عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
حياكم الله تعالى في هذا الدرس الثامن والعشرين، في التعليق على كتاب الفضائل من “صحيح مسلم”، في هذا اليوم الثلاثاء، الخامس والعشرين من شهر رجب، من عام 1442 للهجرة.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا أنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا.
ونسألك اللهم علما نافعا ينفعنا.
لا حول ولا قوة إلا بالله.
ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا.
فضائل حسان بن ثابت
كنا قد وصلنا في التعليق على كتاب الفضائل إلى فضائل حسان بن ثابت ، وابتدأنا فيها ووقفنا عند حديث عائشة رضي الله عنها.
قال المصنف رحمه الله:
157 – (2490) حَدَّثَنَا عَبْدُالْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: اهْجُوا قُرَيْشًا؛ فَإِنَّهُ أَشَدُّ عَلَيْهَا مِنْ رَشْقٍ بِالنَّبْلِ. فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ رَوَاحَةَ فَقَالَ: اهْجُهُمْ. فَهَجَاهُمْ فَلَمْ يُرْضِ، فَأَرْسَلَ إِلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ.
قال: اهجُوا قريشًا. قالها النبي عليه الصلاة والسلام للشعراء من أصحابه: فإنه أشد عليهم من رشق بالنبل. “الرشق” المقصود به: رمي النبل دفعة واحدة.
وقد كان للشعر عند العرب مكانة وميزة ومزية، وكانت صناعة الشعر شائعة ورائجة في ذلك الوقت، ولهذا؛ كان آية نبينا محمد عليه الصلاة والسلام القرآن؛ تحداهم الله أن يأتوا بمثله.
آية كل نبي من جنس ما برع فيه قومه
من حكمة الله أن الآية التي يبعث بها النبي تكون من جنس ما برع فيه قومه، فكان السحر شائعًا في وقت موسى ، فكانت آية موسى العصا، ويُدخل يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء، كان الطب مزدهرًا في وقت عيسى ، فكانت آية عيسى أنه يبرئ الأكمة والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، كان الشعر في أرقى مراحله وصوره عند قريش وقت بعثة النبي ، فكانت آية نبينا محمد هو هذا القرآن، فتحداهم الله عن أن يأتوا بمثله.
الشعر كان له وزنه عند العرب، وحتى إن الشعر قد يَضُر القبيلة كاملة وقد يُعِزُّها، ورجل كان عنده أربع بنات لم يتزوجن، فمدحه شاعر من العرب بقصيدة عصماء، فتزوجن جميعا في سنة واحدة؛ فالشعر كان مؤثرًا، ولذلك؛ النبي عليه الصلاة والسلام قال: اهجُوا قريشا؛ فإنه أشد عليهم من رشق بالنبل. فأرسل إلى عبدالله بن رواحة فوضع قصيدة، لكن ذلك لم يُرْضِ النبي ، قالت: فلم يرض. حيث لم يبلغ ما أراد من النكاية، فأرسل إلى كعب بن مالك فأنشأ قصيدة فلم يرضه كذلك، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت ، فلما دخل عليه حسان قال -يعني حسان- قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذَنَبه. ويريد بذلك نفسه، فمدح نفسه مظهرا نعمة الله .
وقوله: بذَنَبه، يعني: بلسانه، فشبه نفسه بالأسد بانتقامه وبطشه إذا اغتاظ؛ فإنه حينئذ يضرب بذنبه جنبيه، كما فعل حسان ، ولذلك قالت: ثم أَدْلَع لسانه، يعني: أخرج لسانه هكذا، ولا تزال يعني هذه العبارة مستعملة إلى الآن، أخرج لسانه من الشفتين، هذا معنى: ادلع لسانه فجعل يحركه.
أدلع لسانه وجعل يحركه هكذا، فقال للنبي عليه الصلاة والسلام: والذي بعثك بالحق لأُفْرِيَنَّهم بلساني فَرْيَ الأديم. أي: لأمزقن أعراضهم تمزيق الجلد، لأمزقنهم بالهجو كما يمزق الجلد بعد الدباغ، فإنه يقطع خفافًا ونعالًا ونحو ذلك.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ لحسان: لَا تَعْجَلْ؛ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْلَمُ قُرَيْشٍ بِأَنْسَابِهَا، وَإِنَّ لِي فِيهِمْ نَسَبًا، حَتَّى يُلَخِّصَ لَكَ نَسَبِي. فَأَتَاهُ حَسَّانٌ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ لَخَّصَ لِي نَسَبَكَ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَأَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعْرَةُ مِنَ الْعَجِينِ.
