عناصر المادة
والإنسان -أيها الإخوة- مهما كان عليه من القوة في العبادة لا يمكن أن يعبد الله كما يُحب الله إلا عن طريق العلم، لكننا نحتاج في هذا الزمن إلى رفع مستوى الهمَّة، وأن يحرص طالب العلم على طلب العلم، وأن يُخلص النية لله ، لو لم يكن من الخير إلا أنه يتعرض لمغفرة الله: أشهدكم أني قد غفرتُ لهم [1].
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا، ربنا آتنا من لدنك رحمةً، وهيِّئ لنا من أمرنا رشدًا.
قبل أن نبدأ توجد مُذكراتٌ لـ”صحيح مسلمٍ” موجودةٌ هنا، مَن لم تكن معه مُذكرةٌ فبإمكانه أن يأخذ واحدةً منها، ونشكر الذي تكفل بطباعتها هنا الأخ سعود الشهري، جزاه الله خيرًا على توفيرها لمَن يحضر معنا هذا الدرس.
كنا قد وصلنا في شرح “صحيح مسلم” إلى كتاب: الذكر والدعاء والاستغفار، وبدأنا في الدرس السابق في الدعوات، وبيَّنا أهمية الدعاء، وأن الدعاء هو العبادة، كما جاء في الحديث عن النبي أنه قال: ليس شيءٌ أكرم على الله من الدعاء [2].
والدعاء سببٌ لتحقيق المطلوب، ودفع المرهوب، وهو سببٌ للخيرات، ورُبَّ دعوةٍ واحدةٍ يدعو بها المسلم تكون سببًا له في خيرٍ عظيمٍ؛ ولذلك ينبغي أن يحرص المسلم كل يومٍ على الدعاء، وأن يتحرى أوقات الإجابة، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجدٌ.
كذلك الثلث الأخير من الليل، وبين الأذان والإقامة، فإن الدعاء لا يُرد بين الأذان والإقامة، وآخر ساعةٍ بعد العصر من يوم الجمعة، ونحو ذلك من مواطن الإجابة.
ومرَّ معنا في الدرس السابق عددٌ من الدعوات المأثورات عن النبي ، ووصلنا إلى حديث فاطمة، نعم.
حديث: ألا أدلكِ على ما هو خيرٌ لكِ من خادمٍ ..؟
القارئ: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمدٍ عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التَّسليم.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا والحاضرين والسامعين برحمتك يا أرحم الراحمين.
قال المؤلف رحمنا الله وإياه: حدثنا محمد بن المُثنى ومحمد بن بشار -واللفظ لابن المثنى- قالا: حدثنا محمد بن جعفر: حدثنا شعبة، عن الحكم قال: سمعتُ ابن أبي ليلى قال: حدثني عليٌّ: أن فاطمة رضي الله عنها اشتكتْ ما تلقى من الرَّحى في يدها، وأتى النبيَّ سَبْيٌ، فانطلقتْ فلم تجده، ولقيتْ عائشة فأخبرتها، فلما جاء النبي أخبرته عائشةُ بمجيء فاطمة إليها، فجاء النبي إلينا، وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبنا نقوم، فقال النبي : على مكانكما، فقعد بيننا حتى وجدتُ برد قدمه على صدري، ثم قال: ألا أُعلمكما خيرًا مما سألتُما، إذا أخذتُما مضاجعكما أن تُكبرا الله أربعًا وثلاثين، وتُسبحاه ثلاثًا وثلاثين، وتحمداه ثلاثًا وثلاثين، فهو خيرٌ لكما من خادمٍ [3].
وحدَّثناه أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا وكيعٌ. ح، وحدثنا عبيدالله بن معاذ: حدثنا أبي. ح، وحدثنا ابن المُثنى: حدثنا ابن أبي عدي، كلهم عن شعبة بهذا الإسناد، وفي حديث معاذٍ: إذا أخذتُما مضجعكما من الليل [4].
وحدَّثني زهير بن حربٍ: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عبيدالله بن أبي يزيد، عن مجاهدٍ، عن ابن أبي ليلى، عن علي بن أبي طالب. ح، وحدثنا محمد بن عبدالله بن نُمير وعبيد بن يعيش، عن عبدالله بن نُمَير: حدثنا عبدالملك، عن عطاء بن أبي رباح، عن مجاهدٍ، عن ابن أبي ليلى، عن عليٍّ، عن النبي بنحو حديث الحكم، عن ابن أبي ليلى، وزاد في الحديث: قال عليٌّ : ما تركتُه منذ سمعتُه من النبي . قيل له: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين.
وفي حديث عطاء، عن مجاهدٍ، عن ابن أبي ليلى قال: قلتُ له: ولا ليلة صفين [5].
حدثني أُمية بن بسطام العيشي: حدثنا يزيد -يعني: ابن زُرَيع-: حدثنا روحٌ -وهو ابن القاسم- عن سهلٍ، عن أبيه، عن أبي هريرة : أن فاطمة رضي الله عنها أتت النبيَّ تسأله خادمًا، وشكت العمل، فقال: ما ألفيتيه عندنا، قال: ألا أدلكِ على ما هو خيرٌ لكِ من خادمٍ؟ تُسبحين ثلاثًا وثلاثين، وتحمدين ثلاثًا وثلاثين، وتُكبرين أربعًا وثلاثين حين تأخذين مضجعكِ [6].
وحدَّثنيه أحمد بن سعيد الدارمي، وحدثنا حبان، وحدثنا وهيب: حدثنا سُهيل بهذا الإسناد.
الشرح:
هذه القصة: أتت فاطمة بنت النبي ، وزوجة علي بن أبي طالبٍ، أتت النبيَّ تطلب منه خادمًا؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان عنده سَبْيٌ، فتريد واحدةً من السَّبي لتخدمها، واشتكت ما تجد من الرَّحى ومن أعمال المنزل، ونحو ذلك.
فقال النبي لها ولزوجها عليٍّ: ألا أدلكما على ما هو خيرٌ من الخادم؟ تُسبحان الله ثلاثًا وثلاثين، وتحمدان الله ثلاثًا وثلاثين، وتُكبران الله أربعًا وثلاثين.
فهذا يدل على استحباب هذا الذكر قبل النوم: التَّسبيح ثلاثًا وثلاثين، والتَّحميد ثلاثًا وثلاثين، والتَّكبير أربعًا وثلاثين، لكن ما العلاقة؟ ما وجه العلاقة بين طلب الخادم وبين التَّسبيح ثلاثًا وثلاثين، والتَّحميد ثلاثًا وثلاثين، والتَّكبير أربعًا وثلاثين؟
فاطمة الآن تطلب خادمًا، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: أدلكِ على ما هو خيرٌ لكِ من خادمٍ، وهو هذا الذكر، فما وجه كون هذا الذكر يُغني عن الخادم؟ لا بد أن تكون هناك علاقةٌ، ولا بد أن يكون هناك ارتباطٌ.
قال أهل العلم، وممن نصَّ على ذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله قال: “إن مَن أتى بهذا الذكر قبل النوم يُعطيه الله تعالى نشاطًا وقوةً في نهاره تُغنيه عن الخادم”.
هذا وجه العلاقة: أن الله تعالى يُعطيه قوةً ونشاطًا يستغني بهذه القوة والنشاط عن الخادم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ألا أدلكما على ما هو خيرٌ من الخادم؟ يعني: على أمرٍ إذا فعلتُموه استغنيتم به عن الخادم، لم تحتاجوا للخادم، وهو التَّسبيح والتَّحميد والتَّكبير قبل النوم.
فهذا يدل على فضل هذا الذكر، وأنه ينبغي للمسلم أن يُحافظ عليه قبل أن ينام: يُسبح الله ثلاثًا وثلاثين، ويحمد الله ثلاثًا وثلاثين، ويُكبر الله أربعًا وثلاثين، فهذا -بإذن الله تعالى- يُعطيه قوةً ونشاطًا تُغنيه عن الخادم.
وهنا قال: تُسبحان الله ثلاثًا وثلاثين، وتحمدان الله ثلاثًا وثلاثين، وتُكبران الله أربعًا وثلاثين، فجاء التنصيص على أربعٍ وثلاثين لتكون التَّسبيحة الرابعة والثلاثون تمام المئة، بينما في مثل هذا الذكر الذي يُقال أدبار الصلوات قال: مَن سبَّح الله في دُبُر كل صلاةٍ ثلاثًا وثلاثين، وحمد الله ثلاثًا وثلاثين، وكبَّر الله ثلاثًا وثلاثين، فتلك تسعةٌ وتسعون، وقال تمام المئة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قديرٌ [7].
وهذا هو وجه الاختلاف بين هذين الذكرين: أن الذكر الذي يُقال أدبار الصلوات يكون تمام المئة قول: “لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قديرٌ”، وأما الذكر الذي يكون قبل النوم يكون تمام المئة تكبيرة، بحيث يكون التَّسبيح ثلاثًا وثلاثين، والتَّحميد ثلاثًا وثلاثين، والتَّكبير أربعًا وثلاثين.
فينبغي للمسلم أن يحرص على المُحافظة على هذا الذكر، فإنه:
- أولًا: يستفيد به أجرًا وثوابًا.
- ثانيًا: أنه يُعطيه نشاطًا وقوةً في نهاره على مُزاولة الأعمال.
ولهذا كان عليٌّ يُحافظ عليه مُحافظةً شديدةً، وسُئل عليٌّ: ما تركتَ هذا الذكر حتى ليلة صفين؟ قال: “ولا ليلة صفين”، يعني: مع أنها معركةٌ بين عليٍّ وبعض الصحابة في الفتنة المعروفة التي حصلتْ، فقيل لعليٍّ: ولا ليلة صفين؟ قال: “ولا ليلة صفين”، يعني: أنه حافظ على هذا الذكر طوال حياته.
