عناصر المادة
- كتاب الجهاد
- أحكام الغنيمة
- باب عقد الذِّمَّة وأحكامها
- كتاب البيوع
- أهمية التفقه في المعاملات
- تعريف البيع
- صيغ البيع
- شروط البيع
- الشرط الأول: التراضي بين العاقدين
- الشرط الثاني: أن يكون كل واحد من العاقدين جائز التصرف
- الشرط الثالث: كون المَبيع فيه نفع مباح بلا حاجة
- الشرط الرابع: كونه ملكًا للبائع، أو مأذونًا له فيه
- الشرط الخامس: أن يكون مقدورًا على تسليمه
- الشرط السادس: العلم بالمبيع والثمن
- الشرط السابع: أن يكون مُنَجَّزًا لا معلَّقًا
- الأسئلة
أما بعد:
فأحمد الله الذي يسَّر هذا اللقاء وهذه الدورة المباركة، وأسأل الله تعالى أن يُوفِّق الجميع لما يحب ويرضى، وأن يرزقنا الفقه في الدين.
وهذا المجلس -أيها الإخوة- من مجالس الذكر، وقد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة : أن النبي قال: إن لله تعالى ملائكةً سيَّارةً تلتمس مجالسَ الذِّكر؛ فإذا وجدوا مجلسَ ذِكْرٍ قالوا: هَلُمُّوا إلى حاجتكم، وفي آخر الحديث أن الله تعالى يقول: أُشهدكم أني قد غفرتُ لهم. فتقول الملائكة: إن فيهم فلانًا ليس منهم؛ وإنما أتى لحاجةٍ فجلس؟ فيقول الله: هم القوم لا يَشْقى بهم جليسٌ[1].
فلو لم يكن من حضور مجالس الذكر إلا هذه الفائدة لَكَفَتْ؛ التعرُّض لمغفرة الله والثوابِ والأجرِ.
وأيضًا: حضور مثل هذه الدروس واللقاءات العلمية هو سلوكٌ لطَلَبِ العلم: ومَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا؛ سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة[2]؛ وطلب العلم لا يعدله شيء لمن صحَّت نِيَّته، كما قال الإمام أحمد: طلب العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته.
وقد كان السلف الصالح يرتحلون في سبيل طلب العلم، وصُنِّف في الرحلة في طلب العلم مصنفاتٌ، وجابر بن عبدالله الأنصاري الصحابي الجليل ارتحل من المدينة إلى الشام من أجل سماع حديث واحد فقط! حديث واحد! ولم يرتحل على طائرة أو على سيارة، وإنما على بعيره وحده، ومكث في هذه الرحلة شهرًا كاملًا من المدينة إلى الشام حتى يصل، ولما وصل إلى عبدالله بن أُنيس اعتنقه وقال: يا ابن عبدالله، ما الذي جاء بك؟ قال: بلغني أنك سمعتَ من النبي حديثًا، فخشيتُ أن أموت أو تموت ولم أسمعه منك. فذكر له الحديث ثم رجع، ومكث في العودة شهرًا كاملًا، بقي شهرين كاملين في هذه الرحلة ذهابا وإيابًا من أجل سماع حديث واحد فقط.
وكذلك أبو أيوب الأنصاري، كذلك أيضًا.
والرحلة في طلب العلم صُنِّف فيها مصنفات، معظم العلماء ارتحلوا في سبيل طلب العلم. والرحلة ليست مثل الرحلة في وقتنا الحاضر، كان الإنسان ينقطع عن أهله تمامًا، ليس هناك وسائل تواصل، ويغترب بالسنوات؛ كل ذلك لأجل طلب العلم.
ونحن -ولله الحمد- في هذا الزمن يَسَّر الله تعالى لنا كثيرًا من الأمور؛ فينبغي رفع الهمة لطلب العلم.
والعلم إن أعطيتَه كُلَّك أعطاك بعضه، العلم لا يأتي للإنسان دَفْعةً واحدة؛ وإنما يأتي شيئًا فشيئًا، قال يحيى بن أبي كثير: “لا يُستطاع العلم براحة الجسد”.
وقد أورد الإمام مسلم هذا الأثر في مواقيت الصلاة، وبعض الشُّرَّاح قال: إن الإمام مسلمًا لمَّا أورده هنا كأنه تَعِب في جمع أحاديثها وطرقها، ثم أتى بهذا الأثر: “لا يُستطاع العلم براحة الجسد”؛ فلا بد من الصبر.
وهذه الدورات تتميَّز بأن طالب العلم يُحصِّل فيها علمًا كثيرًا في وقت يسير؛ فمثلًا هذا المتن الذي بُدئ في شرحه، ستمُرُّ فيه على جميع أبواب الفقه: من الطهارة إلى الإقرار.
وهذه مزية؛ لو أنك حضرتَ درسًا في شرح متن ربما تبقى مدة طويلة، خاصة مع وجود الدروس الأسبوعية التي قد تطول معها المدة، لكن الآن تمُرُّ على جميع أبواب الفقه خلالَ أيام، وخلالَ بضعةِ أيامٍ تمُرُّ على جميع أبواب الفقه. وهذه نعمة كبيرة.
ولذلك؛ من يُتابع الدروس ويضبط ما يُقال سيُحصِّل علمًا كثيرًا، يكفي أنه مَرَّ على جميع أبواب الفقه، وضَبَط -على الأقل- الحدَّ الأدنى لِمَا ينبغي لطالب العلم أن يضبطه.
ولكن -أيها الإخوة- نحن في هذا الزمنِ ضَعُفتِ الذاكرةُ لدى كثيرٍ من الناس؛ وسبب ذلك ظاهر: وهو أن كثيرًا من الناس أصبحوا يعتمدون على وسائل التقنية الحديثة ولا يعتمدون على ذاكرتهم.
والذاكرة تَقْوى بالتمرين وتضعف بالإهمال؛ ولذلك لمَّا كان كثيرٌ من العرب أُمِّيِّين؛ كانوا يعتمدون على ذاكرتهم، فكان عندهم قوةٌ كبيرة في الحفظ، كانوا يسمعون القصيدة من أكثر من مائةِ بيتٍ؛ يحفظونها مِن أولِ مرةٍ. لكن الآن مَن الذي يحفظ، ليس من أول مرة -يمكن- مِن عاشِرِ مرة؟!
ضعفت الذاكرة الآن؛ ولذلك لا بد من التعويض عن هذا الضعف بكثرة المراجعة وتعاهُدِ العلم. ولا بد قبل ذلك من ضبط آليةِ تحصيلِ طلب العلم، ومن أبرز الوسائل وسيلتان:
- الوسيلة الأولى: الكتابة؛ بأن تُلخِّص ما تسمع، ويكون ذلك بطريقةٍ مرتبة؛ بحيث ترجع لها فيما بعدُ بكلِّ سهولةٍ ويسرٍ. وليس مثل ما يفعله بعض الطلبة: تكون كتابته مُشتَّتة: هنا جزءٌ وهنا جزء، ثم بعد ذلك إذا أراد أن يراجع يكون مشتَّتًا. ولا بد أيضًا أن تكون سريعًا في الكتابة. فهذه الطريقة الأولى.
- الطريقة الثانية: التسجيل؛ بأن تُسجِّل هذه الدروس ثم تستمع لها. وهي الآن -ولله الحمد- مسجلة على موقع (الجامع) وغيره.
وأيُّ الطريقتين أفضل؟
هذا يختلف باختلاف الناس؛ بعض الناس -كما يقال- سمعي؛ يعني: يحفظ بالسمع أكثر، فهذا كونه يستمع لها عن طريق التسجيل أفضل. وبعض الناس بصري، يحفظ بالبصر وبالنظر أكثر؛ فهنا الأفضل له الكتابة.
فأنت انظر إلى أيِّ الطريقتين أفضل؛ فاختر الطريقة المناسبة لك، لكن لا بد من ضبط العلم؛ لأن الذي يَحضُر ولا يضبط العلم سرعان ما ينسى، يعني: مَن الآن حضر هذه الدورة لكنه لم يضبط العلم الذي قيل فيها، لو سألتَه بعد شهر تجد أن معظم ما سمعه نسيه، ما بالك لو كان بعد سنة؟
ولذلك؛ تجد أن بعض الإخوة يدور في حلقة مفرغة، يمكن لسنوات وهو يحضر دروسًا ودورات، لكن المحصِّلة في النهاية ضعيفة، بسبب ضعف ضبط آلية التحصيل.
فلا بد أولًا من الضبط، ولا بد ثانيًا من المراجعة؛ حياة العلم المذاكرة. فلا بد من الأمرين جميعًا لتحصيل العلم: أن تضبط آلية التحصيل إما بالكتابة وإما بالتسجيل، والأمر الثاني: يكون هناك مراجعة ومذاكرة لما حصَّلته. ولا بد من الأمرين؛ لو تخلَّف أحدهما لم تُحصِّل علمًا، إنما تُؤجر فقط على حضورك للدروس. ولكن إذا أردت تحصيل العلم فلا بد من الأمرين جميعًا: تضبط آلية التحصيل، وأن تُراجع ما ضبطت.
وأكتفي بهذا القدر في هذه المقدمة، وربما أن المشايخ أيضًا أصحاب الفضيلة في الدروس السابقة وأيضًا الدروس اللاحقة، سيذكرون شيئًا من هذه المعاني.
بُدئ في هذه الدورة في شرح هذا المختصر، وعلى حسب الترتيب ستكون بدايتنا من “كتاب الجهاد”، والحنابلة يذكرون “كتاب الجهاد” في قسم العبادات.
فنبدأ على بركة الله، أولًا: نستمع لعبارة المؤلف رحمه الله، ثم نبدأ في شرح عبارة المصنِّف.
القارئ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لشيخنا، وللحاضرين والمستمعين، والمسلمين والمسلمات.
كتاب الجهاد
قال المصنف رحمه الله تعالى:
هو فرض كفاية، ويجب إذا حضره، أو حصر العدوُّ بلدَه، أو كان النفير عامًّا.
ويُسَنُّ رباط: وهو لزوم ثَغْرٍ، وأقله ساعة، وتمامه أربعون يومًا. ويَمنع الإمامُ المُخذِّلَ والمُرجِف، ويلزم الجيشَ طاعتُه، والصبر معه. ولا يجوز الغزو إلا بإذنه، إلا أن يفجأهم عدوٌّ يخافون كَلَبَه.
ولا يجب إلا على ذَكَرٍ حُرٍّ مسلم مكلف صحيح، واجدٍ من المال الكفايةَ له ولأهله حتى يرجع، ولا يتطوع إلا بإذن أبويه المسلمين.
الشيخ: الجهاد هو ذِروة سَنام الإسلام، وعدَّه بعضُ العلماء الركنَ السادس من أركان الإسلام، ولمَّا سُئل النبي عن أحبِّ العمل إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قيل: ثم أيٌّ؟ قال: بر الوالدين، قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله[3].
وقد انحرف في فهمه بعضُ الفرق والطوائف في وقتنا الحاضر، فأصبحوا يقتلون أهل الإسلام ويَدَعون أهل الأوثان. وانحراف هذه الفرق لا يمنع من أن يكون الجهاد ذا منزلةٍ عَلِيَّة في دين الإسلام، وأن يضبط طالب العلم أبرز أحكامه ومسائله.
تعريف الجهاد وأقسامه
وتعريف الجهاد، الجهاد أوضح مِن أن يُعرَّف، لكن جرت العادة في تعريف أيِّ بابٍ من أبواب الفقه، فالجهاد مصدر جاهد يجاهد جهادًا، وهو: بذل الجهد في قتال العدو.
تعريفه شرعًا، إذا أُطلق الجهاد فالمقصود به شرعًا: قتال الكفار.
جهاد النفس والشيطان
وينقسم الجهاد إلى أقسام:
- القسم الأول: جهاد النفس والشيطان.
وجهاد النفس هو الأصل في الجهاد، بل إن جهاد النفس مقدَّم على جهاد الكفار؛ لأن الإنسان إذا غلبته نفسه حتى لو قاتل الكفار ربما يعود هذا القتال وَبَالًا عليه، كما لو كان القتال رياءً أو سمعة أو ليرى مكانه، ونحو ذلك، فلا بد أولًا من أن يُجاهد نفسه على إخلاص النية لله . فدل هذا على أن جهاد النفس هو الأصل، وجهاد الكفار هو الفرع، ما لم يُجاهد نفسه التي بين جنبيه لم يصح جهاد الكفار. فهذا يدل على أن جهاد النفس هو الأصل.
