عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.
كنا قد وصلنا في هذا الدرس في هذا اليوم الثلاثاء، الرابع والعشرين من شهر جمادى الآخرة عام 1441 هـ، في التعليق على “صحيح مسلمٍ”، كنا قد وصلنا إلى حديث أبي حُميدٍ الساعدي في قصة ذهاب النبي إلى تبوك، وبعض ما حصل له في ذلك من الآيات والمعجزات، فنستمع أولًا للحديث.
قصة ذهاب النبي إلى تبوك
القارئ:
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء، وأشرف المرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين وللمستمعين.
حدثنا عبدالله بن مسلمة بن قَعْنبٍ: حدثنا سليمان بن بلالٍ، عن عمرو بن يحيى، عن عباس بن سهل بن سعدٍ الساعدي، عن أبي حُميدٍ، قال: خرجنا مع رسول الله غزوة تبوك، فأتينا وادي القرى على حديقةٍ لامرأةٍ، فقال رسول الله : اخرُصوها، فخرصناها، وخرصها رسول الله عشرة أوسقٍ، وقال: أَحصيها حتى نرجع إليكِ إن شاء الله، وانطلقنا حتى قدمنا تبوك، فقال رسول الله : ستهب عليكم الليلة ريحٌ شديدةٌ.
الشرح:
نعم، هذا الحديث في قصة ذهاب النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه إلى تبوك، في غزوة تبوك في السنة التاسعة للهجرة، وهي آخر غزواته، وقد مروا في الطريق من المدينة إلى تبوك على وادي القرى، ووادي القرى الذي الآن عند مدينة العلا ومدائن صالح، هذا الوادي هو وادي القرى، يسمى وادي القرى، ومنه قول الشاعر:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلةً | بوادي القرى إني إذنْ لسعيد |
فهذا هو وادي القرى، يقع بين المدينة والشام، ولا يزال يسمى بهذا الاسم إلى الآن.
“على حديقةٍ”: الحديقة: هي البستان، “لامرأةٍ” يعني: في الطريق مروا -في ذلك المكان بوادي القرى- على بستانٍ لامرأةٍ، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يختبر أصحابه ، وأن يمَرِّن أذهانهم، فقال: اخرُصوها، وأنا سأخرُصها، ونرى من تكون حسبته أصح؟ لأنهم في سفرٍ، فأراد عليه الصلاة والسلام أن يمرن أصحابه ويدربهم؛ ولهذا قالوا: فيه استحباب امتحان العالم أصحابه بمثل هذا التمرين، فقال لهم: كم ترون مقدار التمر في هذه الحديقة؟
فخرصوها، وخرصها النبي عليه الصلاة والسلام، قال النبي عليه الصلاة والسلام: أنا أخرُصها بأنها عشرة أوسقٍ، والخرص: هو الحدس والتقدير، يعني: قدَّرها النبي عليه الصلاة والسلام بعشرة أوسقٍ.
وقال للمرأة: أَحصيها، يعني: نحن الآن خرصناها، قدرناها، أحصيها حتى نرجع إليكِ إن شاء الله، يعني: في عودتنا سنرجع إليك، وسنمر بهذه الحديقة ونسألك: كم حسبتها؟ فننظر هل تقديرنا لها صحيحٌ أم لا؟
فهذا أخذ منه العلماء -ذكر هذا النووي وغيره- قالوا: فيه استحباب امتحان العالم أصحابه بمثل هذا التمرين، ومن ذلك: المسابقات مثلًا التي توضع ويكون فيها تمرينٌ وشحذٌ لهمم المتعلمين، فهذا أصلٌ في هذا الباب.
خاصةً إذا كانوا في السفر، في السفر يكون عندهم وقتٌ كثيرٌ، يكون الوقت -وقت الفراغ- متسعًا، فينبغي أن يشغل بأشياء نافعةٍ، وأشياء مفيدةٍ؛ ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يشحذ هممهم بمثل هذا التمرين، فقال: اخرصوا مقدار التمر الذي في هذا النخل، وأنا سأخرص معكم.
فالنبي عليه الصلاة والسلام خرصها عشرة أوسقٍ، قال: “وانطلقنا حتى قدمنا تبوك”، بعدما تَعَدَوا الآن وقطعوا المسافة ما بين المدينة إلى تبوك، فلما قدموا تبوك، قال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: ستهب….
إخباره بريح شديدة ستهب عليهم
القارئ:
ستهب عليكم الليلة ريحٌ شديدةٌ، فلا يَقُم فيها أحدٌ منكم، فمن كان له بعيرٌ فلْيشُدَّ عقاله، فهبت ريحٌ شديدةٌ، فقام رجلٌ فحملته الريح حتى ألقته بجبَلَي طَيِّءٍ.
الشرح:
قال: ستهب عليكم الليلة ريحٌ شديدةٌ، وهذا من الآيات والمعجزات، ولعله علم بطريق الوحي أنه ستهب ريحٌ شديدةٌ، ثم أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام بأخذ الحزم والاحتياط، قال: لا يقم منكم أحدٌ، من قام ربما تأخذه هذه الريح، وتلقيه في مكانٍ آخر، اجلسوا، ومن كان له بعيرٌ؛ فليشد عقاله يعني: عقال البعير.
وأخذ العلماء من هذا، قال القرطبي [1]: “فيه دليلٌ على الأخذ بالحزم والحذر في النفوس والأموال”، وأن هذا لا ينافي التوكل، بل هو جزءٌ من التوكل.
فعند هبوب العواصف، وعند هبوب الرياح، ينبغي أن يحتاط الإنسان ويَحذر، ولا يقول: أنا متوكلٌ على الله؛ فإن الأخذ بالأسباب والحذر هو جزءٌ من التوكل، وهذا هو رسول الله هو وصحابته، وهو المؤيد بالوحي، ومع ذلك يأمرهم بالحذر والأخذ بالأسباب، ويقول: إنه مع هبوب هذه الريح لا يقم أحدٌ منكم، ومن كان له بعيرٌ فليشد عقاله، فهذا فيه دليلٌ على مشروعية الأخذ بالأسباب، وأن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل، بل هو جزءٌ من التوكل على الله؛ ولذلك تعريف التوكل، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران:159].
تعريف التوكل
ما هو تعريف التوكل؟
الطالب: التوكل هو تعلق القلب بالله مع فعل الأسباب.
الشيخ: أحسنت! التوكل هو صدق اعتماد القلب على الله في فعل الأسباب المأذون فيها، هو صدق اعتماد القلب على الله، مع أخذ الأسباب المأذون فيها، صدق اعتماد القلب على الله مع فعل الأسباب المأخوذ فيها، صدق اعتمادٍ.
فالتوكل يجمع أمرين: يجمع عملًا قلبيًّا، وهو صدق اعتماد القلب على الله، ويجمع أمرًا آخر، وهو الأخذ بالأسباب المأذون فيها، الأسباب المباحة.
وعلى ذلك: من قال: أنا متوكلٌ على الله بقلبي، لكنه ترك فعل الأسباب، فتوكله ناقصٌ، مَن أخذ بالأسباب ولم يعتمد بقلبه على الله؛ فهذا ليس بمتوكلٍ، فلا بد -لكي تكون متوكلًا- أن تفعل الأمرين: تفعل السبب، ويعتمد قلبك على الله، هذا هو التوكل على الله .
أما أن الإنسان يفرِّط في فعل الأسباب، ويقول: توكلت على الله، هذا ليس توكلًا، وإنما تواكل، فالنبي عليه الصلاة والسلام سيد المتوكلين كان يأخذ بالأسباب، وكان إذا ذهب للحرب لبس لَأْمَتَه ولبس الدرع؛ ولذلك كان أهل اليمن يحجون ولا يأخذون معهم زادًا، ويقولون: نحن متوكلون، فأنزل الله : وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197]، ليس هذا من التوكل أن تحج بدون زادٍ؛ ولهذا قال: وَتَزَوَّدُوا [البقرة:197].
فلا بد من أن يفهم التوكل بالفهم الصحيح، والتوكل من مقامات من أعمال القلوب، ومن مقاماتها العلية الرفيعة، ومن حقق كمال التوكل؛ كان من الذين يدخلون الجنة بغير حسابٍ ولا عذابٍ.
الذين يدخلون الجنة بغير حسابٍ ولا عذابٍ: هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون [2]، والوصف الجامع لهؤلاء، والوصف الجامع الذي تفرعت عنه هذه الأوصاف الأربعة: وعلى ربهم يتوكلون، يعني: لا يسترقون؛ لأنهم على ربهم يتوكلون، لا يكتوون؛ لأنهم على ربهم يتوكلون، لا يتطيرون؛ لأنهم على ربهم يتوكلون.