وهذا يدل على أهمية المُحافظة على الأذكار، وأنه ينبغي للمسلم أن يجعلها جزءًا أساسيًّا من حياته، لا يُفرط فيها، سواء كانت أذكار الصباح، أو أذكار المساء، أو الأذكار التي تُقال قبل النوم، فهذه الأذكار حصنٌ حصينٌ للمسلم، يتحصن بها من الشرور، وأيضًا تُعينه وتُعطيه قوةً ونشاطًا، كما في هذا الذكر، وأيضًا يكسب بها أجرًا وثوابًا.
باب استحباب الدعاء عند صياح الديك
القارئ: باب: استحباب الدعاء عند صياح الديك.
حدثني قتيبة بن سعيد: حدثنا ليثٌ، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، عن أبي هريرة : أن النبي قال: إذا سمعتُم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله، فإنها رأتْ مَلَكًا، وإذا سمعتُم نهيق الحمار فتعوَّذوا بالله من الشيطان، فإنها رأتْ شيطانًا [8].
الشرح:
في هذا الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: إذا سمعتُم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله، لماذا؟
قال: فإنها رأتْ مَلَكًا، والملائكة تأتي بالخير؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: فاسألوا الله من فضله رجاء أن تُؤَمِّن الملائكة على هذا الدعاء، وأيضًا استغفار الملائكة، وشهادة الملائكة أيضًا لمَن يدعو، ونحو ذلك، فإن مجيء الملائكة يكون بالرحمة والخير.
قال: وإذا سمعتُم نهيق الحمار فتعوَّذوا بالله من الشيطان، فإنها رأتْ شيطانًا، والشياطين أعداء بني آدم؛ ولهذا تُشرع الاستعاذة بالله تعالى منهم، والحمير إذا رأت الشياطين فإنها تنهق؛ ولهذا أرشد النبي للاستعاذة بالله تعالى من الشيطان.
وهذا يدل على أن وجود الملائكة وحضورها رحمةٌ، وأن وجود الشياطين عكس ذلك؛ ولهذا فإن البيت الذي تدخله الملائكة تكون عليه الرحمة والسكينة والخير، بينما البيت الذي تدخله الشياطين تُسبب لأهله الإزعاج، وتُسبب لهم شرورًا كالسحر ونحوه؛ لأن المصدر الرئيس للسحر هو الشياطين، فالشياطين هي التي يستعين بها السحرة لتنفيذ سحرهم، وتُسبب أيضًا الكوابيس للإنسان في نومه، ونحو ذلك.
ولهذا ينبغي أن يحرص المسلم على الابتعاد عما تبتعد لأجله الملائكة، وقد ذكر النبي أمورًا إذا وُجدتْ في البيت لا تدخل الملائكة البيت، فقال: لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلبٌ ولا صورةٌ [9]، فإذا وُجدتْ في البيت صورةٌ -والمقصود بالصورة: التماثيل، تماثيل ذوات الأرواح، ومثل ذلك أيضًا: رسومات ذوات الأرواح- فهذا يمنع دخول الملائكة.
وكذلك أيضًا وجود الكلب -لغير كلب صيدٍ أو حرثٍ أو ماشيةٍ- وجوده في البيت يمنع دخول الملائكة للبيت، وإذا لم تدخله الملائكة دخلته الشياطين فآذتْ أهل البيت، وأعانتْ على السحر، وسبَّبتْ لهم الكوابيس المُزعجة؛ لأن الشياطين هم أعداء للإنسان، وأعداء لبني آدم.
وقد دلَّ هذا الحديث أيضًا على أن الحيوانات قد ترى أشياء لا يراها بنو آدم، وابن آدم ضعيفٌ، مستوى النظر والبصر عنده محدودٌ، ومستوى السمع عنده محدودٌ، ومستوى العقل عنده محدودٌ، فهناك أشياء تراها الحيوانات لا يراها بنو آدم، ومن ذلك: ما ذُكر في هذا الحديث، فالديكة ترى الملائكة، وبنو آدم لا يرون الملائكة، والحمير ترى الشياطين، وبنو آدم لا يرون الشياطين، وربما تكون هناك أيضًا في الكون أمورٌ لا يراها بنو آدم، وقد تراها الحيوانات، وقد لا تراها، لكن هناك أشياء كثيرةٌ في هذا الكون لا يراها الإنسان.
وهكذا أيضًا بالنسبة للسمع، فهناك أشياء تسمعها الحيوانات، ولا يسمعها الإنسان؛ ولذلك فإن التَّنبؤ بالزلازل حتى الآن غير ممكنٍ، فمع هذا التقدم الذي نعيشه إلا أن البشر لم يستطيعوا التَّنبؤ بحدوث الزلازل، بينما الحيوانات عندها إحساسٌ بالزلازل؛ ولذلك ففي الزلازل التي وقعت يرى الناس حركاتٍ غريبةً للحيوانات في ذهابها وحركتها، فهي تحسّ بوقوع الزلازل قبل وقوعها، وهذا يدل على أن الحيوانات قد ترى وقد تسمع أشياء لا يراها بنو آدم، ولا يسمعها بنو آدم.
إذن بصر الإنسان محدودٌ، وسمعه محدودٌ، وهكذا أيضًا عقله محدودٌ، عقله لا يستطيع أن يُدرك إلا شيئًا من ظاهر عالم المادة، ولا يُحيط بذلك أيضًا، وإنما شيءٌ يسيرٌ من ظاهر عالم المادة، أما العوالم الأخرى فلا يستطيع الإنسان أن يعرفها.
يعني: خُذْ على سبيل المثال: روحك التي بين جنبيك، هل تستطيع أن تعرف حقيقتها؟ ما حقيقة روحك التي بين جنبيك؟
هذه لا يستطيع الإنسان أن يعرف حقيقتها؛ ولذلك لما سُئل النبي عن الروح توقف عليه الصلاة والسلام، فأنزل الله قوله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85] يعني: ليست من عالمكم أنتم، ليست من عالم المادة الذي تعرفونه، إنما هي من عالمٍ آخر لا تعرفونه؛ ولهذا قال: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85].
وهكذا أيضًا هناك عوالم أخرى لا يستطيع الإنسان أن يعرفها، يقف عندها ولا يستطيع أن يصل إلى حقيقتها؛ ولهذا لما ذكر الله نعيم الجنة ذكر أمثلةً أو أسماء لأشياء من نعيم الدنيا تشترك مع نعيم الجنة في الاسم فقط، وأما الحقيقة فمختلفة تمامًا، كما قال ابن عباسٍ: “ليس في الجنة شيءٌ مما في الدنيا إلا الأسماء”، فنعيم الجنة العقل البشري لا يستطيع أن يتخيله، يعني: فوق خيال العقل البشري، شيءٌ عظيمٌ جدًّا، فوق خيال العقل البشري، كما قال سبحانه: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:17]، وقال عليه الصلاة والسلام عن نعيم الجنة: فيها ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطر على قلب بشرٍ [10]، يعني: حتى مجرد أنه يخطر على قلب بشرٍ -يتخيله البشر- نعيم الجنة فوق ذلك.
فعقل الإنسان يبقى محدودًا؛ ولهذا ينبغي أن يعرف الإنسان قدره، فهذا الإنسان الضعيف المخلوق يأتي ويعترض على الله ! يعترض على الربِّ الخالق لهذا الكون! هذا من العجب؛ ولهذا قال سبحانه: قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ [عبس:17- 19]، وقال: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [يس:77] يعني: أمس نطفة من ماءٍ مهينٍ، واليوم خصيمٌ مبينٌ، يُخاصم ربَّه! ويعترض على ربه!
فينبغي أن يعرف الإنسان قدره، وأن عقله محدودٌ، وأن ما أعطاه الله تعالى من السمع والبصر والعقل والمدارك محدودةٌ: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، وأن يردَّ العلم إلى الله .
ففي هذا الحديث ذكر النبي عليه الصلاة والسلام حيوانين يريان أشياء لا يراها بنو آدم، فذكر الديكة أنها ترى الملائكة، وذكر الحمير أنها ترى الشياطين.
دلَّ هذا الحديث على أنه يُستحب الدعاء عند صياح الديكة؛ وذلك لأنها رأت الملائكة، فلعل الملائكة تُؤَمِّن على هذا الدعاء، فإذا سمعتَ صياح ديكةٍ فينبغي أن تغتنم الفرصة وتدعو الله ، وتسأل الله تعالى من فضله؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله، فإنها رأتْ مَلَكًا.
أيضًا دلَّ هذا الحديث على استحباب الاستعاذة بالله من الشيطان عند نهيق الحمار؛ وذلك لأن الحمار يكون قد رأى شيطانًا، فمعنى ذلك: أن الشيطان حاضرٌ، فيُستحب أن تستعيذ بالله تعالى من هذا الشيطان أو الشياطين.
هنا فائدةٌ ذكرها النووي -يعني: سنُناقشه أيضًا فيها- قال: “وفيه استحباب الدعاء عند حضور الصالحين”، وهذا صحيحٌ، يعني: الدعاء عند حضور الملائكة، وأخذ النووي منه فائدة: استحباب الدعاء عند حضور الصالحين، لكن قال النووي: “والتَّبرك بهم”، وهذا محل نظرٍ.
الصحيح الذي دلَّت له الأدلة، والذي ذكره المُحققون من أهل العلم: أنه لا يُشرع التَّبرك بالصالحين، إنما الذي يُتبرك به فقط هو النبي ، يُتبرك بآثاره حيًّا وميتًا، لكن لا يوجد الآن شيءٌ من آثار النبي عليه الصلاة والسلام بعد مماته؛ ولذلك كانت أم سلمة عندها جُلْجُلٌ من فضةٍ كانت فيه شعراتٌ من شعر النبي عليه الصلاة والسلام كانوا يتبركون بها.
أما غير النبي فلا يُشرع التَّبرك به؛ ولذلك لم يكن الصحابة يتبركون بأبي بكرٍ، ولا بعمر، ولا بعثمان، ولا بعليٍّ، ولا بالصحابة، ولا بسائر الصحابة.