والنفس أحوالها عجيبة، وتحتاج إلى مجاهدة ومحاسبة ومشارطة، فِقهُ أحوالِ النفوس من الأمور المهمة للمسلم؛ ولهذا قال : وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ، أكمل الآية: وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [النازعات:40]، ونهى النفس؛ فهي تحتاج إلى نهي لأنها بطبيعتها تنجرف للهوى، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41].
وتحتاج أيضًا هذه النفس إلى محاسبة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18]. ومشارطة؛ وهي ما يسمى بلغة العصر “التخطيط للوقت”، يُسمِّيه السلف “المشارطة للنفس”؛ ماذا تريد أن تعمل اليوم، ماذا تريد أن تعمل في هذا الموسم في رمضان وفي غيره، ونحو ذلك.
فأحوال النفس عجيبة، وفقه أحوال النفوس من الأمور التي ينبغي أن يُعنَى بها طالب العلم.
فجهاد النفس إذن هو الأصل في الجهاد، وكذلك أيضًا جهاد الشيطان؛ لأن الشيطان عدو للإنسان، وقد وُكِّل بكُلِّ إنسان شيطانٌ مُتفرِّغ لإضلاله، ولكن من رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين أن جعل كيد الشيطان ضعيفًا، ويندفع بذكر الله ، وبالاستعاذة بالله من الشيطان: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف:200]. وجهاد الشيطان يكون بدفع ما يُزيِّنه من الشهوات، وما يأتي به من الشبهات.
جهاد المنافقين
- القسم الثاني: جهاد المنافقين؛ كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة:73]، والمنافقون ليس جهادهم بالسلاح؛ لأنهم تحت قهر أهل الإسلام، ولكن جهادهم يكون بالعلم والحجة والبيان.
جهاد الكفار
- والقسم الثالث: جهاد الكفار، وهو المقصود في هذا الباب.
حكم الجهاد
قال: (هو فرض كفاية)، هذا هو الأصل في الجهاد أنه فرض كفاية؛ كما قال الله تعالى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ [التوبة:122].
وهذه الآية صريحة في أن الجهاد فرضُ كفايةٍ؛ لأن الله قال: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً؛ يعني: ينقسم المؤمنون قسمين: قسم ينفِرُون للجهاد، وقسم يبقون للتفقُّه في الدين. لكنه يكون فرض عين في أحوال، ذكر المصنف هذه الأحوال:
- الحالة الأولى: قال: (ويجب إذا حضره)، الحالة الأولى: إذا حضر الصَّف يصبح الجهاد فرض عين، إذا حضر صَفَّ القتال؛ لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ [الأنفال:15-16].
- الحال الثانية: قال: (أو حصر العدو بلده)؛ إذا حاصر العدوُّ البلدَ أصبح الجهادُ على أهل البلد فرضَ عين، انتقل من كونه فرض كفاية إلى كونه فرض عين؛ قياسًا على ما إذا حضر الصَّف.
- الحال الثالثة: قال: (أو كان النفير عامًّا)؛ إذا استنفر الإمام الناس فيُصبح الجهاد في حقهم فرض عين؛ لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38].
فهذه هي الأحوال التي ينتقل فيها الجهاد من كونه فرض كفاية إلى كونه فرض عين.
- الأولى: إذا حضر الصَّف.
- الثانية: إذا حاصر العدو البلد.
- الثالثة: إذا استنفر الإمام.
هناك حالة رابعة أضافها العلماء: وهي إذا احتاج إليه المسلمون، إذا احتاج إليه المسلمون أصبح الجهاد في حقه فرض عين؛ كأن يكون مثلًا عنده خبرة في نوعٍ من السلاح وليست عند غيره، يكون مثلًا نوع من الطائرات لا يعرفها إلا هو، أو الدبابات، أو نحو ذلك. فإذا احتاج إليه المسلمون تعيَّن الجهاد في حقه وأصبح فرض عين.
فهذه هي الحالات الأربع التي يُصبح فيها الجهاد فرض عين، وما عدا ذلك فيبقى على الأصل؛ وهو أنه فرض كفاية.
قال: (ويُسَنُّ رباط)، هنا انتقل المؤلف مباشرة للرباط، وهذا المختصر ربما يختلف أحيانًا عن بعض مختصرات الحنابلة، بعضها تكون أكثر ترتيبًا في الأحكام والتسلسل؛ فمثلًا “الزاد” أو “الدليل” تجد أنها متسلسلة، ويؤخِّرون الكلام عن الرباط، لكن هنا انتقل المصنف للكلام عن الرباط مباشرة، قال: (ويُسَنُّ رباط).
الرباط معناه: لزوم الثغر للجهاد، والثغر: المكان الذي يُخشى منه دخول العدو، ويسمى بلغة العصر “الحدود”؛ يعني: الرباط على الحدود. هذا معنى الرباط: الإقامة على الحدود؛ حدود البلد.
قال: (وهو لزوم ثغر)، لزوم ثغر؛ هذا تعريف الرباط، (وأقله ساعة).
الرباط؛ قال المصنف: (يُسنُّ) يعني: سُنة؛ لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]، ويدخل في الرباط المذكورِ في الآية: الرباطُ المقصود هنا.
وقد جاء في “صحيح البخاري” عن سهل بن سعد : أن النبي قال: رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها[4].
قال: “وأقله ساعة، وتمامه أربعون يومًا”؛ قال الإمام أحمد: “يوم رباط، وليلة رباط، وساعة رباط”. فأقله ساعة، وأما قول المصنف: (وتمامه أربعون يومًا) فهذا بناءً على حديث مروي عن النبي تمام الرباط أربعون[5]، ولكن هذا الحديث من جهة الإسناد ضعيف، رواه أبو الشيخ، لكنه حديث ضعيف لا يصح عن النبي .
ولهذا؛ ذهب بعض العلماء إلى أن الرباط لا يتقيَّد بمدة معينة، بل يكون بحسب الحاجة. وهذا هو القول الراجح.
قال: (ويَمنع الإمامُ المُخذِّلَ والمُرجِف)؛ المُخذِّل: هو الذي يُزهِّد الناس في القتال. والمُرجِف: هو الذي يُهوِّل -باللام- قوة العدو، أو يُهوِّن -بالنون- قوة المسلمين، يُهوِّل قوة العدو أو يُهوِّن قوة المسلمين.
ويُمنَعان لأن ضررهما أكبر من نفعهما، والمُخذِّل والمُرجِف تجد أنهما ليسا فقط في القتال، بل في كثير من مجالات الحياة، تجد في المجتمع مخذِّلين ومُرجِفِين، فتجد بعض الناس مُخذِّلًا يُخَذِّل الناس عن فعل الخير، يُزَهِّد الناس في فعل الخير.
فعلى سبيل المثال: إذا أقبل شهر رمضان بدأ يُزهِّد الناس في بعض الأعمال الصالحة، يُزهِّدهم مثلًا في تفطير الصائم، يُزهِّدهم في العمرة في رمضان، يُزهِّدهم في حلقات تحفيظ القرآن ونحو ذلك، وربما يأتي أحيانًا بأقوال ضعيفة أو مرجوحة لأجل هذا التزهيد.
ثم إذا أتى شوال بدأ يُزهِّدهم في صيام الست من شوال، ويأتي بكلام بعض العلماء في ذلك، ثم إذا أتت عشر ذي الحجة بدأ يُزهِّد الناس في صيام التسعة أيام الأولى من العشر، وبعضهم يُزهِّد الناس في ذبح الأضحية؛ يقول: الناس ليسوا محتاجين لِلَّحْم الآن. وإذا أتى عاشوراء بدأ يُزهِّد الناس في صيام عاشوراء، وهكذا.
في وقتنا الحاضر، خاصة مع وجود وسائل التواصل الاجتماعي، يكفي تشكيك بعض الناس، تشكيك بعض الناس؛ يُثَبِّطه ويُخذِّله.
ولذلك؛ هذه المقاطع التي تُرسَل عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تَذكر الخلاف، أو يكون فيها تهوينٌ من بعض الفضائل، ينبغي ألا تُرسَل، وإذا وصل إليك مقطع فاجعل هذا المقطع يقف عندك؛ لأن بعض العامة يتأثَّر بها، فإذا كنت لن تفعل الخير اترك غيرك يفعل الخير، لا تُخذِّل الناس، لا تُزهِّد الناس في فعل الخير، إذا كنت -مثلًا- لن تعتمر في رمضان اترك غيرك يعتمر. أما تزهيد الناس في أعمالٍ صالحة فهذا من قلة التوفيق.
ويُقابِل المُخذِّلَ المُرجِفُ؛ المُرجِف الذي تجد أنه يُهوِّل من قوة غير المسلمين، وأن غير المسلمين عندهم من القوة والإدراك وكذا؛ مما يُعظِّم شأنهم في نفوس المسلمين ويُضعف من شأن المسلمين، فهذا يُعتبر مُرجِفًا. أو المُرجِف بِبَثِّه بعضَ الشائعات في المجتمع، هذا كله يدخل أيضًا في الإرجاف.
ولهذا؛ كما يُمنَع المُخذِّل والمُرجِف في القتال، فكذلك أيضًا ينبغي أن يُتصدَّى لهم في المجتمع، يُتَصدَّى لهؤلاء المُخذِّلين والمُرجِفِين؛ لأن ضررهم على المجتمع كبير، خاصة مع وجود وسائل التواصل الاجتماعي.
قال: (ويلزم الجيش طاعته)؛ يلزم الجيش طاعة أمير الجيش، الذي هو الإمام أو نائب الإمام، وهو ما يسمى بلغة العصر “القائد”؛ قائد الجيش تجب طاعته؛ لأن هذا داخلٌ في طاعة وليِّ الأمر، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59].
ولذلك؛ أفراد الجيش مُلْزمون بطاعة قائد الجيش؛ لأنه لو أُتيحت الفرصة لكُلِّ واحدٍ أن يعمل برأيه فلن تستقيم الأمور، ويحصل خلاف شديد.
فلا بد إذن من طاعة القائد، والصبر معه فيما يأمر به وفيما يراه، (ولا يجوز الغزو إلا بإذنه)؛ يعني: لا يجوز القتال إلا بإذن الإمام، والغزو أو القتال بدون إذن الإمام يُعتبر افْتِيَاتًا عليه، وهو الذي يُطالِب بالقتال، ويستنفر الناس للقتال.
(إلا أن يفجأهم عدو يخافون كَلَبه)؛ والكَلَب معناه -يعني هذه عبارة “الزاد”: “كَلَبه”- يعني: شرَّه وأذيَّته؛ أي: إلا أن يفجأهم عدو فيُقاتلون على سبيل الدفاع، فهنا لا يُحتاج إلى إذنٍ، لو دَهَم العدو بلدًا فالمسلمون يُدافعون عن أنفسهم ولا يحتاجون إلى إذن، لكن في غير ذلك لا بد من الإذن.
شروط وجوب القتال
ثم ذكر المصنف شروط القتال، وشروط وجوب القتال؛ قال: (ولا يجب إلا على ذكرٍ حر مسلم مكلف صحيح، واجدٍ من المال الكفاية).
فالشرط الأول: أن يكون ذكرًا، فلا يجب القتال على الأنثى؛ لأن الذكور هم أهل القتال من قديم الزمان، والمرأة ضعيفة فلا يجب عليها القتال.
(مسلم)، وهذا شرطٌ فيمن يقاتل في جيش المسلمين؛ أن يكون مسلمًا، ولمَّا تبع النبيَّ رجلٌ مشرك، قال: أريد أن أتبعك وأُصيب معك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هل تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، قال: لا. قال: ارجع؛ فلن أستعين بمشرك. رواه مسلم[6].
(مكلف) وهذا هو الشرط الثالث، والمُكلَّف هو العاقل البالغ؛ لأنَّ غيرَ المكلف لا يُستفاد منه في القتال، فالمجنون لا يُستفاد منه، وهكذا أيضًا مَن كان دون سن البلوغ.
وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: عُرِضْتُ على النبي يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يُجِزني، وعُرِضت يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني[7].
“أُحُد”، وقعت متى؟ في السَّنَة الثالثة. و”الخندق”؟ في الخامسة؛ يعني: بينهما سنتان، فكيف يقول ابن عمر: عُرِضْتُ وأنا ابن أربع عشرة سنة فأجازني، وعُرضت وأنا ابن خمس عشرة سنة فلم يُجزني. مَن يُجيب عن هذا؟
مداخلة: ……
الشيخ: أحسنت. هذا من أحسن الأجوبة.
“عُرضت وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يُجزني”؛ يعني: بداية أربع عشرة سنة، وعُرضت وأنا نهاية خمس عشرة سنة فأجازني؛ فبهذا يكون الفارق بينهما سنتين. إذن؛ هو الشرط الثالث.