يعني: لأخرجنك منهم فلا تشملك هذه الأبيات.
قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ، يَقُولُ لِحَسَّانٍ : إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ لَا يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ، مَا نَافَحْتَ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ. وَقَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: هَجَاهُمْ حَسَّانٌ فَشَفَى وَاشْتَفَى.
يعني: شفى المؤمنين واشتفى هو بما ناله من أعراض الكافرين، وبما نافح عن الإسلام والمسلمين، فهذا يدل على فضل حسان ، وأنه قد وظف شعره في الدفاع عن النبي وعن الإسلام، وفي هجو المشركين، والشعر حينئذ يكون محل مدح وثناء، كما ذكرنا في الدرس السابق: أن الشعر لم يرد في القرآن إلا على سبيل الذم: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ[يس: 69]، وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ يعني أتباعهم الغاوون، وإذا وصف أتباعهم بأنهم غاوون، فالشعراء أنفسهم أولى بوصف الغواية: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَأَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ[الشعراء: 224، 225]، ينتقلون من واد إلى واد، من الغزل إلى الرثاء، إلى المديح إلى المبالغات، وما فيها من كذب وتزويق وزخرف القول: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ[الشعراء: 226]، كله كلام، كلام في كلام بدون أفعال، ثم استثنى الله إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا[الشعراء: 227]، أي فمن كان من المؤمنين، ووظف شعره في الدفاع عن الإسلام والمسلمين وعن النبي عليه الصلاة والسلام؛ كان شعره ممدوحا، كما فعل حسان بن ثابت ، وكما حصل أيضًا من ابن رواحة وكعب بن مالك وغيرهم ، لكن كان أعظم شعراء النبي عليه الصلاة والسلام هو حسان بن ثابت .
بطلان دعوى جُبْن حسان بن ثابت
وفي هذا وفي قول حسان : قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذَنَبه. حيث شبه نفسه بالأسد الضارب بذنبه بحضرة النبي وأصحابه وإقرارهم على ذلك، أقول: في هذا دليل على بطلان قول من نسب إلى حسان الجبن؛ فإنه في بعض الكتب عندما يذكرون حسان بن ثابت يصفونه بأنه كان جبانًا، وهذه مقولة باطلة لا أصل لها، وفيها إساءة لهذا الصحابي الجليل ؛ بل عرف بالشجاعة، وها هو في هذا المحفل في غزوة الحديبية كان ينافح عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولما طلب منه النبي أن يهجو قريشًا مدح نفسه بأنه أسد ضارب بذنبه، وجعل يدلع بلسانه ويحركه، وهذا يدل على شجاعته، وأقره النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك.
ثم أيضًا لو كان حسان جبانًا لردت عليه قريش بذلك، لقالوا كيف تقوم بهجونا وأنت جبان، ولَهَجَوْه بالجبن، ولما استطاع أن يتجرأ على هجوهم، فدل ذلك على بطلان هذه المقولة، فهذه المقولة يشبه أن تكون تسربت إلى بعض المسلمين من غير المسلمين؛ وإلا فحسان كان معروفا بالشجاعة، وكان شاعرا فحلا، وكان أعظم الشعراء في عهد النبي ، ويكفي أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقول: اللهم أيده بروح القدس. وقال عنه: إنه شفي واشتفى.
فإذَنْ، هذه المقولة أن حسانًا كان جبانا، هذه فيها إساءة لهذا الصحابي الجليل، وهي مقولة باطلة لا أصل لها.
ثم ذكر الإمام مسلم رحمه الله بعضًا من قصيدة حسان في هَجْوِ قريش، قال:
هجوتَ محمدًا يريد أبا سفيان بن الحارث، وهو الذي ذكرناه في الدرس السابق، كان شاعرًا، وكان هو الذي يهجو النبي عليه الصلاة والسلام، ثم أسلم وحسن إسلامه، وهذا يدل على أن الإنسان أسرع ما يتغير، كما يقولون: هو من الأغيار. فهذا الرجل كان يهجو النبي عليه الصلاة والسلام بالقصائد، ثم أصبح من جنود النبي عليه الصلاة والسلام، ومن المجاهدين في سبيل الله، ومن الصحابة الأخيار، فانظر إلى حاله قبل الإسلام، وإلى حاله بعد الإسلام.