فالتَّبرك بالصالحين غير مشروعٍ، بل عدَّه كثيرٌ من أهل العلم من البدع، إنما فقط يُتبرك بالنبي ، لكن لا بأس بأن يُطلب من الصالحين الدعاء، هذا فقط، هذا الذي يُطلب منهم: الدعاء، خاصةً إذا رأيتَ إنسانًا صالحًا، ربما يكون هذا من أولياء الله ، فتطلب منه أن يدعو الله تعالى لك، لعل دعوته تُستجاب، كما قال عليه الصلاة والسلام لعمر عن أويس القرني: يأتي عليكم أويس بن عامر، ثم ذكر بعض أوصافه، وقال: فإن استطعتَ أن يستغفر لك فافعل [11]، فجعل عمر كلما أتى وفدٌ من أهل اليمن يسأل عن أويس القرني حتى وجده، فطلب منه أن يدعو له، فدعا له، واستغفر له، فدلَّ هذا على أنه لا بأس بطلب الدعاء من الصالحين، فالصالحون فقط يُطلب منهم الدعاء، أما ما عدا ذلك من التَّبرك فالمُرجح عند المُحققين من أهل العلم: أن هذا غير مشروعٍ، بل هو من البدع.
باب دعاء الكرب
القارئ: باب دعاء الكرب.
حدثنا محمد بن المُثنى وابن بشارٍ وعبيدالله بن سعيد -واللفظ لابن سعيدٍ- قالوا: حدثنا معاذ بن هشام: حدثني أبي، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أن نبيَّ الله كان يقول عند الكرب: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله ربّ العرش العظيم، لا إله إلا الله ربّ السماوات، وربّ الأرض، ربّ العرش الكريم [12].
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا وكيع، عن هشامٍ بهذا الإسناد، وحديث معاذ بن هشام أتمّ.
وحدثنا عبد بن حميد: أخبرنا محمد بن بشر العبدي: حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة: أن أبا العالية الرياحي حدَّثهم عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أن رسول الله كان يدعو بهن ويقولهن عند الكرب. فذكر بمثل حديث معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، غير أنه قال: ربّ السماوات والأرض.
وحدثنا محمد بن حاتم: حدثنا بَهْز: حدثنا حماد بن سلمة: أخبرني يوسف بن عبدالله بن الحارث، عن أبي العالية، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أن النبي كان إذا حزبه أمرٌ قال: .. فذكر بمثل حديث معاذٍ، عن أبيه، وزاد معهن: لا إله إلا الله ربّ العرش الكريم.
الشرح:
هذا يُسمى: دعاء الكرب، ينبغي أن يحرص المسلم عليه عند وجود الكُرْبَة، أو عند الأمور العظيمة، أو عند الأمور التي تهمّه، فكان عليه الصلاة والسلام يقول عند الكرب: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله ربّ العرش العظيم، لا إله إلا الله ربّ السماوات، وربّ الأرض، ربّ العرش الكريم.
قال الطبري: “كان السلف يدعون به، ويُسمونه: دعاء الكَرْب”، فهذا دعاء الكَرْب.
قال النَّووي رحمه الله: “هذا الحديث حديثٌ جليلٌ ينبغي الاعتناء به والإكثار منه عند الكَرْب”.
فينبغي أن يحرص المسلم على هذا الدعاء وهذا الذكر عند الكرب، فإن الإنسان لا بد أن يُصيبه كربٌ في هذه الحياة؛ لأن الإنسان خلقه الله تعالى في كبدٍ، كما قال سبحانه: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4]، فهو يُكابد مصاعب هذه الحياة ومتاعبها، فلا بد أن يناله ما يناله من الكرب، فإذا أصابه كربٌ ينبغي أن يَلْهَج بهذا الدعاء.
وتسميته “دعاء” هذا من باب التَّجوز وإلا فهو ذكرٌ، وليس دعاء، لكن قد يُطلق الدعاء على الذكر.
وذكر بعض العلماء أن تسميته دعاء: أن هذا الذكر يُستفتح به الدعاء، يعني: يأتي به ثم يدعو.
وقال سفيان بن عيينة: “أما علمتَ قول الله تعالى في الحديث القدسي: مَن شغله ذكري عن مسألتي أعطيتُه أفضل ما أُعطي السائلين” [13]، لكن هذا الحديث حديثٌ ضعيفٌ.
والأقرب -والله أعلم- هو الجواب الأول، وهو: أنه قد يُطلق الذكر على الدعاء، والدعاء على الذكر.
وقد تضمن هذه المعاني العظيمة: تضمن كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، ثم وصف الله بالعظمة والحلم: لا إله إلا الله العظيم الحليم، ثم أيضًا تكرار كلمة التوحيد: لا إله إلا الله ربُّ العرش العظيم.
والعرش هو أعظم المخلوقات، والسماوات السبع والأرضون السبع بالنسبة للكرسي -الذي هو موضع قدمي الربّ – كحلقةٍ أُلقيتْ في فلاةٍ من الأرض.
أرأيتَ حلقةً أُلقيتْ في صحراء؟
هذه السماوات السبع والأرضون، هذا الكون كله بعظمته بالنسبة للكرسي -موضع قدمي الرب- كحلقةٍ أُلقيتْ في صحراء، والكرسي بالنسبة للعرش كحلقةٍ أُلقيتْ في صحراء.
سبحان الله!
انظر إلى عظمة الله .
وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17]، ثمانية ملائكة خلقهم عظيمٌ جدًّا.
يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي أخرجه أبو داود بسندٍ صحيحٍ، يقول: أُذِنَ لي أَنْ أُحدِّث عن مَلَكٍ من ملائكة الله من حملة العرش، إن ما بين شَحْمَة أُذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمئة عامٍ [14].
سبحان الله!
إذا كانت هذه عظمة مخلوقٍ، فكيف بعظمة الخالق؟!
فالعرش هو أعظم المخلوقات؛ ولهذا يُوصَف الربُّ بأنه ربُّ العرش العظيم.
إذن الكلمة الثانية في هذا الدعاء: لا إله إلا الله ربُّ العرش العظيم، والثالثة أيضًا تكرار كلمة التوحيد: لا إله إلا الله ربُّ السماوات، وربُّ الأرض، وربُّ العرش الكريم، هنا تكرر ذكر العرش؛ لأنه أعظم المخلوقات، ووُصِفَ هنا بأنه كريمٌ، فكريمٌ في خلقه، وفي جماله، وفي عظمته، وفي كل شيءٍ، وهو عظيمٌ أيضًا في خلقه، فهذا العرش هو أعظم المخلوقات؛ ولهذا نصف الربَّ نقول: هو ربُّ العرش العظيم، وهو ربُّ العرش الكريم.
فانظر كيف أن هذا الدعاء تضمن هذه المعاني، وتكرار كلمة التوحيد ثلاث مراتٍ، والتوسل إلى الله تعالى بهذه الأسماء وهذه الصفات؛ ولذلك مَن أتى بهذا الدعاء -دعاء الكرب- مُوقِنًا، مُخلصًا، فإن الله تعالى يُفرج عنه كُربته، ويكشف عنه غمَّه.
فينبغي أن يحرص المسلم على هذا الدعاء، خاصةً عند وجود الكرب، وعند وجود الأمور العظيمة، أو عند وجود ما يهمّه، حتى في الأمور الدنيوية، يعني مثلًا: طالبٌ عنده اختبارٌ، أو نحو ذلك، أو مثلًا: شخصٌ وقع له حادثٌ، أو أي شيءٍ، ينبغي أن تأتي بهذا الدعاء.
يعني: لا يلزم أن يكون كَرْبًا عظيمًا، حتى وإن كان شيئًا ليس كبيرًا، فينبغي الحرص على هذا الذكر، والحرص على الأذكار عمومًا، فالأذكار عمومًا لها أثرٌ عظيمٌ في تفريج الكروب، وفي تيسير الأمور.
باب فضل: سبحان الله وبحمده
القارئ: باب فضل: سبحان الله وبحمده.
حدثني زهير بن حربٍ: حدثنا حبان بن هلال: حدثنا وُهَيب: حدثنا سعيد الجُرَيري، عن أبي عبدالله الجَسْري، عن ابن الصامت، عن أبي ذرٍّ: أن رسول الله سُئل: أيُّ الكلام أفضل؟ قال: ما اصطفاه الله لملائكته -أو لعباده-: سبحان الله وبحمده [15].
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا يحيى بن أبي بُكَيرٍ، عن شعبة، عن الجُرَيري، عن أبي عبدالله الجَسْري من عنزة، عن عبدالله بن الصامت، عن أبي ذرٍّ قال: قال رسول الله : ألا أُخبرك بأحبِّ الكلام إلى الله؟ قلتُ: يا رسول الله، أخبرني بأحبّ الكلام إلى الله. فقال: إن أحبَّ الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده [16].
الشرح:
تسبيح الله هو أحبُّ الكلام إلى الله، والمقصود بذلك: من كلام الآدميين، وإلا فأحبُّ الكلام إلى الله هو القرآن، فإن القرآن هو أشرف الكلام، وأعظم الكلام، وهو أفضل من التَّسبيح والتَّهليل والتَّكبير، فالمقصود بهذا الحديث -كما قال العلماء- أن أحبَّ الكلام إلى الله -يعني: من كلام الآدميين- التَّسبيح.
والتَّسبيح اختاره الله لمخلوقاته، فقال: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، اختار الله التَّسبيح، ولم يقل: وإن من شيءٍ إلا يحمد الله، أو يُهلل، أو يُكبر، إنما قال: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، فاختيار الله لهذا الذكر -التَّسبيح- يدل على عظيم شرفه، وعلى فضله؛ ولذلك كان أحبَّ الكلام إلى الله .