فالتوكل على الله تعالى من الأعمال القلبية التي ينبغي أن يُعنى بها المسلم، وبخاصةٍ طالب العلم، فالأخذ بالأسباب إذنْ هو جزءٌ من التوكل؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام هنا قال: ستهب عليكم الليلة ريحٌ شديدةٌ، فلا يقم منكم أحدٌ، هذا أخذٌ بالسبب، ومن كان له بعيرٌ فليشد عقاله، هذا أخذ بالسبب، مع اعتماد القلب على الله .
طيب، ماذا حصل؟
قال: فهبت ريحٌ شديدةٌ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، رجلٌ لم ينفذ التعليمات، خالف، النبي عليه الصلاة والسلام يقول: لا يقم أحدٌ، ورجلٌ قام، وهذا يدل على أنه يكون في كل زمانٍ ومكانٍ أناسٌ لا يستجيبون، ويخالفون، في كل مجتمعٍ، يعني هذا مجتمع النبي علي الصلاة والسلام وأصحابه ، ومع ذلك قام رجلٌ.
الرسول عليه الصلاة والسلام يوجههم ويأمرهم، ويقول: لا يقم أحدٌ، قام رجلٌ، هذا الرجل لما قام؛ حملته الريح حتى ألقته بجَبَلَي طَيِّءٍ، يعني: الريح طيَّرته، من شدتها أنها حملته وألقته بجبلي طيءٍ، عند حائلٍ تلك المنطقة، وهي مسافةٌ بعيدةٌ، وهذا يدل على شدة تلك الريح، وأنها بالفعل ريحٌ شديدةٌ جدًّا، كونها تحمل الرجل وتلقيه إلى مكانٍ بعيدٍ؛ فهذا يدل على شدة تلك الريح.
القارئ:
وجاء رسول ابن العَلْماء، صاحب أَيْلَة.
الشرخ:
طيب، قال النووي رحمه الله: “وفي هذا الحديث من المعجزة الظاهرة من إخباره بالمغيب، أخبر بهبوب الريح، وخوف الضرر من القيام وقت الريح”، وأيضًا قال: “فيه ما كان عليه الصلاة والسلام من الشفقة على أمته والرحمة لهم، والاعتناء بمصالحهم، وتحذيرهم ما يضرهم في دينٍ أو دنيا”، أنه وجههم بهذه التوجيهات.
وإنما أمر بشد عقل الجمال؛ لئلا ينفلت منها شيءٌ، وهذا في “صحيح مسلمٍ”، في رواية مسلمٍ: أن الذي قام رجلٌ، وجاء في بعض الروايات: قام رجلان [3]، لكن الرواية المحفوظة كما هنا: قام رجلٌ واحدٌ.
القارئ:
وجاء رسول ابن العَلْماء -صاحب أيلة- إلى رسول الله بكتابٍ، وأهدى له بغلةً بيضاء، فكتب إليه رسول الله ، وأهدى له بُردًا.
الشرح:
نعم، هذا رجلٌ يقال له: ابن العلماء، صاحب أيلة، أَيْلَة: بلدةٌ قديمةٌ تقع على ساحل البحر، واسم هذا الرجل يوحنا بن روبه، وعَلْماء: يقال: إنه اسمٌ لأمِّه، فيقال له: ابن العَلْماء، هذا كان والي أيلة، وكان عنده قوة فراسةٍ وحدسٍ، توقع أن النبي عليه الصلاة والسلام سيظهر، وستخضع له هذه البلدان والأماكن، فأراد أن يُحسِن للنبي عليه الصلاة والسلام، وسيأتينا أيضًا أنه أيضًا طلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن يقطع له إقطاعًا.
أهدى للنبي عليه الصلاة والسلام لما أتى رسوله إلى رسول الله بكتابٍ، وصالحه على الجزية، على أن يدفع للنبي عليه الصلاة والسلام الجزية، وأن يبقى في بلدته أيلة.
وأهدى للنبي عليه الصلاة والسلام بغلةً بيضاء، وهذه البغلة ذكر الشراح أنها هي دُلْدُل؛ لأن بغلة النبي عليه الصلاة والسلام اسمها دلدل، وقال القاضي عياضٌ رحمه الله: إنه لم يرو أنه كان للنبي بغلةٌ غيرها.
لكن استشكل النووي وبعض الشراح، قالوا: إن غزوة تبوك كانت في السنة التاسعة من الهجرة، والبغلة التي هي “دلدل” التي عند النبي عليه الصلاة والسلام كانت قبل ذلك، وحضر عليها غزوة حنينٍ، وغزوة حنينٍ في السنة الثامنة، وهذا الإشكال ذكره النووي وغيره، وأجاب عن هذا النووي، وقال: “يحمل قوله على أن صاحب أيلة أهداها للنبي عليه الصلاة والسلام، أنه أهداها له قبل ذلك”.
ولكن هذا بعيدٌ، فيه تكلف؛ ولذلك الحافظ ابن حجرٍ تعقب النووي، وقال: إنه ليس بصحيحٍ أن النبي يكون له بغلةٌ سوى هذه البغلة، وأن عنده أكثر من بغلةٍ، وأنه قد جاء عند الحاكم في “المستدرك” من حديث ابن عباسٍ: أن كسرى أهدى للنبي بغلةً [4]، وهي غير دلدل.
ويقال: إن النجاشي أيضًا أهدى بغلةً، وأيضًا صاحب دومة الجندل أهدى له بغلةً، وكانت الهدايا بين الملوك والرؤساء شائعةً، والنبي عليه الصلاة والسلام أصبح له قوةٌ ودولةٌ في المدينة؛ فليس ببعيدٍ أن تكثر الهدايا له.
كان من هدايا الملوك في ذلك الزمن: البغال، والبغلة هي حيوانٌ متولدٌ ما بين الفرس والحمار، فالظاهر -والله أعلم- أن الأقرب هو ما قاله ابن حجرٍ: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان عنده أكثر من بغلةٍ؛ وبذلك يزول هذا الإشكال.
فهذا إذنْ صاحب أيلة -الذي هو يوحنا- أهدى للنبي عليه الصلاة والسلام هذه البغلة، فالنبي كان من هديه أنه يُثِيب على الهدية، أي كل من أهدى له يهدي هو إليه، وكان يحث على ذلك، يقول: من صنع إليكم معروفًا فكافئوه [5]، وهذا من كريم الخلق أن من أهدى إليك هديةً تهدي له بمثلها أو أحسن منها.
وبعض الناس تجد أنه تُهدَى له الهدايا، لكن لا يهدي لهؤلاء المهدين، وهذا يعتبر قصورًا، النبي عليه الصلاة والسلام كل من أهدى له هديةً يهدي له بمثلها أو أحسن منها.
لما أهدى له صاحب أيلة هذه البغلة كتب إليه النبي ، يعني: يظهر أنه كتب إليه بإقراره على أيلة وعلى الجزية، وأيضًا أهدى له، أهدى النبي لصاحب أيلة، الذي هو يوحنا، أهدى له بردًا مكافأةً له، قالوا: كأنه لم يحضره إلا البرد، يعني: لأنه كان في غزوةٍ، وفي سفرٍ وذاهبًا، يعني ما عنده شيءٌ غيره، فأهدى له بردةً، فهذا دليلٌ على حرص النبي عليه الصلاة والسلام على الإثابة على الهدية، وأخذ العلماء من هذا مشروعية قبول الهدية والإثابة عليها.
طيب، ابن العَلْماء الذي هو صاحب أيلة، هل هو كافرٌ أو مسلمٌ؟
حكم قبول هدية الكافر
الجواب: كافرٌ، اسمه يوحنا، وقبل بالجزية، فهذا دليلٌ على مشروعية قبول الهدية من الكافر، استدل به العلماء على مشروعية قبول الهدية من الكافر، لا بأس أن يقبل الإنسان الهدية من الكافر، مع أن الكافر قد يكون كسبه فيه حرامٌ، وفيه ما فيه، لكن أمواله مختلطةٌ؛ ويتفرع عن هذا جواز قبول هدية من كان كسبه مختلطًا؛ إنسانٌ مثلًا يعمل في مجالٍ فيه حرامٌ وفيه حلالٌ، يعمل مثلًا في بنكٍ ربويٍّ، أو يعمل في مجالٍ يدخل عليه كسبٌ محرمٌ، وأهدى لك هديةً، يجوز قبول هديته، فيجوز قبول هدية من كان ماله مختلِطًا، والنبي عليه الصلاة والسلام قَبِل الهدية من اليهود، فهنا في هذه القصة قَبِل هدية ابن العلماء -صاحب أيلة- مع أنه كان كافرًا.
القارئ:
وجاء رسول ابن العَلْماء -صاحب أيلة- إلى رسول الله بكتابٍ، وأهدى له بغلةً بيضاء، فكتب إليه رسول الله ، وأهدى له بُردًا، ثم أقبلنا حتى قدمنا وادي القرى، فسأل رسول الله.
الشرح:
يعني: هنا رجعوا من تبوك إلى نفس المكان، ونفس الطريق الذي ذهبوا إليه، ففي رجوعهم رجعوا لتلك المرأة التي لها حديقةٌ في وادي القرى.