عمر بن الخطاب ماذا كان قبل أن يسلم؟ وماذا كان بعد أن أسلم؟ قبل أن يسلم، كان يمشي في الأسواق بدون هدف، يضرب هذا، ويتكلم مع هذا، ويتخاصم مع ذاك، لما أسلم أصبح من عظماء التاريخ، وهو معروف بعبقريته، ومعروف بموافقته للقرآن في عدة مواضع، وبحسن قيادته وإدارته، قاد الأمة في عهد خلافتها الراشدة، فانظر إلى أثر الإسلام على أتباعه، كيف أن من يعتنق هذا الإسلام يصبح شخصًا آخر، فهؤلاء الصحابة انظر إلى أحوالهم قبل الإسلام، وأحوالهم بعد الإسلام، ترى الفرق الكبير والشاسع.
قال:
هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ | وَعِنْدَ اللهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ |
هَجَوْتَ مُحَمَّدًا بَرًّا حَنِيفًا | رَسُولَ اللهِ شِيمَتُهُ الْوَفَاءُ |
يعني: يثني على النبي عليه الصلاة والسلام، يعني: كيف تهجو هذا النبي الكريم البر الحنيف، رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي شيمته الوفاء.
ثم قال حسان :
فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي | لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ |
قال ابن قتيبة رحمه الله: المراد بالعرض هنا: النفس، فيكون معنى البيت: فإن أبي ووالده ونفسي، لنفس محمد منكم وقاء.
ثَكِلْتُ بُنَيَّتِي إِنْ لَمْ تَرَوْهَا | تُثِيرُ النَّقْعَ مِنْ كَنَفَيْ كَدَاءِ |
يريد أن يقول: فقدت بناتي إن لم تروا الخيل تثير النَّقْع، يعني: الغبار، من كَنَفَي، يعني: من جانبي، كَدَاء: وهي ثَنِيَّةٌ على باب مكة، يريد: أننا سنأتي بجيشنا، بجيش النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، ونفتح مكة.
يُبَارِينَ الْأَعِنَّةَ مُصْعِدَاتٍ | عَلَى أَكْتَافِهَا الْأَسَلُ الظِّمَاءُ |
“يبارين” يعني: الخيل يبارين الأسنة، المقصود بالأسنة: الرماح، أي أنها لصرامتها وقوة نفاستها تضاهي أعِنَّتُها الرماح.
“مصعدات” يعني: مقبلات إليكم متوجهات.
“على أكتافها” يعني: على ظهورها.
“الأَسَل الظِّمَاء”، الأسل يعني: الرماح.
“الظماء” يعني: العِطَاش لدماء الأعداء.
تَظَلُّ جِيَادُنَا مُتَمَطِّرَاتٍ |
يعني: تظل خيولنا مسرعات، يسبق بعضها بعضًا.
تُلَطِّمُهُنَّ بِالْخُمُرِ النِّسَاءُ |
أي: تمسحهن النساء بخُمُرهن، أي: يُزِلْنَ عنهنَّ الغبار لعزتها وكرامتها.
فَإِنْ أَعْرَضْتُمُوا عَنَّا اعْتَمَرْنَا | وَكَانَ الْفَتْحُ وَانْكَشَفَ الْغِطَاءُ |
وهذا يدل على أن هذه القصيدة إنما قالها حسان في عمرة الحديبية حين صُدَّوا عن البيت.
وَإِلَّا فَاصْبِرُوا لِضِرَابِ يَوْمٍ | يُعِزُّ اللهُ فِيهِ مَنْ يَشَاءُ |
وَقَالَ اللهُ: قَدْ أَرْسَلْتُ عَبْدًا | يَقُولُ الْحَقَّ لَيْسَ بِهِ خَفَاءُ |
يريد: النبي عليه الصلاة والسلام.
وَقَالَ اللهُ: قَدْ يَسَّرْتُ جُنْدًا |
يعني: هيأتهم وأرسلتهم.