وينبغي أن يقرن المسلمُ التَّسبيح بالحمد، وأن يأتي بهذه الصيغة الواردة في الحديث: سبحان الله وبحمده، ومعنى: سبحان الله وبحمده الواو -يعني- واو عاطفة، أي: سبحان الله تسبيحًا مقرونًا بحمده.
معنى: سبحان الله وبحمده أي: سبحان الله تسبيحًا مقرونًا بحمده، فكأنك تقول: “سبحان الله والحمد لله”، لكن أتيتَ بهذه الصيغة: “سبحان الله وبحمده”، يعني: أُسبح الله تسبيحًا مقرونًا بحمده، أو: سبحان الله وأحمد الله تعالى.
فهذه الكلمة تجمع بين التَّسبيح والتَّحميد؛ ولذلك كانت أحبَّ الكلام إلى الله، وهو أفضل ما اصطفى الله لملائكته، فإن الملائكة يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، يعني: اختار الله للملائكة هذا الذكر، وهو التَّسبيح، فلم يقل عن الملائكة أنهم يُهللون، أو يحمدون، أو يُكبرون، وإنما قال: يُسَبِّحُونَ، فاختار الله ذلك لملائكته، وأيضًا اختار ذلك لمخلوقاته التي تُسبح بحمده: وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، وهذا يدل على عظيم شأن هذا الذكر؛ لأن الله تعالى اصطفاه لملائكته، واصطفاه لمخلوقاته؛ ولهذا كان أحبَّ الكلام إلى الله .
ولهذا ينبغي للمسلم أن يحرص على الإكثار من هذا الذكر، ومن عبادة التَّسبيح.
ومن أذكار الصباح والمساء أن يقول: “سبحان الله وبحمده” مئة مرةٍ، كما قال عليه الصلاة والسلام: مَن قال: سبحان الله وبحمده في يومٍ مئة مرةٍ حُطَّتْ خطاياه وإن كانت مثل زَبَد البحر [17]، وهذا في الصحيحين، لكن المقصود بذلك عند جمهور أهل العلم: الصغائر، وليس الكبائر، يعني: حُطَّتْ خطاياه الصغائر.
فينبغي بعد صلاة الفجر وبعد صلاة العصر أن تأتي بهذا الذكر مئة مرةٍ: “سبحان الله وبحمده، سبحان الله وبحمده”، تُكررها مئة مرةٍ، فهو من أذكار الصباح والمساء.
وقد جاء في “صحيح مسلم” عن سعد بن أبي وقاصٍ : أن النبي قال يومًا لأصحابه: أيعجز أحدكم أن يكسب كل يومٍ ألف حسنةٍ؟ قالوا: كيف يكسب أحدنا ألف حسنةٍ؟ قال: يُسبح مئة تسبيحةٍ، فيُكتب له ألف حسنةٍ، أو يُحَطّ عنه ألف خطيئةٍ [18].
سبحان الله!
يعني: إذا قلتَ: “سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله” مئة مرةٍ تكسب ألف حسنةٍ، أو يُحَطّ عنك ألف سيئةٍ، هذا يدل على أن مجالات الخير كثيرةٌ، مجرد أنك تقول: “سبحان الله” وأنت قائمٌ، أو قاعدٌ، أو مُضطجعٌ، تُسبح مئة تسبيحةٍ تكسب بها ألف حسنةٍ، كم تأخذ من الوقت ومن الجُهد؟
لو قلتَ: “سبحان الله” مئة مرةٍ، كم تأخذ من الوقت؟ وكم تأخذ من الجُهد؟ فتكسب بها ألف حسنةٍ، فكيف إذا قلتَها أكثر من مئة مرةٍ؟! إذا قلتها مئتي مرةٍ ألفي حسنة، ثلاثمئة مرةٍ ثلاثة آلاف حسنة، وهكذا؛ ولهذا ذُكر عن أبي هريرة في ترجمته: أنه كان يُسبح الله تعالى في اليوم والليلة ثنتي عشرة ألف تسبيحة.
فينبغي أن يحرص المسلم على هذا الذكر، وأن يكون لسانه رطبًا بذكر الله ، ومن ذلك التَّسبيح، وأنت قائمٌ، وأنت مُضطجعٌ، وأنت قاعدٌ، وأنت في السيارة قل: “سبحان الله”، والأفضل أن تقرن ذلك بأن تقول: “وبحمده”، “سبحان الله وبحمده، سبحان الله وبحمده” تُكررها، تكسب بذلك أجورًا عظيمةً وحسناتٍ كثيرةً.
وهذه الأجور العظيمة المُرتبة على الأذكار تدل على أن المسألة مسألة توفيقٍ من الله ، وإلا فمَن قال: “سبحان الله” مئة مرةٍ يكسب ألف حسنةٍ، فالمسألة مسألة توفيقٍ، فيُوفق الله تعالى بعض عباده لعمل الصالحات وللإكثار من ذكره، وإلا فهذا الذكر لا يُكلف الإنسان شيئًا كثيرًا، فيستطيع أن يأتي به في أي وقتٍ، وهو قائمٌ، مُضطجعٌ، قاعدٌ، في أي مكانٍ، فالمسألة هي مسألة توفيقٍ من الله .
باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب
القارئ: باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب.
حدثني أحمد بن عمر بن حفص الوكيعي: حدثنا محمد بن فضيل: حدثنا أبي، عن طلحة بن عبيدالله بن كريز، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله : ما من عبدٍ مسلمٍ يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال المَلَك: ولك بمثلٍ [19].
حدثناه إسحاق بن إبراهيم: أخبرنا النَّضر بن شُميل: حدثنا موسى بن سروان المعلم: حدثني طلحة بن عبيدالله بن كريز: حدثتني أم الدرداء قالت: حدثني سيدي أنه سمع رسول الله يقول: مَن دعا لأخيه بظهر الغيب قال المَلَك المُوكَّل به: آمين، ولك بمثلٍ [20].
حدثنا إسحاق بن إبراهيم: أخبرنا عيسى بن يونس: حدثنا عبدالملك بن أبي سليمان، عن أبي الزبير، عن صفوان -وهو ابن عبدالله بن صفوان، وكانت تحته أم الدرداء- قال: قدمتُ الشام، فأتيتُ أبا الدرداء في منزله، فلم أجده، ووجدتُ أم الدرداء فقالت: أتريد الحجَّ العام؟ فقلتُ: نعم. قالت: فَادْعُ الله لنا بخيرٍ، فإن النبي كان يقول: دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مُستجابةٌ، عند رأسه مَلَكٌ مُوكَّلٌ كلما دعا لأخيه بخيرٍ قال المَلَك المُوكَّل به: آمين، ولك بمثلٍ، قال: فخرجتُ إلى السوق، فلقيتُ أبا الدرداء، فقال لي مثل ذلك، يرويه عن النبي [21].
وحدثناه أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا يزيد بن هارون، عن عبدالملك بن أبي سليمان بهذا الإسناد مثله، وقال: عن صفوان بن عبدالله بن صفوان.
الشرح:
دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب.
قوله: بظهر الغيب المقصود: في غيبة المدعو له؛ لأنه إذا كان بحضرته، ويدعو له، فربما يدعو له مُجاملةً، أو يرجو منه مصلحةً، أو نحو ذلك، لكن إذا دعا له في غيبته فهذا دليلٌ على صدقه، وعلى إخلاصه.
وقد جاء في بعض الروايات: دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مُستجابةٌ، ووجه كونها مُستجابةً: ما ذُكر في هذا الحديث من تأمين المَلَك عليها، قال عليه الصلاة والسلام: ما من عبدٍ مسلمٍ يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال المَلَك: ولك بمثلٍ.
وفي الرواية الأخرى: أن المَلَك يقول: آمين، ولك بمثلٍ، وهذه أصحُّ، فالمَلَك يقول: آمين، ولك بمثلٍ، فدعاءٌ يُؤَمِّن عليه المَلَك حَرِيٌّ بالإجابة.
إذا دعوتَ لأخيك المسلم يقف المَلَك عند رأسك ويقول: آمين، ولك بمثلٍ، وهذا يدل على فضل دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب.
قال الإمام أحمد لابن الإمام الشافعي: “ستةٌ أدعو لهم عند السَّحر، منهم أبوك”، يعني: الإمام الشافعي.
فينبغي للمسلم أن يحرص على أن يدعو لإخوانه المسلمين، يدعو لهم عمومًا وخصوصًا.
أما عمومًا: فيدعو للمسلمين عمومًا بأن يُعزَّ الله الإسلام والمسلمين، وأن يُصلح شأنهم، وأن يغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، ونحو ذلك من الأدعية.
وخصوصًا: أن يُسمي أشخاصًا يُحبهم في الله ، يدعو لهم بدعواتٍ طيباتٍ مُباركاتٍ: اللهم اغفر لأخي فلان، اللهم اقضِ حوائجه، اللهم يسر أمره، اللهم .. يعني: يدعو له، فيدعو لأشخاصٍ يُسميهم بأسمائهم.
ويدعو أيضًا لمَن يعرف من إخوانه المسلمين ممن عندهم كُربةٌ، أو أمراضٌ، أو نحو ذلك، يعرف أن أحد إخوانه مريضٌ فيدعو له بالشفاء، يعرف أن أحد إخوانه مهمومٌ فيدعو له بأن يُفرج الله كُربته، ويُزيل همَّه، يدعو لأخيه المسلم بالتوفيق، يدعو له بالمغفرة والرحمة، ونحو ذلك من الأدعية النافعة.
وهذا ينبغي أن يحرص عليه المسلم، وأن يُسمي كل يومٍ بعض إخوانه المسلمين ويدعو لهم، وبهذا الدعاء هو المُستفيد؛ لأنه إذا دعا قال المَلَك: آمين، ولك بمثله، فيكون دعاؤه لأخيه المسلم سببًا لاستجابة دعوته هو لنفسه؛ ولهذا كان بعض السلف إذا أراد أن يدعو لنفسه يدعو لأخيه المسلم بتلك الدعوة؛ لأنها تُستجاب ويحصل له مثلها، فإذا أراد أن يدعو لنفسه يجعل الدعاء لأخيه المسلم، حتى يقول المَلَك: آمين، ولك بمثله.