صَدَقَ توقع النبي وحدسه
القارئ:
فسأل رسولُ الله المرأة عن حديقتها: كم بلغ ثمرها؟، فقالت: عشرة أوسقٍ.
الشرح:
نعم، هنا صَدَقَ توقع النبي عليه الصلاة والسلام وحدسه؛ لأنه قال للصحابة : اخرُصوها وأنا أخرص، فما ندري كم خَرَصها الصحابة ؟ لم يذكر هذا.
قال بعضهم: إن أيضًا بعض الصحابة خرَصَها بالعشرة، فيظهر أنهم خرصوها بعدة أشياء، لكن النبي عليه الصلاة والسلام خرصها بعشرة أوسقٍ، فوافق خرص النبي عليه الصلاة والسلام حسبة المرأة؛ وهذا يدل على صحة حدسه عليه الصلاة والسلام، وعلى قوة إدراكه، وعلى إصابته وجه الصواب فيما كان يحاوله؛ لأن خرصه لم يكن بطريق الوحي فيما يظهر، خرصها بناءً على خبرته عليه الصلاة والسلام وتقديره، ثم كان هذا التقدير موافقًا للحقيقة.
لما رجع للمرأة قال: كم ثمرها؟، قالت: عشرة أوسقٍ، مطابقٌ تمامًا لخرص النبي عليه الصلاة والسلام، مع أنه نشأ في مكة، وليس فيها نخلٌ، وأتى المدينة، ما بقي فيها إلا مدةً يسيرةً مقارنةً بغيرها، يعني بقي عليه الصلاة والسلام في المدينة عشر سنواتٍ، وتوفي في السنة الحادية عشرة من الهجرة، وهنا في ذهابه إلى تبوك في السنة التاسعة.
ومع ذلك كان خرصه موافقًا للواقع، فهذا يدل على قوة فراسة النبي عليه الصلاة والسلام، وقوة حدسه وإدراكه وفراسته، فأعطي كمالاتٍ بشريةً، بالإضافة لكونه مؤيدًا بالوحي أعطي كمالاتٍ بشريةً؛ من الذكاء والفهم والإدراك، وقوة الحدس والفراسة والفطنة.
ومع ذلك كان عليه الصلاة والسلام ذا خلقٍ عظيمٍ، ويقبل من الناس ظواهرهم، ويكل سرائرهم إلى الله، فكان المنافقون يأتون ويعتذرون، ويقبل منهم ظواهرهم، فكان المنافقون يقول بعضهم لبعضٍ: محمدٌ أُذنٌ، يعني: ليس بذاك الفطن، يسمع أي كلامٍ، يعني كأنهم يقولون: مغفلٌ، نعتذر له بأي عذرٍ ويقبل، فأنزل الله قوله: وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ [التوبة:61]، فهو أُذن خيرٍ لهم؛ فكونه يقبل منكم الظواهر، ويكل السرائر إلى الله، أليس هذا خيرًا؟ هذا خيرٌ لهم، لكن هؤلاء هم المنافقون، فكان هذا من حسن خُلُقه عليه الصلاة والسلام، أنه يقبل من الناس ظواهرهم، ويكل سرائرهم إلى الله.
لم يكن هذا عن غفلةٍ، وإنما عن حسن خلقٍ؛ ولذلك لما قال كعب بن مالكٍ: يا رسول الله، والله ما لي من عذرٍ، قال: أما هذا فقد صدق [6]، كان يعلم أن هؤلاء غير صادقين، لكنه يأخذ بالمقتضى الشرعي، قال: أما هذا فقد صدق، فهذا يدل على فطنة النبي عليه الصلاة والسلام، وقوة ذكائه وإدراكه وفهمه.
فعنده الكمالات البشرية، كانت متحققةً في النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا من حكمة الله ؛ لأن تحمل أعباء الرسالة والنبوة يحتاج إلى هذه الكمالات؛ لأنه سيقود الأمة، فيحتاج إلى هذه الكمالات؛ من الفطنة، ومن الذكاء، ومن الفهم، ومن حسن التدبير، ومن الفراسة.
ففي هذه القصة مجرد أنه قدَّر ثمر هذه المرأة، ثم لما رجع وافق تقديره الحقيقة، سأل المرأة: كم ثمر هذه الحديقة؟ قالت: عشرة أوسقٍ، موافقًا لخرصه وتقديره عليه الصلاة والسلام، مع أنه لم يكن من أهل الزراعة والحرث.
القارئ:
فسأل رسول الله المرأة عن حديقتها: كم بلغ ثمرها؟، فقالت: عشرة أوسقٍ، فقال رسول الله : إني مسرعٌ، فمن شاء منكم فليسرع معي، ومن شاء فليمكث.
الشرح:
يعني: في الطريق قال: أنا سأسرع، من شاء فليسرع، ومن شاء فليتأخر، أَذِن لهم، من أراد يتأخر؛ يتأخر، ومن أراد أن يسرع معي؛ يسرع.
القارئ:
فخرجنا حتى أشرفنا على المدينة، فقال: هذه طابة، وهذا أحدٌ، وهو جبلٌ يحبنا ونحبه.
الشرح:
كانت المدينة اسمها “يثرب”، فغير النبي اسمها وسماها “طابة”، ومعناها: الطيبة، طابة الطيبة، والناس يسمونها “طيبة”، والأحسن “طابة”؛ لأن هذا هو الوارد في الحديث، الأحسن تسميت المدينة بطابة؛ لأن هذا هو المصطلح الوارد في الحديث، لكن العامة يقولون: “طيبة”، يسمونها “طيبة”، و”طيبة” هو معنى “طابة”.
قال: وهذا أحدٌ -يعني: جبل أحدٍ- يحبنا ونحبه، بعض العلماء تأول هذا، قال يعني: أهل جبل أحدٍ يحبوننا ونحبهم، ولكن الصحيح -كما سبق في الدرس الماضي- أن جبل أحدٍ نفسه يحبنا ونحبه، وذكرنا في الدرس السابق: أن الله قد يجعل لبعض الجمادات إدراكًا بحسبها، وذكرنا قصة الجذع الذي كان يخطب عليه النبي عليه الصلاة والسلام؛ ولما صنعت له امرأةٌ منبرًا، سمعوا لهذا الجذع بكاءً كبكاء الصبي، حتى أخذه النبي عليه الصلاة والسلام، وجعل يسكته كما يسكت الصبي [7].
وكان أيضًا الحصى يسمع تسبيحه في يد النبي عليه الصلاة والسلام، فالله تعالى قد يجعل في الجمادات إدراكاتٍ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44]، فكونه يسبح؛ لا بد أن يكون له إدراكٌ، لكن هذا الإدراك مناسبٌ له، إدراك الجماد مناسبٌ له، إدراك النبات مناسبٌ له، إدراك الحيوان مناسبٌ له، إدراك الإنسان مناسبٌ له، لكن كل إدراكٍ يكون مناسبًا لذلك الشيء، طبعًا إدراك الإنسان ليس مثل إدراك الحيوان، إدراك الحيوان ليس مثل إدراك النبات ومثل إدراك الجماد، فكل شيءٍ له إدراكٌ مناسبٌ له.
فالمحبة ترجع للمشاعر، فـهذا أحدٌ يحبنا، دليلٌ على أن الله يجعل فيه هذه المشاعر وهذا الإدراك، أحدٌ يحبنا ونحبه.
القارئ:
ثم قال: إن خير دور الأنصار دار بني النجار.
الشرح:
نعم، ذكر الله تعالى آيةً في القرآن تدل على هذا، من يذكرها لنا؟ تدل على أن الجمادات والأماكن لها أحاسيس.
الطالب: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44].
الشيخ: نعم، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44]، هذا ذكرناه، لكن غيرها: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ [الدخان:29]، الإنسان الصالح إذا كان له مكانٌ يصلي فيه دائمًا ثم مات؛ يبكي عليه، ومصعد عمله إلى السماء أيضًا يبكي عليه، وغير الصالح ما يبكي عليه أحدٌ، هذا معنى قوله: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ [الدخان:29].
فسبحان الله! يعني إذا كان الإنسان اعتاد أن يأتي مكانًا كل يومٍ يصلي فيه، إذا مات يبكي عليه، وهكذا مصعد عمله في السماء، فهذا من حكمة الله البالغة أن جعل لهذه الجمادات أحاسيس ومشاعر.
إثارة النبي للتنافس بين دور الأنصار
القارئ:
ثم قال: إنَّ خير دور الأنصار دار بني النجار، ثم دار بني عبد الأشهل، ثم دار بني عبد الحارث بن الخزرج، ثم دار بني ساعدة، وفي كل دور الأنصار خيرٌ، فلَحِقَنا سعد بن عبادة، فقال أبو أُسَيْدٍ: ألم تر أن رسول الله خيَّر دور الأنصار فجعلنا آخرًا؟! فأدرك سعدٌ رسول الله ، فقال: يا رسول الله، خيرت دور الأنصار، فجعلتنا آخرًا، فقال: أو ليس بِحَسْبِكم أن تكونوا من الخيار؟!.
