عناصر المادة
القارئ: الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وآله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمسلمين والمسلمات.
باب الشُّفْعَة
قال المصنف رحمه الله تعالى:
وهي استحقاق انتزاع حصة شريكه ممن انتقلتْ إليه بالثمن الذي استقرَّ عليه العقد.
وشروطها خمسةٌ:
كون الحصة مُباعةً.
الثاني: كونها مُشاعةً من عقارٍ.
الثالث: الطلب بها ساعة العلم بالبيع.
الرابع: أَخْذُ المَبِيع كله.
الخامس: سَبْقُ مِلْكِ شفيعٍ لرقبة العقار.
ويلزم الشَّفيع أن يدفع الثمن للمشتري.
وعلى المشتري إنظاره ثلاثة أيامٍ إن عجز عن دفعها في الحال.
وإن كان الثمن مُؤجَّلًا أُخِذَ مَلِيءٌ به، وغيره بكفيلٍ مَلِيءٍ.
تعريف الشُّفْعَة
الشيخ: الشُّفْعَة مأخوذةٌ من الشَّفع، وهو الزوج؛ لأن الشَّفيع يضمُّ المَبِيع إلى ملكه الذي كان مُنفردًا.
وأما تعريفها اصطلاحًا: فقد عرَّفها المصنف فقال: “هي استحقاق انتزاع حصة شريكه ممن انتقلتْ إليه بالثمن الذي استقرَّ عليه العقد”.
نُوضحها بمثالٍ: أرضٌ بينك وبين صديقك نصفين، لك النصف، ولصديقك النصف، تفاجأتَ بأن صديقك باع نصيبه، وأنت ترضى بشراكة صديقك؛ لأنك تعرفه، وسيدخل عليك الآن شريكٌ جديدٌ ربما لا ترضى بشراكته، فهنا تقول لصديقك: بكم بعتَ هذه الأرض؟ قال: بعتُها -مثلًا- بمئة ألفٍ. تقول للمُشتري: خُذْ مئة ألفٍ وتكون الأرض كلها لي.
يعني: أنت بعتَها بمئة ألفٍ، خُذْ مئة ألفٍ، فالثمن الذي اشتراها به المشتري يُرَدُّ عليه، فبدل أن يدخل معي شريكٌ جديدٌ تكون الأرض كلها لي.
فالحكمة منها: دفعُ ضرر الشركة؛ لأنك قد ترضى بشركة إنسانٍ، ولا ترضى بشركة إنسانٍ آخر.
شروط الشفعة
وشروطها خمسةٌ:
- الأول: “كون الحصة مُباعةً” يعني: تكون انتقلتْ ببيعٍ، لا تكون انتقلتْ -مثلًا- بميراثٍ، ولا بهبةٍ ونحو ذلك.
- الثاني: “كونها مُشاعةً من عقارٍ”، وهذا هو المذهب: أن الشُّفْعَة لا تثبت إلا في العقار ونحوه، ولا تثبت في المنقولات.
القول الثاني: أن الشفعة تثبت في المنقول، وهذا هو القول الراجح المختار عند كثيرٍ من المُحققين، فلو كانت السلعة منقولةً، وهي مُشتركةٌ بينك وبين آخر، فلك حقُّ الشُّفْعَة على القول الراجح.
- الثالث: “الطلب بها ساعة العلم بالبيع”، يعني: لا بد أن تُطالب بالشُّفْعَة ساعة العلم ببيعها، فإن تأخرتَ سقط حقُّك في الشفعة.
واستدلوا بحديث: الشُّفْعَة كَحَلِّ العِقَال [1]، وحديث: الشُّفْعَة لمَن وَاثَبَها، رواه ابن ماجه.
والقول الثاني: أن حقَّ الشَّفيع على التَّراخي، وأنه لا يسقط لو علم ولم يُطالب بها، وهذا هو القول الراجح؛ لأن الأصل أن حقَّ الشُّفْعة كسائر الحقوق يبقى على التراخي.
وأما حديث: الشُّفْعَة كَحَلِّ العِقَال والشُّفْعَة لمَن وَاثَبَها، هذه كلها أحاديث ضعيفةٌ لا تثبت من جهة الصناعة الحديثية. - الرابع: “أَخْذُ المَبِيع كله”، فلو قال: أنا أريد أن أشفع في نصف المبيع أو في ربعه. نقول: لا، إما أن تأخذ المَبِيع كله أو تتركه؛ لأن أخذ جزءٍ منه فيه ضررٌ.
- الخامس: “سَبْق مِلْك شفيعٍ لرقبة العقار” أن يكون الشَّفيع مالكًا لرقبة العقار قبل أن يبيع شريكه حصته، فلا يكون مِلْكُه طارئًا.
فإذا تحققتْ هذه الشروط الخمسة -ونحن استبعدنا الشرط الثالث وقلنا: على القول الراجح لا يُشترط- تثبت الشُّفْعة.
“ويلزم الشفيع أن يدفع الثمن للمشتري” فيقول للمشتري: بكم اشتريتَ هذا المشاع؟ إذا قال -مثلًا-: بمئة ألفٍ. خُذْ مئة ألفٍ ويكون -مثلًا- هذا العقار كله لي.
“وعلى المشتري إنظاره” يعني: على المشتري إنظار الشفيع وإمهاله “ثلاثة أيامٍ” لأجل إحضار الثمن “إن عجز عن دفعها في الحال، وإن كان الثمن مُؤجَّلًا أُخِذَ على مَلِيءٍ به” إن كان المشتري اشتراها بثمنٍ مُؤجَّلٍ فيكون الشفيع أيضًا يأخذها بثمنٍ مُؤجلٍ إذا كان مَلِيئًا، أما إذا لم يكن مَلِيئًا قال: “وغيره بكفيلٍ مَلِيءٍ” لا بد أن يأتي بكفيلٍ مَلِيءٍ.
شُفْعَة الجوار
لم يذكر المؤلف شُفْعَة الجوار، هل تثبت شفعة الجوار أم لا؟
المذهب: أنه لا تثبت شفعة الجوار.
وقال بعض العلماء: إن كان بين الجارين حقٌّ مُشتركٌ فتثبت شفعة الجوار.
وهذا هو القول الراجح، واختاره جمعٌ من المُحققين من أهل العلم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: الجار أحقُّ بِسَقَبِه [2].
إذا كان بينهما اشتراكٌ: اشتراكٌ في جدارٍ، اشتراكٌ في مَسِيلٍ، اشتراكٌ في بئرٍ، اشتراكٌ في أيِّ شيءٍ؛ فتثبت شُفْعَة الجوار.
أما إذا كان الجار مُستقلًّا عن جاره تمامًا، وليس بينهما أيُّ اشتراكٍ، فلا تثبت شُفْعَة الجوار.
باب الوديعة
قال رحمه الله تعالى:
يلزم المُودَع حفظها في حِرْزِ مِثْلِها، وإن تلفتْ من غير تفريطٍ لم يضمن.
وإذا أراد المُودَع السفر رَدَّ الوديعة إلى مالكها، أو إلى مَن يحفظ ماله عادةً، أو إلى وكيله.
فإن تعذَّر سافر بها إن لم يَخَفْ عليها في السفر، وإن خاف عليها دفعها للحاكم.
ويُقْبَل قوله بيمينه في التَّعدي والتَّفريط.
تعريف الوديعة
الوديعة من وَدَعَ الشيء إذا تركه، ومنه قول الله تعالى: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:3]، يعني: ما تركك ربك.
وسُمِّيت وديعةً؛ لأنها تكون متروكةً عند المُودَع.
وتعريفها اصطلاحًا: “اسمٌ للمال المُودَع عند مَن يحفظه بلا عِوَضٍ”.
ولاحظ هنا: أن الغرض هو حفظها، وبذلك نعرف أن الحساب الجاري في البنك ليس وديعةً، وإن كان يُسمى: وديعة أو قسيمة إيداع، تقول: أودعتُ عند البنك، لكنه في حقيقته ليس وديعةً.
إذن ما التَّكييف الفقهي للحساب الجاري؟
طالب: …….
الشيخ: نعم، إذا قلنا: إنه ليس وديعةً، قرضٌ.
تعريف القرض: دفع مالٍ لمَن ينتفع به ويَرُدُّ بدله.
أنت تدفع الآن هذا المال للبنك، ويضمنه بكلِّ حالٍ، ويَرُدُّ لك بدله متى أردتَ، هذا هو القرض.
متى يكون وديعةً؟
يكون وديعةً لو أن البنك سيحفظ لك مالك، ويُسلِّمه لك متى أردتَ، لكن البنك الآن يتصرف في مالك، بل ربما أنت تُودع المبلغ لدى البنك، ويأخذ المبلغ الذي أعطيتَه ويُعطيه عميلًا آخر وأنت ترى، فيتصرف فيه مباشرةً.
فهذا يدل على أنه ليس وديعةً بالمعنى الفقهي، إنما هو قرضٌ؛ ولذلك فصاحب الحساب الجاري يُعتبر مُقْرِضًا، والبنك يُعتبر مُقْتَرِضًا، هذا هو التَّكييف الفقهي له.
وما يُسمى بـ”الإيداع في البنك” و”قسيمة الإيداع” هذا ليس إيداعًا ولا وديعةً بالمعنى الفقهي، إنما هو قرضٌ.
قال: “يلزم المُودَع حفظها في حِرْزِ مِثْلِها” يلزم المُودَع أن يحفظ الوديعة في الحِرْزِ المُلائم والمُناسب لها.
“وإن تلفتْ من غير تفريطٍ لم يضمن”؛ لأن يَدَه يَدُ أمانةٍ، ومَن كانت يَدُه يَدَ أمانةٍ لا يضمن إلا بالتَّعدي أو التَّفريط.
“وإذا أراد المُودَع السفر رَدَّ الوديعة إلى مالكها” يعني: إذا أراد أن يُسافر وعنده وديعةٌ، ويخشى عليها، فَيَرُدّها إلى مالكها، “أو إلى مَن يحفظ ماله عادةً، أو إلى وكيله”، وإلا عُدَّ مُفَرِّطًا.