الرابع: (صحيح)؛ لقول الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [النور:61]. فمَن كان غير صحيح؛ يعني: ذوي الإعاقات لا يجب عليهم الجهاد.
الشرط الخامس: (واجد من المالِ الكفايةَ له ولأهله حتى يرجع)؛ لأن القتال يحتاج إلى مال، خاصة في الأزمنة السابقة، ويحتاج إلى مركوب يركب عليه، ويحتاج إلى سلاح، ويحتاج إلى مؤونة؛ فلا بد من أن يكون واجدًا للمال.
ويدل لهذا الشرطِ قولُ الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة:91]، ثم قال: وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ [التوبة:92]. فلا بد إذن أن يكون واجدًا للمال الذي يكفيه، ويكفي -أيضًا- أهله حتى يرجع.
فهذه خمسة شروط لوجوب الجهاد: أن يكون ذكرًا. وأيضًا الحُر؛ فالرقيق لا يجب عليه القتال؛ لأنه مشغول بخدمة سيده. إذن: ذكر، حُرٌّ، مسلم، مكلف، صحيح، واجد من المال الكفاية.
أصبحت ستة شروط:
- الأول: الذكورية.
- الثاني: الحرية.
- الثالث: الإسلام.
- الرابع: التكليف.
- الخامس: أن يكون صحيحًا.
- السادس: القدرة المالية.
قال: (ولا يتطوع إلا بإذن أبويه المُسلِمَين)، وهذا عندما يكون الجهاد فرض كفاية، أما إذا كان فرض عين فلا يُشترط إذن الأبوين.
والدليل على اشتراط إذن الأبوين في أصل الجهاد: أن رجلًا أتى النبي يستأذنه في الجهاد، قال: أحيٌّ والداك؟، قال: نعم، كلاهما. قال: ففيهما فجاهِدْ[8]. فلا يجوز أن يتطوع المسلم بالجهاد بدون إذن والديه.
هل بقية التطوُّعات يُشترط فيها إذن الوالدين؛ مثلًا: الصيام، الصلاة، العمرة؟
لا يجب، لا يجب، لو -مثلًا- قال له أبوه أو أمه: “لا تَصُم صيام نافلة”؛ لا تلزم طاعتُهم، أو “لا تُصَلِّ صلاة نافلة”، أو “لا تعتمر” ونحو ذلك، أو “لا تلتحق بحلقات تحفيظ القرآن” ونحو ذلك؛ لا تلزم طاعتهم.
ولذلك؛ خُصَّ الجهاد بالذَّكر لأن من يكون في الجهاد يكون على خطر عظيم مِن ذَهَاب نفسه، فتكون أنفُسُ الوالدين متعلقة بهذا الابن؛ فلذلك خُصَّ الجهاد باشتراط إذن الوالدين، مع أنه في الأصل -كما ذكرنا- من فروض الكفاية؛ لأن أنفُسَ الوالدين تتعلق بولدهما ويخشيان عليه، ولو ذهب للقتال أصبح والداه قلقين عليه؛ فلذلك خُصَّ الجهاد بإذن الوالدين، بينما -مثلًا- بقية التطوعات لا يقلقان، ولا تتعلق أنفُسُ الوالدين بالولد.
وهذا يدعونا إلى أن نُعرِّف ضابط طاعة الوالدين، ما هو الضابط؟ ضابط وجوب طاعة الوالدين.
أحسن ما قيل في الضابط: هو الضابط الذي ذكره الإمام ابن تيمية رحمه الله، وهو: أنه تجب طاعة الوالدين إذا أمراه فيما لهما فيه منفعة، ولا ضرر فيه على الولد. بهذين القيدين: القيد الأول: أن يكون لهما فيه مصلحة ومنفعة. القيد الثاني: ألا يكون فيه ضرر على الولد.
فمثلًا؛ إذا أمر الوالد ولده بألا يصوم صوم نافلة، ما فائدة الأب أو الأم من هذا الأمر؟ إذا كان ليس لهما فائدة فلا تجب طاعتهما؛ لأن بعض الوالِدِين قد -أحيانًا- يكون عنده كُرهٌ للتديُّن؛ فينهى ابنه أو ابنته عن بعض التطوعات، هنا ما تلزم طاعتهم، لكن لو أمره بأمر له فيه منفعة؛ هنا تجب طاعته، إلا أن يكون على الولد من ابن أو بنت ضرر، إذا كان عليه ضرر فهنا لا تجب؛ كأن يأمره مثلًا بأن يُطلِّق زوجته، يأمره أبوه أو أمه وعليه ضرر؛ زوجته له منها أولاد، وليس هناك سبب معتبر شرعًا لهذا الأمر، إنما مجرد تعنُّت أو كره لهذه المرأة ونحو ذلك، من غير سبب؛ هنا لا تجب طاعتهما في هذا.
فخُذ هذا الضابط، هذا ضابط “وجوب طاعة الوالدين”: تجب طاعة الوالدين إذا أمرا ولدهما من ابن أو بنت بما لهما فيه منفعة أو مصلحة، ولم يكن على الولد فيه ضرر.
أحكام الغنيمة
قال رحمه الله تعالى:
ويُقْسَم لحُرٍّ مسلمٍ مكلَّفٍ، ويُرْضَخ لغيره.
ومَن قتل قتيلًا أُعطي سَلَبَه قبل القسمة.
انتقل المؤلف للكلام عن (أحكام الغنيمة).
والغنيمة: هي ما أُخذ من الكفار قهرًا بالقتال. أما ما أُخذ من الكفار بدون قتال فهذا يُسمى ماذا؟ الفَيْء.
وحِلُّ الغنيمة من خصائص هذه الأمة؛ لقول النبي : أُعطِيَت أمتي خمسًا لم تُعطهن أمة قبلي، وذكر منها: وأُحِلَّت لي الغنائم، ولم تَحِلَّ لأحد قبلي[9]، وكانوا في الأمم السابقة إذا حصَّلوا الغنائم جمعوها فنزلت نارٌ من السماء فأحرقتها، ولكن الله أباحها لهذه الأمة، فإباحتها من خصائص هذه الأمة.
قال: (ويُقسَم خُمُسُ الغنيمة خمسة أسهم)، عبارة المؤلف هنا غير واضحة، لكن مقصوده -كما يذكر العلماء-: أن الغنيمة تقسم إلى خمسة أقسام: أربعة أقسام للغانمين، والقسم الخامس يُقسَم خمسة أقسام.
إذن؛ الغنيمة تُقسم خمسة أقسام: أربعة أقسام للغانمين، والقسم الخامس هذا يسمى “الخمس”. يُقسَم خمسة أقسام؛ هذا مراد المؤلف، فالقسم الخامس يُقسَم خمسة أقسام على خمسة:
الأول: (سهم لله ولرسوله): وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى [الأنفال:41]، سهم لله ولرسوله يُصرَف مصرِفَ الفيء ويكون لبيت المال؛ يعني: الفَيْء يُصرَف في مصالح المسلمين، فيكون السهم الآن الذي لله ولرسوله لبيت مال المسلمين.
الثاني: (سهم لذوي القربى)؛ يعني: ذوي قرابة النبي عليه الصلاة والسلام، قال: (وهم بنو هاشم وبنو المطلب)، ذوو القربى هم: بنو هاشم وبنو المطلب.
هاشم هو جد النبي : محمد بن عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم. وهاشمٌ أخوه اسمه “المطلب”، وله أخ ثالث اسمه “نوفل”، وله أخ رابع اسمه “عبد شمس”.
بنو المطلب وبنو هاشم كان بينهما تحالف؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد، لم يُفارقونا في جاهلية ولا إسلام[10].
بينما بنو نوفل وبنو عبد شمس لم يتحالفوا مع بني هاشم؛ ولذلك بنو المطلب كانوا مع بني هاشم في الشِّعب لمَّا حاصرتهم قريش.
فإذن؛ ذوو القربى هم بنو هاشم وبنو المطلب، فيشتركون معهم في خمس الغنيمة. لكن، هل يدخلون في قرابة النبي الذين يُمنعون من أخذ الزكاة؟ فإن الزكاة لا تُدفع لقرابة النبي عليه الصلاة والسلام: إنها لا تَحِلُّ لمحمد، ولا لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس[11]؟
فهذا محل خلاف بين الفقهاء، يُذكر في كتاب الزكاة في ذوي القربى الذين لا يحل لهم أخذ الزكاة؛ فمِن أهل العلم مَن قال: إنهم بنو هاشم وبنو المطلب؛ واستدلوا بعموم الأدلة: إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد، لم يُفارقونا في جاهلية ولا إسلام[12].
والقول الثاني: إن الذين لا يحل لهم أخذ الزكاة هم بنو هاشم فقط. وهذا هو القول الراجح، وهو الذي اختاره جمع من المحققين من أهل العلم، وأن ذلك لا يشمل بني المطلب، وأن بني المطلب إنما فقط أُلحِقوا بذوي القربى في الغنيمة فقط، في خمس الغنيمة، لكن لا يلتحقون بهم في بقية الأحكام. هذا هو القول المرجَّح عند كثير من المحققين من أهل العلم.
ولذلك؛ ذوو القربى الذين لا يحل لهم أخذ الزكاة هم بنو هاشم فقط، ولا يدخل في ذلك بنو المطلب على القول الراجح. هذا السهم الثاني.
السهم الثالث؛ قال: (سهم لليتامى). وصواب العبارة: “لليتامى الفقراء”، عندكم (والفقراء)، وهذا خطأ من المحقِّق. “وسهم لليتامى الفقراء”؛ لأن هذا هو المذكور في كتب الحنابلة، يقولون: “اليتامى الفقراء”، وليس (اليتامى والفقراء)؛ ولأنه ذَكَر بعد ذلك: (وسهم للمساكين). والمساكين: هم الفقراء.
فإذن؛ صوابُ العبارة -صَحِّحُوها في النسخة-: “وسهم لليتامى الفقراء”. مُصحَّحة عندكم؟ أنا، النسخة التي عندي: (وسهم لليتامى والفقراء). ما دام أنه موجود في بعض النسخ: “لليتامى الفقراء” فهذا هو الصواب؛ إذن “سهم لليتامى الفقراء”.
اليتيم: هو مَن فَقَد أباه قبل البلوغ. هذا هو تعريف اليتيم؛ وعلى هذا: مَن فَقَد أمه قبل البلوغ هل يسمى يتيمًا؟ ليس يتيمًا، لا يُعتبر يتيمًا شرعًا؛ لأن فَقْدَ الأب أشد من فَقْدِ الأم، يمكن أن يُؤتى له بحاضنة، بمن تقوم عليه، لكن فَقْد الأب أشد، هو الذي يُنفِق عليه، هو الذي يرعاه.
وكذلك أيضًا مَن فقد أباه بعد البلوغ، هل يكون يتيمًا؟ ليس يتيمًا. إذن؛ اليتيم: مَن فقد أباه قبل البلوغ.
وهنا قال: “وسهم لليتامى الفقراء”؛ لقول الله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى [الأنفال:41].
لكن، يُشكل على هذا: أننا إذا قلنا: “اليتامى الفقراء”؛ أن الله تعالى قال بعد ذلك: وَالْمَسَاكِينِ [الأنفال:41]، فاليتامى الفقراء يدخلون أصلًا في المساكين؛ ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أن اليتامى يُعطَون من خمس الغنيمة ولو لم يكونوا فقراء. وهذا هو القول الراجح في المسألة؛ لأن الله تعالى ذَكَر المساكين بعد اليتامى، فلو كان المقصود بهم “اليتامى الفقراء” لم يكن لهذا التقسيم فائدة، ولَقَال الله تعالى: “واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى والمساكين” ويدخل فيهم الفقراء اليتامى.
فالقول الراجح، وقد رجحه الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله، وجماعة من أهل العلم: إن اليتامى يُعطَون من الخمس حتى لو لم يكونوا فقراء. ولعل الحكمة -والله أعلم- في إعطاء اليتيم ولو كان غير فقير جَبْرًا له عن فَقْد أبيه؛ لأنه مهما كان -حتى لو كان اليتيم غنيًّا- يبقى منكسرًا بفقده لأبيه؛ لأن وجود الأب له أثر كبير على الإنسان، إذا فَقَدَه ابنُه يُحس بالكسر.
ولهذا؛ فالأقرب -والله أعلم- هو إعطاء اليتامى مطلقًا، سواء كانوا فقراء أو غير فقراء.