الشرح:
نعم، هنا أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يثير التنافس بين الأنصار، فأتى بهذا، قال: إن خير دور الأنصار -يعني: قبائل الأنصار- دار بني النجار -وهم أخوال النبي عليه الصلاة والسلام- ثم دار بني عبد الأشهل -وهم من الأوس- ثم دار بني عبد الحارث بن الخزرج.
وهنا قال النووي رحمه الله: “إن الصواب: دار بني الحارث”، بدون: عبد، بحذف لفظة عبد، قال النووي رحمه الله: “هكذا في النسخ: ثم دار بني عبد الحارث بن الخزرج، وكذا نقله القاضي، قال: وهو خطأٌ من الرواة، وصوابه: بني الحارث”، بحذف لفظة: عبد، هذا تصويبٌ من النووي للفظة.
إذنْ: بني الحارث بن الخزرج، ثم دار بني ساعدة، وفي كل دور الأنصار خيرٌ، ففاضل النبي عليه الصلاة والسلام بينهم، فلحقنا سعد بن عبادة، وهو من بني ساعدة، يعني: من آخر من ذكرهم النبي عليه الصلاة والسلام، قال أبو أُسيدٍ: ألم تر أن رسول الله خيَّر دور الأنصار فجعلنا آخرًا؟! فأدرك سعدٌ رسول الله وقال له: خيرت دور الأنصار فجعلتنا آخرًا -يعني: بني ساعدة- قال: أو ليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار؟! يعني: جعلتكم من الخيار، أنها خيرٌ، فأنتم من الخيار، يكفيكم هذا، لكن سبقكم غيركم.
وهذا السبق كان بالسبق للإسلام، وأيضًا بجهودهم ومساعيهم إلى إعلاء كلمة الله ، وسعد بن عبادة كان سيدًا من سادات الأنصار، وكان له بعض الاجتهادات ، يعني: لما كان بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام قال: منا أميرٌ، ومنكم أميرٌ، ثم قام أبو بكرٍ، وقال: إن قريشًا هم أقرب القبائل وأكملها نسبًا، فسعد بن عبادة اعترض، هو الوحيد الذي بقي معترضًا، حتى يعني من فراسة عمر -قال أبو بكرٍ: نريد عمر يكون هو الخليفة- عمر لما رأى هذا، قال: أما أنا فأبايع أبا بكرٍ، فقوموا فبايعوه، يعني جعلهم أمام الأمر الواقع، فقام عمر وبايع أبا بكرٍ، ثم بايعه الناس، وانعقدت البيعة، سعد بن عبادة لم يكن راضيًا عن هذا، وذهب إلى الشام ، كان له بعض الاجتهادات، ويبقى صحابيًّا جليلًا رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
فهنا هو الذي أيضًا ذكر ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام، فقال: أو ليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار؟! يعني: أتى بلفظ طيَّب خاطره، لكن بقي تخيير النبي عليه الصلاة والسلام على ما كان، وهذا من حسن التصرف، أن يؤتى بلفظٍ يطيِّب خاطر هذا المعترض، وفي الوقت نفسه لا يغير كلامه، ولا يغير رأيه.
وهذا التفضيل من النبي عليه الصلاة والسلام بين الأنصار؛ يدل على مشروعية المفاضلة بين الفضلاء.
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله: “هذا الحديث يدل على جواز تفضيل بعض المعيَّنين على بعضٍ من غير الأنبياء وإن سَمِع ذلك المفضولُ”.
ويدل على جواز المنافسة في الخير وفي أمور الدين، ومن هذا مثلًا: جعل المسابقات، ويقال مثلًا، أو تقييم يقال: إن الأفضل فلانٌ، ثم فلانٌ، ثم فلانٌ في الأداء، هذا لا بأس به، هذا فعله النبي عليه الصلاة والسلام بين الأنصار؛ لأجل أن يثير بينهم روح المنافسة.
ولذلك لما قال سعد بن عبادة هذه المقولة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: أنتم من خيرهم، يعني: أو ليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار؟!؛ فهذا دليلٌ على أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يحفز أصحابه ؛ لكي يتنافسوا في الخير وفي إعلاء كلمة الله .
القارئ:
حدثناه أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عفان، ح، وحدثنا إسحاق بن إبراهيم: أخبرنا المغيرة بن سلمة المخزومي، قالا: حدثنا وُهَيبٌ: حدثنا عمرو بن يحيى، بهذا الإسناد إلى قوله: وفي كل دور الأنصار خيرٌ، ولم يذكر ما بعده من قصة سعد بن عبادة، وزاد في حديث وهيبٍ: فكتب له رسول الله ببحرهم، ولم يذكر في حديث وهيبٍ: فكتب إليه رسول الله [8].
الشرح:
نعم، كتب ببحرهم، يعني: بأهل بحرهم؛ لأنهم كانوا سكانًا بساحل البحر، وجاء في رواية: ببحرتهم، يعني: ببلدتهم، والمعنى: أنه أقطعه بعض تلك البلاد، هذا صاحب أيلة، وكأنه استشعر ظهور النبي ، فأراد أن يُقْطِعَه، يقول: أَقْطِعْني، يعني: جزءًا من الأرض من هذه البلاد؛ لأنه توقَّع أن النبي عليه الصلاة والسلام سيظهر وسينتصر.
باب توكله على الله تعالى
القارئ:
باب توكله على الله تعالى، وعصمة الله تعالى له من الناس
حدثنا عبد بن حُميدٍ: أخبرنا عبدالرزاق: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابرٍ، وحدثني أبو عمران محمد بن جعفر بن زيادٍ -واللفظ له- أخبرنا إبراهيم -يعني ابن سعدٍ- عن الزهري، عن سنان بن أبي سنانٍ الدؤلي، عن جابر بن عبدالله، قال: غزونا مع رسول الله غزوة قِبَل نجدٍ، فأدركْنا رسول الله في وادٍ كثير العِضَاه، فنزل رسول الله تحت شجرةٍ، فعلَّق سيفه بغصنٍ من أغصانها، قال: وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر، قال: فقال رسول الله : إن رجلًا أتاني وأنا نائمٌ فأخذ السيف، فاستيقظت وهو قائمٌ على رأسي، فلم أشعر إلا والسيف صَلْتًا في يده، فقال لي: من يمنعك مني؟ قال: قلت: الله، ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟ قال: قلت: الله، قال: فشام السيف، فها هو ذا جالسٌ، ثم لم يَعرِض له رسول الله [9].
الشرح:
هذه قصةٌ عجيبةٌ، ذهب الصحابة مع النبي عليه الصلاة والسلام في غزوةٍ قِبَل نجدٍ، ونزلوا بوادٍ كثير العِضَاه، يعني: كثير الشجر ذي الشوك، فنزل رسول الله تحت شجرةٍ فعلَّق سيفه بغصنٍ من أغصانها، وكان في ذلك الوقت لا يحرسه أحدٌ؛ لأنه قد نزل قول الله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67]، لما نزلت الآية، فقال لمن يحرسه: اذهبوا؛ فإن الله قد عصمني من الناس [10]، فمن ذلك الحين لم يحرسه أحدٌ، وإلا قبل نزول الآية كان هناك من يحرس النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن هناك من كان يتربص به، فكان هناك حرسٌ للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لكن لما نزلت الآية توكل النبي عليه الصلاة والسلام على ربه، واعتمد عليه، وقال لحراسه: اذهبوا؛ فالله تعالى قد عصمني من الناس، فأصبح لا يتخذ حرسًا بعد نزول هذه الآية: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67].
فكان هذا في ذلك الحين بعد نزول الآية، فاستظل تحت شجرةٍ، وعلق سيفه بغصنٍ من أغصانها، ولم يكن أحدٌ يحرسه، وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر، ثم أتاهم النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: إن رجلًا أتاني، وهذا الرجل ذكر الشراح أن اسمه: غورث بن الحارث، وأسلم فيما بعد، قال: أتاني وأنا نائمٌ فأخذ السيف، فاستيقظت وهو قائمٌ على رأسي، فلم أشعر إلا والسيف صلتًا في يده، صلتًا يعني: مسلولًا، مجردًا من غمده، يعني جرده من غمده ورفعه هكذا، وقال له: من يمنعك مني؟ فقال النبي : الله، قال في الثانية: من يمنعك مني؟ قال: الله، فشام السيف، ومعنى شام يعني: أغمده، جعله في غمده.
فشام السيف، فها هو ذا جالسٌ، ثم لم يَعرِض له، يعني: عفا عنه النبي عليه الصلاة والسلام، وجاء في رواية ابن إسحاق: أن السيف وقع من يد هذا الرجل، فأخذه النبي ، فرفع النبي عليه الصلاة والسلام السيف عليه، وقال له: من يمنعك مني؟ قال: لا أحد، قال: قم فاذهب لشأنك، فلما ولَّى قال: “أنت خيرٌ مني”، يقول هذا الرجل للنبي عليه الصلاة والسلام: “أنت خيرٌ مني” يعني: عفوت عني، وجاء في بعض الروايات: أنه رجع لقومه، واهتدى به خلقٌ كثيرٌ؛ لأنه ذكر لهم هذه القصة العجيبة، ثم أسلم هذا الرجل فيما بعد.