هُمُ الْأَنْصَارُ عُرْضَتُهَا اللِّقَاءُ |
“هم الأنصار” أي: أنهم أقوياء على القتال، ولذلك؛ قال: “عرضتها” يعني: مقصودها ومطلوبها اللقاء لشجاعتها، وخصهم لأنهم هم الذين قاموا بمبارزة من عادى النبي من قومه، وكذلك المهاجرون أيضًا، لكن الأنصار هم الذين عاهدوا النبي عليه الصلاة والسلام على الدفاع عنه.
لَنَا في كُلِّ يَوْمٍ مِنْ مَعَدٍّ | سِبَابٌ أَوْ قِتَالٌ أَوْ هِجَاءُ |
فَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللهِ مِنْكُمْ | وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ |
يريد بذلك: أن النبي له من العزة والشرف والكرامة، بحيث يستوي مدحه وذمه، لا ينفعه المدح ولا يضره الذم، فالنبي عليه الصلاة والسلام ليس بحاجة لأنْ يمدحه أحد، وذم من يذمه أو يهجوه لن يضره، فهو رسول الله تعالى، ولذلك؛ قال:
ومن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء.
وَجِبْرِيلٌ رَسُولُ اللهِ فِينَا | وَرُوحُ الْقُدْسِ لَيْسَ لَهُ كِفَاءُ |
يعني: ليس له مماثل ومقاوم، يريد: أن الله تعالى أيد رسوله بجبريل روح القدس.
فَضَائل أبي هُرَيْرَةَ
ننتقل بعد ذلك إلى:
بَابٌ مِنْ فَضَائلِ أبي هُرَيْرَةَ
وأبو هريرة : كان اسمه في الجاهلية عبد شمس، فسماه النبي : عبدالرحمن، فهو عبدالرحمن بن صخر الدوسي، ولُقِّب بأبي هريرة؛ لأنه كان معه هِرَّة يحملها، فلقب بأبي هريرة ، وقد أسلم في السنة السابعة من الهجرة، وكان أحفظ الصحابة ، قال البخاري رحمه الله: رَوَى عنه نحوُ ما بين ثمانمائةٍ من أهل العلم؛ ما بين صحابي وتابعي، روى أبو هريرة خمسة آلافٍ وثلاثَمائةٍ وأربعةً وسبعين حديثًا (5374) عن النبي ، في “الصحيحين” منها سِتُّمِائةٍ وتسعةُ أحاديث (609)، توفي سنة 57 للهجرة.
إسلام أمِّ أبي هريرة
158 – (2491) قال: حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْيَمَامِيُّ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي كَثِيرٍ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإسْلَامِ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللهِ مَا أَكْرَهُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ وَأَنَا أَبْكِي، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ إنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإسْلَامِ فَتَأْبَى عَلَيَّ، فَدَعَوْتُهَا الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ، فَادْعُ اللهَ أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : اللهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ. قال: فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا بِدَعْوَةِ نَبِيِّ اللهِ ، فَلَمَّا جِئْتُ فَصِرْتُ إِلَى الْبَابِ، فَإِذَا هُوَ مُجَافٌ، فَسَمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَّ، -يعني سمعت صوت قدمي- فَقَالَتْ: مَكَانَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ. وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ، -يعني صوت تحريكه- قَالَ: فَاغْتَسَلَتْ وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا، وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا فَفَتَحَتِ الْبَابَ، ثُمَّ قَالَتْ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ، فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا أَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَبْشِرْ، قَدِ اسْتَجَابَ اللهُ دَعْوَتَكَ وَهَدَى أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ خَيْرًا، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَيُحَبِّبَهُمْ إِلَيْنَا. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : اللهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا -يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ- وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ، وَحَبِّبْ إِلَيْهِمِ الْمُؤْمِنِينَ. فَمَا خُلِقَ مُؤْمِنٌ يَسْمَعُ بِي وَلَا يَرَانِي إِلَّا أَحَبَّنِي.
هذه قصة إسلام أم أبي هريرة ، وأبو هريرة ، كما ذكرنا، هو من دوس، أسلم في السنة السابعة من الهجرة، وأمه تأخرت في إسلامها، ولما تكلم معها قالت كلاما كرهه أبو هريرة فجعل يبكي، فهنا طلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن يدعو الله أن يهديها، فدعا الله ، فسبحان الله! استجيبت دعوته مباشرة فأسلمت، ولمَّا رجع أبو هريرة سمع صوت خضخضة الماء، ووجد أمه قد اغتسلت ولبست درعها وخمارها وتشهدت، أي قالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، هذا يدل على أن في هذا عَلَمًا من أعلام نبوة النبي عليه الصلاة والسلام، حين استجاب الله دعوة نبيه في الحال وهدى هذه المرأة.