“فإن تعذَّر سافر بها إن لم يَخَفْ عليها في السفر”، إن كان لا يخشى عليها في السفر يُسافر بهذه الوديعة، وإن كان يخشى عليها فلا يُسافر بها.
“وإن خاف عليها دفعها للحاكم”، إذا كان لا يستطيع أن يحفظها، ولا يستطيع أن يُسافر بها يدفعها للحاكم.
“ويُقْبَل قوله بيمينه في التَّعدي والتَّفريط”؛ لأنه أمينٌ، وإذا قلنا: “أمين” يعني: أنه لا يضمن إلا إذا تعدَّى أو فرَّط.
باب إحياء المَوَات
قال رحمه الله تعالى:
وهي الأرض المُنْفَكَّة عن الملك والاختصاص.
ويحصل إحياؤُها إما بحائطٍ مَنيعٍ، أو إجراء ماءٍ لا تُزْرَع إلا به، أو حفر بئرٍ فيها، أو قطع ماءٍ لا تُزْرَع معه، أو غرس شجرٍ فيها.
ومَن أحيا شيئًا مَلَكَه بما فيه من معدنٍ جامدٍ، لا جارٍ.
تعريف إحياء المَوَات
عرَّف المؤلف المَوَات فقال: “هي الأرض المُنْفَكَّة عن الملك والاختصاص” يعني: الأرض التي ليس لها مالكٌ، وليست أيضًا من الاختصاصات.
والاختصاص مثل: الطريق، أو مسايل المياه، والمُحْتَطَبات، وما يحتاج إليه الناس، هذه الأراضي لا تُمْلَك بالمَوَات.
“ويحصل إحياؤُها”؛ لقول النبي : مَن أحيا أرضًا ميتةً فهي له [3]، بماذا يحصل إحياؤها؟
قال: “إما بحائطٍ مَنِيعٍ” يعني: بجدارٍ، بتسويرها بجدارٍ مَنِيعٍ، “أو إجراء ماءٍ لا تُزْرَع إلا به” بأن يحفر بئرًا -مثلًا- بإجراء ماءٍ من نهرٍ ونحوه “لا تُزْرَع إلا به، أو حفر بئرٍ فيها، أو قطع ماءٍ لا تُزْرَع معه” بأن تكون فيها مياهٌ أفسدتها، فيحبس عنها الماء حتى تصلح للزراعة، “أو غرس شجرٍ فيها”.
وهذه كلها أمثلةٌ، وهذه الأمثلة كلها ترجع للعُرف.
وعلى هذا نستطيع أن نقول: إنه يحصل إحياء المَوَات بما عُدَّ إحياءً عُرْفًا.
وقديمًا لم يكن للأراضي كبير قيمةٍ، وكانت تُبْذَل بالمجان أو شبه المجان، أما الآن فأصبحت الأراضي لها قيمةٌ كبيرةٌ، بل الآن مَن أراد أن يبني بيتًا فقيمة الأرض أكثر من قيمة البناء، وما كان هذا معروفًا في العصور السابقة.
فمع هذا التَّشَاح من الناس على الأراضي هنا يتدخل وليُّ الأمر فَيُنَظِّم إحياء المَوَات، وتجب طاعة ولي الأمر؛ لأن هذا من المعروف الذي تجب طاعته فيه، ولو تُرِكَ كلُّ إنسانٍ يُحْيِي أرضًا ويقول: هذه الأرض لي. فالناس ستحصل بينهم من النزاعات والخصومات ما الله به عليم؛ لأن الأراضي الآن أصبحتْ لها قيمةٌ، وأصبحتْ مُستودعًا للثروة، ولها قيمةٌ كبيرةٌ، فهنا وليُّ الأمر يتدخل، وهذا هو الواقع: أن ولي الأمر وضع تنظيماتٍ وترتيباتٍ لإحياء المَوَات، فتلزم طاعة ولي الأمر والعمل بهذه التعليمات في إحياء المَوَات.
قال: “ومَن أحيا شيئًا مَلَكَه بما فيه من معدنٍ جامدٍ، لا جارٍ” يعني: إذا أحيا شيئًا: مَن أحيا أرضًا ميتةً فهي له، ويكون بذلك المعادن الجامدة، أما الجارية فلا تُمْلَك بالإحياء.
باب الجَعَالَة
قال رحمه الله تعالى:
هي جَعْلُ مالٍ مُعيَّنٍ لمَن يعمل له عملًا مُباحًا.
وإن فسخ الجَاعِلُ قبل تمام العمل لزمه أُجرة المِثْل، وإن فسخ العامل فلا شيء له.
تعريف الجَعَالة
الجَعَالَة بتثليث الجيم: جَعَالة وجِعَالة وجُعَالة، وكلها صحيحةٌ، وهي اسمٌ لما يُجْعَلُ للإنسان على فعل شيءٍ معينٍ.
وتعريفها اصطلاحًا: جَعْلُ مالٍ معلومٍ لمَن يعمل له عملًا مُباحًا ولو مجهولًا.
كأن يقول -مثلًا-: مَن رَدَّ ضالتي فله كذا، مَن بنى هذا الحائط فله كذا، مَن وجد محفظتي فله كذا. هذه تُسمَّى: جعالة.
قال: “هي جَعْلُ مالٍ مُعيَّنٍ لمَن يعمل له عملًا مُباحًا”، وعند الجمهور هي جائزةٌ بخلاف الحنفية الذين منعوها للغَرَر.
هي فيها غَرَرٌ، لكن الغَرَر هنا مُغْتَفَرٌ، وليس كلُّ غَرَرٍ ممنوعًا شرعًا، وإلا فعندما تقول: مَن رَدَّ جملي الشارد فله ألفٌ. ربما أنه يجد الجمل الشارد في ساعةٍ ويَرُدُّه لك ويأخذ الألف، أو يبقى شهرًا يبحث عنه ويأخذ الألف، ففيها غَرَرٌ، لكن المصلحة المُترتبة عليها أعظم.
وقد جاء في الصحيحين عن أبي سعيدٍ : أن نَفَرًا من الصحابة نزلوا على حيٍّ من أحياء العرب، فلم يَقْرُوهُم -يعني: لم يُضَيِّفُوهم- فَلُدِغَ سيد ذلك الحي، فقالوا: هل فيكم من راقٍ؟ قال أحد الصحابة -وكان مَن معه لا يعلمون أنه يرقي-: والله إني لأرقي، ولكن والله لقد اسْتَضَفْنَاكُم فلم تُضَيِّفُونا، فما أنا بِرَاقٍ لكم حتى تجعلوا لنا جُعْلًا. فصالحوهم على قطيعٍ من الغنم. فَرَقَى سيدهم بسورة الفاتحة فقط، جعل يقرأ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] ويَنْفُث، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] ويَنْفُث.
سبحان الله! فقام كأنما نُشِطَ من عِقَالٍ، وما به قَلَبَةٌ؛ ما به وجعٌ ولا أيُّ شيءٍ.
انظر إلى قوة تأثير القرآن، خاصةً سورة الفاتحة.
الدليل على جواز الجَعَالة
ثم لما أخذ الصحابة هذا الجُعْل -القطيع من الغنم- شَكُّوا: هل يجوز أو لا يجوز؟ قالوا: إذن نستفتي النبي ، فقال عليه الصلاة والسلام للراقي: وما يُدريك أنها رُقيةٌ؟ كيف عرفتَ أن سورة الفاتحة رُقيةٌ؟ هي أعظم ما يُسْتَرْقَى به، ثم قال: خُذُوا منهم يعني: خذوا الجُعْل، واضربوا لي معكم سهمًا [4] تأكيدًا لِحِلِّها، إن أحقَّ ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله [5]. وهذا الحديث هو الأصل في الجعالة؛ لأنهم أخذوا جُعْلًا، وأقرَّهم النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك.
قال: “إن فسخ الجَاعِلُ قبل تمام العمل لزمه أُجرة المِثْل، وإن فسخ العامل فلا شيء له” يعني: هذه جعالةٌ.
قال: مَن رَدَّ جملي الشارد فله ألفٌ. ثم إن العامل قال: أنا الذي سأقوم بهذا. ثم العامل فسخ، فلا شيء له، لكن الجاعل قال: أنا قلتُ: مَن رَدَّ جملي الشارد، أنا أفسخ العقد.
يقول المؤلف هنا: لزمه أُجرة المِثْل.
يمكن أن يتَّضح بمثالٍ: لو قال: مَن بنى لي هذا الحائط فله كذا. فقام إنسانٌ وبنى -مثلًا- ثلاثة أرباع الحائط، فقال الجاعل: أنا فسختُ العقد. فهنا يقول: لزمه أُجرة المِثْل. ننظر كم أجرة المِثْل في بناء هذا الحائط، فَيُعْطَى العامل قَدْر أُجرة المِثْل.
وقال بعض العلماء: يكون للعامل حصته من الجُعْل، وليس من أُجرة المِثْل، فإنه ربما يكون قد أراد بناء هذا الحائط بسبب أن الجُعْل كبيرٌ، يعني: حائطًا -مثلًا- بناءه صعبٌ، فقال: مَن بنى هذا الحائط فله عشرة آلافٍ. فلما بنى 90% منه قال الجاعل: فسختُ الجعالة.
طيب، كم يستحق هذا العامل؟
قالوا: أُجرة المِثْل، وأُجرة المِثْل ربما تكون ألف ريالٍ فقط، وهو ما أتى إلا لأجل الجعالة، لأجل أن الجُعْل كبيرٌ، فيقولون: تمام العدل أن نقول: حصته من الجُعْل، وليس من الأجرة.
فنقول: الجعالة عشرة آلافٍ، وأنت الآن أنجزتَ 90%، إذن يكون لك 90% من العشرة الآلاف، وهذا أقرب للعدل، وقد رجَّحه الشيخ عبدالرحمن بن سعدي وجماعةٌ من أهل العلم، وهو القول الراجح: أنه إذا فسخ الجاعلُ يكون للعامل حصته من الجُعْل، وليس من أُجرة المِثْل.
باب اللُّقَطَة
قال رحمه الله تعالى:
هي ثلاثة أقسامٍ:
الأول: يجوز الْتِقَاطه، ويُمْلَك به، وهو ما لا تَتْبَعُه هِمَّة أوساط الناس: كَسَوْطٍ، ورغيفٍ، ونحوهما، لكن إن وَجَدَ صاحبَه رَدَّه إليه إن كان باقيًا.