فوائد من قصة إن رجلًا أتاني وأنا نائمٌ فأخذ السيف..
وهذه القصة فيها فوائد عظيمةٌ:
- أولًا: بيان توكل النبي ، وكيف أنه لما نزلت هذه الآية توكل على الله، وأمر الحرس أن يذهبوا عنه؛ فهذا يدل على عظيم توكله عليه الصلاة والسلام على ربه، وعلى قوة يقينه وثقته بالله .
- وأيضًا من فوائد هذه القصة: حسن خلق النبي عليه الصلاة والسلام؛ فإنه قد عفا عنه، مع أن هذا الرجل هدده بالسلاح ورفع عليه السيف، ومع ذلك عفا عنه مباشرةً، في نفس اللحظة، قال: فها هو ذا جالسٌ، جالسٌ عندهم، ولم يتعرض له أحدٌ، وهذا موقفٌ عظيمٌ، لو حصل لغير النبي عليه الصلاة والسلام؛ على الأقل سيوبخه، أو سيفعل به شيئًا، لكن النبي عليه الصلاة والسلام تركه وأعرض عنه ولم يقل له شيئًا.
- وأيضًا من فوائد هذه القصة: شجاعة النبي عليه الصلاة والسلام، وقوة يقينه؛ لأن هذا الموقف موقفٌ عظيمٌ، أن يؤتى لإنسانٍ نائمٍ، ويجد رجلًا قائمًا عليه بالسيف، يقول: من يمنعك مني؟ ولم يتزعزع عليه الصلاة والسلام، ولم يخف، فهذا دليلٌ على عظيم شجاعته، وعلى قوة يقينه وصبره أيضًا على الأذى، وحلمه على الجهال؛ لأن هذا الرجل رجلٌ جاهلٌ، يأتي لرسول الله عليه الصلاة والسلام، ويرفع عليه السيف، ويقول: من يمنعك مني؟! هذا رجلٌ جاهلٌ؛ ولذلك عفا عنه النبي .
وكانت العاقبة خيرًا، يعني هذا الرجل لما رجع لقومه؛ اهتدى بسبب ذلك خلقٌ كثيرٌ، وأسلم هذا الرجل، ولو أنه عليه الصلاة والسلام قتله لكان محقًّا في ذلك، لكن فعل ما هو خيرٌ من ذلك، عفا عنه؛ فتأثر هذا الرجل، وذكر هذا لقومه، وأسلم بسبب ذلك خلقٌ كثيرٌ، وأسلم هذا الرجل.
فانظر إلى عاقبة العفو والصفح! لو قتله النبي عليه الصلاة والسلام، ما الفائدة؟ لكنه عفا عنه؛ فأثر هذا في نفسه، أسلم هذا الرجل، اهتدى بهذا الموقف خلقٌ كثيرٌ، فكان هذا من حكمته عليه الصلاة والسلام.
وأيضًا: دليلٌ على حسن خلقه، والله تعالى يقول: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
القارئ:
وحدثني عبدالله بن عبدالرحمن الدارِمي وأبو بكر بن إسحاق، قالا: أخبرنا أبو اليمان: أخبرنا شعيب، عن الزهري: حدثني سنان بن أبي سنانٍ الدؤلي وأبو سلمة بن عبدالرحمن، أن جابر بن عبدالله الأنصاري -وكان من أصحاب النبي – أخبرهما: أنه غزا مع النبي غزوةً قِبَل نجدٍ، فلما قفل النبي ؛ قفل معه، فأدركتهم القائلة يومًا، ثم ذكر نحو حديث إبراهيم بن سعدٍ ومعمرٍ [11].
الشرح:
نعم، هذه روايةٌ أخرى للقصة، نعم.
القارئ:
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عفان: حدثنا أبان بن يزيد: حدثنا يحيى بن أبي كثيرٍ، عن أبي سلمة، عن جابرٍ، قال: أقبلنا مع رسول الله حتى إذا كنا بذات الرِّقاع، بمعنى حديث الزهري، ولم يذكر: ثم لم يعرض له رسول الله .
الشرح:
وهذا يدل على أن هذه الواقعة كانت في غزوة ذات الرقاع.
باب بيان مَثَل ما بُعث به النبي من الهدى والعلم
القارئ:
باب بيان مَثَل ما بُعث به النبي من الهدى والعلم
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو عامرٍ الأشعري ومحمد بن العلاء -واللفظ لأبي عامرٍ- قالوا: حدثنا أبو أسامة، عن بريدٍ، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي قال: إن مَثَل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل غيثٍ أصاب أرضًا، فكانت منها طائفةٌ طيبةٌ، قَبِلَت الماء؛ فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس؛ فشربوا منها وسَقَوا ورَعَوا، وأصاب طائفةً منها أخرى إنما هي قيعانٌ لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فَقُه في دين الله ونفعه بما بعثني الله به؛ فعَلِم وعَلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به [12].
الشرح:
نعم، هذا مثلٌ عظيمٌ ضربه النبي في تعلم العلم وتعليمه، أو في الإعراض عنه، فقال: إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل غيثٍ.
الغيث: هو المطر.
أصاب أرضًا: وهذه الأرض التي أصابها على ثلاثة أقسامٍ:
- القسم الأول: فكان منها طائفةٌ طيبةٌ: أرضٌ خصبةٌ طيبةٌ، قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، والعشب والكلأ أسماءٌ للنبات، والعشب والكلأ مختصٌّ بالرَّطْب، ويقابله الحشيش وهو اليابس، وقيل: إن الكلأ يقع على اليابس والرطب، إذنْ هذا هو القسم الأول: أرض شربت هذا الماء، وأنبتت العشب والكلأ الكثير.
- القسم الثاني: أرضٌ أجادب، الأجادب: هي الأرض التي لا تنبت العشب ولا الكلأ، أمسكت الماء، لكنها تمسك الماء، فنفع الله تعالى بها الناس، فشربوا منها وسقوا، لكنها لم تنبت نباتًا، إنما مجرد أنها أمسكت الماء فقط.
إذنْ الأولى: قبلت الماء وأنبتت العشب والكلأ الكثير، الثانية: لا تنبت، لكنها أمسكت الماء؛ فانتفع الناس بذلك الماء، وشربوا منه وسقوا ورعوا.
- القسم الثالث من هذه الأرض: أصاب طائفةً أخرى إنما هي قيعانٌ، يعني: أرضٌ مستويةٌ، لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً: تشرب الماء، لا تمسك الماء ولا تنبت.
فأصبحت إذنْ هذه الأرض على هذه الأقسام الثلاثة:
- قسمٌ: أرضٌ خصبةٌ، شربت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير.
- الثانية: أرضٌ لا تُنبت، لكنها أمسكت الماء وحبسته؛ فشرب الناس منه وسقوا ورعوا، يعني: أرضٌ جدبةٌ، لكنها حبست الماء، وهي لا تنبت.
- القسم الثالث: أرضٌ قيعانٌ -يعني مستويةٌ- لا تمسك الماء ولا تنبت.
فأفضل هذه الأقسام: أي قسمٍ؟ القسم الأول: الأرض الخصبة التي قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، يليها الأرض الأجادب التي تمسك الماء، وإن كانت لا تنبت، تمسك الماء لكنها لا تنبت، وأما الأرض الثالثة: فهي أسوأ الأقسام؛ لا تمسك الماء، ولا تنبت العشب ولا الكلأ.
هذا مثلٌ ضربه النبي عليه الصلاة والسلام للناس في قبولهم العلم:
- فالنوع الأول من الأرض: تنتفع به الأرض بعد أن كانت ميتةً، ينتفع بها الناس والدواب والزرع، هذا مثله كمثل من يتعلم ويعلِّم الناس، يتعلم العلم ويحفظه ويعلم الناس؛ فينتفع في نفسه وينفع غيره، هذا مثله مثل القسم الأول من هذه الأرض الخصبة.
- القسم الثاني: الأرض التي تمسك الماء لكنها لا تنبت، هذا مثلٌ للناس الذين لهم قلوبٌ حافظةٌ، لكن ليس لهم أفهامٌ ثاقبةٌ، وليس لهم رسوخٌ في العقل وفي العلم، يستنبطون بها المعاني والأحكام، لكنهم يحفظون وينقلون ذلك للناس، ينقلون ذلك للناس، يحفظون مثلًا القرآن، يقرءونه على الناس، يحفظون أحاديث، يحفظون فتاوى، يحفظون علومًا، وينقلونها للناس، فهؤلاء فيهم خيرٌ، لكنهم أدنى من المرتبة الأولى، هؤلاء مثلهم مثل الأرض التي لا تُنبت لكنها تمسك الماء، فالناس يشربون من الماء، وينتفعون ويسقون ويرعون دوابهم، هؤلاء أيضًا ينقلون العلم للناس، لكنهم ليسوا من القسم الأول الذين يتعلمون ويعلِّمون، وليسوا من قسم العلماء.