فوائد من حديث إسلام أمِّ أبي هريرة
- فضل أبي هريرة ، وأيضا فيه من الفوائد: أن فيه عَلَمًا من أعلام النبوة، حيث دعا النبي بأن يحبب الله أبا هريرة إلى المؤمنين، فأحبه المؤمنون من زمن النبي عليه الصلاة والسلام وإلى يومنا هذا وإلى قيام الساعة، ما من أحد يسمع بأبي هريرة إلا وأحبه.
وأبو هريرة عَلَمٌ من أعلام الصحابة، ومن أعلام الرواية عن النبي ، فاستجاب الله دعوته فأحبه المؤمنون.
- وفي هذه القصة من الفوائد: أنه إذا كان للإنسان قريب، وكان على جانب من التقصير أو الفسوق أو نحو ذلك، فينبغي أن يضرع إلى الله أن يهديه، فإن أبا هريرة لما رأى أمه مشركة، وقالت في النبي ما يكره، طلب من النبي أن يدعو الله تعالى له، فقال: اللهمَّ اهْدِ أمَّ أبي هريرة. فأسلمت وحسن إسلامها، فينبغي لمن رأى من قريبة تقصيرًا أو رأى منه فسوقًا أو نحو ذلك، أن يسأل الله تعالى أن يهديه، وهذا معنًى يغفل عنه كثيرٌ من الناس، نجد أن بعض الناس يرى أباه أو يرى ابنه عنده تقصير في الواجبات الشرعية، وربما عنده جرأة على الوقوع في المحرمات، ويبدأ يتحسر ويتكلم ويتضايق ويتبرم، لكنه يغفل عن الدعاء، فنقول: احرص يا أخي الكريم على أن تدعو لقريبك هذا بالهداية، ادع الله كل يوم أن يهدي الله تعالى قريبك هذا، إن كان أبا أو كان إما، أو كان ابنا أو كان بنتا، ادع الله أن يهديه، قل: اللهم اهده، اللهم اشرح صدره، اللهم وفِّقه للخير والاستقامة، اللهم حبب إليه الإيمان وزينه في قلبه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، واجعله من الراشدين، ونحو ذلك من الأدعية.
ملازمة أبي هريرة للنبي
قال المصنف رحمه الله:
159 – (2492) حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ جَمِيعًا، عَنْ سُفْيَانَ -قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ- عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ الْأَعْرَجِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ، وَاللهُ الْمَوْعِدُ.
أبو هريرة كما ذكرنا أسلم السنة السابعة، ولازم النبي عليه الصلاة والسلام ثلاث سنين وبضعة أشهر، ومع ذلك كان أحفظ الصحابة ، فكان هناك من يتعجب كيف يحفظ هذه الأحاديث الكثيرة؟! فأبو هريرة يقول: تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام والله الموعد.
قوله: “والله الموعد” يعني: معناه أن الله يحاسبني إن تعمدت كذبًا، ويحاسب من ظن بي السوء. هذه كلمة تقال عندما يتهم إنسان بتهمة باطلة، يقول: والله الموعد، أو عندالله الموعد. فالمعنى: أن الله يحاسبني إن كنت كاذبًا، ويحاسب من ظن بي السوء، كما في قول بعضهم: وعند الله تجتمع الخصوم، فهي بهذا المعنى.
ثم بين أبو هريرة سرَّ قوَّة حفظه للحديث، قال:
كُنْتُ رَجُلًا مِسْكِينًا، أَخْدُمُ رَسُولَ اللهِ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي.
يعني: ألازمه لكي أحفظ حديثه، وأقنع بما يملأ بطني، أقنع بقوتي.
وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ -يعني التجارة- وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ يَشْغَلُهُمُ الْقِيَامُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ.
يعني: على زروعهم؛ لأن الأنصار كانوا أصحاب حرث وزرع وبساتين وحدائق، أما المهاجرون فقد أتوا من ديارهم من مكة وليس معهم شيء، ثم بدأوا في التجارة.