الثاني: لا يجوز الْتِقَاطُه، ولا يُمْلَك بتعريفه: كالضَّوَالِّ التي تمتنع من صِغَار السِّباع؛ كخيلٍ وإبلٍ وبقرٍ.
الثالث: ما عدا ذلك من الحيوانات: كَفُصْلَانٍ، وشِيَاهٍ، ونحوهما، وأثمانٍ، وأمتعةٍ، فله التقاطه إن أمن نفسه عليه، وإلا فكغاصبٍ حكمًا، ويُعَرِّفها في مجامع الناس غير المساجد حَوْلًا كاملًا، ثم يملكها بعده حكمًا، ولا يتصرَّف فيها إلا بعد معرفة جميع صفاتها، فمتى جاء صاحِبُها وصفها دفعها إليه.
تعريف اللُّقَطَة وأقسامها
اللُّقَطَة: هي مالٌ أو مُختصٌّ ضَلَّ عن رَبِّه.
ولاحظ هنا: أنه ضَلَّ عن رَبِّه، يعني: مالًا ضائعًا، أما لو كان هذا المال معلومًا فيجب رَدُّه لصاحبه.
وتنقسم إلى ثلاثة أقسامٍ:
“الأول: يجوز الْتِقَاطه، ويُمْلَك به، وهو ما لا تَتْبَعُه هِمَّة أوساط الناس: كَسَوْطٍ، ورغيفٍ، ونحوهما”.
يعني: ما يجوز أخذه والْتِقَاطه من غير تعريفٍ، وضابطه: ما لا تلتفت له همَّة أوساط الناس.
أوساط الناس مالًا وخُلُقًا، فأوساط الناس مالًا يعني: لا يكون غنيًّا، ولا يكون فقيرًا، وخُلُقًا؛ لأن الغني أحيانًا تتعلق نفسه بالشيء الحقير، فيكون بخيلًا، غنيٌّ لكنه بخيلٌ، وأحيانًا بعض الفقراء ما تتعلق أنفسهم بالشيء الكبير.
إذن أوساط الناس خُلُقًا ومالًا كالشيء اليسير، مثلًا: قلمٌ بريالٍ وجدتَه في الطريق يجوز أن تأخذه من غير تعريفٍ.
طيب، وجدتَ خمسة ريالاتٍ مُلقاةً في الطريق، يجوز، نعم، أو عشرة ريالاتٍ، يجوز.
أما خمسون ريالًا فلا، فخمسون ريالًا تلتفت لها همَّة أوساط الناس، لكن خمسة ريالاتٍ أو عشرةٌ يمكن، أو عشرون ريالًا، أو ثلاثون ما تلتفت.
فالشيء اليسير إذن يجوز أَخْذُه والْتِقَاطُه بلا تعريفٍ، بشرط: أن يكون لُقَطَةً.
انتبه؛ لأن بعض الناس يأخذ الشيء اليسير ويقول: حكمه حكم اللُّقَطَة.
هذا غير صحيحٍ، إذا كان صاحبه معلومًا يجب أن تَرُدَّه على صاحبه، حتى لو كان نصف ريالٍ، حتى لو كان قلمًا بربع ريالٍ يجب أن تَرُدَّه على صاحبه؛ لحديث أبي أُمامة : أن النبي قال: مَن اقتطع حقَّ امرئٍ مسلمٍ بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرَّم عليه الجنة، فقال له رجلٌ: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: وإن قَضِيبًا من أراكٍ [6].
ما القَضِيب من أراكٍ؟
عود السِّواك، حتى وإن كان عود سِوَاكٍ، ما دام أن صاحبه معلومٌ يجب رَدُّه على صاحبه، لكن إذا كان لُقَطَةً، وكان لا تلتفت له همَّة أوساط الناس يجوز أَخْذُه والْتِقَاطه بلا تعريفٍ.
قال: “لكن إن وَجَدَ صاحبه رَدَّه إليه إن كان باقيًا” إن وجد صاحبه فإنه يرده إليه، وهكذا لو كان صاحبه معلومًا.
“الثاني: لا يجوز الْتِقَاطُه، ولا يُمْلَك بتعريفه: كالضَّوَالِّ التي تمتنع من صِغَار السِّباع؛ كخيلٍ وإبلٍ وبقرٍ”.
ما لا يجوز الْتِقَاطه، ولا يُمْلَك بتعريفه، مثل: الإبل، وأيضًا مثل: الحيوانات التي تمتنع من صغار السباع: كالبقر ونحوها التي لا يُخاف عليها؛ ولذلك لما سُئل النبي عن ضالة الإبل قال: ما لك ولها؟! دَعْهَا، فإن معها حِذَاءها وسِقَاءها، تَرِدُ الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربُّها [7]، فهذه لا يجوز الْتِقَاطها ولا أَخْذُها مطلقًا.
القسم الثالث: “ما عدا ذلك من الحيوانات” مثل: الغنم، والفُصْلَان، يعني: صغار الإبل ونحوها، “وأثمانٍ” كالأوراق النقدية -مثلًا- وذهبٍ ونحوه، “وأمتعةٍ، فله التقاطه إن أمن نفسه عليه”، وأيضًا كانت له قُدرةٌ على التعريف.
إذا كان يغلب على نفسه أنه سيقوم بواجب التعريف يلتقطه، أما إذا كان يعرف من نفسه أنه إنسانٌ فوضويٌّ، ولن يقوم بالتعريف سنةً كاملةً؛ يتركه، ولا يُعرِّض ذِمَّته للخطر؛ ولهذا نقول: إن أَمِنَ نفسه، وكانت عنده قُدرةٌ على التعريف.
“وإلا فكغاصبٍ حكمًا” يعني: إن لم يأمن نفسه يكون حكمه حكم الغاصب؛ لا يجوز له أَخْذُ هذه اللُّقَطَة.
بعض الناس يجد لُقَطَةً، يجد -مثلًا- ألف ريالٍ، ويأخذها ويتصدق بها، هل هذا التَّصرف صحيحٌ؟
هذا غير صحيحٍ، هذه لُقَطَةٌ يجب أن تُعرِّفها سنةً كاملةً وإلا اتركها، لا تأخذها، أما أن تقول: آخذها وأتصدق بها، ليس لك ذلك، الواجب: تعريفها سنةً كاملةً وإلا اتركها.
قال: “ويُعرِّفها في مجامع الناس غير المساجد”؛ لأن المسجد لا يجوز فيه نُشْدَان الضَّالَّة.
والتعريف المرجع فيه للعُرف، وفي وقتنا الحاضر أصبح التعريف سهلًا جدًّا، فاللُّقَطَة التي وجدتَها تضع رقم الجوال، وتقول: “عُثِرَ في هذا المكان على لُقَطَةٍ”، وتصفها وصفًا مُجملًا، “فمَن كانت له فليتَّصل على هذا الرقم”، وتبقى هذه اللافتة أو اللوحة سنةً كاملةً، إن اتَّصل عليك أحدٌ وإلا فهي لك.
قال: “حولًا كاملًا، ثم يملكها بعده حُكْمًا” إذا عرَّفها سنةً كاملةً ولم يأتِ صاحبها فإنه يملكها حكمًا بحيث لا يتصرف فيها إلا بعد معرفة جميع صفاتها، وأيضًا متى جاء صاحبها ووصفها دفعها إليه.
باب اللَّقِيط
قال رحمه الله تعالى:
هو طفلٌ مَنْبُوذٌ أو ضَالٌّ لا يُعْرَف نَسَبُه ولا رِقُّه، فَالْتِقَاطه وإنفاقٌ عليه فرضُ كفايةٍ.
وهو مسلمٌ إن وُجِدَ في بلاد الإسلام، ويُلْحَقُ بمَن أَقَرَّ به إن أمكن كونه منه، وما وُجِدَ معه أو قريبًا منه فله، ويُنْفَق عليه منه وإلا فمن بيت المال.
وحضانته لواجِدِه الأمين، ويُنْفِق عليه بغير إذْنِ حاكمٍ، ودِيَتُه وميراثه لبيت المال.
وإن ادَّعاه جماعةٌ قُدِّم ذو البينة وإلا مَن تُلْحِقُه به القَافَةُ.
تعريف اللَّقيط وحكم التقاطه
اللَّقِيط عرَّفه المؤلف فقال: “هو طفلٌ مَنْبُوذٌ أو ضَالٌّ لا يُعْرَف نَسَبُه ولا رِقُّه” يُوجد طفلٌ رضيعٌ لا يُعْرَف والداه، فهذا هو اللَّقيط.
حكم التقاطه قال: “فَالْتِقاطه وإنفاقٌ عليه فرضُ كفايةٍ” يجب على المسلمين الْتِقَاطُه والإنفاق عليه.
“وهو مسلمٌ إن وُجِدَ في بلاد الإسلام” يُحْكَم له بالإسلام.
“ويُلْحَقُ بمَن أَقَرَّ به” لو أَقَرَّ به شخصٌ من الناس يُلْحَق به نَسَبًا من غير بيِّنةٍ؛ لأن الشريعة تتشوَّف لحفظ الأنساب.
“إن أمكن كونه منه” يعني: بألا يكون الذي أَقَرَّ به -مثلًا- صغيرًا لا يمكن أن يُولد لمِثْلِه؛ فلا يُلحق به.
“وما وُجِدَ معه أو قريبًا منه فله”؛ لأن الظاهر أنه ماله.
“ويُنْفَق عليه منه” يعني: من ماله الذي له، “وإلا فمن بيت المال” إن كان لهذا اللَّقيط مالٌ يُنْفَق عليه من ماله، وإن لم يكن له مالٌ فَيُنْفَق عليه من بيت مال المسلمين.
وهذا هو الذي عليه العمل الآن، يعني: اللُّقَطاء يُوضَعون في دُور الرعاية الاجتماعية، والدولة تصرف عليهم، فهي التي تُنْفق عليهم وتقوم بشؤونهم.
