفضي إلى الوقوع في الشرك وتعظيمهم من دون الله ، وللغلو في الصالحين، فإن الغلو في الصالحين من أبواب الشرك.
فالصواب إذنْ: أن التبرك خاصٌّ بالنبي ، وأنه لا يشمل التبرك بآثار الصالحين.
- أيضًا من فوائد هذا الحديث: تعظيم الصحابة للنبي ؛ حيث كانوا يرسلون خدمهم ليغمس يده في آنيتهم.
- وأيضًا من الفوائد: ذكر بعض الشراح: أن من الفوائد: طهارة الماء المستعمل؛ لأنه عليه الصلاة والسلام يدخل يده في هذا الماء، ثم يأخذونه ويستفيدون منه، ويشربونه، ولو كان يتنجس بذلك؛ لما فعله الصحابة وأقرهم النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك.
التبرك بآثار النبي
قال الإمام مسلمٌ:
حدثنا محمد بن رافعٍ: حدثنا أبو النضر: حدثنا سليمان، عن ثابتٍ، عن أنسٍ قال: لقد رأيت رسول الله والحَلَّاق يحلقه، وأطاف به أصحابه فما يريدون أن تقع شعرةٌ إلا في يد رجلٍ [13].
كما ذكرنا: كان الصحابة يتبركون بآثاره عليه الصلاة والسلام، ويتبركون بشعره، فكان الحلاق يحلق شعره، فما تقع شعرةٌ إلا ويتسابقون عليها، يريدون التبرك بها.
وهذا يدل على تعظيم الصحابة للنبي ؛ ولهذا قال عروة بن مسعودٍ لما أرسلته قريشٌ في صلح الحديبية ليصالح النبي ؛ لما رجع إليهم قال: “أي قوم، لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وعلى كسرى وعلى النجاشي، والله ما رأيت ملكًا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمدٍ محمدًا” [14].
فكان الصحابة يعظمون النبي تعظيمًا شديدًا، لكن لا يؤدي إلى الغلو، من غير غلوٍّ.
وهذا الحديث أيضًا يؤكد ما ذكرناه من التبرك بآثار النبي ، والتبرك بآثار النبي -كما ذكرنا- جائزٌ في حياته، وأيضًا لو وُجد شيءٌ من آثاره بعد مماته.
لكن الآن -في وقتنا الحاضر، ونحن الآن في القرن الخامس عشر الهجري- لا يوجد شيءٌ من آثار النبي .
وما يُذكر من أنه توجد في بعض البلدان آثارٌ للنبي عليه الصلاة والسلام لم تثبت، كل هذه لم تثبت، والغالب أن هذا الكلام غير صحيحٍ.
تواضع النبي عليه الصلاة والسلام
قال:
وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن ثابتٍ، عن أنسٍ: أن امرأةً كان في عقلها شيءٌ، فقالت: يا رسول الله، إن لي إليك حاجةً، فقال: يا أم فلانٍ، انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك، فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها [15].
الشرح:
وهذا يدل على تواضع النبي عليه الصلاة والسلام، تلقاه المرأة وتأخذ بيده، ويقضي لها حاجتها، مع أنه عليه الصلاة والسلام هو النبي، وهو الرسول، وهو أيضًا القائد للمسلمين، هو رئيس الدولة الإسلامية في المدينة، ومع ذلك تلقاه المرأة وتأخذ بيده، ويقضي حاجتها.
وكان في عقلها شيءٌ -يعني من الجنون- فقالت: يا رسول الله، إن لي إليك حاجةً -يعني: اقض حاجتي- فقال: انظري أي السكك، أي: أي الطرق تريدين، أقضي حاجتك منها، فخلا معها في بعض الطريق، يعني: وقف معها في طريقٍ وتكلم معها، وقضى حاجتها عليه الصلاة والسلام.
وهذا يدل على تواضعه عليه الصلاة والسلام، ويدل أيضًا على قربه من الناس، ومخالطته لهم، فانظر كيف أن المرأة في عقلها شيءٌ، ومع ذلك تأتي للنبي عليه الصلاة والسلام، وتطلب منه أن يقضي لها حاجتها فيفعل، فأي خلقٍ أعظم من هذا؟!
وهذا يدل على كمال خُلق النبي عليه الصلاة والسلام، وقد وصفه الله تعالى فقال: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، فأكد الله على ذلك بمؤكداتٍ:
- المؤكد الأول: (إنَّ).
- والمؤكد الثاني: اللام، وَإِنَّكَ لَـ.
- المؤكد الثالث: حرف الاستعلاء (على).
- المؤكد الرابع: وصف الخلق بأنه عظيمٌ.
فكان خلق النبي عظيمًا جدًّا، فانظر إلى حسن خلقه كيف أنه تلقاه المرأة التي في علقها شيءٌ، وتطلب منه أن يقضي حاجتها فيستجيب ويذهب معها، بل يقول: اختاري أي طريقٍ تردين، ويقضي لها حاجتها.