لو أنك كنتَ تدعو الله ، وعندك إنسانٌ يظهر من حاله الصلاح، وأنه قد يكون من أولياء الله ، وكلما دعوتَ قال: آمين، آمين، ألستَ تُسَرّ بذلك: أن هذا الإنسان الصالح العابد يُؤَمِّن على دعائك؟ فكيف بمَن يُؤَمِّن على دعائه مَلَكٌ من الملائكة؟ فهذا الدعاء حَرِيٌّ بالإجابة؛ ولهذا جاء في بعض الروايات: دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مُستجابةٌ، وهذا المعنى يغفل عنه كثيرٌ من الناس.
فينبغي للمسلم أن يخصَّ بعض إخوانه المسلمين بالدعاء، خاصةً في الليل، وعند السَّحر عندما يدعو، عندما يكون في صلاة الليل، وعند السَّحر، ونحو ذلك، فقد كان كثيرٌ من الصالحين يعتنون بالدعاء لإخوانهم في هذا الوقت الفاضل -في وقت السَّحر- يدعو لنفسه، ويدعو لإخوانه المسلمين، وفي أي وقتٍ عمومًا، لكن كان كثيرٌ من الصالحين يعتنون بالدعاء لإخوانهم في هذا الوقت؛ لأنه أحرى لإجابة الدعاء.
وفي حديث أم الدرداء رضي الله عنها، قالت أم الدرداء: حدثني سيدي أنه سمع رسول الله يقول: مَن دعا لأخيه بظهر الغيب، مَن تقصد بقولها: سيدي؟
طالب: زوجها.
الشيخ: تقصد زوجها أبا الدرداء، فتقول عن زوجها: سيدي؛ توقيرًا له، وتكريمًا له، وهذا يدل على جواز تسمية المرأة زوجها: سيدها، وأن بعض الصحابيات كانت تُسمي زوجها: سيدها، وهذا أيضًا من حُسن التَّبعل، ويدل على غاية الاحترام للزوج.
باب استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب
القارئ: باب: استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب.
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نُمير -واللفظ لابن نُمير- قالا: حدثنا أبو أسامة ومحمد بن بشر، عن زكريا بن أبي زائدة، عن سعيد بن أبي بردة، عن أنس بن مالكٍ قال: قال رسول الله : إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها [22].
وحدثنيه زهير بن حربٍ: حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق: حدثنا زكريا بن أبي زائدة، عن سعيد بن أبي بردة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله بنحوه.
الشرح:
استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب.
السنة أن يبدأ المسلم الأكل والشرب بالتسمية، وإذا فرغ من الأكل أو الشرب يحمد الله ، فعندما يبتدئ يُسمي قائلًا: بسم الله، عند الأكل، وعند الشرب.
وهل الأفضل أن يقول: بسم الله، أو: بسم الله الرحمن الرحيم؟ أيّهما أفضل عند الأكل وعند الشرب؟
“بسم الله” فقط من غير زيادة “الرحمن الرحيم”؛ لأن هذا هو الذي قد ورد عن النبي ، ولم ترد زيادة: “الرحمن الرحيم” حتى في حديثٍ ضعيفٍ، لم ترد في حديثٍ صحيحٍ ولا ضعيفٍ؛ ولذلك فالسنة الاقتصار على قول: “بسم الله” عند الأكل وعند الشرب.
وعند الفراغ من الأكل والشرب السنة أن يحمد الله ، وذلك بأن يقول: “الحمد لله”، ووردتْ صيغٌ أخرى للتَّحميد، منها ما جاء في “صحيح البخاري”: الحمد لله كثيرًا، طيبًا، مُباركًا فيه، غير مَكْفِيٍّ، ولا مُوَدَّعٍ، ولا مُسْتَغْنًى عنه ربنا [23]، هذه من صيغ التَّحميد.
وأيضًا من صيغ التَّحميد: الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حولٍ مني ولا قوةٍ [24]، وإذا كان شرابًا: الحمد لله الذي سقاني هذا من غير حولٍ مني ولا قوةٍ.
كل هذه من صيغ التَّحميد، وأشهرها أن تقول: الحمد لله، يكفي أن تقول: الحمد لله.
وفي هذا الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، الله تعالى يرضى منك بهذا، تأكل هذا الأكل وتحمد الله تعالى عليه، وأن يشرب الشربة ويحمد الله عليها؛ ولهذا سمَّى الله تعالى نوحًا قال: إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [الإسراء:3]، قالوا: إنه كان إذا أكل أكلةً أو شرب شيئًا قال: الحمد لله.
فعبادة الحمد والشكر من العبادات العظيمة، والحمد والشكر من أسباب زيادة النعم: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7].
فينبغي أن يكون المسلم لَهِجًا بحمد الله تعالى وشكره، سواء كان عند الأكل، أو عند الشرب، أو عند تجدد النعم، أو غيرها، يُكثر من حمد الله تعالى وشكره.
والله تعالى وصف بالشكر خواصَّ خلقه، فقال عن نوحٍ: إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا، وقال عن إبراهيم: شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ [النحل:121]، وقال عن داود وسليمان: اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا [سبأ:13].
وسيد الشاكرين هو رسول الله ، الذي كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فتقول له عائشة: يا رسول الله، لِمَ تصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: أفلا أكون عبدًا شكورًا [25].
وقال عن لقمان العبد الصالح: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ [لقمان:12]، قال العلماء: رأس الحكمة شكر الله ؛ لأنك إذا شكرتَ الله تزيد النعم، فينبغي أن يكون المسلم شكورًا، يحمد الله، ويشكر الله، ويُكثر من حمد الله وشكره.
بعض الناس يُنعم الله تعالى عليه بالنعم العظيمة، وتجده مُتَسَخِّطًا، مُتَشَكِّيًا، لا يُعجبه العجب، ولا يُرضيه شيءٌ، هذا تفر منه النعم، كما قال : وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، هذا يتسخط وتفر منه النعم، فيزداد تسخُّطًا، وهذا تجده في المجتمع، تجد بعض الناس أنعم الله عليهم بنعمٍ كثيرةٍ، ومع ذلك هم غير راضين، يتشكون ويتسخَّطون ويتذمرون.
ولهذا جاء في قصة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام: أن إبراهيم زار ابنه إسماعيل ولم يجده، ووجد زوجته، وقال: “أين زوجكِ إسماعيل؟” قالت: خرج يبتغي لنا صيدًا. وسأل عن حالهم وعيشهم، فقالت: نحن بِشَرٍّ. وأبدتْ له تسخُّطًا وتشكِّيًا، فقال: “إذا جاء زوجكِ فأقرئيه مني السلام، وقولي له يُغير عتبة بابه”، فلما أتى إسماعيل أحسَّ كأن أحدًا أتى، ولم تُخبره ابتداءً، فسأل: “هل أتاكم من أحدٍ؟” قالت: نعم، أتانا شيخٌ كبيرٌ. قال: “هل أوصاكِ بشيءٍ؟” قالت: نعم، يقول: أقرئي زوجكِ مني السلام، وقولي له يُغير عتبة بابه. وهي لم تفهم المقصود، لم تفهم أنها هي المقصودة بعتبة الباب، فقال: “ذاك أبي، وقد أمرني أن أُطلقك، الحقي بأهلك”.
ثم إنه أتى مرةً أخرى بعدما تزوج إسماعيل زوجةً أخرى، والحال هي الحال، ولم يجد إسماعيل أيضًا، ووجد زوجته، وسألها عن حالهم، فقالت: نحن بخيرٍ، وحمدت الله، وأثنتْ عليه، وأعجبه شُكرها وحمدها وحُسن منطقها، فقال لها: “إذا جاء زوجكِ فأقرئيه مني السلام، وقولي له يُثبت عتبة بابه”، فلما أتى إسماعيل بادرته وقالت: أتانا شيخٌ كبيرٌ على هيئة كذا وكذا. قال: “هل أوصاكِ بشيءٍ؟” قالت: نعم، قال: أقرئي زوجكِ مني السلام، وقولي له يُثبت عتبة بابه. قال: “أنت عتبة بابي، وقد أمرني أن أُبقيكِ معي، وأن أُمسككِ وأتمسك بكِ”.
فالمرأة الأولى من النوع المُتسخط المُتشكي؛ ولذلك رأى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن هذه المرأة لا تليق بمقام ابنه إسماعيل، وهو نبيٌّ أيضًا من أعظم الأنبياء، فأوصاه بأن يُطلقها، وأن يتزوج امرأةً أخرى.
المرأة الثانية رأى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنها تحمد الله وتشكره وتُثني عليه؛ فأعجبته، فأوصى ابنه إسماعيل بأن يتمسك بها، وأن يُبقيها.
فينبغي أن يحرص المسلم على أن يكون شكورًا، وأن يبتعد عن التَّسخط والتَّشكي والتَّذمر، وأن ينظر إلى مَن هو أقلّ منه، كما قال عليه الصلاة والسلام: انظروا إلى مَن أسفل منكم، ولا تنظروا إلى مَن هو فوقكم؛ فهو أجدر ألا تزدروا يعني: ألا تحتقروا نعمة الله عليكم [26].
باب بيان أنه يُستجاب للداعي ما لم يعجل فيقول: دعوتُ فلم يُستجب لي
القارئ: باب: بيان أنه يُستجاب للداعي ما لم يعجل فيقول: دعوتُ فلم يُستجب لي.
حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأتُ على مالكٍ، عن ابن شهابٍ، عن أبي عبيدٍ -مولى ابن أزهر- عن أبي هريرة : أن رسول الله قال: يُستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول: قد دعوتُ فلا -أو فلم- يُستجب لي [27].