“وحضانته لواجِدِه الأمين” يعني: أولى الناس بحضانته واجِدُه إن أراد حضانته، “ويُنْفِق عليه” يعني: حاضنه “بغير إذْنِ حاكمٍ” لا يحتاج إلى إذن الحاكم، فَيُنْفق عليه من نفسه إن أراد، وإن طلب النَّفقة يُعْطَى من بيت المال.
“ودِيَتُه وميراثه لبيت المال” لو قُتِلَ -مثلًا- وكانت له دِيَةٌ تكون الدِّيَة لبيت المال، وهكذا لو كان له ميراثٌ، إرثه لبيت المال، أو ميراثه لبيت المال.
“وإن ادَّعاه جماعةٌ قُدِّم ذو البينة وإلا مَن تُلْحِقُه به القَافَةُ”، متى يدَّعي الجماعةُ اللَّقيط؟
يدَّعون اللَّقيط إذا كان ذا ثروةٍ.
إنسانٌ لقيطٌ، لكن فتح الله عليه ورزقه أموالًا عظيمةً، فسيأتي أناسٌ كثيرون، كلٌّ يدَّعي أنه أبوه أو قريبٌ له حتى يرثه، فإن وُجِدَتْ بيِّنةٌ فالقول قول صاحب البينة، وإن لم توجد بيِّنةٌ قال: “مَن تُلْحِقُه به القَافَةُ” وهم الذين يعرفون النَّسَب بالشَّبَه.
وفي الوقت الحاضر يُغني عن القافة البصمة الوراثية، أو ما يُسمى بالحمض النووي، وهذه أَدَقُّ من القافة، فمَن ادَّعى نَسَبَ هذا اللَّقيط يُنْظَر: هل يلحق به بمُوجب الحمض النووي أو البصمة الوراثية وإلا فلا؟
كتاب الوقف
قال رحمه الله تعالى:
هو تحبيس مالٍ يُنْتَفَع به مع بقاء أصله.
ويصح بقولٍ كـ”وقفتُ”، وفعلٍ يدلُّ عليه: كَجَعْل أرضه مسجدًا وإِذْنِه بالصلاة فيه.
وشروطه خمسةٌ:
كونه في عينٍ معلومةٍ يصح بيعُها إلا المصحف.
وكونه على مُعيَّنٍ في غير المسجد ونحوه.
وكون واقفه نافذ التَّصرف.
وكونه مُنْجَزًا.
وكونه على بِرٍّ.
والوقف عقدٌ لازمٌ، ويجب العمل بشرط الواقف إن لم يُخالف الشرع، وإن جُهِلَ شرطُه عُمِلَ بالعادة الجارية، فإن لم تكن فَبِالعُرْف، فإن لم يكن فبالمُساواة بين المُستحقين.
ولا يجوز بيعُ الوقف إلا أن تتعطَّل منافعه، ويُصرف ثمنه في مِثْله.
تعريف الوقف ومشروعيته
الوقف: “هو تحبيس مالٍ يُنْتَفَع به مع بقاء أصله”.
معناه في اللغة: الحبس.
ومعناه اصطلاحًا: “هو تحبيس مالٍ يُنْتَفَع به مع بقاء أصله”.
وهو مشروعٌ بالإجماع، بل إن الوقف هو أفضل مجالٍ تُنْفَق فيه الأموال، والدليل لذلك ما جاء في الصحيحين عن عمر أنه أصاب أرضًا بخيبر، فأتى النبيَّ يَسْتَأْمِره فيها، فقال: “يا رسول الله، إني أصبتُ أرضًا بخيبر لم أُصِبْ مالًا قطُّ أَنْفَسَ عندي منه، فما تأمر به؟” والمُستشار مُؤْتَمَنٌ، فأشار عليه النبي بالوقف [8].
قال أهل العلم: لو كان هناك شيءٌ أفضل من الوقف لأشار به النبي على عمر ؛ لأن المستشار مُؤْتَمَنٌ، فدلَّ ذلك على أن أفضل ما تُبْذَل فيه الأموال الوقف.
وقد كان الوقف هو سِرُّ ازدهار الحضارة الإسلامية في العصور السابقة، فكانت الدولة الإسلامية قديمًا مهمتها حفظ الأمن الداخلي والخارجي والتَّقاضي بين الناس فقط، أما بقية الخدمات من التعليم والصحة وبناء الجسور وكل ما يحتاج إليه المجتمع كانت تعتمد اعتمادًا كليًّا على الأوقاف، فازدهرت الأوقاف ازدهارًا عظيمًا حتى تفنَّن المسلمون في الوقف، فَوُجِدَتْ -مثلًا- أوقافٌ على غسيل ثياب طلاب العلم، وأوقافٌ على بعض الحيوانات، بل وُجِدَتْ أوقافٌ للتَّعويض عن تضمين الخدم عند كسر الصحون، فتفنَّن المسلمون في الأوقاف، فكان الوقف هو سِرُّ ازدهار الحضارة الإسلامية.
قال: “ويصح بقولٍ كـ”وقفتُ”، وفعلٍ يدلُّ عليه”، يصح بـ”وقف”، أو “أُوقف”، أو “حبَّستُ”، وبأي لفظٍ يدل على الوقف.
“وفعلٍ يدلُّ عليه: كَجَعْل أرضه مسجدًا”، إذا بنى مسجدًا وأَذِنَ للناس بالصلاة فيه فقد أوقفه، “وإِذْنِه بالصلاة فيه”، أو جعل أرضه مقبرةً للدفن فيها.
شروط الوقف
وشروطه خمسةٌ:
- الأول: “كونه في عينٍ معلومةٍ يصح بيعُها” لا بد أن يكون في عينٍ معلومةٍ، وتكون هذه العين مما يصح بيعه.
“إلا المصحف”؛ لأن المصحف عند الحنابلة لا يصح بيعه، ويصح وقفه.
والقول الراجح: أن المصحف يصح بيعه. - “وكونه على مُعيَّنٍ” يكون الوقف على مُعينٍ إلا أن يكون على جهة بِرٍّ؛ ولذلك قال: “في غير المسجد ونحوه”.
- “وكون واقفه نافذ التَّصرف” يعني: جائز التَّصرف، وهو الحُرُّ المُكلَّف الرَّشيد.
- “وكونه مُنْجَزًا” هذا بناء على المذهب، وهو قول الجمهور: أنه لا يصح تعليق العقود.
والقول الراجح: أنه يصح كما سبق، وعلى ذلك فيصح الوقف مُعلَّقًا. - “وكونه على بِرٍّ” لا بد أن يكون الوقف على جهة بِرٍّ، فلا يكون على معصيةٍ، فالوقف -مثلًا- على الأضرحة والقبور لا يصح ولا يجوز.
“والوقف عقدٌ لازمٌ” إذا أوقف الإنسان وقفًا فقد خرج عن ملكه لله ، ولا يملك التراجع فيه.
“ويجب العمل بشرط الواقف إن لم يُخالف الشرع”؛ ولذلك العلماء عندهم مقولةٌ شهيرةٌ: “شرط الواقف كشرط الشارع”، لكن بيَّن المُحققون -كابن تيمية- قالوا: إن كان المقصود أن العمل بشرط الواقف كالعمل بشرط الشارع فهذا لا يجوز، فلا يجوز أن يُفْهَم هذا الفهم، ولا يمكن أن يُسوَّى كلام البشر بكلام الله وكلام رسوله .
أما إذا كان المقصود: أن العمل بشرط الواقف كالعمل بشرط الشارع في الفهم والدلالة: كتقييد المُطلق، وتخصيص العام، ونحو ذلك، فهذا سائغٌ.
“وإن جُهِلَ شرطُه عُمِلَ بالعادة الجارية” إن جُهِلَ شرط الواقف فَيُعْمَل بالعُرف والعادة الجارية، يُعْمَل بالعادة الجارية المُستمرة، يعني: بما عُلِمَ من عادته.
“فإن لم تكن فبالعُرْف” يعني: عُرف المجتمع.
“فإن لم يكن فبالمُساواة بين المُستحقين” بأن أوقفه -مثلًا- على مجموعة أشخاصٍ، فَيُقَسَّم رِيعُ الوقف بينهم على التَّساوي.
“ولا يجوز بيعُ الوقف إلا أن تتعطَّل منافعه” إذا تعطلتْ منافعه جاز بيعه، وصُرِفَ ثمنه في مكانٍ آخر، لكن إذا لم تتعطَّل منافعه، وكان في بيعه مصلحةٌ؛ لأجل نقله إلى مكانٍ آخر، فالجمهور على منع بيعه، والقول الراجح: أنه يجوز بيعه.
مثلًا: عقارٌ في مكانٍ، وإذا بِيعَ ونُقِلَ إلى مكانٍ آخر كان رِيعُه أكثر، فيجوز نقله في هذه الحال.
“ويُصْرَف ثمنه في مِثْله” يعني: إذا بِيعَ هذا الوقف يُصْرَف ثمنه في مِثْلِه فيما هو من جنسه.
باب الهِبَة والعطية
قال رحمه الله تعالى:
تصح هِبَة مصحفٍ وما يجوز بيعه، وتنعقد بكلِّ لفظٍ أو فعلٍ دَلَّ عليها عُرْفًا.
وتلزم بقبضٍ بإذن واهبٍ.
ومَن أَبْرَأ غريمه من دَيْنِه بَرِئَ ولو لم يقبل، ويَحْرُم عليه الرجوع في هِبَةٍ بعد قبض مُتَّهِبٍ، وكُرِهَ قبله إلا الأب.
وله أن يتملَّك بقبضٍ مع قولٍ أو نيَّةٍ من مال ولده غير سُرِّيَّةٍ ما لم يَضُرَّ به، أو لِيُعْطِيَه ولدًا آخر، أو يكن بمرض موت أحدهما، أو يكن كافرًا، والولد مسلمًا.
وليس للولد مُطالبة أبيه بِدَيْنٍ ونحوه إلا بنفقته الواجبة عليه، فله ذلك.
“باب الهِبَة والعطية” العطية: هي الهِبَة في مرض الموت.
قال: “تصح هِبَة مصحفٍ وما يجوز بيعه” هبة المصحف تصح، ووقفه يصح، وبيعه يصح على القول الراجح، وهكذا هبة ما يجوز بيعه.