(وسهم للمساكين)، والمسكين إذا أُطلق شمل الفقير، فالفقير والمسكين بينهما عموم وخصوص، كل فقير مسكين وكل مسكين فقير، لكن إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا؛ مثل: الإسلام والإيمان، فإذا قيل: “مسكين” شمل الفقير؛ كما في الآية، وإذا قيل: “فقير” شمل المساكين.
لكن، إذا اجتمع الفقير والمسكين كما في آية الزكاة: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِين [التوبة:60] فالمقصود بالفقير: المُعْدَم الذي لا يجد شيئًا أو يجد دون نصف الكفاية، والمسكين: مَن يجد نصف الكفاية أو أكثرها ولا يجد تمام الكفاية.
الذي ليس عنده شيء، نقول عنه ماذا؟ فقير. طيب، عنده دخلٌ يكفيه إلى عشَرةٍ من الشهر؟
انتبه للضابط: دون نصف الكفاية: فقير. عنده دخل يكفيه إلى منتصف الشهر: مسكين. عنده دخل يكفيه إلى عشرين من الشهر: مسكين. عنده دخل يكفيه إلى آخر الشهر: هذا مَكفي، ليس بفقير ولا مسكين. يدخر شيئًا من دخله: هذا غني، وغِنَى كلِّ شيء بحَسَبِه.
إذن؛ السهم الرابع: سهم الفقراء والمساكين.
السهم الخامس: قال: (وسهم لأبناء السبيل). وابن السبيل: هو المسافر الذي انقطع في سفره، فهذا يُعطى من خمس الغنيمة، ويُعطى أيضًا من الزكاة.
وتكررت في القرآنِ التوصيةُ بابن السبيل؛ وذلك لأنه صاحب حاجة ماسة، مسافر وانقطع في سفره، فهو بحاجة للمساعدة، فيُعطى من خمس الغنيمة، يُعطى من الزكاة بقدر ما يُوصله إلى بلده.
إذن؛ خمس الغنيمة يُقسَم إلى هذه الأقسام الخمسة، وهذا منصوص عليه في الآية الكريمة: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الأنفال:41].
قال: (ثم يُقسم الباقي) الباقي كم؟ أربعة أخماس (بين من شهد الوقعة)؛ يعني: المعركة (للراجل سهم) واحد (وللفارس… ثلاثة أسهم).
(للراجل)؛ يعني: غير الفارس، المقصود بالراجل: غير الفارس (سهم).
(وللفارس)؛ يعني: الذي يقاتل على فرس، (وللفارس على فرس عربي ثلاثة أسهم)؛ سهمان للفرس، وسهم له (وعلى غيره اثنان) إذا قاتل على فرس غير عربي يكون له سهمان: سهم لفرسه، وسهم له.
وقال بعض العلماء بعدم التفريق بين الفرس العربي وغير العربي، وأن الفارس له ثلاثة أسهم مطلقًا، سواء أكان فرسه عربيًّا أو غير عربي. وهذا هو القول الراجح؛ إذ إن تخصيص الفرس العربي بثلاثة أسهم وغير العربي بسهمين هذا ليس عليه دليل ظاهر، والأحاديث الواردة أتت مطلقة، ومنها حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله جعل للفرس سهمين، ولصاحبه سهمًا[13].
فإذن؛ القول الراجح: عدم التفريق بين الفرس العربي وغيره، فيكون للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم واحد.
الآن، أصبح القتال ليس على الخيل ولا على الإبل، أصبح بالأسلحة الحديثة، فما أقربُ شيء في وسائل القتال الحديثة للفارس؟
الطيار، أقرب شيء للفارسِ الطيارُ؛ لأنه كان في الزمن السابق أفضل من يقاتل الفارس، الآن أفضل من يقاتل الطيار. فعلى هذا نقول في الوقت الحاضر: إن الطيار يُسهَم له ثلاثة أسهم؛ سهم له وسهمان لطائرته.
مداخلة: ……
الشيخ: حتى وإن كان، المهم: كونه تَعلَّم وكان على هذه الوسيلة من وسائل القتال؛ يُعطَى، يُميَّز عن غيره، فيُعطى ثلاثة أسهم.
طبعًا، قديمًا يقولون: “سهمان لفرسه”، المقصود: أن هذا ينفع في الجيش أكثر من غيره، المقصود هو النفع؛ فالفارس نفعه أكثر فيُعطى ثلاثة أسهم، وهكذا أيضًا الطيار نفعه أكثر فيُعطى ثلاثة أسهم.
ثم انتقل المؤلف إلى شروط القَسْم؛ قال: (ويُقْسَم):
- الشرط الأول: (لِحُرٍّ)؛ فالرقيق لا يُقْسَم له، وإنما يُرْضَخ له كما سيأتي.
- ثانيًا: (مسلمٍ).
- الثالث: أن يكون مُكلَّفًا.
- وأيضًا: ذكرًا، لم يذكره المؤلف هنا، ذكره غيره من المصنِّفين.
فلا بد من هذه الشروط الأربعة: حُرٌّ، مسلم، مكلف، ذكر.
(ويُرضَخ لغيره) الرَّضْخ معناه: أن يُعطَى من غير تقدير.
وهذا يُعطى بما يرى فيه المصلحة، ويكون الرَّضخ لمن لم تتوفَّر فيه هذه الشروط الأربعة، فيُرضخ للنساء، ويُرضخ للصبيان ونحوهم؛ جبرًا لخواطرهم؛ يعني: إذا قُسِمت الغنيمة على هؤلاء المقاتلين؛ فغيرهم من أفراد المجتمع من غير المقاتلين يُرْضَخ لهم جبرًا لخواطرهم.
وهذا معنى تُراعيه الشريعة الإسلامية: مَن حَضَر قسمةَ مالٍ ينبغي أن يُعطى؛ ولهذا قال الله : وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ [النساء:8]، أعطوهم شيئًا عند قسمة -مثلًا- الميراث، أعطوهم أيَّ شيء جبرًا لخواطرهم.
فإذا كانت قسمةُ مالٍ في مجلسٍ بين أناس؛ فينبغي أن يُعطى الحاضرون شيئًا من هذا المال جبرًا لخواطرهم؛ لأن النفوس تتعلق بهذا المال. فهذا أمر راعته الشريعة.
ولهذا؛ عند قسمة الغنيمة، حتى وإن قُسمت على المقاتلين، إلا أنه ينبغي أن يُرضَخ لغير المقاتلين من النساء والصبيان ونحوهم.
قال: (ومن قتل قتيلًا أُعطِي سَلَبه قبل القسمة)؛ لقول النبي : من قتل قتيلًا له عليه بيِّنة فله سَلَبه. وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم[14].
والمقصود بالسَّلَب ما يكون على القتيل من ثياب وحُلِيٍّ وسلاح ونحو ذلك، وكذلك أيضًا دابته، وما عليه من ثياب وحُلِيٍّ وسلاح يكون لمن قتله، وهذا تحفيزًا وتشجيعًا له، مع أن الجهاد يُشترط فيه إخلاص النية لله . ولما سُئل النبي عن الرجل يُقاتل شجاعة، والرجل يقاتل حَمِيَّة، والرجل يُقاتل ليرَى مكانه، أيُّ ذلك في سبيل لله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله[15]، ومع ذلك: من قتل قتيلًا له عليه بيِّنة فله سَلَبه[16]؛ هذا من باب التشجيع والتحفيز.
فالذي يُقاتل الآن لأجل تحصيل السَّلَب: يُقاتل تقرُّبًا إلى الله ويُقاتل لأجل تحصيل أمر دنيوي وهو السَّلَب، فهذه المسألة يُسمِّيها العلماء “مسألة التشريك في النية”. انتبِهوا لهذه المسألة.
مسألة: “التشريك في النية” ليس معناها: أنه يُقاتل رياءً، لا، أو يفعل شيئًا رياءً أو سمعة؛ المقصود: أنه يريد بتلك الطاعة التقرُّب إلى الله ، ويريد بها أمرًا دنيويًّا. فهذه تسمى “مسألة التشريك في النية”؛ كأن يريد القتال في سبيل الله تقرُّبًا إلى ؛ لتكون كلمة الله هي العليا، ويريد بذلك أيضًا الحصول على السَّلَب، ومثل ذلك في الحج؛ يحج ويُتاجر، يريد التقرُّب إلى الله بالحج، ويريد أيضًا التجارة في الحج. وهذا كله لا بأس به على القول الراجح.
والحج نزل بخصوصه قول الله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198]؛ لأنه تحرَّج نَفَرٌّ من الصحابة كيف يحجُّون ويُتاجرون؛ فأنزل الله الآية.
وهنا أيضًا في القتال، النبي عليه الصلاة والسلام قال: من قتل قتيلًا له عليه بيِّنة فله سَلَبه. [17].
كذلك مثلًا في الاستغفار: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا [نوح:10]، ثم ذكر منافع دنيوية: يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:11-12] كلها منافع دنيوية.
ولذلك -مثلًا- عندما تريد طلب العلم تدخل كلية شرعية: تريد بذلك التقرُّب إلى الله بطلب العلم، وتريد الحصول على الشهادة. لا بأس بذلك، يدخل هذا في “التشريك في النية”.
فهذه مسألة “التشريك في النية”، القول الراجح: إنه لا بأس بها، وإن كان الأفضل عدم التشريك، لكن التشريك لا بأس به.
باب عقد الذِّمَّة وأحكامها
ننتقل بعد ذلك إلى “باب عقد الذمة”.
القارئ: قال رحمه الله تعالى:
يجوز عقدها لصيانة النفس والمال والعِرض، لأهل كتابٍ ومَن له شبهةٌ كالمجوس؛ حيث أُمِنَ مكرهم والتزموا لنا بأربعة أحكام:
أحدها: إعطاء الجزية عن يدٍ وهم صاغرون.
والثاني: ألا يذكروا دين الإسلام إلا بخير.
الثالث: ألا يفعلوا ما فيه ضرر على المسلمين.
الرابع: أن تجري عليهم أحكام الإسلام في نفسٍ ومال وعِرض فيما يعتقدون تحريمه لا فيما يُحلِّونه، ولا يعقدها إلا الإمام أو نائبه.
ويَلزمهم التميُّز عن المسلمين، ولهم ركوبُ غيرِ خيلٍ بغيرِ سَرْجٍ.
وحَرُم تعظيمهم وبداءتهم بالسلام.
وإن تعدَّى ذِمِّيٌّ على مسلم، أو ذكر الله أو كتابه أو رسوله بسوء؛ انتَقَض عهده، ويُخيَّر الإمام فيهم؛ كالأسير الحربي.
ومن أسلم منهم بعد الحول سقطت عنه الجزية. ولا جزية على صبي، ولا امرأة، ولا عبد، ولا فقير يعجز عنها. ومن صار أهلًا لها أُخِذت منه في آخر الحول. والمرجع في مقدارها إلى اجتهاد الإمام.
الشيخ: قال: (باب عقد الذمة)؛ عقد الذمة معناه: إقرار بعض الكفار على كفرهم بشرط بذل الجزية.
أقسام الكفار
والكفار ينقسمون إلى أربعة أقسام:
- القسم الأول: الكافر الحربي، وهم: الذين بينهم وبين المسلمين حرب معلَنة، وليس بينهم وبينهم عهود ولا مواثيق.
- والقسم الثاني: الذِّمِّي، وهو غير المسلم الذي يُقيم في بلاد المسلمين.
- والقسم الثالث: المعاهَد، وهو الذي بينه وبين المسلمين عهد بأية صورة من صور العهد.
- والقسم الرابع: المستأمَن، وهو: الكافر الحربي إذا أُعطِي الأمان.
والحربي: هو الذي بينه وبين المسلمين حرب، وليس بينه وبينهم عهود ولا مواثيق. هؤلاء دماؤهم وأموالهم هَدَرٌ، أصلًا مطلوب قتلهم في المعركة.
وأما الأقسام الثلاثة الأخرى: الذِّمي والمعاهد والمستأمن، فدماؤهم معصومة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: من قتل معاهدًا بغير حق لم يَرَحْ رائحة الجنة. رواه البخاري[18]. ومعظم غير المسلمين الذين يدخلون الآن بلاد المسلمين من أيِّ قسم؟ المعاهد؛ معاهدون، من قسم المعاهدين.
حتى الحربي؛ إذا أُعطي الأمان أصبح مستأمَنًا، أصبح دمه معصومًا، انظر إلى عظمةِ الإسلام وعظمةِ هذه الشريعة وتعظيمها لشأن العهود والمواثيق؛ ولهذا قال : وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [الأنفال:72].
الحكمة من عقد الذمة؟
قال: (يجوز عقدها) يعني: عقد الذمة (لصيانة النفس والمال والعِرض) يعني: هذه الحكمة من عقدها (لأهل كتاب ومن له شبهة كالمجوس). وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وهو قول الجمهور: أن دفع الجزية إنما هو خاص بأهل الكتاب والمجوس.