- القسم الثالث: الأرض السَّبِخَة، التي لا تُنبت ولا تمسك الماء، هذا كمثل الذين ليس لهم قلوبٌ حافظةٌ، ولا أفهامٌ واعيةٌ، وأعرضوا عن العلم، لا ينتفعون في أنفسهم، ولا ينفعون غيرهم، وإنما همهم الانشغال بالدنيا؛ ولذلك إذا رأوا حِلَق العلم ودروس العلم؛ يعرضون عنها، لا يبالون بها، هؤلاء مثلهم مثل تلك الأرض، يعني السبخة، التي لا تنبت ولا تمسك الماء.
فهذا مثلٌ عظيمٌ يبين أقسام الناس بالنسبة للعلم؛ فأكمل الأقسام: من يَعلَم ويُعلِّم، وأسوأ الأقسام: من يُعرِض عن العلم.
من فوائد هذا حديث إن مَثَل ما بعثني الله به من الهدى والعلم..
- فضل العلم والتعليم، وشدة الحث عليهما.
- ومن فوائده أيضًا: ذم الإعراض عن العلم، وعدم الاشتغال بتحصيله.
- وأيضًا: انقسام الناس بالنسبة للعلم إلى ثلاثة أقسامٍ: نافعٍ منتفعٍ، ومنتفعٍ ليس بنافعٍ، والمعرض المُدْبِر، وأن أكمل الأقسام هو من يتعلم العلم ويعلمه الناس، هذا هو أكمل الأقسام، وهو الذي..، كما جاء في بعض الروايات: من تعلم العلم وعلمه الناس، فإنه يدعى عظيمًا في ملكوت السماوات [13]؛ ولذلك قال: فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله تعالى به؛ فعلم وعلم.
- وأيضًا من فوائد هذا الحديث، ذكر هذا بعض الشراح، قالوا: إن الاستعدادات ليست مكتسبةً، بل هي مواهب ربانيةٌ، ما معنى هذا الكلام؟ يعني الاستعداد لقبول العلم، يقولون: إنه ليس مكتسبًا، بل هي مواهب، يعني: بعض الناس مهما تعلم، ومهما حصَّل من العلم؛ لا يمكن أن يكون عالمًا؛ لأنه ليس عنده الاستعداد العقلي لذلك، وبعض الناس إذا تعلم يَنبُغ ويصبح عالمًا؛ لأن عنده الاستعداد العقلي، وهذا نجده في الواقع، أن الناس يتفاوتون في عقلياتهم وفي استعداداتهم تفاوتًا عظيمًا.
ولكن هذا ليس بمبررٍ أن الإنسان يُعرِض عن العلم، حتى وإن لم يكن عنده الاستعداد العقلي التام، إلا أنه ينبغي أن يحرص على تعلم العلم وعلى تعليمه الناس، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: بلِّغوا عني ولو آيةً [14].
- وأيضًا ذكروا من فوائد هذا الحديث: أن الفقيه: هو الذي عَلِم وعَمِل ثم عَلَّم، وأن فاقد شيءٍ من ذلك فاقدٌ لهذا الاسم، والفقيه حقًّا هو الذي علم وعمل وعلم، فهذا أكمل الأحوال، التعلم والعمل والتعليم.
فهذا مثلٌ عظيمٌ ضربه النبي عليه الصلاة والسلام، يبين موقف الناس من العلم؛ ولهذا ينبغي -أيها الإخوة- أن يحرص المسلم على طلب العلم، وعلى التفقه في دين الله ، أن يحرص على ذلك.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام في حلقة علمٍ، فدخل ثلاثةٌ؛ فأما أحدهم فالتحق بالحلقة، وأما الثاني فجلس خلف الحلقة، وأما الثالث فأعرض..، الحديث في “صحيح البخاري”، قال عليه الصلاة والسلام: أما أحدهم فأقبل؛ فأقبل الله عليه، وأما الثاني فاستحيا؛ فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض؛ فأعرض الله عنه [15]، وهذا فيه ذمٌّ للإعراض عن العلم.
فعلى المسلم أن يحرص على حضور حِلَق العلم ودروس العلم، وأن يستفيد منها، ولو لم يحصل منها إلا الأجر والثواب؛ فهذا يكفي.
وأيضًا الملائكة السيارة التي أخبر عنها النبي عليه الصلاة والسلام: إن لله ملائكةً سيارةً يلتمسون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلس ذكر، قالوا: هلموا إلى حاجتكم، وقد ذكر أهل العلم، وممن ذكر هذا الحافظ ابن حجرٍ: أن دروس العلم تدخل في مجالس الذكر، وفي آخر الحديث يقول الله تعالى: أشهدكم أني قد غفرت لهم، فتقول الملائكة: إن فيهم فلانًا ليس منهم، وإنما أتى لحاجةٍ فجلس، فيقول الله: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم [16]، وهذا أيضًا دليلٌ على أن حضور دروس العلم وحلق العلم من أسباب التعرض لمغفرة الله ، فلو لم يكن إلا هذا، أن الإنسان يتعرض لمغفرة الله سبحانه، وأيضًا الأجر والثواب الذي يحصل له، فضلًا عما يحصله من العلم.
ولهذا ينبغي أن يكون لطالب العلم دروسٌ وحِلَقٌ يحافظ عليها، وأن يجعل لها جزءًا أساسيًّا من وقته، لا يجعلها على الهامش إن حصل له فراغٌ حضر، وإن لم يحصل له فراغٌ لم يحضر، لا، وإنما يجعل لها جزءًا ووقتًا أساسيًّا من وقته، فهذا فيه خيرٌ عظيمٌ، وفيه فائدةٌ كبيرةٌ.
فانظر إلى هذا المثل العظيم الذي ذكره النبي عليه الصلاة والسلام في المقبل على العلم وفي المعرض عنه!
ولذلك مدح النبي عليه الصلاة والسلام القسمين الأولين، وذم القسم الثالث، قال: فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه بما بعثني الله تعالى به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به.
باب شفقته على أمته
القارئ:
باب شفقته على أمته، ومبالغته في تحذيرهم مما يضرهم
حدثنا عبدالله بن بَرَّادٍ الأشعري وأبو كُريبٍ -واللفظ لأبي كريبٍ- قالا: حدثنا أبو أسامة، عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي قال: إن مَثَلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجلٍ أتى قومه، فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعينيَّ، وإني أنا النذير العريان؛ فالنَّجَاءَ، فأطاعه طائفةٌ من قومه فأدلجوا؛ فانطلقوا على مُهْلتهم، وكذبت طائفةٌ منهم فأصبحوا مكانهم؛ فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مَثَل من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق [17].
الشرح:
نعم، أيضًا هذا مثلٌ ضربه النبي عليه الصلاة والسلام، وهذه من الأساليب التي كان يتبعها النبي في التعليم؛ كان تارةً يضرب مثلًا، وتارةً يقص، وتارةً يرسم على الأرض؛ كما في حديث ابن مسعودٍ : خط خطًّا طويلًا، وخط خططًا [18]، وتارةً يطرح أسئلة: أتدرون ما الغيبة؟ [19].
فكان عليه الصلاة والسلام يسلك أرقى طرق التعليم، من هذه الطرق: ضَرْب المثل، فهنا قال: إن مَثَلي ومثل ما بعثني الله تعالى به كمثل رجلٍ أتى قومه، فقال: يا قوم، إني رأيت الجيش بعينيَّ، وإني أنا النذير العريان، كان عند العرب إذا أراد شخصٌ أن يُنذِر قومه؛ يأتي إليهم ويخلع ملابسه فيقول: أنذرتكم، أنذرتكم، أتاكم الجيش، أتاكم كذا، حتى يكون هذا فيه لَفْتٌ للنظر؛ لأنهم يستقبحون منظره أنه يتعرى ويخلع ملابسه.
لكن هذا فيه إنذارٌ لهم، فيقول: أنذرتكم أنه سيأتيكم جيشٌ، سيأتيكم كذا، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: مثلي كمثل هذا الرجل الذي قال: أنا النذير العريان.
فالنَّجَاءَ يعني: انجوا من هذا الجيش، سيقدم عليكم جيشٌ، فأنا أنذرتكم.
فأطاعه طائفةٌ من قومه فأدلجوا: الإدلاج معناه: السير أول الليل، يعني ساروا وذهبوا، حتى لا يدركهم هذا الجيش فيداهمهم.
فانطلقوا على مُهْلتهم، وكذبت طائفةٌ منهم: طائفةٌ منهم كذبوا، قالوا: لا، أنت كذابٌ، أنت غير صادقٍ، فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش، فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مَثَل من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق.