“وتنعقد” يعني: الهِبَة “بكلِّ لفظٍ أو فعلٍ دَلَّ عليها عُرْفًا”، كل ما دَلَّ على الهِبَة كأن يقول: وهبتُك، أهديتُ لك، أعطيتُك، ونحو ذلك.
“وتلزم بقبضٍ بإذن واهبٍ” الهبة لا تلزم إلا بالقبض، أما قبل القبض فلا تلزم.
فلو قلتَ لآخر: وهبتُك هذا الكتاب. ولم يقبضه، فلك أن تتراجع، لكن إذا قبضه لا يجوز لك أن تتراجع في الهِبَة، وهذا سيأتي من كلام المؤلف.
قال: “ومَن أَبْرَأ غريمه من دَيْنِه بَرِئَ ولو لم يقبل” مَن أَبْرَأ غريمه من دَيْنه، قال: يا فلان، أنا أُطالبك بعشرة آلاف ريالٍ، أَبْرَأْتُك. فإنه يبرأ.
قوله: “ولم يقبل” لو أن غريمه قال: لا، أنا ما أقبل إبراءك.
يا فلان، سامحتُك. قال: لا، ما أقبل. فالمؤلف يقول: إنه يبرأ ولو لم يقبل.
والقول الثاني: أنه لا يبرأ؛ لأن الإنسان لا يُلْزَم بأن يكون تحت مِنَّة غيره، يقول: أنا أرضى بالدَّيْن، لكن لا أقبل أن أكون تحت مِنَّتِك. يعرف أن هذا الرجل كثير المِنَّة والأذى.
وهذا هو القول الراجح: الإنسان لا يُلزم بأن يكون تحت مِنَّة غيره، فإذا لم يقبل الغريم لا يُلْزَم بقبول الهِبَة، هو قال: أبرأتُك، لكن قال: أنا ما أقبل، أنا -إن شاء الله- سيرزقني الله تعالى وأُسدِّد الدَّين الذي لك، ولا أقبل إبراءك. فهو حُرٌّ في ذلك، لا يُلزم بأن يكون الإنسان تحت مِنَّة غيره.
قال: “ويَحْرُم عليه الرجوع في هِبَةٍ بعد قبض مُتَّهِبٍ، وكُرِهَ قبله إلا الأب”، الرجوع في الهِبَة قبل القبض مكروهٌ، أما بعد القبض فتحرم؛ لقول النبي : العائد في هِبَته كالكلب يَقِيءُ ثم يعود في قَيْئِه [9].
قال الإمام الشافعي: “ليس لنا مثل السوء” يعني: هذا ورد على سبيل الذم، وهذا يدل على تحريم الرجوع في الهِبَة بعد قبضها، أما قبل قبضها فَيُكْرَه الرجوع.
“إلا الأب” فالأب يجوز له أن يرجع في هِبَته لولده؛ لأن الولد وما ملك لأبيه: أنت ومالك لأبيك [10]، وإن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم [11].
حكم أخذ الوالد من مال ولده
“وله أن يتملَّك بقبضٍ مع قولٍ أو نيَّةٍ من مال ولده” الأب له أن يأخذ من مال ولده ما شاء بشرطين:
- الشرط الأول: ألا يأخذه ويُعطيه لولدٍ آخر، ألا يأخذ من مال ولده ويُعطيه لولدٍ آخر.
- والشرط الثاني: ألا يأخذ ما يَضُرُّ بالولد، فإذا كان في الأخذ من الولد إضرارٌ به لا يجوز، وكذلك إذا كان يريد أن يأخذه ويُعطيه لولدٍ آخر هذا لا يجوز.
قال: “غير سُرِّيَّة” يعني: غير أَمَة “الابن”، فلا يملك الأب أن يأخذها لأجل أن يستمتع بها، هذه مُستثناةٌ؛ لأنها مُلحقةٌ بالزوجة.
“ما لم يَضُرَّ به”، إذن ذكر المؤلف هذا الشرط: “ما لم يَضُرَّ به أو لِيُعْطِيَه ولدًا آخر”، فالأب له أن يأخذ من مال ولده ما شاء بهذين الشرطين:
- ألا يأخذ ما يَضُرُّ به.
- وألا يأخذ من مال ولده لِيُعْطِيَه ولدًا آخر.
“أو يكن بمرض موت أحدهما”؛ لأنه مُتَّهمٌ إذا أخذ الأب من مال ولده في مرض موته، يعني: تكون في هذا تهمةٌ.
“أو يكن كافرًا، والولد مسلمًا” فيقولون: الأب ليس له أن يأخذ إلا إذا كان الأب مسلمًا، أما لو كان كافرًا فليس له الأخذ من مال ولده المسلم.
“وليس للولد مُطالبة أبيه بِدَيْنٍ ونحوه إلا بنفقته الواجبة عليه، فله ذلك” للولد أن يُطالب أباه بالنفقة، أما ما عدا ذلك فلا يملك المُطالبة؛ لأن الأب أصلًا له أن يأخذ من مال ولده، فكيف يُطالبه؟!
ولأن مُطالبة الولد لأبيه بالدَّين تُعتبر نوعًا من العقوق، يشتكي أباه ويُجَرْجِرُه في المحاكم لأجل مُطالبته بدَينٍ! هذا هو العقوق، هذا لا يجوز، ولا تُسمع الدعوى أصلًا؛ لأن هذا يُعتبر عقوقًا من هذا الولد لأبيه.
هل الأم كالأب لها أن تأخذ من مال ولدها؟
الجواب: نعم، على القول الراجح: أن الأم كالأب لها أن تأخذ من مال ولدها من ابنٍ أو بنتٍ بهذين الشرطين: بألَّا تأخذ ما يَضُرُّ الولد، ولا تأخذ من مال ولدها لِتُعْطِيَه ولدًا آخر؛ لقول النبي : إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم؛ ولأنها في معنى الأب، وقد قال : أنت ومالك لأبيك.
العدل في عطية الأولاد
قال رحمه الله تعالى:
يجب التَّعديل في عطية أولاده بِقَدْر إرثٍ، فإن فضَّل بعضهم سوَّى برجوعٍ أو زيادةٍ.
ومَن مرضه غير مَخُوفٍ -كوجع ضِرْسٍ ونحوه- فتصرُّفه لازمٌ كالصحيح.
وإن كان مَخُوفًا كَبِرْسَامٍ، وذات الجَنْبِ، ونحوه، وما قال طبيبان مسلمان عدلان: إنه مَخُوفٌ؛ لا يلزم تبرُّعه لوارثٍ بشيءٍ، ولا بما فوق الثلث لأجنبيٍّ إلا بإجازة الورثة إن مات منه، وإن عُوفِي فكصحيحٍ.
ويُعتبر الثلث عند موته.
“يجب التَّعديل في عطية أولاده” يجب على الوالد من أبٍ وأمٍّ أن يعدل في عطيته لأولاده.
وعطية الوالد لأولاده على قسمين:
- القسم الأول: عطيةٌ مَحْضَةٌ، فهذه تجب فيها التَّسوية بين الذكور، وأن تكون الأُنثى نصف الذكر كالميراث؛ اقتداءً بقسمة الله تعالى في الميراث، فلو أعطى -مثلًا- الابن عشرة آلافٍ يُعْطِي البنت خمسة آلافٍ.
- القسم الثاني: عطية حاجةٍ، والعدل فيها أن يُعطي كلَّ واحدٍ بقدر حاجته، فحاجة الذكر غير حاجة الأنثى، وربما تكون حاجة الأنثى أكثر، فيُعطي الأنثى أكثر من الذكر، وحاجة الكبير غير حاجة الصغير، وحاجة المريض غير حاجة الصحيح، فيُعطي كلَّ واحدٍ بقدر حاجته.
“فإن فضَّل بعضهم” يعني: في الهِبَة المَحْضَة “سوَّى برجوعٍ أو زيادةٍ” يعني: إما أن يرجع في هِبَته، وإما أن يُعطي بقية أولاده مثلما أعطى هذا الولد.
“ومَن مرضه غير مَخُوفٍ -كوجع ضِرْسٍ ونحوه- فتصرُّفه لازمٌ كالصحيح” مَن كان مرضه غير مَخُوفٍ، يعني: مُصابًا بزكامٍ، أو بوجع ضِرْسٍ، فهذا كالصحيح، هو حُرٌّ في ماله يتصرَّف فيه كما يشاء، لكن إن كان مَخُوفًا قال: “وإن كان مَخُوفًا كَبِرْسَامٍ، وذات الجَنْبِ”، البِرْسَام: عِلَّةٌ يَهْذِي منها.
يعني: أوضح مثالٍ في وقتنا الحاضر للمرض المَخُوف: السرطان -عافانا الله وإياكم- خاصةً إذا انتشر السرطان يُعتبر مرضًا قاتلًا، فهو مرضٌ مَخُوفٌ.
قال: “وما قال طبيبان مسلمان عدلان: إنه مَخُوفٌ؛ لا يلزم تبرُّعه لوارثٍ بشيءٍ” يعني: لا يصح تبرُّعه لوارثٍ في حال المرض المَخُوف.
وأيضًا: “ولا بما فوق الثلث لأجنبيٍّ” فهو محجورٌ عليه، إذا كان في مرض الموت المَخُوف محجورٌ عليه في أن يتبرع لوارثٍ، ومحجورٌ عليه أيضًا في التَّصرف فيما زاد على الثلث “إلا بإجازة الورثة إن مات منه”، فلو أنه -مثلًا- تبرَّع لوارثٍ، فأجاز ذلك الورثة لا بأس، أو تبرَّع بأكثر من الثلث، مثلًا: وصَّى بأكثر من الثلث، فأجاز ذلك الورثة لا بأس.
“وإن عُوفِيَ فكصحيحٍ” إن عُوفِيَ من هذا المرض المَخُوف فحكمه حكم الصحيح.
“ويُعتبر الثلث عند موته” عندما نقول: لا تجوز الزيادة على الثلث، فالمُعتبر بالثلث عند موته، وليس قبل ذلك.
كتاب الوصايا
قال رحمه الله تعالى:
تُسَنُّ الوصية لمَن ترك خيرًا، وهو المال الكثير.