والمجوس: هم الذين يعبدون النار ويقولون بأن الخير خلقه النور وأن الشر خلقته الظلمة.
يقول: من له شبهة كتاب، لكن ما هو هذا الكتاب؟ لا يُعرف. طيب، من الرسول الذي أُرسل إليهم؟ لا يُعرف. وهذا مما يُقوِّي القول الثاني: وهو أن الجزية تؤخذ من جميع الكفار، سواءٌ كانوا أهل كتاب أو غير أهل كتاب. وهذا هو القول الراجح، واختاره جمع من المحققين من أهل العلم، اختاره ابن تيمية وابن القيم، وجمع من المحققين من أهل العلم.
وذلك لأن النبي أخذ الجزية من مجوس “هَجَر”، والقول بأن المجوس مُلْحَقون بأهل الكتاب وأن لهم شبهة كتاب هذا قول غير مُسلَّم؛ ما هو الكتاب؟ ومن هو الرسول الذي أُرسِل إليهم؟ فليسوا بأهل كتاب، وليسوا ملحقين بأهل الكتاب. هذا مما يُقوِّي القول الثاني، وهو أن الجزية تُؤخذ من جميع الكفار.
ومما يدل لذلك أيضًا ما جاء في “صحيح مسلم” من حديث بُرَيدة : أن النبي قال: إذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال، وذكر منها: فإن أَبَوا فسَلْهم الجزية[19]. فهنا في أول الحديث قال: إذا لقيت عدوك من المشركين، وهذا يشمل أهل كتاب وغير أهل كتاب.
وإنما ذكر أهل الكتاب في الآية: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]؛ لأن وقت نزول الآية لم يكن هناك إلا أهل كتاب؛ لأن الآية نزلت بعد فتح مكة، بعد قتال النبي عليه الصلاة والسلام للمشركين، فلم يكن هناك إلا أهل كتاب.
فالصواب إذن: أن الجزية تُؤخذ من جميع الكفار، سواء كانوا أهل كتاب أو غير أهل كتاب؛ وعلى ذلك فيكون عقد الذمة للجميع.
شروط عقد الذمة
قال: (حيث أُمِن مكرهم)؛ يعني: لا بد من هذا القيد، أما إذا لم يؤمن مكرهم فلا تُعقد لهم الذِّمة (والتزموا لنا بأربعة أحكام):
- (أحدها: إعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون)؛ للآية الكريمة: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29].
- (الثاني: ألا يذكروا دين الإسلام إلا بخير)، فإن طعنوا في الإسلام أو في الله أو في رسوله ؛ فلا تُعقد لهم الذمة.
- (الثالث: ألا يفعلوا ما فيه ضرر على المسلمين)؛ فإن الضرر ممنوع: لا ضرر ولا ضرار[20].
- (الرابع: أن تجري عليهم أحكام الإسلام في نفس ومال وعِرْض فيما يعتقدون تحريمه) كالزنا؛ فالزنا محرم على أهل الكتاب، فيلتزمون بما حُرِّم في دينهم، (لا فيما يُحِلُّونه)؛ لا فيما يعتقدون حِلَّه؛ مثل شرب الخمر عند النصارى فإن النصارى يعتقدون حِلَّه، فيُقَرُّون عليه؛ لأنهم إذا كانوا يُقَرُّون على الكفر فعلى شرب الخمر من باب أولى؛ لأنهم يعتقدون حِلَّه.
قال: (ولا يعقدها) يعني: لا يعقد الذِّمَّة (إلا الإمام أو نائبه) فلا يعقدها أيُّ فرد من أفراد المسلمين، وإنما لا بد أن يكون ذلك من الإمام أو نائبه.
(ويلزمهم) يعني: أهل الذِّمة (التميُّز عن المسلمين) بحيث يُعرَف أنهم أهل ذِمَّة. وهذا الباب أصبحنا الآن نقرؤه من الناحية النظرية، لكن العلماء يقولون: يلزمهم التميُّز عن المسلمين. وهذا قد ورد في كتاب عمر الذي ذكر فيه الشروط، وشرحه الإمام ابن القيم في كتاب عظيم اسمه “أحكام أهل الذمة”، شَرَح الشروط العُمَرية.
قال: (ولهم ركوب غير خيل بغير سرج) حتى يتميَّزوا عن المسلمين. وهذا أيضًا مذكور في كتاب عمر .
(وحرم تعظيمهم وبداءتهم بالسلام)؛ لقول الله تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ [المائدة:51]، إلى غير ذلك من الآيات.
لكن هذا لا يمنع من بِرِّهم والإحسان إليهم إذا كانوا مسالمين؛ فإن الله يقول: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [الممتحنة:8].
كيف تجمع بين الإحسان لغير المسلم والبِرِّ به، وبين البراءة من المشركين؟
نقول: لا يمتنع الجمع؛ فأنت لا تحبه لكونه حادَّ الله ورسوله بكفره، لكن لا يمنع من أن تُحسن إليه إذا كان مسالمًا: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ؛ يعني: المسالمين أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8]. وبداءتهم بالسلام؛ لقول النبي : لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام[21].
وإذا تعدَّى ذِمِّيٌّ على مسلم، أو ذَكَر الله أو كتابه أو رسوله بسوء؛ انتَقَض عهده؛ إذا سبَّ الله، أو سبَّ رسوله، أو ذكر الله أو رسوله بسوء، أو تعدَّى على مسلم؛ فينتقض عهد الذِّمة مباشرة.
(ويُخيَّر الإمام فيهم)؛ يعني: بعد انتقاض العهد (كالأسير الحربي) بين أربعة أمور، وهي: القتل، والرِّق، والمَنُّ مجانًا، والمَنُّ بفداء.
(ومن أسلم منهم) يعني: ولو (بعد الحول سقطت عنه الجزية) تشجيعًا لهم على اعتناق الإسلام ودخول الإسلام. ولذلك؛ نجد أن البلدان التي دخلها المسلمون أهلها الأصليون -يعني في معظم البلدان- أهلها الأصليون أسلموا؛ فتح المسلمون بلاد الشام والعراق ومصر وغيرها، أين أهلها الأصليون الذين كانوا قبل الإسلام؟ أسلموا ودخلوا مع المسلمين ومجتمعات المسلمين؛ لأن هذا الدين عظيم، فإذا عرفوا هذا الدين عرفوا عظمته. فمن أسلم سقطت عنه الجزية تشجيعًا له على دخول الإسلام.
(ولا جِزية على صبيٍّ ولا امرأة ولا عبد)؛ لأن هؤلاء غير مقاتلين، (ولا فقير يعجز عنها)؛ لقول الله تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ [التوبة:29]؛ يعني: عن قدرة. والفقير غير قادر.
(ومن صار أهلًا لها أُخذت منه في آخر الحول)؛ يعني: كصبي بلغ مثلًا، فتُؤخذ منه في آخر الحول.
مقدار الجزية
قال: (والمرجع في مقدارها إلى اجتهاد الإمام)، هذا هو القول الراجح: أن تقديرها يرجع إلى اجتهاد الإمام. وأما ما ذكره بعض الفقهاء من تقديرات فكلها لا دليل عليه؛ فالصواب: هو ما ذكره المؤلف رحمه الله من أن المرجع في تقديرها إلى اجتهاد الإمام فيما يرى فيه المصلحة.
وبهذا نكون قد انتهينا من الكلام عن أبرز “أحكام الجهاد”، نأخذ ما تيسر من “كتاب البيوع”.
كتاب البيوع
القارئ: قال رحمه الله تعالى:
ينعقد البيع والشراء بالقول الدال عليه، وبالمعاطاة.
وشروطه سبعة: الرضا منهما.
وكونُ عاقدٍ جائزَ التصرف.
وكون المَبيع فيه نفع مباحٌ بلا حاجة.
وكونه ملكًا للبائع أو مأذونًا له فيه.
وكونه مقدورًا على تسليمه.
وكون المبيع والثمن معلومًا لهما.
وكونه مُنَجَّزًا لا مُعلَّقًا.
أهمية التفقه في المعاملات
الشيخ: أبواب المعاملات من أهم أبواب الفقه، وينبغي أن يحرص طالب العلم على ضبط مسائلها وأحكامها، سواءٌ كانت المسائل والأحكام التي ذكرها الفقهاء السابقون أو المعاملات المعاصرة؛ فإن هذه يكثُر السؤال عنها. وإذا استمعت إلى أيِّ برنامج إفتاء لا تكاد تجد أيَّ برنامج إفتاء يخلو من سؤالٍ عن معاملة من المعاملات.
فينبغي أن يضبط طالب العلم مسائل المعاملات، وأن يضبط أبرز المسائل المعاصرة. والحدُّ الأدنى لطالب العلم أن يعرف آراء المجامع الفقهية والمؤسسات العلمية، أو كبار أهل العلم في المسائل المعاصرة. هذا هو الحد الأدنى.
يعني مثلًا: المرابحة للآمر بالشراء، ما معناها؟ وما حكمها؟ لا بد أن يكون عندك فكرة عنها: ما معناها؟ ما حكمها مثلًا؟ هل تجوز أو ما تجوز؟
التورُّق المنظم مثلًا، التأجير مع الوعد بالتمليك. وغير ذلك.
ولِي كتاب في هذا، أردتُ تقريبه لطلاب العلم، وجعلته بأيسر عبارة، اسمه “فقه المعاملات المالية المعاصرة”، جمعت فيه أبرز المعاملات المعاصرة، والآن طُبعت منه طبعة جديدة، أُضيفت لها عقود جديدة. وهو موجود، كتاب متوسط في حجمه، أردت بذلك التقريب لطلاب العلم حتى يضبطوا أبرز المعاملات المالية المعاصرة؛ لأن بعض طلبة العلم يضبط كلام الفقهاء السابقين في المعاملات، لكن المعاملات المعاصرة ليس عنده منها شيء. وهذا يُعتبر قصورًا، بل ربما أسئلةُ الناسِ اليومَ في المعاملاتِ المعاصرةِ أكثرُ مِن أسئلتهم في أحكام المعاملات التي ذكرها الفقهاء السابقون؛ فلا بد أن تجمع بين الأمرين، على الأقل يكون لديك الحد الأدنى لمعرفة أحكام المعاملات.
الأصل في المعاملات الحِلُّ والإباحة، وهذا يدل على أن دائرة الحِلِّ في المعاملات دائرة واسعة، فالأصل الحل والإباحة؛ ولذلك لو اختلف اثنان في معاملة من المعاملات: أحدهما يقول: حلال، والآخر يقول: حرام، من الذي يُطالَب بالدليل؟ المُحرِّم الذي يقول: إنها حرام؛ لأن مَن يقول: إنها حلال معه الأصل.
عكس ذلك العبادات؛ العباداتُ الأصلُ فيها الحظر والمنع، إلا ما ورد الدليل بمشروعيته؛ ولذلك لو اختلف اثنان في عبادةٍ من العبادات، أحدهما يقول: إنها مشروعة، والآخر يقول: إنها غير مشروعة، من الذي يُطالب بالدليل؟ الذي يقول: إنها مشروعة.
ويستطيع الإنسان الحصول على غرضه من غير وقوعٍ في الحرام بالتفقُّه في مسائل المعاملات، وقد جاء في الصحيح أن النبي أُتِيَ بتمر بَرْني -من النوع الجيد- فقال عليه الصلاة والسلام: أكُلُّ تَمْرِ خيبرَ هكذا؟. قالوا: لا يا رسول الله، إنا نبيع الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة. قال: أوَّه! هذا عين الربا، ولكن بِعِ الجَمَع بالدراهم، واشترِ بالدراهم جَنِيبًا[22].
بيعُ صاعٍ من التمر الجيد بالصاعين من التمر الرديء هذا عين الربا. المخرج ما هو؟ بِعِ الجَمَع؛ بِعِ التمر الرديء بدراهم واشتر بالدراهم تمرًا جيدًا، النتيجة واحدة. أنت عندك تمر رديء، وتريد أن تحصل بدلًا منه على تمر جيد، إن بعت صاعًا بصاعين مباشرة هذا عين الربا، وإن بعت الصاعين من التمر الرديء بدراهم واشتريت بالدراهم تمرا جيدًا هذا مخرج.
فيستطيع المسلم أن يُحصِّل غرضه بطريق مباح، لكن عليه أن يتفقَّه.