حدثنا عبدالملك بن شعيب بن ليث: حدثني أبي، عن جدي: حدثني عقيل بن خالد، عن ابن شهابٍ أنه قال: حدثني أبو عبيد -مولى عبدالرحمن بن عوف، وكان من القُراء وأهل الفقه- قال: سمعتُ أبا هريرة يقول: قال رسول الله : يُستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول: قد دعوتُ ربي فلم يستجب لي [28].
حدثني أبو الطاهر: أخبرنا ابن وهبٍ: أخبرني معاوية -وهو ابن صالح- عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي هريرة ، عن النبي أنه قال: لا يزال يُستجاب للعبد ما لم يدعُ بإثمٍ أو قطيعة رحمٍ ما لم يستعجل، قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوتُ، وقد دعوتُ، فلم أرَ يُستجب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء [29].
الشرح:
هذا الحديث برواياته يدل على أن الدعاء يُستجاب بشرط عدم الاستعجال، لا يستعجل الداعي إجابة الدعاء، ولا يدعو بإثمٍ ولا قطيعة رحمٍ، فإذا دعا الله ، ولم يدعُ بإثمٍ، ولم يدعُ بقطيعة رحمٍ، فإنه يُستجاب له؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: يُستجاب لأحدكم ما لم يعجل، وفسَّر العجلة بقوله: فيقول: قد دعوتُ فلم يُستجب لي، وهذه حال كثيرٍ من الناس، يدعو الله تعالى مرةً أو مرتين أو ثلاثًا، ثم يقول: دعوتُ، دعوتُ، ولم يُستجب لي. فيترك الدعاء، وهذا الانقطاع والاستحسار من أعظم موانع الإجابة؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء يعني: يترك الدعاء.
فعندما تدعو الله لا تشترط على ربك وقتًا مُعينًا للإجابة، فالله تعالى حكيمٌ عليمٌ، الله أحكم الحاكمين، فلا تشترط وقتًا مُعينًا للإجابة، يعني: لا بد يا ربّ أن تستجيب دعوتي الآن وإلا أترك الدعاء. هذا من موانع الإجابة، ادعُ الله تعالى وأنت مُوقنٌ بالإجابة، واستمر على هذا الدعاء، والله تعالى كريمٌ، ويُحب من عبده أن يدعوه، وأن يُلِحَّ عليه، كما جاء في الحديث عن النبي : إن الله يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردَّهما صفرًا يعني: خائبتين [30].
ومَن دعا الله تعالى كان له بهذا الدعاء إحدى ثلاثٍ، كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي : إما أن تُعجل له دعوته في الدنيا، أي: تُقضى حاجته، وإما أن تُدَّخَر له في الآخرة، وإما أن يُدْفَع عنه من السُّوء مثلها، فلما قال النبي ذلك للصحابة قالوا: يا رسول الله، إذن نُكثر. يعني: نُكثر من الدعاء، قال: الله أكثر [31].
فالداعي على خيرٍ، وإلى خيرٍ؛ لأنه إما أن تُقضى حاجته، أو تُدَّخر له في الآخرة، أو يُدْفَع عنه من السُّوء مثلها؛ ولهذا كان عمر يقول: إني لا أحمل همَّ الإجابة، وإنما أحمل همَّ الدعاء، فإذا أُلهمتُ الدعاء كانت الإجابة”.
فينبغي أن يحرص المسلم على أن يُكثر من دعاء الله ، وأيضًا أن يستمر على ذلك، ولا ينقطع، ولا يقع في قلبه ما أشار إليه النبي من الاستحسار، يعني: اليأس أو الإحباط أو القنوط، يقول: قد دعوتُ، قد دعوتُ، ولم يُستجب لي. فإنه إذا قال ذلك -ولو في نفسه- فهذا من موانع الإجابة، بل يُحْسِن الظنَّ بربه ، وأن الله تعالى حكيمٌ عليمٌ، والله يقول: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186].
وفي الرواية الأخرى قال: يُستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول: قد دعوتُ ربي فلم يستجب لي، فسمَّى النبي الذي ينقطع عن الدعاء: مُستعجلًا، قال: ما لم يعجل، فهذه عجلةٌ مذمومةٌ، وهي من موانع إجابة الدعاء.
وفي الرواية الأخرى قال: لا يزال يُستجاب للعبد ما لم يدعُ بإثمٍ أو قطيعة رحمٍ ما لم يستعجل، فذكر ثلاثة أمورٍ:
الأمر الأول: ألا يدعو بإثمٍ، فلا يكون مُتعديًا في دعائه.
الأمر الثاني: ألا يدعو بقطيعة رحمٍ، لا يدعو على قريبٍ له -مثلًا- أو رحمٍ له، ولا يدعو على أي مسلمٍ إلا أن يكون ظالمًا له، فإن المظلوم يجوز له الدعاء على ظالمه، كما قال الله تعالى: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148]، قال ابن عباسٍ: “أي: لا يُحب الله أن يدعو بعضكم على بعضٍ إلا المظلوم، فله الدعاء على ظالمه”، فليس للمسلم أن يدعو على أخيه المسلم إلا أن يكون مظلومًا، فله أن يدعو الله تعالى على ظالمه.
الأمر الثالث: قال: ما لم يستعجل.
فلا بد من هذه الأمور الثلاثة لإجابة الدعاء:
- الأمر الأول: ألا يدعو بإثمٍ.
- الثاني: ألا يدعو بقطيعة رحمٍ.
- الثالث: ألا يستعجل، وإنما يستمر في هذا الدعاء.
فإذا تحقق ذلك فيُستجاب له الدعاء: فإما أن تُقضى حاجته، وإما أن يُدَّخر له مثلها، وإما أن يُصْرَف عنه من السُّوء مثلها.
كتاب الرقاق
القارئ: كتاب الرقاق.
باب: أكثر أهل الجنة الفقراء، وأكثر أهل النار النساء، وبيان الفتنة بالنساء.
حدثنا هَدَّاب بن خالد: حدثنا حماد بن سلمة. ح، وحدثني زهير بن حربٍ: حدثنا معاذ بن معاذ العَنْبَري. ح، وحدثني محمد بن عبدالأعلى: حدثنا المُعتمر. ح، وحدثنا إسحاق بن إبراهيم: أخبرنا جرير، كلهم عن سليمان التيمي. ح، وحدثنا أبو كامل فضيل بن حسين -واللفظ له-: حدثنا يزيد بن زُرَيع: حدثنا التيمي، عن أبي عثمان، عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله : قمتُ على باب الجنة، فإذا عامة مَن دخلها المساكين، وإذا أصحاب الجَدِّ محبوسون إلا أصحاب النار، فقد أُمِرَ بهم إلى النار، وقمتُ على باب النار، فإذا عامة مَن دخلها النساء [32].
الشرح:
نحن انتهينا من باب الأدعية والأذكار، ووصلنا إلى كتاب الرقاق، وهذه الأحاديث تحتاج إلى مزيدٍ من الشرح، ووجه كون النساء أكثر أهل النار، وأيضًا كون الفقراء يسبقون الأغنياء بدخول الجنة، هذه تحتاج إلى أن نقف عندها، ونذكر كلام أهل العلم، فنُؤجل قراءة كتاب الرقاق إلى الدرس القادم، إن شاء الله تعالى.
والآن نُجيب عما تيسر من الأسئلة والاستفسارات:
الأسئلة:
السؤال: هل تجب الاستعاذة في الصلاة قبل قراءة كل سورةٍ، وكذلك التَّسمية؟
الجواب: الاستعاذة تكون عند قراءة القرآن؛ لقول الله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98]، فعندما تقرأ القرآن تقول: “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم”.
وأما التسمية فتكون عند بداية كل سورةٍ ما عدا سورة التوبة؛ ولهذا إذا ابتدأت القراءة من منتصف السورة فإنك تكتفي بأن تستعيذ، تقول: “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم”، ولا تقل: “بسم الله الرحمن الرحيم”، إنما تقول: “بسم الله الرحمن الرحيم” عند ابتداء السورة ما عدا سورة التوبة.
السؤال: ما حكم تأخير الصلاة بسبب الدراسة؟
الجواب: الذي ينبغي أن الصلاة تُصلى في أول وقتها ما عدا صلاة العشاء، فالأفضل تأخيرها إلى ثلث الليل إن لم تكن هناك مشقةٌ.
ولعل سؤال الأخ الكريم عن صلاة الظهر، فإذا كان الطلاب والمدرسون سيُصلون الصلاة بعد الفراغ -مثلًا- من الحصة الأخيرة فلا بأس؛ لأن وقت الظهر مُتَّسعٌ، وقت الظهر يمتد إلى دخول وقت العصر، كله وقتٌ للظهر إلى أذان العصر، هذا كله وقتٌ للظهر.
فالأمر في هذا واسعٌ، لكن الأفضل أن يُصلوا صلاة الظهر في أول وقتها، لكن لو رأى مَن في المدرسة من المعلمين والطلاب أن يُؤخروا صلاة الظهر حتى يفرغوا -مثلًا- من الحصة الأخيرة فالأمر في هذا واسعٌ؛ لأنهم سيُصلونها جماعةً في وقتها.
السؤال: ما الفرق بين الوسائل المُرسلة والبدعة؟ وهل من الممكن أن تكون تكبيرات العيد الجماعية والقراءة الجماعية من الوسائل المُرسلة، وقد تكون بدعةً؟
الجواب: الوسيلة إلى المشروع مشروعةٌ، والمُبْتَدَع هو التقرب إلى الله بعبادةٍ غير مشروعةٍ، أن يُتعبد الله بعبادةٍ غير مشروعةٍ، فهذا هو ضابط البدعة: أن ينوي التقرب إلى الله بعبادةٍ غير مشروعةٍ، لم ترد، ليس عليها دليلٌ، مثلما ذكر الأخ الكريم: أن يكون الذكر بصوتٍ جماعيٍّ، هذا لم يرد، هذا يُحول الذكر من كونه ذكرًا إلى كونه ترانيم، وكونه أناشيد، ونحو ذلك.