ولا تصح ممن يرثه غير أحد الزوجين بأكثر من الثلث لأجنبيٍّ، أو لوارثٍ بشيءٍ، وتصح موقوفةً على الإجازة.
وتُكره من فقيرٍ وارثُه مُحتاجٌ.
فإن لم يَفِ الثلث بالوصايا تَحَاصّوا كمسائل العَوْل.
وتُخْرَج الواجبات -كدَيْن آدميٍّ وحجٍّ وزكاةٍ- من رأس مالٍ مطلقًا.
وتصح بحملٍ وله بعد تحقُّق وجوده، لا لكنيسةٍ ونحوها.
وتصح بمجهولٍ ومعدومٍ وغير مقدورٍ على تسليمه.
وإن وصَّى بِمِثْل نصيب وارثٍ مُعينٍ فله مثله مضمومًا إلى المسألة.
وبِمِثْل نصيب أحد الورثة له مثل ما لأقلِّهم، وبسهمٍ من ماله له السدس، وبشيءٍ، أو حظٍّ، أو جزءٍ يُعطيه الوارث ما شاء.
تعريف الوصايا وحكمها
الوصايا جمع وصيةٍ، مأخوذةٌ من أوصيتُ الشيء إذا وَصَلْتُه.
وتعريفها اصطلاحًا: الأمر بالتَّصرف بعد الموت أو التَّبرع بالمال بعده.
وتدور عليها الأحكام الخمسة، وذكر المؤلف بعضها، فَتُسَنُّ تارةً، وتجب تارةً، وتَحْرُم تارةً، وتُكْرَه تارةً، وتُباح تارةً.
متى تُسَنُّ؟
قال: “تُسَنُّ الوصية لمَن ترك خيرًا، وهو المال الكثير”، مَن ترك مالًا كثيرًا فَتُسَنُّ في حقِّه الوصية.
متى تَحْرُم؟
قال: “ولا تصح ممن يرثه غير أحد الزوجين بأكثر من الثلث لأجنبيٍّ، أو لوارثٍ”، تَحْرُم الوصية لوارثٍ؛ لقول النبي : إن الله قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فلا وصية لوارثٍ [12].
وتَحْرُم كذلك بما زاد على الثلث لأجنبيٍّ.
“وتصح موقوفةً على الإجازة” يعني: لو أنه أوصى بأكثر من الثلث، وقال: إن رضي الورثة، فتصح.
“وتُكْرَه من فقيرٍ وارثُه مُحتاجٌ”، إنسانٌ فقيرٌ وورثته مُحتاجون، يُكْرَه أن يُوصي؛ لقول النبي : إنك أن تَذَرَ ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تَذَرهم عالةً يتكفَّفون الناس [13].
قلنا: تُسَنُّ وتَحْرُم وتُكْرَه، بقي: متى تجب؟
تجب على مَن عليه دَيْنٌ ليست عليه بيِّنةٌ.
مثال ذلك: رجلٌ أقرضك عشرة آلاف ريالٍ، ولم تكتب وثيقةً بهذا، سلفٌ لوجه الله، يجب عليك أن تكتب بأن فلانًا يُوفَّى عشرة آلاف ريالٍ، فإن لم تفعل فإنك تأثم بذلك؛ لأن الورثة قد لا يُصدِّقون هذا الرجل في دعواه بأنه يُطالب الميت بهذا المبلغ، ولا يلزمهم تصديقه.
فهنا نقول: تجب الوصية على مَن عليه دَينٌ بلا بيِّنةٍ، وإذا كان الدَّين عليه بيِّنةٌ لا تجب الوصية؛ لأن البينة كافيةٌ في إثبات الدَّين.
وتُباح إذا كان ورثته أغنياء.
وقال بعض أهل العلم: إنها في هذه الحال تكون مُستحبةً، لكن لو أراد أن يُوصي لجهةٍ ليست جهة بِرٍّ، وإنما جهةٌ مُباحةٌ، فتكون الوصية حينئذٍ مُباحةً.
قال: “فإن لم يَفِ الثلث بالوصايا تَحَاصّوا كمسائل العَوْل” يعني: هنا أوصى بعدة وصايا، ولم يَفِ بها الثلث، فتكون بين هذه الوصايا مقاصّة كالعَوْل في مسائل الفرائض.
“وتُخْرَج الواجبات -كدَيْن آدميٍّ وحجٍّ وزكاةٍ- من رأس مالٍ مطلقًا”؛ لقول الله تعالى لما ذكر قسمة الميراث: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11]، فَيُبْدَأ أولًا بالدَّين، فالدَّين مُقدَّمٌ على الوصية، فَيُبْدَأ أولًا بالدَّين، سواء كان دَيْنًا لله، أو دَيْنًا لآدميٍّ، ثم بعد الدَّين تُخرج الوصية، ثم تُقسم التركة.
قال: “كَدَيْن آدميٍّ” هذا حق آدميٍّ، “وحجٍّ وزكاةٍ” هذا دَيْن الله ، هذه كلها تُخْرَج من التركة قبل القسمة.
“وتصح” يعني: الوصية “بِحَمْلٍ وله”، يصح أن يُوصي -مثلًا- بحمل هذه الشاة أنه يكون لكذا، أو أن هذا الحمل الذي في بطن زوجته له كذا “بعد تحقُّق وجوده، لا لكنيسةٍ ونحوها” لا تصح الوصية في أمرٍ مُحَرَّمٍ.
“وتصح بمجهولٍ، ومعدومٍ، وغير مقدورٍ على تسليمه” الوصية لا يُشترط فيها العلم، فيجوز أن تكون بمجهولٍ، أو بما فيه غَرَرٌ، لماذا؟
لأنه لا يترتب عليها شيءٌ، يعني: أوصى بشيءٍ مجهولٍ، هل فيه ضررٌ؟
إن حصل هذا الشيء وإلا فليس عليه ضررٌ، ليس هناك ضررٌ أو إشكالٌ.
أوصى لزيدٍ من الناس بشيءٍ مجهولٍ، هل زيدٌ عليه ضررٌ؟
إن حصل له ذلك الشيء وإلا فليس عليه ضررٌ؛ فلذلك الوصية تصح بالمجهول، وتصح بما فيه غَرَرٌ، وتصح بالمعدوم، وتصح بغير المقدور على تسليمه.
قال: “وإن وصَّى بِمِثْل نصيب وارثٍ معينٍ فله مثله مضمومًا إلى المسألة” إن وصَّى لزيدٍ من الناس قال: زيدٌ له مثل إرث ابني فلان. فَتُنَفَّذ، وهذه الوصية صحيحةٌ.
“وبِمِثْل نصيب أحد الورثة له مثل ما لأقلِّهم” لو أطلق، مثلًا: نفترض أنه حفيدٌ له، قال: أُوصي بأن يُعْطَى مثل ما لأحد الورثة. فيُعطى مثل أقلِّ الورثة نصيبًا.
“وبسهمٍ من ماله له السدس” لو أوصى بسهمٍ من ماله وسكت، يقولون: له السدس؛ لأنه أقلّ سهمٍ يرثه ذو قرابةٍ، السدس هو أقلُّ سهمٍ يرثه ذو قرابةٍ.
لا تقل: الثُّمن للزوجة، فالزوجة ليست من ذوي القرابة، لكن أقلَّ سهمٍ يرثه ذو القرابة هو السدس.
لو أوصى “بشيءٍ، أو حظٍّ، أو جزءٍ يُعطيه الوارث ما شاء”؛ لأنه يَصْدُق على ذلك الشيء أنه حظٌّ أو جزءٌ أو شيءٌ.
قال رحمه الله تعالى:
يصح إيصاءٌ إلى كل مسلمٍ مُكلَّفٍ، رشيدٍ، عَدْلٍ ولو ظاهرًا، ومن كافرٍ إلى مسلمٍ.
ولا يصح إلا في معلومٍ يَمْلِكُ المُوصِي فعله.
ومَن مات بمحلٍّ لا حاكم فيه ولا وصيَّ، فلمسلمٍ حَوْزُ تَرِكَته وفعلُ الأصلح من بيعٍ وتجهيزه منها، ومع عدمها منه، ويرجع عليها أو مَن تلزمه نفقته إن نواه أو استأذن الحاكم.
قال: “يصح إيصاءٌ إلى كلِّ مسلمٍ” هذا يُسمِّيه الفقهاء: المُوصَى إليه، والمُوصَى إليه هو المأمور بالتَّصرف بعد الموت في المال وغيره، فهو الذي يُعْهَد إليه بتنفيذ الوصية، ويُسمِّيه الناس اليوم: الوَصِيُّ، فالوصيُّ هو المُوصَى إليه، فيصح أن يكون هذا المُوصى إليه أيَّ “مسلمٍ مُكلَّفٍ، رشيدٍ، عَدْلٍ ولو ظاهرًا”، رجلًا كان أو امرأةً.
فمثلًا: يصح أن يُوصي الرجل بأن يكون الوصيُّ على أولاده زوجته: أمهم.
يكون عنده -مثلًا- أيتامٌ، ويريد أن يُوصي عليهم، يعني: بعد وفاته سيكون هؤلاء الأطفال أيتامًا، فيجعل الوصيَّ عليهم أمهم، لا بأس بذلك، فتكون أمهم هي الوصيّ، فلا يُشترط في الوصيِّ أن يكون ذكرًا، فيصح أن يكون ذكرًا أو امرأةً.
“ومن كافرٍ إلى مسلمٍ” تصح الوصية من الكافر إلى المسلم.
“ولا يصح إلا في معلومٍ يَمْلِكُ المُوصِي فعله”، لا يصح في مجهولٍ، لا بد أن يكون في شيءٍ معلومٍ، ويَمْلِك المُوصِي فعله، فلا يكون في شيءٍ لا يملكه.
“ومَن مات بمحلٍّ لا حاكم فيه ولا وصيَّ، فلمسلمٍ حَوْزُ تَرِكَته”، مات في أرضٍ لا يوجد فيها حاكمٌ شرعيٌّ، ولا يوجد فيها وصيٌّ، ووُجِدَ فيها مسلمٌ؛ فَيَحُوز تَرِكَة أخيه المسلم.