مثلًا؛ فيما يتعلق بالبنوك: إذا أخذ نقدًا بنقد مع الزيادة؛ هذا قرض ربوي، لكن يستطيع أن يأخذ تمويلًا بطريق مشروع: التمويل بطريق المرابحة، التمويل بطريق التورُّق، التمويل بطريق التأجير مع الوعد بالتمليك؛ فلا يقع في الحرام، يَحصُل على ما أراد من سيولة نقدية بطريقة مشروعة.
وهذا من ثمرة التفقُّه في الدين، خاصة التفقُّه في مسائل المعاملات.
ولذلك -أيها الإخوة- ينبغي لطالب العلم أن يحرص على أن يضبط أصول هذه المعاملات.
قال: (كتاب البيوع)؛ البيوع: جمع “بيع”. والبيع في اللغة: مُطلَق المبادلة، مشتقٌّ من الباع؛ لأن كُلَّ واحد من المتبايعين يمُدُّ يده للأخذ والإعطاء.
تعريف البيع
وتعريف البيع اصطلاحًا، مِن أجود التعريفات تعريف الموفق ابن قدامة في “المغني”: مبادلة المال بالمال تملُّكًا وتمليكًا.
صيغ البيع
قال: (ينعقد البيع والشراء بالقول الدال عليه) ابتدأ المؤلف بصيغة البيع، فذكر أن له صيغتين: صيغة قولية، وصيغة فعلية.
الصيغة القولية، قال: (بالقول الدال عليه) كأن يقول: بِعْتُك، ويقول: اشتريت. أو يقول: نصيبك، فيقول: قبلت. بأيِّ قول دالٍّ عليه -لا يتقيَّد بألفاظ معينة- يكون إيجابًا وقبولًا، إيجابًا من البائع وقبولًا من المشتري.
والصيغة الثانية: الصيغة الفعلية، وهي ما أشار إليه المصنف بقوله: (وبالمعاطاة) لو أتيت مثلًا للتموينات وأخذت لبنًا أو عصيرًا وأعطيته الثمن، وأعطاك اللبن أو العصير من غير أن تتكلم، من غير أن يقول: بعتك، وتقول: اشتريت؛ فهنا ينعقد البيع، وهذا ما يسمى بـ”الصيغة الفعلية”.
شروط البيع
قال: (وشروطه سبعة).
أولًا: هل البيع عقد لازم أو عقد جائز؟ نوع عقد البيع؟ عقد لازم، لكن يلزم بالتفرُّق بالأبدان من مكان التبايع. فإذن؛ البيع عقد لازم.
والعقود تنقسم إلى ثلاثة أقسام: عقود لازمة، وعقود جائزة، وعقود لازمة من وجه جائزة من وجه آخر.
العقود اللازمة؛ معنى اللازم يعني: لا يملك أحدهما الفسخ إلا برضا الطرف الآخر. هذا معنى كونه لازمًا. وهذا البيع إنما يلزم إذا حصل التفرُّق من مكان التبايع بالأبدان.
فمثال العقود اللازمة: البيع، الإجارة.
والعقد الجائز معناه: أن كل واحد من المتعاقدين يملك الفسخ ولو بغير رضا الطرف الآخر. مثل ماذا؟ الوكالة، المُوكِّل يملك أن يفسخ الوكالة، والوكيل كذلك.
هناك قسم ثالث -وسيأتينا إن شاء الله في دروس قادمة، في درس العصر-: عقد لازم من وجهٍ جائزٌ من وجه آخر. مثل ماذا؟ الرهن، أحسنت. فالرهن لازم في حق الراهن، وجائز في حقِّ المرتهن. وإن شاء الله سنتكلم عنه في درس العصر بإذن الله.
قال: (وشروطه سبعة):
الشرط الأول: التراضي بين العاقدين
الأول: قال: (الرضا منهما)؛ يعني: من البائع والمشتري؛ لقول الله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]، وقول النبي : إنما البيع عن تراض[23]. إلا إذا كان الإكراه بحق، مَن يذكر لنا مثالًا لإكراه بحقٍّ في البيع؟
مداخلة: ……
الشيخ: نعم، إكراه القاضي للمحجور عليه المفلس عندما يَحجُر عليه، فيُكرِهه القاضي على البيع، فيبيع مُكرَهًا؛ إنسان أفلس. “المفلس” معناه: مَن كانت ديونه أكثر من ماله، فحجر عليه القاضي، وأمر القاضي ببيع ما عنده، فسيبيع مُكرَهًا، لكن هذا إكراه بحق.
الشرط الثاني: أن يكون كل واحد من العاقدين جائز التصرف
الشرط الثاني: (وكون عاقدٍ جائزَ التصرف)؛ جائز التصرف: هو الحُرُّ المكلف الرشيد؛ فلا بد أن يكون جائز التصرف. فالرقيق ليس له أن يبيع لأنه مِلك لسيده، وهكذا أيضًا المجنون ليس له أن يبيع إلا بإذن وليِّهِ، وهكذا الصبي إلا في الأشياء اليسيرة فهذه يُتسامح فيها؛ لو أن صبيًّا ذهب للبقالة واشترى له عصيرًا مثلًا بريال أو ريالين ونحو ذلك فهذا يُتسامح فيه، ما يقال: كيف يشتري والبيع لا يصح إلا من جائز التصرف! فلذلك؛ الفقهاء استثنوا الشيء اليسير.
الشرط الثالث: كون المَبيع فيه نفع مباح بلا حاجة
الشرط الثالث: (وكون المَبيع فيه نفع مباح بلا حاجة)؛ “أن يكون المَبيع فيه منفعة أو نفع مباح بلا حاجة” هذه عبارة صاحب “الزاد”، وأما عبارة “المقنع” الذي هو أصل “الزاد”: “أن يكون المَبيع مالًا”. ويُعرِّفون المال بأنه: “ما فيه منفعة مباحة لغير ضرورة”.
فلا بد أولًا أن يكون فيه نفع؛ فما لا منفعة فيه لا يجوز بيعه، ومثَّلوا لذلك بالحشرات. وكذلك لا بد أن تكون المنفعة مباحة، فما فيه نفع محرم لا يجوز بيعه؛ كالخمر. وأن تكون المنفعة لغير حاجة، وبعضهم يُعبِّر: “لغير ضرورة”؛ كالميتة، فلا يجوز بيعها وإن كان فيها منفعة لكن عند الضرورة.
الشرط الرابع: كونه ملكًا للبائع، أو مأذونًا له فيه
الشرط الرابع: (وكونه ملكًا للبائع، أو مأذونًا له فيه)؛ فلا يجوز أن يبيع الإنسان إلا ما يملكه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: لا تبع ما ليس عندك[24]. كونه ملكًا للبائع؛ فلا يجوز أن يبيع ما لا يملك.
هذا أكثر شرط يحصل الإخلال فيه اليومَ من الناس، خاصة البيع عبر المتاجر الإلكترونية؛ فتجد بعض الناس يبيع بضاعة لا يملكها؛ وهذا لا يجوز: لا تبع ما ليس عندك[25]. لكن المخرج:
- إما أن يكون بصيغة السَّلَم. سنتكلم عنه إن شاء الله في درس قادم.
- أو بصيغة الاستصناع.
- أو يكون على سبيل الوعد.
لكن، يبيع ما ليس عنده؛ لا يجوز. أما (مأذونًا له فيه) كالوكيل والولي.
وأما بيع الفضولي وشراؤه، فالمذهب: أنه لا يصح بيع الفضولي ولا شراؤه. والفضولي: الذي يبيع ما ليس له. والقول الثاني: إن بيع الفضولي وشراؤه يصح إذا أجازه المالك. وهذا هو القول الراجح.
مثلًا: عندك سيارة تريد أن تبيعها، صديق لك وجد مشتريًا يريد أن يشتريها بثمن، فباع السيارة عليه، فلما علمتَ بذلك شكرته، وقلت: جزاك الله خيرًا. هو بيعُ فُضُوليٍّ؛ على المذهب لا يصح، لكن على القول الراجح يصح، إذا أجازه المالك صح.
وقد جاء في “صحيح البخاري” عن عروة بن الجعد البارقي : أن النبي أعطاه دينارًا ليشتري به شاة، فاشترى به شاتين، وباع إحدى الشاتين بدينار، يعني: نسبة الربح كم؟ 100% في البيع وفي الشراء، فأتى النبيَّ بشاة ودينار، فدعا له بالبركة، فكان لو اشترى ترابًا لربح فيه[26]. فهنا عروة تصرَّف من غير إذن النبي عليه الصلاة والسلام، لكن النبي أقرَّه على ذلك. فدلَّ هذا على صحة بيع الفضولي وشرائه إذا أجازه المالك.
الشرط الخامس: أن يكون مقدورًا على تسليمه
الشرط الخامس: (وكونه مقدورًا على تسليمه).
هنا من المسائل المعاصرة، نحب دائمًا أن نَذْكر مسائل معاصرة، وإن كانت الدورة مضغوطة، لكن لا بأس أن نذكر أحيانًا أو نُشير إشارات لبعض المسائل المعاصرة. عندما نتكلم عن هذا الشرط تأتينا مسألة “المرابحة للآمر بالشراء”.
“المرابحة للآمر بالشراء” معناها: أن تطلب من بنك أو مؤسسة أو حتى فرد أن يشتري لك سلعة، فإذا اشتراها تقوم أنت بشرائها منه، تقول للبنك: اشتروا لي هذا البيت، فإذا اشتريتموه سوف أشتريه منكم، اشتروا لي هذه السيارة، فإذا اشتريتموها سوف أشتريها منكم. فيكون التفاهم معهم في البداية على سبيل الوعد، ولا يكون العقد حتى يتملَّكوا السلعة؛ فهذه لا بأس بها، بشرط أن يكون التفاهم المبدئي على سبيل الوعد وليس على سبيل العقد؛ لأنه لو كان على سبيل العقد يكون البنك باع ما لا يملك.
فإذا كان البنك سيشتري السلعة ويملكها ثم يبيعها عليك فلا بأس، وهذه إحدى الصِّيَغ الآن، صيغة التمويل بطريق المرابحة للآمر بالشراء.
والآن أصبح كثير من الناس لا يستطيع أن يتملك بيتًا إلا بمساعدة البنوك، فمن الصِّيَغ المشروعة بطريق التمويل “التمويل بطريق المرابحة للآمر بالشراء”؛ تختار أنت بيتًا وتقول للبنك: اشتروا لي هذا البيت. يشترونه، ثم يبيعونه عليك بالتقسيط؛ فهذا لا بأس به: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة: 275].
وكذلك أيضًا التمويل بطريق التورُّق. والتورُّق المنظَّم له صورتان: صورة ممنوعة، وصورة جائزة.
الصورة الممنوعة؛ التي مَنعت منها المجامع الفقهية: هي التي لا يكون فيها تعيين، يعني: مجرد أن تُوقِّع على أوراقٍ، تُوقِّع على الشراء، ثم تُوقِّع على توكيل البنك، تحصل على ما أردتَ من سيولة نقدية في دقائق، ويثبُت في ذمتك أكثر منها. لكن، إذا حصل تملُّكٌ وقبض وتعيين؛ فلا بأس بالتورُّق المنظم.
وهذا قد ذكرته في كتابي “فقه المعاملات المالية المعاصرة”: إذا حصل تملُّك وقبض وتعيين: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275]؛ مثل الموجود مثلًا لدى “مصرف الراجحي” أو “الإنماء” أو “البلاد”، عندهم التورُّق بطريقة جائزة؛ لأن فيها تملُّكًا وقبضًا وتعيينًا.
فعندما يبيعون عليك مثلًا معادن؛ المعادن يملكها البنك أولًا ويبيعها عليك متعيِّنة، بحيث يُكتب الرقم التسلسلي، ولو أردت المعادن يُسلِّمونها لك. وأحد العملاء لـ”الراجحي” أصَرَّ على أن يُؤتى له بالمعادن، فقالوا: لكن أنت تتحمَّل تكاليف الشحن، فقال: أتحمَّل. فأتوا له بالمعادن، وخسر باعتبار أن تكاليف الشحن كانت كبيرة، لكن أراد أن يتأكَّد من المصداقية، وتأكَّد بالفعل.
فإذا حصل التملُّك والقبض والتعيين؛ جاز.
ولذلك؛ فالمحاذير التي لأجلها مَنعت المجامع الفقهية من التورق المنظَّم، يكون تلافيها بالضوابط الموجودة لدى بعض المصارف الإسلامية، ومن هذه الضوابط: التملُّك والتعيين والقبض.
فهذه أيضًا صيغة من الصِّيَغ المشروعة: التمويل بطريق التورُّق.
كذلك: “التأجير مع الوعد بالتمليك”، التأجير مع الوعد بالتمليك له: صورة ممنوعة، وصورة جائزة.