فالنبي عليه الصلاة والسلام أتى وأنذر، وحذر وأعذر، فأطاعه أناسٌ وكذبه أناس؛ فمن أطاعه نجا، ومن كذبه هلك، فالذين كذبوه يتأولون، يقولون: لو شاء ربنا لأنزل ملائكةً، كيف أنت بشرٌ مثلنا وتقول: إني نبيٌّ؟!
فأتوا بهذا الكلام وهذا التأويل، ولم ينظروا لواقع النبي عليه الصلاة والسلام، وأنه كان صادقًا أمينًا، ما كان يكذب على الناس، فكيف يكذب على الله تعالى؟!
فمثل الناس مع النبي عليه الصلاة والسلام كمثل هذا النذير العريان، فمن صدَّق هذا النذير العريان؛ نجا من اجتياح ذلك الجيش، ومن كذبه؛ اجتاحه ذلك الجيش وأهلكه؛ هكذا أيضًا من أطاع النبي عليه الصلاة والسلام واتبعه، فإنه ينجو من عذاب الله ، ومن كذبه وعصاه فإنه يهلك.
فهذا مثلٌ بديعٌ ضربه النبي ليبين أقسام الناس في اتباعه أو عدم اتباعه، ثم ضرب أمثلةً أخرى بالفراش وبغيرها، ولعلنا -إن شاء الله تعالى- الأمثلة الأخرى نفتتح بها الدرس القادم إن شاء الله تعالى، ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
نجيب عما تيسر من الأسئلة:
الأسئلة
السؤال: هذا سائلٌ يقول: أيهما أفضل الصلاة في المسجد، القريب؛ لتحقيق حكم الجماعة، أم البعيد؛ لتكثير الخُطا؟
الجواب: الصلاة في المسجد القريب أفضل؛ لأن الصلاة في المسجد القريب يتحقق بها مقصود الشارع من صلاة الجماعة؛ وذلك لأن المقصود من صلاة الجماعة: أن يجتمع أهل الحي في المسجد، ويسلم بعضهم على بعضٍ، وتحصل بينهم المحبة والمودة والألفة، والتكافل الاجتماعي. هذا هو الغرض من صلاة الجماعة، وإلا لو كانت المسألة مسألة خشوعٍ، ربما أن الإنسان يصلي في بيته صلاةً أكثر خشوعًا من صلاته في المسجد، ولكن لأجل تحقيق هذه المعاني شرعت صلاة الجماعة.
فحتى تتحقق هذه المعاني أفضل مسجدٍ يصلي فيه الإنسان بعد المساجد الثلاثة -المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى- هو أقرب مسجد إلى بيته؛ لأنه بهذا يحقق مقصود الشارع من صلاة الجماعة.
أما أن الإنسان كل مرةٍ يصلي في مسجدٍ، كما يفعل بعض الناس، فهذا وإن كان لا يأثم بهذا؛ لأنه أدى الصلاة مع الجماعة في المسجد، لكن الأفضل منه: أن يصلي في المسجد القريب إلى بيته، هذا هو الأفضل والأكمل.
السؤال: هل يحتاج قصر الصلاة إلى نيةٍ؟
الجواب: هذه المسألة محل خلافٍ بين الفقهاء:
فمنهم من قال: إن القصر يحتاج إلى نيةٍ، وأنه لو لم ينو القصر لم يصح، وهذا هو المذهب عند الحنابلة.
والقول الثاني: أن القصر لا يفتقر إلى نيةٍ، فلو أنه كبر ثم نوى القصر صح، وهذا القول روايةٌ عن الإمام أحمد، وهو القول الراجح، وقد اختاره أبو العباس ابن تيمية وجمع من المحققين من أهل العلم؛ وذلك لأنه ليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل على اشتراط النية لصحة القصر، فما دام أن هذا الإنسان كبر، ثم بعد ذلك بدا له أن يقصر، ونوى القصر، فلا بأس بهذا، وليس هناك ما يمنع من صحة القصر في هذه الحال.
السؤال: ما صحة حديث: ماء زمزم لِمَا شُرب به [20]؟
الجواب: هذا الحديث في سنده مقالٌ، لكن له طرقٌ وشواهد متعددةٌ، وقد صنف الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله رسالةً في هذا الحديث، جمع فيها طرق وشواهد هذا الحديث، وخلص إلى أنه ثابتٌ بمجموع طرقه وشواهده.
ومعنى هذا الحديث: أن ماء زمزم إذا شربه الإنسان بيقينٍ ينوي به أمرًا معينًا؛ فإنه يتحقق له ذلك الأمر بإذن الله ، لكن بشرط أن يشربه بيقينٍ، وليس مجرِّبًا.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر قصصًا عن بعض من شربوه لأمورٍ وتحققت لهم؛ فشربه الإمام الشافعي لإصابة الرمي؛ فكان لا يكاد يخطئ الرمي، وشربه أبو عبدالله الحاكم لحسن التصنيف؛ فكان من أحسن أهل زمانه تصنيفًا، وشربه أناسٌ كثيرٌ للشفاء من أمراضٍ مستعصيةٍ؛ فشفاهم الله .
قال الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله: وأنا شربته قبل عشرين عامًا لأجل أن أكون في مرتبة الذهبي في الحفظ، فحججت الآن -يعني: بعد عشرين عامًا- وأرى أني في مرتبته، وأسأل الله المزيد.
لكن تشرب ماء زمزم بيقينٍ، أي أمرٍ من الأمور تريد أن يحصل لك؛ تشرب ماء زمزم لأجل تحقيق ذلك الأمر؛ يتحقق بإذن الله ، هذا معنى حديث: ماء زمزم لما شرب له.
وهذا سببٌ؛ قد يتحقق، وقد لا يتحقق؛ كسائر الأسباب، كما أن الدعاء الإنسان يدعو؛ قد يستجاب له، وقد لا يستجاب له.
ونظير ذلك: الدعاء عند الملتزم، الملتزم: هو ما بين الحجر الأسود وباب الكعبة، هذا المكان يقال: إن الدعاء فيه مستجابٌ، والحديث المروي في أن النبي عليه الصلاة والسلام وضع يديه وصدره على الملتزم ضعيفٌ، لكن رُويت فيه آثارٌ عن الصحابة تدل على أنه لا بأس أن يذهب الإنسان للملتزم، ويضع صدره ويديه على الكعبة، ويدعو الله ، والدعاء هنا حريٌّ بالإجابة.
وقد رُوي عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنه دعا الله تعالى فيه بدعواتٍ، وتبين إجابتها، وروي عن عددٍ كثيرٍ من الصالحين أنهم دعوا الله تعالى في هذا المكان بدعوات، وتبينوا إجابتها، وذكر عن الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله أنه قال: دعوت الله تعالى فيه بدعوةٍ فتبينت إجابتها.
ونقل عن الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله أنه دعا الله تعالى بأن يصلح الله تعالى أحوال الناس، وأن يردهم إلى التوحيد، وإلى العقيدة الصحيحة، ولعل الله تعالى استجاب له.
وروي عن عددٍ كثيرٍ من الصالحين أنهم دعوا الله تعالى في هذا المكان بدعواتٍ، فتبينوا إجابتها، فهذا أيضًا من مواضع إجابة الدعاء.
السؤال: حديث ثوبان : أن قومًا يأتون يوم القيامة بحسناتٍ مثل جبال تِهَامَة ينسفها الله تعالى بسبب أنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها، وكيف نحن، كلنا نخطئ في ذنوب الخلوات؟
الجواب: أولًا: هذا الحديث -حديث ثوبان – رواه ابن ماجه، أن النبي قال: إني أعلم أناسًا يأتون بحسناتٍ أمثال جبال تهامة بيضًا، فيجعلها الله تعالى هباءً منثورًا، قالوا: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: أمَا إنهم من بني جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم قومٌ إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها [21]، ولكن هذا الحديث حديثٌ ضعيفٌ، لا يصح عن النبي ، وأيضًا متنه فيه نكارةٌ، هؤلاء أناسٌ يأتون بحسناتٍ كأمثال الجبال، وبمجرد أنهم وقعت منهم زلةٌ أو معصيةٌ في خلوةٍ، يجعلها الله هباءً منثورًا! هذا فيه نكارةٌ، لا يتفق مع الأدلة الأخرى، والله تعالى يقول: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7-8]، الأدلة الأخرى تدل على أن الإنسان يُجزَى على كل ما عمل، وأن الذي يجعل الله تعالى أعماله هباءً منثورًا هم الكفار، وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23].
وأما المسلم فلا يجعل الله أعماله هباءً منثورًا أبدًا، الأدلة تدل على أنه يُجزَى عليها الجزاء الأوفى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى [النجم:39-41]، حتى مثقال ذرةٍ، وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، فهذا أيضًا الحديث في متنه نكارةٌ، فهو منكرٌ سندًا ومتنًا.