ولهذا لم يُؤثر هذا، لم يرد هذا عن الصحابة، ولا عن التابعين، ولا عن تابعيهم.
فالبدعة ضابطها: أن يتقرب الإنسان إلى ربه بعبادةٍ لم تُشرع: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، والأصل في العبادات الحظر والمنع والتَّوقيف إلا ما ورد الدليل بمشروعيته.
السؤال: هل الثواب المُترتب على الأذكار بمجرد التَّلفظ بها، أم يُشترط تدبرها؟
الجواب: الأكمل أن يأتي بالأذكار مع التَّدبر لمعانيها، فمثلًا: عندما يقول: “الله أكبر” يستحضر معنى هذه الكلمة العظيمة، وأن الله أكبر من كل شيءٍ، ومن كل ما يخطر بالبال، لكن مع ذلك لو أتى بالأذكار من غير تدبرٍ فهو على خيرٍ، وهو مأجورٌ على ذلك.
والإنسان أحيانًا قد يعتريه ما يعتريه من الضعف، أو المرض، أو التعب، أو نحو ذلك، فلا يتأتى له التَّدبر أحيانًا: تدبر القرآن، ولا تدبر معاني الأذكار، فلا يترك تلاوة القرآن، ولا يترك الذكر؛ لأجل أنه لن يصحبها تدبرٌ.
وهذه أيضًا من حِيَل الشيطان، ومن مداخله على الإنسان، يأتي أحيانًا الشيطان للإنسان ويقول: لا تقرأ القرآن؛ لأنك إذا قرأتَ ستقرأ القرآن بدون تدبرٍ، اترك التلاوة حتى تكون في وقتٍ أفضل؛ لكي يحصل لك تدبر القرآن.
ثم تمضي عليه مدةٌ طويلةٌ وما قرأ فيها شيئًا من القرآن.
أو يقول: لا تأتِ بالذكر؛ لأنك إذا أتيتَ بالذكر لن يحصل لك تأمل معاني الذكر. فيترك الذكر، وربما تمضي عليه مدةٌ ولم يأتِ بهذه الأذكار.
فهذه من مداخل الشيطان على الإنسان، فينبغي أن تحرص على أن تأتي بالأذكار، وتأتي بالتلاوة، حتى ولو كان بغير تدبرٍ، إن حصل التَّدبر فهو أكمل، وإن لم يحصل فأنت مأجورٌ على كل حالٍ.
السؤال: ورد حديث الصحابي الذي كان يختم بسورة الإخلاص، كان فعله اجتهادًا محمودًا، فكيف نُفرق بين الاجتهاد والابتداع؟
الجواب: الاجتهاد المحمود هو الذي يكون له أصلٌ في الشرع، فمثلًا: هذا الصحابي اجتهد وقرأ سورةً بعد الفاتحة، لكنه كان يُحافظ على سورة الإخلاص، فأقرَّه النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك، ولما ذكر له بعض الصحابة حال هذا الرجل، وأنه كلما قرأ سورةً بعد الفاتحة ختم بـقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص]، قال عليه الصلاة والسلام: سَلُوه لأي شيءٍ يصنع ذلك؟ قال: لأنها صفة الرحمن، فأنا أُحبُّ أن أقرأ بها. قال: أخبروه أن الله يُحبه [33].
ولكن هذا من قبيل الجائز غير المشروع، يعني لا نقول: يُستحب للإنسان إذا صلى صلاةً كلما قرأ سورةً أن يختمها بــقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، لكن لو فعل ذلك لكان جائزًا، فليس هذا من قبيل المشروع، وإنما من قبيل الجائز.
وسؤال الأخ الكريم: كيف نُفرق؟
التفريق هو: أن الجائز أو المشروع هو الذي يكون له أصلٌ صحيحٌ، أما المُبْتَدَع فهو الذي لا يكون له أصلٌ في الشرع.
السؤال: قال: سمعتُ أن بعض السلف عندما أراد أن يدعو على مُنحرفٍ قال: “الساعة الساعة يا ربّ”، هل هذا من الاستعجال؟
الجواب: يعني: هذا اجتهادٌ منه، عندما أراد أن يدعو على شخصٍ: إما ظالم، أو مُبتدع، أو نحو ذلك، يقول: يا ربّ، أسألك أنك تُعجل هلاكه؛ حتى لا يعظم ضرره على المسلمين.
فإذا كان بهذا القصد -أنه يخشى من أنه لو بقي لأضرّ بالمسلمين- فلا بأس بذلك، لكن لا ينبغي أن يكون هذا هو الشيء الدائم من الإنسان: أنه يستعجل الدعاء، لكن لو حصل أحيانًا أن المسلم يريد أن تُقضى حاجته بسرعةٍ -حاجة من الحاجات- فسأل الله تعالى أن يُعجل بقضائها فلا بأس.
السؤال: ما المواضع التي يُزاد فيها على: “بسم الله”، فتقول: “بسم الله الرحمن الرحيم”؟
الجواب: هذا عند قراءة القرآن وابتداء السورة، عند ابتداء السورة تقول: “بسم الله الرحمن الرحيم”، يعني مثلًا: أردتَ أن تقرأ سورة الفاتحة تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، أردتَ أن تقرأ سورة الإخلاص: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.
فعند تلاوة القرآن والابتداء بالسورة تقول: بسم الله الرحمن الرحيم، ما عدا سورة التوبة.
أما ما عدا تلاوة القرآن فتكتفي بقول: بسم الله، فعند الأكل تقول: بسم الله، وعند الشرب تقول: بسم الله، وعند مُزاولة الأعمال تقول: بسم الله.
ومعنى “بسم الله” الباء: حرف جرّ، واسم الله: جار ومجرور، فهو مُتعلقٌ بفعلٍ محذوفٍ تقديره مناسبٌ للمقام، فمثلًا: عند الأكل تقول: بسم الله، والتقدير: آكل، بسم الله آكل، وعند الشرب: بسم الله أشرب، وعند القراءة: بسم الله أقرأ، وعندما تفعل أي شيءٍ، يعني: بسم الله يكون شيئًا مناسبًا لهذا الشيء الذي تفعله.
السؤال: هل مَسّ الذكر ينقض الوضوء؟
الجواب: هذا محل خلافٍ بين الفقهاء:
فمنهم مَن قال: إن مَسَّ الذكر ينقض الوضوء مطلقًا، سواء أكان بشهوةٍ، أو بدون شهوةٍ.
والقول الثاني: أن مَسَّ الذكر لا ينقض الوضوء مطلقًا، سواء أكان بشهوةٍ، أو بدون شهوةٍ.
والقول الثالث: أن مَسَّ الذكر ينقض الوضوء إذا كان بشهوةٍ، ولا ينقض الوضوء إذا كان بغير شهوةٍ، وهذا هو القول الراجح.
أما كونه ينقض الوضوء إذا كان بشهوةٍ فلحديث بُسْرَة بنت صفوان: أن النبي قال: مَن مَسَّ ذكره فليتوضأ [34]، وأما كون مَسّ الذكر بدون شهوةٍ لا ينقض الوضوء فلحديث طَلْق بن عليٍّ : أن النبي سُئل عن الرجل يَمَسُّ ذكره في الصلاة، فقال: وهل هو إلا بَضْعَةٌ منك [35].
وإنما حملنا حديث طَلْقٍ على المَسِّ بدون شهوةٍ لقرائن دلَّت لهذا:
أولًا: قوله: “وهو في الصلاة”، والمَسُّ في الصلاة لا يُتصور أن يكون بشهوةٍ، وكانوا في عهد النبي عليه الصلاة والسلام يلبسون أُزُرًا، وكثيرٌ منهم ليس له إلا ثوبٌ واحدٌ كما قال جابرٌ: أيُّنا كان له ثوبان على عهد النبي ؟
فأحيانًا عندما يُحرك الإزار تقع يده على ذكره، فلما سُئل النبي عليه الصلاة والسلام قال: وهل هو إلا بَضْعَةٌ منك.
القرينة الثانية قوله: وهل هو إلا بَضْعَةٌ منك يعني: أنه كسائر أعضائك إذا مسستَه بدون شهوةٍ فلا ينقض الوضوء.
وعلى هذا فَمَسُّ الذكر إذا كان بشهوةٍ ينقض الوضوء، وإذا كان بغير شهوةٍ لا ينقض الوضوء، ويدل لذلك من النظر: أن مَسَّ الذكر بشهوةٍ مظنةٌ لخروج المَذْي، والمَذْي يخرج بغير شعورٍ من الإنسان، أما إذا مَسَّه بغير شهوةٍ فليس مظنةً لخروج شيءٍ، وكما قال عليه الصلاة والسلام: وهل هو إلا بَضْعَةٌ منك، وكما لو لمستْ يدك أيَّ عضوٍ من أعضائك: وهل هو إلا بَضْعَةٌ منك.
السؤال: أريد إقناع أخواتي بارتداء غطاء الوجه، والخروج بدون زينةٍ، فما نصيحتكم؟
الجواب: نعم، من حقِّ أخواتكِ عليكِ أن تنصحيهم، فإن النبي قال: الدين النَّصيحة [36]، والمرأة المسلمة يجب عليها أن تُغطي وجهها عن الرجال الأجانب، وهذا هو الذي كان عليه الأمر في عهد النبي ؛ ولهذا جاء في الصحيحين في قصة الإفك عن عائشة رضي الله عنها قالت: “لما رأيتُ صفوان بن المُعطل خمرتُ وجهي” [37]، وهذا كما ترون صحيحٌ وصريحٌ، صحيحٌ رواه البخاري ومسلم، أصحُّ كتابين بعد كتاب الله ، وصريحٌ في تغطية الوجه، قالت: “لما رأيتُ صفوان خمَّرتُ وجهي”، يعني: غطَّيتُ وجهي، وهذا دليلٌ على أن النساء في عهد النبي كُنَّ يُغطين وجوههن عن الرجال الأجانب، والله تعالى يقول: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53].