الصورة الممنوعة: التي منعت منها هيئة كبار العلماء: أن يجتمع البيع والتأجير في عقدٍ واحد وزمن واحد. وهذه الصورة أصلًا غير موجودة الآن في السوق، والشركات والبنوك لا تريدها أصلًا؛ لأنهم يريدون الصورة الثانية حتى تبقى الملكية لهم.
الصورة الثانية: الموجودة الآن في السوق، هي الصورة الجائزة، وهي تأجير حقيقي تترتب عليه آثار عقد الإجارة مع وعدٍ بالتمليك؛ إما بطريق الهبة، أو بطريق البيع بسعر مخفَّض. وهو ما يسمونه “الدفعة الأخيرة”؛ فهذا لا بأس به، التأجير مع الوعد بالتمليك، لكن بشرط ألا يتضمن شرط غرامة التأخير.
اطلعت أنا على بعض العقود، ووجدت أنها تتضمن شرط غرامة التأخير: إذا تأخر المستأجر عن السداد يَحسِبون عليه غرامة تأخير؛ هذا لا يجوز؛ لأن هذا الشرطَ شرطٌ ربويٌّ، فلسان حالهم يقول: إما أن تقضي وإما أن تُرْبِي، عندما يحل الدين.
فإذا كان التأجير مع وعد بالتمليك، ولم يتضمن شرط غرامة التأخير؛ فالأصل فيه الجواز.
فهذه الآن ثلاث صِيَغ للتمويل:
- التمويل بطريق المرابحة للآمر بالشراء.
- التمويل بطريق التورُّق.
- التمويل بطريق التأجير مع الوعد بالتمليك.
وهناك أيضًا صيغ أخرى يمكن شراء العقار عن طريقها، يمكن الحصول على سيولة نقدية عن طريقها، يمكن أن يُحصِّل المسلم غرضه عن طريق صِيَغ التمويل الجائزة شرعًا بطريقة مباحة. ومَن أراد مزيدًا من التفصيل في هذا فليرجع للكتاب: “فقه المعاملات المالية المعاصرة”.
الشرط الخامس: (كونه مقدورًا على تسليمه)؛ يعني: القدرة على التسليم، فلا يصح بيع الطير في الهواء، ولا السمك في الماء، ولا ما لا يقدر على تسليمه، ولا الجمل الشارد.
الشرط السادس: العلم بالمبيع والثمن
الشرط السادس: (وكون المبيع والثمن معلومًا لهما)؛ يعني: أن يكون المبيع معلومًا برؤية أو صفة. أن يكون المبيع معلوما برؤية؛ بأن يراه، هذا واضح، لكن هل يجوز البيع بالصفة؟
نعم، يجوز، بغير السَّلَم حتى؛ مثلًا تقول: أبيعك سيارتي. فيقول: ما هي مواصفات سيارتك؟ تقول: سيارة نوعها كذا، لونها كذا، موديلها كذا، أبيعها عليك. فيقول: اشتريت؛ ينعقد البيع. ثم إذا أحضرتَ السيارة؛ فإن وجد المشتري السيارة موافِقَةً للمواصفات التي قِيلت وإلا فله الخيار. ماذا يُسمَّى الخيار؟ خيار الخُلْف في الصِّفَة، سيأتينا الكلام عنه إن شاء الله.
فإذن؛ بعض الناس يعتقد أنه لا بد أن يكون المبيع معلومًا برؤية، لا يقتصر الأمر على هذا، بل يصح البيع بالصفة، بأن يكون معلومًا برؤية أو صفة.
وكذلك الثمن لا بد أن يكون معلومًا. لكن، لو باعه من غير تسمية الثمن، وهذا يحصل أحيانًا؛ يأتي الإنسان ويشتري له سلعة ولا يتفق هو والبائع على الثمن، فهل يصح البيع أم لا؟ محل خلاف بين الفقهاء:
الجمهور على أنه لا يصح، والقول الثاني إنه يصح بثمن المِثل. وهذا هو القول الراجح، واختاره الإمام ابن تيمية رحمه الله؛ يصح بثَمَن المِثل قياسًا على النكاح، فإن النكاح إذا لم يُسَمَّ المهر يكون بمهر المِثل، فهنا أيضًا كذلك إذا لم يُسَمَّ الثمن يكون بثمن المِثل. والأصل تصحيح العقود ما أمكن.
الشرط السابع: أن يكون مُنَجَّزًا لا معلَّقًا
الشرط السابع: (وكونه مُنَجَّزًا لا معلَّقًا)؛ فلا يصح أن يكون البيع معلَّقًا، يقول: بعتك إن رضي زيد، أو بعتك إن دخل شهر رمضان، ونحو ذلك، أو ما يُسمُّونه “بعتك على الشور” أو “اشتريت على الشور”.
فالمذهب -وهو قول الجمهور- أنه لا يصح تعليق العقود، والقول الثاني: أنه يصح تعليق العقود؛ إذ إنه ليس هناك دليل يدل على المنع من تعليق العقود، والأصل في المعاملات الحل والإباحة. وهذا هو القول الراجح: أنه يصح تعليق العقود؛ فما المانع من أن يقول: بعتك إن رضي أبي، أو إن رضي زيد؟ أو “على الشور”، ما المانع من هذا؟ ليس هناك ما يمنع.
فإذن؛ الصواب: عدم اشتراط الشرط الأخير، وأن القول الراجح: هو صحة تعليق العقود.
والشروط سبعة، لكن غير المصنِّف يَفصلون معرفة المبيع ومعرفة الثمن فيجعلونهما شرطين، ولا يذكرون كونه منَجَّزًا. ولا مشاحة في الاصطلاح.
ونقف عند: “الشروط في البيع”؛ نفتتح بها درس العصر إن شاء الله تعالى.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الآن نُجيب عن الأسئلة والاستفسارات، قبل هذا نطرح أسئلة على الدرس:
مَن يذكر لنا أحكام ذوي القربى في الزكاة وفي خمس الغنيمة؟ ما حكمهم؟ ذوو القربى مَن هم؟ وما أحكامهم في الزكاة وفي خمس الغنيمة؟
مداخلة: ……
الشيخ: بنو هاشم وبنو المطلب. في أيِّ شيء؟
مداخلة: ……
الشيخ: بنو هاشم على القول الراجح.
مداخلة: ……
الشيخ: ذكرنا أن التمويل عن طريق البنوك يمكن أن يحصل بعِدَّة صِيَغ مشروعة، من يذكر لنا ثلاث صِيَغ من الصيغ المشروعة للتمويل بطريقة جائزة؟
مداخلة: ……
الشيخ: التورُّق، نعم.
مداخلة: ……
الشيخ: المرابحة لأي شيء؟
مداخلة: ……
الشيخ: اسمها الدقيق؛ لأن المرابحة تختلف عن المرابحة التي ذكرها الفقهاء: المرابحة للآمر بالشراء. والثالث؟
مداخلة: ……
الشيخ: التأجير مع الوعد بالتمليك.
طيب، نطرح السؤال للأخوات النساء: أقسام الكفار الأربعة التي ذكرناها، ما هي الأقسام الأربعة للكفار، مع بيان المقصود بكل قسم؟ ومن الذين دماؤهم وأموالهم معصومة مِن هذه الأقسام؟ يُرسَل الجواب على حساب الجامع، هذا للأخوات.
سنُجيب عما تيسر من الأسئلة، وبقية الأسئلة إن شاء الله سنُجيب عنها في نهاية كل درس وبين الأذان والإقامة.
الأسئلة
السؤال: يقول: أحدهم عَرَض عليَّ سلعة يملكها، وقال لي: أبيعها بكذا، ولي نسبة. فهل يصح أن أعرضها للبيع كأنها ملكي؟
الشيخ: لا بأس أن تعرضها؛ يعني: لا يلزم أن تُخبر بأن هذه السلعة لغيرك، فلو عرضتها وكأنها ملكك ليس هناك ما يمنع، وليس في هذا تغرير؛ أنت تبيعه بسعر السوق، وبسعر المِثل، كأنك وكيل عنه في ذلك. فالأمر في هذا واسع.
السؤال: ما حكم المتاجرة بالعملات الرقمية؟
الشيخ: العملات الرقمية مثل “بيتكوين” وغيرها، فيها قولان للعلماء المعاصرين:
- منهم من منع منها؛ لِما تنطوي عليه من الغرر، ووجود التذبذب الحاد فيها.
- ومنهم من أجازها باعتبار أنها عملة كسائر العملات، وأن هذا التذبذب يحصل في غيرها مثل الأسهم -مثلًا- وغيرها.
وأنا متوقف فيها؛ لأن فيها أمورًا غير واضحة؛ من الذي أسسها؟ ومن الذي أنشأها؟ ومن الذي يرعاها؟ ومن الذي يحميها؟ وأسئلة كثيرة ليس لها جواب.
وأيضًا القول بالجواز قد يُفضي إلى تغرير؛ كثيرٌ من الناس يضعون أموالهم فيها وتذهب أموالهم. والقول بالتحريم؛ قد يقال: إنها عملة كسائر العملات، وربما تكون عملة منتشرة في الزمن المستقبل.
يعني: المسألة لا يزال فيها بعض الغموض وعدم الوضوح. لكن، مَن تعامل بها اعتمادًا على رأي المجيزين فرأي المجيزين أقرب من رأي المانعين؛ مَن اعتمد على ذلك فيمكن أن يأخذه بفتوى مَن أجاز ذلك من العلماء.
السؤال: ما الفرق بين البحث عن المخرج في البيوع، وما فعله أصحاب السبت مِن تَحَايُلٍ؟
الشيخ: ما فعله أصحاب السبت حيلةٌ على الحرام، فبدلًا من أن يصطادوا في يوم السبت وضعوا الشِّباك مساءَ الجمعة وأخذوها صُبْح الأحد. فهذا حيلةٌ على الحرام، بينما المخرج في المعاملات: أن تَخرج عن العقد بالكلية وتدخل في عقد آخر؛ يعني: بِعِ الجَمع بالدراهم[27]، بِعِ التمر الرديء بدراهم واشتر بالدراهم تمرًا جيدًا. لاحِظ أنك خرجتَ من العقد تمامًا وانتقلت لعقد آخر، فبدل أن تبيع صاعًا بصاعين: تبيع الصاعين مِن هذا بدراهم وتشتري بالدراهم تمرًا جيدًا. فأنت خرجت من هذا.
وهذا يدل على أن الصُّورية أحيانًا مؤثرة؛ ولذلك بعض الناس عندما يرون المصارف الإسلامية، يقولون: ما يوجد فرق بينها وبين البنوك الربوية. ولا يُدركون بأن الفرق بين الحلال والحرام في المعاملات فرق دقيق. ولهذا؛ المشركون قالوا: ما الفرق بين البيع والربا؟ كلها واحد. فأنزل الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا قال الله: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275].
فينبغي خاصة لطلاب العلم أن يُشجِّعوا المصرفية الإسلامية؛ لأنها إذا شُجِّعت تنتشر المعاملات المباحة، وتزدهر المصرفية الإسلامية في المجتمع، ويَقِلُّ التعامل بالحرام.
لكن، مع الأسف نجد حتى من بعض طلبة العلم من يُحاربون بعض المصارف الإسلامية، وربما أن بعضهم يركز على سلوكياتٍ لبعض الموظفين أو كذا، وبعضهم أيضًا ليس عنده تصور، يبدأ يُحرِّم وهو لم يتصور أصل المعاملة.
وأفضل من يُفتي في مسائل المعاملات المصرفية هم الممارسون، الممارس الذي يكون في هيئة شرعية ويُمارس، ويرى العمل أمامه ويتصوره تصورًا دقيقًا ويُفتي فيه. هذا هو أحسن من يُفتي الناس في المعاملات المصرفية.
فينبغي تشجيع المصارف الإسلامية -والمصرف الإسلامي- حتى تزدهر، ولله الحمد الآن هي عندنا في ازدهار. وكذلك أيضًا بداية العام القادم (2023م) هناك لائحة جديدة ستُطبَّق على الهيئات الشرعية في المصارف، أتوقع -إن شاء الله- أنها تضبط الهيئات الشرعية في المصارف أكثر، وحتى رؤية المملكة (2030م) من أهدافها أن تكون المملكة رائدة في المصرفية الإسلامية.
هذا هو توجُّه الدولة أيضًا، وينبغي أن يكون أيضًا توجُّه الجميع -خاصة طلبة العلم- أن يدعموا المصرفية الإسلامية والمصارف الإسلامية، وما قد يوجد من أخطاء ومن خلل فهذه تُعالج، تُعالج هذه الأخطاء.