يقول: المهاجرون كثير منهم انشغل بالتجارة، والأنصار انشغلوا بمزارعهم وبساتينهم، أما أنا فلازمت النبي ، ولذلك؛ حفظت أحاديث كثيرة.
قال:
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : مَنْ يَبْسُطْ ثَوْبَهُ فَلَنْ يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ مِنِّي.
قال للصحابة : من يبسط ثوبه فلن ينسى شيئًا سمعه مني.
فَبَسَطْتُ ثَوْبِي حَتَّى قَضَى حَدِيثَهُ، ثُمَّ ضَمَمْتُهُ إِلَيَّ، فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْهُ.
بسط أبو هريرة ثوبه حتى قضى النبي عليه الصلاة والسلام حديثه ثم ضمه إليه، فأصبح بعد ذلك لا ينسى شيئًا سمعه من النبي ، وهذا فيه آية من آيات الله ، وعَلَم من أعلام النبوة؛ لأن النسيان من لوازم الإنسان، فكون أبي هريرة بعدما فعل هذا، بعد أن بسط ثوبه ثم ضمه إليه، أصبح لا ينسى شيئًا سمعه من النبي ، هذا عَلَم من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام، وآية من آياته.
159 – قال: حَدَّثَنِي عَبْدُاللهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، أَخْبَرَنَا مَعْنٌ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، ح وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُالرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ، غَيْرَ أَنَّ مَالِكًا انْتَهَى حَدِيثُهُ عِنْدَ انْقِضَاءِ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي حَدِيثِهِ الرِّوَايَةَ عَنِ النَّبِيِّ : مَنْ يَبْسُطْ ثَوْبَهُ.. إِلَى آخِرِهِ.
160 – (2493) وحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، حَدَّثَهُ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَلَا يُعْجِبُكَ أَبُو هُرَيْرَةَ؟! جَاءَ فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِ حُجْرَتِي يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ ، يُسْمِعُنِي ذَلِكَ، وَكُنْتُ أُسَبِّحُ.
تقول عائشة رضي الله عنها: إن أبا هريرة جاء لمسجد النبي عليه الصلاة والسلام، بجوار حجرة عائشة رضي الله عنها، وأصبح يحدث، كأنه يريد أن يسمعني حديثه، وكنت أُسبِّح، يعني: أصلي صلاة نافة.
فَقَامَ قَبْلَ أَنْ أَقْضِيَ سُبْحَتِي.
يعني: قبل أن أسلم من صلاتي.
وَلَوْ أَدْرَكْتُهُ لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ.
ترد عليه بماذا؟
قالت: إِنَّ رَسُولَ اللهِ لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ.
يعني: تريد أن تنكر عليه إكثاره من الأحاديث في المجلس الواحد.
(2493) قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: يَقُولُونَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَدْ أَكْثَرَ. وَاللهُ الْمَوْعِدُ.
إذَنْ، عائشة رضي الله عنها إنما أنكرت عليه كثرة الأحاديث مجتهدة في هذا، وقد يكون الصواب مع أبي هريرة ؛ لأنه أراد أن يبلغ هذه الأحاديث للأمة.
ثم في الرواية الأخرى ساق المصنف رحمه الله حديث أبي هريرة بلفظ آخر:
قَالَ: يَقُولُونَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَدْ أَكْثَرَ. وَاللهُ الْمَوْعِدُ. وَيَقُولُونَ: مَا بَالُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَا يَتَحَدَّثُونَ مِثْلَ أَحَادِيثِهِ؟ وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ: إِنَّ إِخْوَانِي مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ عَمَلُ أَرَضِيهِمْ.
يعني: الأنصار مشغولون بزروعهم وبساتينهم.
وَإِنَّ إِخْوَانِي مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ -يعني البيع والشراء- وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللهِ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي.
يعني: على مقدار ما يشبعني فقط.
فأشهد إذ غابوا، وأحفظ إذا نسوا.
ولا شك أن من يلازم النبي عليه الصلاة والسلام سيكون أكثر حفظا.
وَلَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ يَوْمًا: أَيُّكُمْ يَبْسُطُ ثَوْبَهُ، فَيَأْخُذُ مِنْ حَدِيثِي هَذَا ثُمَّ يَجْمَعُهُ إِلَى صَدْرِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْسَ شَيْئًا سَمِعَهُ. فَبَسَطْتُ بُرْدَةً عَلَيَّ حَتَّى فَرَغَ مِنْ حَدِيثِهِ، ثُمَّ جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِي فَمَا نَسِيتُ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ شَيْئًا حَدَّثَنِي بِهِ.