“وفعلُ الأصلح من بيعٍ وتجهيزه منها” يُجَهِّزه منها من حيث الكفن والدفن ونحو ذلك، وأما تركته فإن اقتضت المصلحة أن يبيعها أو جزءًا منها فعل.
“ومع عدمها” عدم وجود التركة يُجهِّزه من ماله، “ويرجع عليها” يرجع على التركة “أو مَن تلزمه نفقتُه إن نواه” يعني: إن نوى الرجوع، أما إن لم يَنْوِ الرجوع فَمُتَبرِّعٌ، إن نوى الرجوع “أو استأذن الحاكم”.
والقاعدة في هذا: أن مَن دفع مالًا عن غيره بِنِيَّة الرجوع فله الرجوع، أما مَن دفع عن غيره مالًا بغير نِيَّة الرجوع فليس له الرجوع.
مثال ذلك: هذا رجلٌ له بيتٌ مُشتركٌ -مثلًا- مع ورثةٍ، أو مُشتركٌ مع آخرين، فقام بترميم البيت، ثم بعد ذلك طلب من شُركائه أن يدفعوا له.
فنقول: إن كان قد فعل ذلك بِنِيَّة الرجوع فله الرجوع عليهم، وإن كان فعل ذلك بغير نِيَّة الرجوع فهو مُتَبَرِّعٌ، لا يملك الرجوع.
كيف نعرف أنه فعله بِنِيَّة الرجوع أو بغير نِيَّة الرجوع؟
هو الذي يعلم نِيَّته، يُحَلِّفه القاضي، عندما تصل المسألة للقضاء يُحَلِّفه القاضي: هل فعل ذلك بِنِيَّة الرجوع أو بغير نِيَّة الرجوع؟
فلا نعرف ذلك إلا عن طريقه بِيَمِينه.
وبهذا نكون قد انتهينا مما أردنا شرحه من هذا المتن، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصَّالحات.
الأسئلة
الآن نُجيب عما تيسر من الأسئلة.
طالب: …….
الشيخ: طيب، نسأل الأسئلة التي عليها جوائز فيما شُرِحَ، والسؤالان للرجال.
السؤال الأول: ذكرنا أن الغاصب يُطَالَب بثلاثة أمورٍ، ما هي؟ الغاصب يُطَالَب بثلاثة أمورٍ، مَن يُجيب؟
طالب: …….
الشيخ: نعم، أولًا: رَدُّ العين المغصوبة بنمائها.
الثاني؟
الطالب: …….
الشيخ: أَرْش النَّقص.
الثالث؟
الطالب: …….
الشيخ: أجرة المِثْل.
طيب، بارك الله فيك، تفضل.
يعني: كونه حاول -جزاه الله خيرًا- هو أجاب معظم الإجابة، يعني: يُعْطَى الأكثر حكم الكل.
الثاني: ما الفرق بين الأجير الخاص والأجير المُشترك؟
طالب: …….
الشيخ: تعريفه، ما الأجير الخاص؟
طالب: …….
الشيخ: نحن نريد تعريف الأجير الخاص.
طالب: …….
الشيخ: مَن قُدِّر نفعه بالزمن. والأجير المُشترك؟
طالب: …….
الشيخ: مَن قُدِّر نفعه بالعمل، بارك الله فيك.
السؤال الثالث للأخوات النساء: كيف يكون العدل في عطية الأولاد؟
الأخوات النساء يُرْسِلن الإجابة عبر الرابط؛ رابط الجامع.
طيب، نُجيب الآن عما تيسر من الأسئلة.
السؤال: ما حكم التعامل مع شركات التقسيط بسعر الكاش باك؟
الجواب: شركات الكاش باك ليست شركات، فيمكن أن نُصحح السؤال: ما حكم التعامل بطريقة الكاش باك؟
طريقة الكاش باك موجودةٌ لدى بعض المصارف، وتعني: الاسترداد النَّقدي، فَيُعْطِي البنكُ العميلَ بطاقةً، وتكون هذه البطاقة مُسبقة الدفع، ويُعْطِي البنكُ استرجاعًا نقديًّا مع كلِّ عملية شراء، فهذه لا بأس بها.
يعني: تُعتبر هديةً من البنك، وهي هديةٌ على عمليات الشراء، وليس لها علاقةٌ بالحساب الجاري، فكل عملية شراء يُعطيك استردادًا نقديًّا؛ لأن البنك يأخذ عمولةً من المتاجر، وهذه العمولة يقسمها بينه وبين العميل نصفين، أو ليس نصفين، بل يُعطي العميل جزءًا منها، وهو يأخذ جزءًا منها، فهذه لا بأس بها.
طالب: …….
السؤال: أجد صعوبةً في فهم مصطلحات البيوع؛ لتنزيل المسائل على الواقع.
الجواب: لا بد أن تبذل جهدًا في قراءة كلام الفقهاء في البيوع، وأيضًا قراءة الكتب المعاصرة المُصنَّفة في المعاملات المالية المعاصرة، وإذا بذلتَ جهدًا في ذلك فبإذن الله تعالى ستزول هذه الصعوبة.
السؤال: ما حكم مَن يُحوِّل عملةً من الريال إلى أخرى؛ لكون الأخرى نزلتْ قيمتها، بقصد إعادتها إلى الريال إذا ارتفعتْ؟
الجواب: لا بأس بذلك، يعني مثلًا: ينظر إلى عملةٍ من العملات التي نزلتْ قيمتها ويشتريها بريالاتٍ، وينتظر إذا ارتفعتْ قيمة هذه العملة باعها، لا بأس بهذا، لكن المهم أنه عند بيع عملةٍ بعملةٍ لا بد من التَّقابض.
السؤال: إذا جاءتني مُساعدةٌ ماليةٌ للدراسة، هل يجوز لي أن أصرفها في غيرها؟
الجواب: هذا بحسب المُتبرِّع، فإذا كان المُتبرع ليس عنده مانعٌ في أن تُصرف هذه المساعدة في أيِّ شيءٍ فلا بأس، أما إذا خصَّصها لأجل الدراسة فليس لك أن تصرفها في غير ما خصَّصها له المُتبرِّع، فترجع في ذلك لرأي المُتبرع.
السؤال: ما حكم بطاقات الائتمان مثل: (الفيزا) الصادرة من البنوك الإسلامية؟ علمًا بأنه يتم تحصيل رسوم رمزية ثابتة مقابل هذه الخدمة.
الجواب: لا بأس بها، ومُنضبطةٌ بالضوابط الشرعية، ولا يوجد فيها شرط غرامة تأخيرٍ.
أما الرسوم فهي رسوم إصدارٍ، فهذه البنوك مؤسسات مالية ربحية، وليست جمعيات خيرية، ولا تُلزم البنوك بخدمة العملاء مجانًا، فهم يريدون مقابل الخدمة، وأيضًا مقابل المصاريف الإدارية التي تتكبَّدها هذه البنوك، فرسوم الإصدار لا بأس بها، لكن لا يجوز أن يُشترط فيها شرط غرامة التأخير.
السؤال: يقول: ذكرتم أنه يجوز الصُّلح في حَدِّ القذف؛ لأنه من حقوق الآدميين، أليست السرقة كذلك؟
الجواب: السرقة حقٌّ لله ، فقطع اليد في السرقة هذا لِحَقِّ الله سبحانه، وإعادة المال المسروق لصاحبه هذا لِحَقِّ آدميٍّ، فلا يجوز الصلح على إسقاط حَدِّ السرقة، لكن يجوز في حَدِّ القذف؛ لأن حَدَّ القذف هو حقٌّ لآدميٍّ.
السؤال: ما ضابط التَّفريق بين بيع السَّلَم وبيع ما لا يملك؟
الجواب: بيع ما لا يملك: تبيع سلعةً مُعينةً لا تملكها.
أما السَّلَم فهو: عقدٌ على موصوفٍ في الذِّمة مُؤجَّلٍ بثمنٍ مقبوضٍ في مجلس العقد.
تُعطي المُسْلَم إليه مبلغًا نقديًّا على أن يُوفِّر لك سلعةً بمواصفاتٍ معينةٍ في وقتٍ معينٍ، فهو عقدٌ على موصوفٍ في الذِّمة، فكأنه بيعُ معدومٍ لكن موصوفٌ في الذِّمة بمواصفاتٍ مُعينةٍ.
والسَّلَم فيه نوعٌ من الغَرَر، لكنه غَرَرٌ مُغْتَفَرٌ، وليس كلُّ غَرَرٍ ممنوعًا شرعًا.
أسئلةٌ من بعض الأخوات.
السؤال: ما حكم كتابة وصيةٍ تحتوي على أن الناس يُسامحوني، مثلًا: كتبتُ لأهلي أن يُكلموا كلَّ واحدٍ بأنه يُسامحني، هل تُعَدُّ هذه وصية؟
الجواب: طيب، مثل هذا أمرٌ غير مُناسبٍ، إنما الإنسان لا يتعدَّى على حقوق الآخرين، وأما كونه يُوصي بأن يُطلب من الناس أن يُسامحوه، هذا غير مُناسبٍ، ولم يُؤْثَر هذا عن السلف، مثل هذه الوصايا لم تُؤْثَر عن السلف، وإذا كان الإنسان يعرف أن أحدًا قد تعدَّى عليه يتحلل منه اليوم وهو حيٌّ، لكن مثل هذه الوصية الأَوْلَى تركها.
السؤال: ما معنى: “ولا يتصرَّف لهم إلا بالأحظِّ”؟
الجواب: يعني: بما فيه مصلحةٌ راجحةٌ، هذا المقصود بالأَحَظِّ.
السؤال: ما حكم الشراء من الشركات التي فيها شرط غرامة تأخيرٍ، ويذهب المال لجمعيةٍ خيريةٍ، لا لنفس الشركة؟
الجواب: هذه محل خلافٍ بين المعاصرين، يعني: يشترطون غرامة تأخيرٍ، ويقولون: إن هذه الغرامة لا يأخذها الدائن، وإنما تُصرف لجهاتٍ خيريةٍ. فأكثر العلماء المعاصرين على المنع، وهو الذي قرَّره المجمع الفقهي، لكن هناك مَن أجاز ذلك، ومن ذلك “أيوفي” هيئة المُراجعة والمُحاسبة للمؤسسات المالية الإسلامية.