من فوائد حديث: ..انظري أي السكك..
ذكر بعض الشراح أنه يستفاد من هذا الحديث: أن الخلوة بالمرأة الأجنبية إذا كانت في الطريق والناس يشاهدون، أن هذا جائزٌ، وإنما ينهى عنه إذا كان في محلٍّ لا يراهما أحدٌ.
فخلوة الرجل بالمرأة: أن يكونا في مكانٍ بحيث لا يراهما أحدٌ، أما لو كان في مكانٍ والناس تنظر إليهم؛ فلا يعتبر ذلك خلوةً.
ولهذا قال: “فخلا معها في بعض الطرق”، ولم يُعتبر هذا من الخلوة المحرمة.
ونكتفي بهذا القدر، ونقف عند باب مباعدته للآثام، نفتتح به درسنا القادم إن شاء الله، وما تبقى الآن من الوقت نجيب فيه عما تيسر من الأسئلة.
الأسئلة
السؤال: هل ورد فضلٌ لسلامة الصدر على الناس قبل النوم، ويقصد بذلك: العفو عمن أخطأ في حقه؟
الجواب: لا أعلم أنه ورد في ذلك شيءٌ خاصٌ، ولكن هذا مطلوبٌ في كل وقتٍ؛ قبل النوم وبعد النوم وفي كل وقتٍ؛ كما قال عليه الصلاة والسلام لما سئل عن خير الناس، قال: خير الناس: كل صدوق اللسان مخموم القلب، قالوا: يا رسول الله، صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: مخموم القلب: هو المؤمن الذي لا غش فيه ولا غل ولا حسد [16]، الذي لا غش فيه ولا غل ولا حسد، فيعني: سليم الصدر، فهذا خير الناس.
والله تعالى أثنى على المؤمنين الذي يدعون بهذا الدعاء: وَالَّذِينَ جَاؤوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].
السؤال: كيف نجمع بين حديث: إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت بها أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل [17]، وبين قول الله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284]؟
الجواب: الآية: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284]، هذه منسوخةٌ، هذه نزلت فشق ذلك على الصحابة ، فقال عليه الصلاة والسلام لهم، لما أتوا وجثوا على الركب، قالوا: يا رسول الله، حُمِّلنا من التكاليف ما لا نطيق، كيف نحاسب على ما يكون في أنفسنا؟! فقال: أتريدون أن تقولوا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا [البقرة:93]؟! قولوا: سمعنا وأطعنا، فقالوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285] [18]، فأنزل الله تعالى الآية التي بعدها: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:286].
وقبلها الآية: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285].
فهذه الآية: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284]، منسوخةٌ بالآية التي بعدها: وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [البقرة:285].
وعلى ذلك: فما يُحَدِّث الإنسان به نفسه غير مؤاخذٍ به، وهذا من رحمة الله بالمؤمنين، حديث النفس كله لا يؤاخذ به الإنسان، الهواجس وأحاديث النفس لا تؤاخذ بها، الحمد لله، هذا من رحمة الله وفضله على عباده: إن الله عفا لأمتي ما حدثت بها أنفسها، بشرط: ما لم تعمل أو تتكلم، تحاسب على العمل وعلى الكلام، أما حديث النفس فهذا لا تحاسب عليه ولا تؤاخذ به.
السؤال: إذا نسي المأموم قراءة الفاتحة في الركعة الثالثة من صلاة العشاء؛ فهل يلزمه إعادتها؟
الجواب: قراءة الفاتحة هي ركنٌ في حق الإمام والمنفرد، وأما المأموم فليست ركنًا في حقه، وإنما هي واجبةٌ، والواجبات عمومًا يتحملها الإمام عن المأموم.
فلو ترك المأموم واجبًا من واجبات الصلاة؛ صحت صلاته، ولم يلزمه حتى سجود السهو؛ وعلى ذلك: فإذا ترك المأموم قراءة الفاتحة في إحدى الركعات في الركعة الثالثة أو الرابعة مثلًا في صلاة العشاء؛ فصلاته صحيحةٌ.
نكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحاشية السفلية
^1 | رواه مسلم: 2322. |
---|---|
^2 | رواه مسلم: 670. |
^3 | رواه الترمذي: 586، بنحوه. |
^4 | رواه مسلم: 2726. |
^5 | رواه الترمذي: 2507، وابن ماجه: 4032، وأحمد: 5022. |
^6 | رواه الترمذي: 1956، وقال: حسن غريب. |
^7, ^8, ^9, ^10 | رواه مسلم: 2323. |
^11 | رواه البخاري: 5590. |
^12 | رواه مسلم: 2324. |
^13 | رواه مسلم: 2325. |
^14 | رواه البخاري: 2731. |
^15 | رواه مسلم: 2326. |
^16 | رواه ابن ماجه: 4206. |
^17 | رواه البخاري: 2528، ومسلم: 127، بنحوه. |
^18 | رواه مسلم: 125، بنحوه. |