سبحان الله! منذ أن قال النبي عليه الصلاة والسلام هذه المقولة: أَيُّكُمْ يَبْسُطُ ثَوْبَهُ، فَيَأْخُذُ مِنْ حَدِيثِي هَذَا ثُمَّ يَجْمَعُهُ إِلَى صَدْرِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْسَ شَيْئًا سَمِعَهُ. وفعل ذلك أبو هريرة ، بسط ثوبه ثم ضمه إليه، بعد ذلك لم ينس أبو هريرة من كلام النبي حرفًا واحدًا، سبحان الله العظيم! أعطاه الله قوة حفظ ببركة النبي .
قال:
وَلَوْلَا آيَتَانِ أَنْزَلَهُمَا اللهُ فِي كِتَابِهِ مَا حَدَّثْتُ شَيْئًا أَبَدًا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى[البقرة: 159، 160].. إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ.
يعني: يريد أنه إنما كان يحدث تحرجًا من كتمان العلم، ولولا ذلك لما حدَّث، يعني: كأنه يقول: ليس لي مصلحة شخصية في كثرة الحديث؛ لكنني أخشى من الوعيد الوارد في كتمان العلم.
دعوى المستشرقين بطلان أحاديث أبي هريرة
بعض المستشرقين طعنوا في أبي هريرة ، وقالوا لا يُعقل أن أبا هريرة يحفظ هذه الآلاف من الأحاديث في هذا الوقت القصير؛ فإنه إنما أسلم في السنة السابعة من الهجرة، والنبي عليه الصلاة والسلام توفي في ربيع الأول من السنة الحادية عشرة، فما بقي في الإسلام إلا ما بقي أبو هريرة على عهد النبي عليه الصلاة والسلام منذ إسلامه إلا ثلاث سنين وأشهر، فكيف حفظ هذه الأحاديث الكثيرة؟!
نقول: هذا الطعن لا وجه له؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال له: ابسط ثوبك. فبسط ثوبه ثم ضمه إليه، فلم ينس شيئًا، فهناك شيء خارق للعادة في هذا الأمر، وهو آية من آيات الله ، أن الله أعطاه قوة الحفظ وقوة الذاكرة، والله على كل شيء قدير.
ثم أيضًا: أن أبا هريرة ، بالإضافة لدعوة النبي عليه الصلاة والسلام له بالحفظ، كان ملازمًا لمجلس النبي ، كان ملازمًا له لا يكاد يفارقه، وهذا أيضًا يعينه على حفظ كثير من الأحاديث، فالملازمة لا شك أنها تعين على ضبط كلام وأفعال من يلازمه.
ولذلك؛ فلا عجب في أن يكون أبو هريرة يحفظ هذا العدد الكثير من الأحاديث، ولا عجب في أن يكون هو أحفظ الصحابة ، ولكن أعداء الإسلام يتربصون بالمسلمين فهم لا يريدون أبا هريرة في شخصه؛ إنما يريدون ضرب الرواية عن النبي عليه الصلاة والسلام والتشكيك فيها؛ لأنهم إذا شككوا في أبي هريرة فسيشك في غير أبي هريرة من باب أولى.
ولذلك أيضًا؛ يشككون في أبي هريرة ، ويشككون في “صحيح البخاري”؛ لأن “صحيح البخاري” هو أعظم دواوين السنة، فإذا شكك في “صحيح البخاري” وأصبح لا يوثق به؛ فغيره من دواوين السنة من باب أولى. فهذا هو ديدن أعداء الإسلام من قديم الزمان يشككون في الرموز.
فرمز الحفظ في الأحاديث من الصحابة هو أبو هريرة ، فلذلك؛ يحاولون الطعن فيه والتشكيك فيه؛ لأجل ضرب الرواية عن النبي عليه الصلاة والسلام.