والقول الراجح: عدم الجواز، القول الراجح: أنه لا يجوز، فإذا تأخَّر المدين عن السداد لا يجوز أن تُفرض عليه غرامةٌ مطلقًا، بل إن كان مُعْسِرًا يجب إنظاره، وإن كان مُوسِرًا فيُلزم بالسداد.
السؤال: مَن لزمه الغُسل حرم عليه قراءة القرآن حتى لو كان في أذكار الصباح والمساء، مثل: قراءة المعوذات وآية الكرسي؟
الجواب: أولًا: تحريم قراءة القرآن على الجُنُب محل خلافٍ، والأظهر -والله أعلم- أنها لا تصل إلى درجة التحريم، إنما هي مكروهةٌ؛ لأن الأحاديث المروية في ذلك كلها ضعيفةٌ لا تثبت، لكن يُكْرَه أن يذكر الله على جنابةٍ، خاصةً أن القرآن هو أشرف الذكر، وله أن يُبادر للاغتسال، فأمره بيده، فقراءة القرآن للجُنُب الأرجح أنها مكروهةٌ، ولا تصل إلى درجة التَّحريم.
ثانيًا: بالنسبة لأذكار النوم ونحوها لا يأتي بما كان من القرآن، وإنما يأتي بالأذكار من غير القرآن إذا أراد أن ينام وهو جُنُبٌ، على أنه لو أتى بالأذكار من القرآن على القول الراجح: أنه لا يأثم؛ لأن قراءة القرآن للجُنُب -كما ذكرتُ- مكروهةٌ، ولا تصل إلى درجة التَّحريم.
السؤال: هل الفواكه يدخل فيها الربا؟
الجواب: لا يدخل الربا في الفواكه، ولا في الخضروات، يعني مثلًا: بيع برتقالةٍ ببرتقالتين يجوز، أو كرتونة برتقالٍ بكرتونتين يجوز؛ لأننا ذكرنا الضابط، والضابط ما ينطبق عليها، الضابط في غير النَّقدين: أن يكون مَطْعُومًا ومُدَّخَرًا، فلا يكون في الفواكه، لكن يكون -مثلًا- في التمر، ويكون في الزبيب، ويكون في الأرز، أما الفواكه فلا يجري فيها الربا.
السؤال: ما حكم الألعاب المُنتشرة التي تدفع وتشحن ببطاقةٍ، ثم قد تكسب سلعةً أو لا بحسب الحظِّ؟
الجواب: إذا كان الغرض من ذلك اللعب فلا بأس، أما إذا كان الغرض من ذلك الفوز بالجائزة، وقد تربح، وقد تخسر، فهذا من المَيْسِر.
السؤال: ذكرتم أن الضَّالة لا يجوز تعريفها في المسجد، فكيف نعمل في لُقَطَة المسجد؟
الجواب: لُقَطَة المسجد تُعَرَّف على الباب الخارجي للمسجد، تُكتب لافتةٌ ونحو ذلك على الباب الخارجي، يعني: من الخارج، أما داخل المسجد فالنبي دعا على مَن وجده يَنْشُد ضَالَّةً وقال: لا ردَّها الله عليك، فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا [14].
السؤال: ما الفرق بين القرض والتَّمويل؟
الجواب: وَضَّحْنَا هذا وقلنا: إن القرض هو السلف: دفعُ مالٍ يَنْتَفع به ويَرُدُّ بدله.
والتمويل يكون بطريق التَّورُّق، بطريق المُرابحة، بطريق التَّأجير مع الوعد بالتَّمليك، يكون بطريق المُشاركة، يعني: في غير القرض.
السؤال: إذا كانت اللُّقَطَة غَنَمًا، فَمَرَّتْ سنةٌ ولم يَأْتِ، فكيف أتصرف فيها؟
الجواب: هذا سؤالٌ جيدٌ، لو كانت اللُّقَطَة شاةً، إن قيل: عَرِّفْهَا سنةً، فتحتاج إلى علفٍ كل يومٍ، فلو كانت قيمة هذه الشاة خمسمئة ريالٍ، وكل يومٍ سيشتري لها علفًا بريالين، معنى ذلك: أنه في نهاية السنة يكون قد أنفق عليها أكثر من قيمتها.
طيب، ما الحل؟
هذا الإشكال لم يَخْفَ على الفقهاء السابقين، فقد ذكره ابن قُدامة في “المغني”، وقال: إن المُلْتَقِط مُخَيَّرٌ بين ثلاثة أشياء:
- إما أن يذبحها ويأكلها ويحفظ ثمنها لصاحبها.
- وإما أن يبيعها ويحفظ ثمنها لصاحبها.
- وإما أن يُبْقِيها ويُنْفِق عليها.
فمثلًا: لو كان في مكانٍ فيه أغنامٌ، ولا يُكلِّفه الإنفاق عليها شيئًا، فتكون مع أغنامه ولا تُكلِّفه شيئًا؛ يُبْقِيها.
وإذا كانت تحتاج إلى نفقةٍ -تحتاج إلى علفٍ، وتحتاج إلى سَقْيٍ- يبيعها ويحفظ ثمنها، أو يذبحها ويأكلها ويحفظ ثمنها.
قال ابن القيم مُعلِّقًا على تقرير ابن قدامة: “لقد أحسن أبو محمد في هذا غاية الإحسان؛ لأنه حلَّ إشكالًا كبيرًا”.
السؤال الذي طرحتُه عليكم فيه إشكالٌ، فأجاب عن هذا الإشكال المُوفَّق، وقد وُفِّق في هذا الطرح، فهو مُخَيَّرٌ بين هذه الأمور الثلاثة، يختار ما هو الأصلح منها.
السؤال: هل يوجد فرقٌ في صدقة الكريم والبخيل؟
الجواب: العبرة بكيفية الصدقة، فالبخيل إذا كان سيصحب صدقته مِنَّةٌ أو أذًى فهذه الصدقة غير مقبولةٍ؛ ولذلك الأحسن ألا يتصدق، والله تعالى يقول: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [البقرة:263].
بعض الناس إذا تصدَّق وعمل معروفًا يُؤذي مَن تصدَّق عليه وعمل معه معروفًا حتى يُبطل أجر صدقته وأجر معروفه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى [البقرة:264]؛ ولذلك أهم شيءٍ في مُساعدة الفقير: أن تحفظ كرامته، فحفظ كرامته أهم من الصدقة عليه، وإذا أردتَ أن تتصدق عليه أو تُعطيه مُساعدةً وتُؤذيه بالكلام أو بالمِنَّة فلا تفعل: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ أَعْطِهِ كلامًا حسنًا، ولا تفعل، لا تتصدق عليه:قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى.
بعض الناس مُبْتَلًى بالمِنَّة، فلا يكاد يعمل معروفًا إلا امتَنَّ به، فَيَمْتَنُّ على الفقير، ويَمْتَنُّ على زوجته، ويَمْتَنُّ على أولاده، ويَمْتَنُّ على أهله، وهذا مرضٌ عند بعض الناس.
إذا عملتَ معروفًا فَانْسَ هذا المعروف، الكريم ينسى المعروف الذي عمله، أما الذي يَمْتَنُّ به، ويُلَمِّح به، ويأتي بطريقٍ مباشرٍ وغير مباشرٍ، فهذا أولًا يُبطل أجره عند الله ، وثانيًا يَنْفر منه الناس؛ لأن المِنَّة أذًى نفسيٌّ شديدٌ.
السؤال: رجلٌ عنده وسواسٌ قهريٌّ، وطرده أبوه من البيت؛ لشدة الوسواس، هل تجب على الأب النَّفقة عليه؟
الجواب: نعم، الأب مُطالَبٌ بالنفقة عليه، إذا لم يكن له دخلٌ فأبوه مُطالَبٌ بالنفقة عليه.
وكان الواجب على الأب أن يُعالجه، وأن ينتشله من وضعه، لا أن يطرده، فهذا الفعل من الأب يُعتبر قطيعة رحمٍ، ويأثم به الأب، فالواجب عليه أن يحتويه، وأن يُعالجه، ما دام أن عنده وسواسًا قهريًّا فمعنى ذلك: أنه مريضٌ، وأن هذا بغير اختياره، فكون الأب يطرده من البيت هذا قطيعة رحمٍ، فعلى الأب أن يُبادر بتصحيح وضعه مع هذا الابن، وأن يسعى لعلاجه ولو في المستشفيات.
السؤال: حكم جمعيات المُوظفين؟
الجواب: جمعيات الموظفين -ونختم بهذا السؤال- لا بأس بها، وقد عُرِضَتْ على هيئة كبار العلماء، وأجازتها هيئة كبار العلماء وقت الشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين رحمهما الله تعالى، وليس فيها النَّفع المُحرم في القرض؛ لأن كل واحدٍ يأخذ بقدر ما دفع، ولا يزيد على غيره ريالًا واحدًا، لكن فقط فكرتها: أنها تجمع رواتب الموظفين، وتُعْطَى في كلِّ شهرٍ إلى أحدهم، بل قال بعض العلماء: إنها مُستحبةٌ؛ لما فيها من التعاون على البِرِّ والتَّقوى.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحاشية السفلية
^1 | رواه ابن ماجه: 2500، والطبراني في “المعجم الكبير”: 14144، والبيهقي في “السنن الكبرى”: 11588. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 2258. |
^3 | رواه أبو داود: 3073، والترمذي: 1378. |
^4 | رواه البخاري: 2276، ومسلم: 2201. |
^5 | رواه البخاري عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: 5737. |
^6 | رواه مسلم: 137. |
^7 | رواه البخاري: 2438، ومسلم: 1722. |
^8 | رواه البخاري: 2737، ومسلم: 1632. |
^9 | رواه البخاري: 2589، ومسلم: 1622. |
^10 | رواه أبو داود: 3530، وابن ماجه: 2292، وأحمد: 7001. |
^11 | رواه الترمذي: 1358 وقال: حسنٌ، وابن ماجه: 2290. |
^12 | رواه أبو داود: 2870، والترمذي: 2120 وقال: حسنٌ، وابن ماجه: 2713. |
^13 | رواه البخاري: 1295، ومسلم: 1628. |
^14 | رواه مسلم: 568. |