ولذلك الخاطب عندما يتقدم لخطبة امرأةٍ يطلب النظر إلى وجهها، ولو كانت المرأة لا يجب عليها أن تُغطي وجهها لم تكن هناك حاجةٌ لنظر الخاطب إليها؛ لأنه سينظر لها وهي كاشفة الوجه.
والشريعة الإسلامية التي تأمر المرأة بألا تضرب برجلها على الأرض؛ لأجل سماع صوت الخلخال، هل تُبيح لها أن تكشف وجهها الذي هو مجمع الزينة؟!
الله تعالى يقول: وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النور:31]، فإذا كانت المرأة مُنِعَتْ من أن تضرب برجلها لأجل سماع الخلخال، فكيف بوجهها الذي هو مجمع الزينة؟!
ولذلك نقول: إن القول الراجح هو وجوب تغطية المرأة لوجهها عن الرجال الأجانب، وحجاب المرأة عمومًا عبادةٌ تتقرب به المسلمة إلى ربها سبحانه، فهي عندما تتحجب لا تفعل ذلك عادةً أو مُجاراةً للناس، إنما تتقرب بهذا الحجاب إلى ربها .
السؤال: ما الكتاب المُنزل على إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟
الجواب: الله تعالى قال: صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [الأعلى:19]، هي صحف إبراهيم، ولا ندري، يعني: لم ترد تسميتها باسمٍ معينٍ، إنما الذي ورد تسميته: القرآن والتوراة والإنجيل، وأما الذي نزل على إبراهيم فهي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، أما موسى فهي التوراة، لكن إبراهيم لا أعلم أنه ورد لها اسمٌ مخصوصٌ.
السؤال: ما حكم رسم حيوانٍ أو طائرٍ ميتٍ؛ لإيصال فكرةٍ معينةٍ؟
الجواب: رسم الحيوان بحيث يُرسم الرأس مع الوجه مُتَّصلًا بالجسد، هذه هي الصورة المُحرمة؛ ولما دخل النبي على عائشة رضي الله عنها ووجد عندها قِرَامًا فيه صور تماثيل، وهذه الصور كانت رسوماتٍ لحيواناتٍ، وقد جاء في إحدى روايات مسلمٍ: أنه كانت عليه صورة خيلٍ ذات أجنحةٍ [38] يعني: رسمةً لخيلٍ، فغضب النبي حتى تلون وجهه، وقال: ما بال هذه النُّمْرُقَة؟ إن أصحاب هذه الصور يوم القيامة يُعذبون، فيُقال لهم: أحيوا ما خلقتم [39].
فرسومات ذوات الأرواح تدخل في الصور المُحرمة، والتماثيل لذوات الأرواح تدخل في الصور المُحرمة، فهذه لا تجوز مطلقًا إلا للأطفال، فالأطفال يجوز لهم ما لا يجوز للكبار.
الأطفال قد وردتْ أدلةٌ تدل على استثنائهم؛ ولأن الصورة في يد الطفل كالمُمتهنة، أما للكبار فلا تجوز هذه الصور، لا التماثيل، ولا الرسومات لذوات الأرواح.
طالب: …….
الشيخ: لا، الأطفال يُستثنون، حتى بالنسبة للألعاب -العرائس- ونحو ذلك لا حرج.
السؤال: هل بدء الكتب بالبسملة كاملةً يكون مُخالفًا للسنة؟
الجواب: ليس مُخالفًا للسنة، الكتب تُبدأ بالبسملة؛ اقتداءً بكتاب الله ؛ ولهذا قال : إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [النمل:30]، بل إن هذا هو الأفضل، الأفضل في الكتب والرسائل أن يُؤتى بها كاملةً: بسم الله الرحمن الرحيم.
ولهذا فالأفضل في الخطب والدروس والمُحاضرات والكلمات أن يُبدأ بالحمد، وفي الكتب والرسائل أن يُبدأ بـ”بسم الله الرحمن الرحيم”، ويُؤتى بها كاملةً؛ اقتداءً بكتاب الله تعالى؛ ولأن هذا هو هدي النبي عليه الصلاة والسلام.
كان عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يكتب كتبًا ورسائل لملوك العالم يدعوهم إلى الله ابتدأها بـ”بسم الله الرحمن الرحيم”، فهذا أيضًا من المواضع التي تُكمل فيها البسملة، تقول: بسم الله الرحمن الرحيم، سواء كان عند ابتداء السور، أو عند كتابة الكتب والرسائل.
السؤال: الأخ الكريم يقول: زوجتي خارج مدينة الرياض، أرجو الدعاء لها بالنقل للرياض.
الجواب: أسأل الله تعالى أن يقضي حوائجكم ويُيسر أمركم.
السؤال: توجد بجوار منزلي شجرةٌ نبتت من مياه البَيَّارة المجاورة، ويتساقط ورقها على ملابسي، وبعضها حديث عهدٍ بالسقوط، هل ينتقض بها الوضوء؟
الجواب: هذه الشجرة حتى وإن كانت تُسقى بمياه المجاري، أو البَيَّارة، أو نحو ذلك، لا تبقى النَّجاسة فيها، هي تتحول، النجاسة فيها تتحول، ولا يبقى للنجاسة أثرٌ على هذه الشجرة، ولا على أوراقها، ولا ثمرها؛ لأن هذه الشجرة هي كالمصنع الذي تتحول فيه هذه النجاسة؛ ولهذا نجد أن الأشجار تُسْمَد بالسّماد بالرّوث، ويكون ذلك أطيب لثمره.
فنقول للأخ الكريم: لا حرج في سقوط هذه الأوراق، حتى وإن كانت كما تذكر، حتى وإن كانت تُسقى بمياه المجاري أو البَيَّارة، فلا يكون ورق هذه الشجرة نجسًا ولو سقط عليك، حتى لو كانت فيه رطوبةٌ ليس لها ارتباطٌ بالنجاسة؛ لأن هذه الأشجار تمتص هذا الماء الذي ربما يكون اختلط بالنَّجاسات، ثم تُنقيه وتعمل على تنقيته تنقيةً تامةً، يعني: تكون كأنها مصنعٌ تتحول فيه النجاسة تمامًا، فلا يبقى لها أثرٌ؛ ولذلك لا يبقى للنَّجاسة أثرٌ على ورق الشجر، لا من لونٍ، ولا طعمٍ، ولا رائحةٍ.
فنقول للأخ الكريم: اطمئن، فليس في أوراق الشجر أي نجاسةٍ، واقطع التفكير في هذا الموضوع؛ لأن مثل هذه الأسئلة تدل على مبادئ وسوسةٍ عند الأخ السائل، فنقول: اقطع التفكير في مثل هذا الموضوع؛ لأنك إذا فكرتَ فيه وأشغلتَ فكرك فهذا ربما يُؤدي إلى الوسواس.
السؤال: ما مواضع رفع اليدين في الصلاة؟
الجواب: مواضع رفع اليدين في الصلاة أربعة:
الموضع الأول: عند تكبيرة الإحرام.
الموضع الثاني: عند الركوع.
الموضع الثالث: عند الرفع من الركوع.
الموضع الرابع: عند القيام من التشهد الأول.
هذه هي مواضع رفع اليدين، والسنة رفع اليدين إما إلى المنكبين، أو إلى فروع الأذنين.
السؤال: ما حكم زيارة المرأة للقبور؟
الجواب: زيارة المرأة للقبور مُحرمةٌ على القول الراجح؛ لأنه صحَّ عن النبي أنه لعن زوَّارات القبور، واللعن لا يكون إلا على معصيةٍ، بل على كبيرةٍ، فالمرأة لا يجوز لها أن تزور القبور، لكن يجوز لها أن تُصلي على الميت، كما ورد ذلك عن بعض أزواج النبي ، فالصلاة على الميت لا بأس بها للمرأة، وأما زيارة القبور فالقول الراجح أنها لا تجوز.
ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 6408. |
---|---|
^2 | رواه الترمذي: 3370، وابن ماجه: 3829. |
^3, ^4, ^5 | رواه مسلم: 2727. |
^6 | رواه مسلم: 2728. |
^7 | رواه مسلم: 597. |
^8 | رواه مسلم: 2729. |
^9 | رواه البخاري: 3322، ومسلم: 2106. |
^10 | رواه البخاري: 3244، ومسلم: 2825. |
^11 | رواه مسلم: 2542. |
^12 | رواه مسلم: 2730. |
^13 | رواه البخاري في “التاريخ الكبير”: 1879، والبيهقي في “شعب الإيمان”: 572. |
^14 | رواه أبو داود: 4727. |
^15, ^16 | رواه مسلم: 2731. |
^17 | رواه البخاري: 6405، ومسلم: 2691. |
^18 | رواه مسلم: 2698. |
^19, ^20 | رواه مسلم: 2732. |
^21 | رواه مسلم: 2733. |
^22 | رواه مسلم: 2734. |
^23 | رواه البخاري: 5458. |
^24 | رواه أبو داود: 4023، والترمذي: 3458، وقال: حسنٌ، وابن ماجه: 3285. |
^25 | رواه البخاري: 4837، ومسلم: 2820. |
^26 | رواه مسلم: 2963. |
^27, ^28, ^29 | رواه مسلم: 2735. |
^30 | رواه أبو داود: 1488، والترمذي: 3556، وقال: حسنٌ. |
^31 | رواه أحمد: 11133. |
^32 | رواه مسلم: 2736. |
^33 | رواه البخاري: 7375، ومسلم: 813. |
^34 | رواه أبو داود: 181. |
^35 | رواه النسائي: 165، وأحمد: 16295. |
^36 | رواه مسلم: 55. |
^37 | رواه البخاري: 4141، ومسلم: 2770. |
^38 | رواه مسلم: 2107. |
^39 | رواه البخاري: 2105، ومسلم: 2107. |