السؤال: كيف نجمع بين توكل النبي في أنه لم يحرسه أحدٌ، وبين فعل الأسباب؟
الجواب: النبي كان اتخذ حرسًا، وكان الحرس يحرسونه، إلى أن نزل قول الله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67]، فترك الحرس؛ لأن الله تعالى تكفل بعصمته وحمايته، وهذا ليس فيه منافاةٌ مع التوكل، بل فيه دليل على فعل الأسباب؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قبل نزول الآية فعل الأسباب، فاتخذ الحرس، لكن لما نزلت الآية تكفل الله تعالى بحفظه وعصمته: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ؛ إذنْ لا حاجة للحرس، فقبل نزول الآية هنا النبي عليه الصلاة والسلام فعل الأسباب، وهذا يدل على أن فعل الأسباب جزءٌ من التوكل، أما بعد نزول الآية، هذه حالةٌ خاصةٌ بالنبي عليه الصلاة والسلام، أن الله تعالى يعصمه ويحفظه من الناس، فلا أحد يتعرض له بشيءٍ بأذية، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.
السؤال: ما حكم قبول التبرعات من أموالٍ ربويةٍ، وإذا كان في بناء المساجد أو المدارس؟
الجواب: من كان عنده أموالٌ ربويةٌ؛ كأن تكون لديه فائدةٌ ربويةٌ؛ عليه أولًا: التوبة إلى الله من الربا، لا بد من التوبة؛ لأن الربا من كبائر الذنوب، والله تعالى يقول: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا [البقرة:276]، تأمل قول الله تعالى: يَمْحَقُ، من المحق، والمحق: هو ذهاب الشيء شيئًا فشيئًا، يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا، قد يكون هذا المحق لأموال المرابي، قد يكون هذا المحق لأمورٍ أخرى أيضًا، قد يكون المحق لصحته، قد يكون المحق لاستقراره، قد يكون المحق لسعادته، قد يكون المحق لأشياء أخرى، يعني: أنه تنزل عليه مصائب، تأتيه مصائب بسبب هذا الربا؛ ولهذا قال سبحانه: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278-279]، ما معنى: بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ؟ يعني: تأتيك مصيبةٌ من أي جهةٍ، إذنْ حرب؛ أنت محاربٌ لله؛ توقع مصيبةً تأتيك في أي شيءٍ، هذا كله بسبب الربا، فالربا شؤمه عظيمٌ، فعلى من وقع في الربا أن يتوب إلى الله .
إذا كان عنده فوائد ربويةٌ، فيتصدق بها بنية التخلص، لا بنية التقرب، وإنما قلنا: بنية التخلص؛ لأن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا، فلا يتقرب الإنسان إلى الله تعالى بالمال الحرام، لكن يتصدق بنية التخلص، لكن يتصدق بها في ماذا؟ يتصدق بها في وجوه البر، في الصدقة على الفقراء والمساكين، لا بأس أن يتصدق بها أيضًا في مثلًا المدارس، وبخاصةٍ مثلًا مدارس تحفيظ القرآن الكريم، في أي وجهٍ من وجوه البر.
لكن بناء المساجد خاصةً، قال أهل العلم: ينبغي للإنسان أن ينتقي أطيب مكاسبه؛ لأنه بيت الله تعالى؛ ولذلك قريشٌ لما أرادوا إعادة بناء الكعبة، اشترطوا ألا يضعوا في النفقة إلا ما كان حلالًا محضًا طيبًا؛ ولذلك قصَّرَت بهم النفقة؛ لأن معظم مكاسبهم كان يشوبها ما يشوبها من الحرام.
فبناء المساجد خاصةً ينبغي ألا تبنى المساجد بمثل هذه الأموال، أما ما عدا ذلك من وجوه البر فلا بأس بذلك.
السؤال: يوجد في الحرم المكي -التوسعة الجديدة- برادات زمزم مكتوبٌ عليها: “للشرب فقط”، ويوجد من يتوضأ بها، هل فعلهم هذا صحيحٌ؟
الجواب: فعلهم هذا يعتبر مخالفةً، إذا كتب للشرب فقط، فينبغي أن يقتصر على الشرب، ومن أراد الوضوء يذهب للأماكن المعدة للوضوء، ينبغي أن يلتزم الإنسان بالتعليمات في هذا؛ لأن كون الإنسان يتوضأ في تلك الأماكن المعدة للشرب، فهذا يتسبب في أذية غيره؛ لأنه سينتشر الماء، ويتسبب في أذية غيره، وربما أيضًا أن بعض الناس يَزْلَق في هذا المكان؛ فلذلك ينبغي أن يتقيد بهذه التعليمات؛ لأنها إنما وضعت لأجل المصلحة العامة.
إذا أراد أن يتوضأ يذهب لدورات المياه، وللأماكن المعدة للوضوء.
السؤال: صلاة الضحى هل يداوَم عليها، أو تترك أحيانًا؟
الجواب: صلاة الضحى سنةٌ مؤكدةٌ، وقد قال عليه الصلاة والسلام: يصبح على كل سُلامَى من أحدكم صدقةٌ يعني: إذا أصبح الإنسان؛ مطلوبٌ منه أن يتصدق بقدر مفاصله؛ ولهذا قال: فكل تسبيحةٍ صدقةٌ، وكل تكبيرةٍ صدقةٌ، وكل تهليلةٍ صدقةٌ، وأمرٌ بمعروفٍ صدقةٌ، ونهيٌ عن منكرٍ صدقةٌ، والإنسان له ثلاثمئةٍ وستون مَفصِلًا، معنى ذلك: أنه مطلوبٌ منه كل يومٍ يصبح فيه ثلاثمئةٍ وستون صدقةً، لكن ليس بلازمٍ أن تكون صدقةً بالمال، التسبيحة صدقةٌ، التهليلة صدقةٌ، التكبيرة صدقةٌ، لكن قال: يُجزِئ من ذلك كله ركعتان يركعهما من الضحى [22]، وهذا يدل على فضل صلاة الضحى، وأنها تجزئ عن ثلاثمئةٍ وستين صدقةً.
وهذا يدل أيضًا على استحباب المداومة على صلاة الضحى؛ لأنه قال: يصبح، يعني: كل يومٍ، كل يومٍ مطلوبٌ من الإنسان ثلاثمئةٍ وستون صدقةً، لكن يجزئ عنها كلها ركعتا الضحى، فهذا يدل على استحباب المداومة على صلاة الضحى، وهذا هو القول الراجح، وهو اختيار شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ والشيخ محمد بن عثيمين رحمهما الله تعالى، أنه تستحب المداومة على صلاة الضحى.
وأما ما ورد من أن النبي عليه الصلاة والسلام كان لا يصلي الضحى أحيانًا، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان هو النبي، والقائد، والمرشد، يعني هو كل شيءٍ بالنسبة للصحابة ، فأحيانًا تتعارض عنده المصالح، أحيانًا يترك الأمر الفاضل لما هو أفضل منه.
ولذلك أخبر بأن أفضل الصيام صيام داود؛ كان يصوم يومًا، ويفطر يومًا [23]، لكن هل كان النبي عليه الصلاة والسلام يصوم يومًا ويفطر يومًا؟ الجواب: لا، كان يصوم حتى يقول القائل: لا يفطر، ويفطر حتى يقول القائل: لا يصوم [24].
فكان عليه الصلاة والسلام يحث على الشيء ولا يفعله؛ لانشغاله بما هو أعظم مصلحةً وأرجح، فالعبرة بقوله عليه الصلاة والسلام، فهذا يدل على أن صلاة الضحى مستحبةٌ على الدوام، هذا هو القول الراجح في هذه المسألة.
ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحاشية السفلية
^1 | أي: صاحب “المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم”. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 5705، ومسلم: 220. |
^3 | ذكره الواقدي في المغازي: 3/ 1006. |
^4 | رواه الحاكم: 6303. |
^5 | رواه أبو داود: 1672، والنسائي: 2567. |
^6 | رواه البخاري: 4418، ومسلم: 2769. |
^7 | رواه البخاري: 3584. |
^8 | رواه مسلم: 1392. |
^9, ^11 | رواه مسلم: 843. |
^10 | رواه الترمذي: 3046. |
^12 | رواه مسلم: 2282. |
^13 | رواه أحمد في الزهد: 330، من قول عيسى . |
^14 | رواه البخاري: 3461. |
^15 | رواه البخاري: 66، ومسلم: 2176. |
^16 | رواه البخاري: 6408، ومسلم: 2689، بنحوه. |
^17 | رواه مسلم: 2283. |
^18 | رواه الترمذي: 2454. |
^19 | رواه مسلم: 2589. |
^20 | رواه ابن ماجه: 3062، وأحمد: 14849. |
^21 | رواه ابن ماجه: 4245. |
^22 | رواه مسلم: 720. |
^23 | رواه البخاري: 1131، ومسلم: 1159. |
^24 | رواه البخاري: 1969، ومسلم: 1156. |