السؤال: ما حكم من قام بمعاملة محظورة كقرض ربوي عن طريق شراء منزل، كيف يمكن التخلص منه؟
الشيخ: إن كان السائل داخل المملكة فشراء العقارات والبيوت عن طريق البنوك كلها تتم بالطريقة الجائزة، حتى من البنوك التقليدية، كلها بالطريقة الجائزة، ما يوجد شيء يتم بقرض ربويٍّ محرم.
أما إذا كان السائل من خارج المملكة، فصحيحٌ هناك بنوك تُعطي قروضًا بفائدة مباشرة، نقدًا بنقدٍ مع الزيادة، وهذا محرم، وإذا كان الأخ السائل وقع في ذلك فعليه أن يتخلَّص من هذا المُحرَّم ما أمكن، مع التوبة إلى الله من الوقوع في الربا؛ فإن الربا من كبائر الذنوب.
السؤال: هذا يسأل عن كتابٍ في المعاملات المالية المعاصرة.
الشيخ: أشرت لهذا، أنا وضعت كتابًا في المعاملات المالية المعاصرة، بأسلوب سهل ومبسَّط، وحجمه متوسط، ومتوفر في المكتبات.
السؤال: هل أُصلِّي سنة الفجر في السيارة؛ لأن المسجد بعيد، وقد تفوتني إذا أخرتها حتى وصولي المسجد؟
الشيخ: ليس لك أن تُصلِّيها في السيارة؛ لأنه سيفوتك الإتيان ببعض الأركان مثل السجود، وإنما إذا كنت ستتأخر: تُصلِّي سنة الفجر بعد الصلاة، تُصلِّيها بعد صلاة الفجر، أو تُصلِّيها بعد طلوع الشمس وارتفاعها قِيدَ رُمْح، وهو الأفضل.
السؤال: اشتريتُ بيتًا عن طريق البنك، واتفقت مع البائع على رفع السعر مقدار خمسين ألفًا، حيث إن البائع يُعطيني هذا المبلغ لأجل أن أقوم بتأثيث المنزل، ما حكم هذه الزيادة؟
الشيخ: هذه الزيادة مُحرَّمة؛ لأن هذه الزيادةَ البنكُ سيضع عليها فوائد، سيضع عليها أرباحًا لكن ستنقلب إلى فوائد. الأرباح على العقار هذه لا بأس بها؛ أرباح مقابل سلعة، لكن هذه الزيادةَ البنكُ سيضع عليها أرباحًا لكنها في حقيقتها فوائد؛ نقدٌ بنقدٍ مع الزيادة، وهذا لا يجوز. وهذه مشتهرة أو منتشرة عند بعض العامة.
عندما يأتي البنك ويُقيِّم العقار مثلًا بمليون، يقول: اجعلها بمليون ومائة ألف، وأعطني المائة الألف لأجل التأثيث؛ هذا لا يجوز؛ لأن المائةَ الألف هذه البنكُ سيضع عليها أرباحًا، وهذه الأرباح مقابل نقدٍ، نقدٌ بنقدٍ مع الزيادة؛ تتحوَّل هذه الأرباح إلى فائدة ربوية. ولذلك؛ فالمصارف الإسلامية تمنع منها، إذا عَلِمَتْ بذلك تمنع منها، لكن بعض الناس يتحايل ويتفق البائع والمشتري، وربما أحيانًا يتواطأ معه موظف البنك؛ وهذا لا يجوز.
طيب، ما هو المخرج؟
المخرج: أن يتفق مثلًا مع البائع على أن يقوم البائع بتأثيث منزله، يقول: اختر ما تريد من الأثاث، ومثلًا: وتدفع لي قيمة الأثاث، أو يبقى دَينًا عليك، أو أنه يأخذ تمويلًا لأجل التأثيث، أو يقترض. المهم: لا يلجأ لهذه الطريقة؛ هذه الطريقة طريقة غير جائزة، كونه يرفع قيمة البيت لأجل التأثيث، وبعد ذلك يُعطي المشتري هذه الزيادة؛ هذا لا يجوز.
السؤال: جدي وجدتي يذبحان كل عيد أضحيتين، ويقومان بطبخ الأضحيتين لاجتماع الأسرة في العيد، فما الحكم؟
الشيخ: هذا أمر طيب، ذبح الأضحية عمل صالح، وربما استشكال الأخ السائل: أنها أكثر من أضحية، فهذا أفضل، كلما كان أكثر من واحدة فهو أفضل، والنبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع أهدى مائةً من الإبل[28].
نعم. أَكْلُها كلِّها المذهبُ يمنع من ذلك، لكن القول الراجح أنه لا بأس به؛ ليس هناك دليل يدل على وجوب الصدقة منها، القول بأنها تجب الصدقة من الأضحية ليس عليه دليل. فالقول الراجح: إنه لا بأس بأكلها كلها، ولا بأس بالصدقة بها كلها، وأن الأمر في ذلك واسع.
العقيقةُ أحسنُ الأقوال فيها هو قول ابن سيرين: اصنع بها كما تشاء. ولمَّا سُئل الإمام أحمد عما يُفعل بالعقيقة، ذَكَر قول ابن سيرين، فكأنه ارتضاه. وهذا اختيار شيخنا عبدالعزيز ابن باز؛ العقيقة لم يرد فيها شيء، فاختر ما ترى أن فيه المصلحة، سواء أَكَلْتها كلَّها، أو جعلت عليها وليمةً ودعوت إليها، أو تصدقت بها، افعل بها ما تشاء كما قال ابن سيرين.
السؤال: رجل يعمل في التجارة بالتقسيط، يأتيه المشتري يطلب جوالًا مثلًا، فيتصل هذا التاجر الصغير بالتاجر الأكبر، فيسأله عن السعر ويتفق معه على طريقة استلامه، فهل يجوز للتاجر الصغير الاتفاق مع المشتري على أساس أنه تملَّك السلعة حكمًا؟
الشيخ: لا يجوز حتى يتملَّك السلعة، أو أنه يَعِدُه بالبيع وعدًا، يقول مثلًا: أعطه المبلغ يكون عنده أمانة، فإذا أحضَرَ السلعة يعقد العقد. أما مجرد أنه يبيعه وهو لا يملك فلا يجوز.
البديل ما هو؟ البديل؛ إما على سبيل الوعد، هذا أحد البدائل المشروعة. والبديل الثاني: أن يجعله سَلَمًا، يقول: أعطني المبلغ، ماذا تُريد؟ أيَّ سلعة؟ يقول: أريد سلعةً بمواصفات كذا وكذا وكذا. فيأخذ منه المبلغ كاملًا، ويُحضِر له السلعة بتلك المواصفات. لكن، لا بد أن يكون له أَجَلٌ، لا بد أن يكون فيه أجل له وَقْعٌ في الثمن. هذا إن شاء الله سنشرحه في العصر في “أحكام السلم” إن شاء الله تعالى.
فالمهم أنه لا يجوز أن يبيع ما لا يملك.
السؤال: شخص يشتري من شخص حسابات في التواصل الاجتماعي، لكن المشتري يشُكُّ في أنها مسروقة؟
الشيخ: إذا كان هناك قرائن تدل على أنها مسروقة فلا يشتري منه، أما إذا لم يكن هناك قرائن فالأصل هو الجواز.
السؤال: طالب العلم إذا أراد ضبط الفقه فهل يسير على قول المذهب، أو يسير على القول الراجح؟
أولًا: من أراد التفقُّه لا بد أن ينطلق من مدرسة فقهية: مدرسة الحنابلة، أو الشافعية، أو المالكية، أو الحنفية، لا بد أن ينطلق من مدرسة فقهية، ينطلق من متن فقهي ومدرسة فقهية. لكن، بعد ذلك لا يتقيَّد بالمذهب؛ لأن هذه المذاهب والكتب كلها وسائل لمعرفة حكم الشرع، والله تعالى يقول: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65]، ولا يقول: ماذا أجبتَ أبا حنيفة أو مالكًا أو الشافعي أو أحمد.
فلذلك؛ أفضل طريقة هي أن تضبط المذهب وتعرف دليله، وإذا كان هناك قول آخر أقوى من قول المذهب فتعرف هذا القول بدليله، وتختار لنفسك قولًا راجحًا. هذه أفضل طريقة للتفقُّه.
أما الاقتصار على المذهب فقد قال ابن عبدالبر: “أجمع العلماء على أن المقلِّد ليس معدودًا من العلماء”، لا يُعتبر هذا علمًا، هذا تقليد؛ العلم هو معرفة الحق بدليله.
فلا تقتصر على المذهب إلا إذا كنت ستضبط المذهب ثم تنتقل منه لمرحلة أخرى، وهي أنك تنتقل من المذهب للأقوال الأخرى. لكن العمر قصير، ربما لا يتهيَّأ لك الوقت الكافي؛ ولذلك فالأحسن أن تبدأ مباشرة تضبط المذهب ودليله، ثم تعرف الأقوال الأخرى، خاصة إذا كانت تلك الأقوال أقوى من المذهب.
وإذا ضبطت المذهب فقط؛ ما تستطيع أن تُفتي الناس، لو سألك أحدٌ لا تبرأ ذمتك بأن تقول: هذا هو حكم الله ورسوله، لكن إذا ضبطت الأقوال والأدلة، وعلى الأقل ضبطت أقوال المحققين من أهل العلم، عرفت أن هذا مثلًا اختيار فلان من المحققين، وهذا اختيار فلان، يعني: غالب المسائل تجد أن المحققين يتفقون فيها على قول، في الغالب في كثير من المسائل. فهذه هي الطريقة الصحيحة للتفقُّه.
ومِن أحسن الطرق في هذا طريقة الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله في “الشرح الممتع”؛ يذكر المذهب ويذكر دليله، ويذكر القول الآخر إذا كان هو الراجح بدليله. طريقة الشيخ محمد هي أفضل الطرق في نظري؛ ولذلك اتبعتُها في كتابي “السلسبيل”، وأضفتُ لها المسائل المعاصرة، اتبعت نفس الطريقة؛ هذه في نظري أفضل طريقة للتفقُّه.
وأما التنظير الذي يقوم به بعض الإخوة: اضبط المذهب أولًا، ثم بعد ذلك انتقل لغير المذهب. العمر قصير، متى ستضبط المذهب؟ ومتى تنتقل؟ ومتى؟ فابدأ من الآن مرة واحدة، يعني: أنت إذا كنت تفهم ما يُلقى فاضبطه من الآن، اضبط المذهب، واضبط الأقوال الأخرى معه، وكوِّن لنفسك قولًا راجحًا، وسِرْ على مسائل الفقه بهذه الطريقة. هذه هي أفضل طرق التفقُّه.
لعلنا نختم بهذا السؤال، وبقية الأسئلة إن شاء الله نُرجِئها للدرس القادم.
السؤال: ما حكم تشريك النية في الطاعات، مثلًا: من يُصلِّي خلف إمام في التراويح ويتفكَّر في مسائل علمية؟
الشيخ: ورد عن عمر -وهذا في “البخاري”- قال: إني أُجهِّز الجيش في الصلاة. فهذا يدخل في مسائل التشريك، ونحن ذكرنا أن التشريك في النية لا بأس به، لكن عدم التشريك أفضل لا شك، لا شك أن عدم التشريك أفضل من التشريك.
ونكتفي بهذا القدر.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 6408، ومسلم: 2689. |
---|---|
^2 | رواه مسلم: 2699. |
^3 | رواه البخاري: 5970، ومسلم: 85. |
^4 | رواه البخاري: 2892. |
^5 | رواه ابن أبي شيبة في “المصنف”: 19457، والطبراني في “مسند الشاميين”: 3440. |
^6 | رواه مسلم: 1817. |
^7 | رواه البخاري: 2664، ومسلم: 1868. |
^8 | رواه البخاري: 3004، ومسلم: 2549. |
^9 | رواه البخاري: 438، ومسلم: 521. |
^10 | رواه البخاري: 3502. |
^11 | رواه مسلم: 1072. |
^12, ^16, ^17, ^25, ^27 | سبق تخريجه. |
^13 | رواه البخاري: 4228، ومسلم: 1762. |
^14 | رواه البخاري: 3142، ومسلم: 1751. |
^15 | رواه البخاري: 7458، ومسلم: 1904. |
^18 | رواه البخاري: 3166. |
^19 | رواه مسلم: 1731. |
^20 | رواه مالك: 31، وأحمد: 2865. |
^21 | رواه مسلم: 2167. |
^22 | رواه البخاري: 2312، ومسلم: 1594. |
^23 | رواه ابن ماجه: 2185. |
^24 | رواه أحمد: 15311، وأبو داود: 3503، والترمذي: 1232. |
^26 | رواه البخاري: 3642. |
^28 | رواه أحمد: 2359. |