كذلك: يشككون في “صحيح البخاري”؛ لأنه أعظم الدواوين؛ لأجل التشكيك في دواوين السنة، ولكن الله قيض جهابدة علماء ينافحون عن دينه وعن سنة نبيه ، رَدوا على هؤلاء، وزهق باطلهم والحمد لله، والباطل كما قال الله تعالى: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا[الإسراء: 81]. فالباطل ضعيف في نفسه؛ وإنما يستمد قوته من الخارج، ولذلك؛ فسرعان ما يزهق كما قال سبحانه: وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا[الإسراء: 81]. أي إن مِن شأنه الزهوق والاضمحلال.
فضائل حاطب بن أبي بلتعة
ننتقل بعد ذلك إلى:
فضائل حاطب بن أبي بلتعة
قال المصنف رحمه الله:
161 – (2494) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ -وَاللَّفْظُ لِعَمْرٍو، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا. وقَالَ الْآخَرُونَ: حَدَّثَنَا- سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُاللهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ، وَهُوَ كَاتِبُ عَلِيٍّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا وَهُوَ يَقُولُ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ ؛ أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ، فَقَالَ: ائْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ؛ فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً.. .
في هذه الرواية ذكر ثلاثة: علي والزبير والمقداد، وفي الرواية الأخرى التي ساقها الإمام مسلم، أنه بعث عليًّا وأبا مرثد الغنوي والزبير بن العوام ، والنووي رحمه الله يقول: لا منافاة بين الروايتين، بل بعث هؤلاء الأربعة، بعث عليًّا والزبير والمقداد وأبا مرثد ، فبعث النبي عليه الصلاة والسلام هؤلاء الأربعة وقال:
ائْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ
وروضة خاخ: بين مكة والمدينة، وهي إلى المدينة أقرب.
فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً
يعني: امرأة، وأصل الظعينة: الهودج، وسميت بها المرأة؛ لأنها تكون فيها، وهذه المرأة قالوا: اسمها سارة، مولاةٌ لعِمران بن أبي صيفي القرشي.
فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ
يعني: مبعوث إلى قريش.
فَخُذُوهُ مِنْهَا. قال: فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا.
تعادى بنا خيلنا، يعني: تجري بنا خيلنا جريًا سريعًا؛ لأجل أن ندرك هذه المرأة التي معها هذا الكتاب.
فَإِذَا نَحْنُ بِالْمَرْأَةِ.
في نفس المكان في روضة خاخ، فقلنا -في بعض الروايات: أن القائل هو علي- لأن عليًّا كان هو أكبرهم وقائدهم، يعني: قائد هذه الفرقة، فقلنا: أَخرِجِي الكتاب. قالت: ما معي كتاب -جحدت- فقلنا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَتُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ. وفي رواية: أنَّ عليًّا قال: والله ما كذب رسول الله ، لتخرجن الكتاب أو لأُجَرِّدَنَّك من ثيابك. فلما رأت منهم الجِدَّ أخرجته من عقاصها، يعني: من شعرها المضفور، وضعت هذا الكتاب داخل الشعر، داخل ضفائرها ضفائر شعر رأسها؛ لأنها رأت منهم الجِدَّ، قال علي: إما أن تخرجي الكتاب أو لأجردنك من ملابسك؛ ما كذب الله ولا كذب رسوله أبدًا، فلما رأت الجد أخرجت الكتاب من شعر رأسها.
فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللهِ فَإِذَا فِيهِ: مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ .
وهذا عجيب! كيف يحصل هذا من هذا الصحابي الجليل، أن يرسل كتابًا إلى أعداء النبي عليه الصلاة والسلام وأعداء الصحابة، يخبرهم ببعض الأسرار وبقدوم النبي عليه الصلاة والسلام إلى مكة.
فقال رسول الله : يا حاطب.
يعني: نادى حاطبًا.
وقال: يَا حَاطِبُ، مَا هَذَا؟!. قال: لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ -قَالَ سُفْيَانُ: كَانَ حَلِيفًا لَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا- وَكَانَ مِمَّنْ كَانَ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ، أَنْ أَتَّخِذَ فِيهِمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، يعني: يريد أن يجعل له يدًا في قريش لحماية قرابته في مكة؛ لأنه ليس عنده النسب كما عند غيره، فيريد أن يكسب عليهم -كما يقال- معروفًا، ويضع يدًا لكي يحموا بها قرابته.
وَلَمْ أَفْعَلْهُ كُفْرًا، وَلَا ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي، وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. يعني: أنه تأوَّل واجتهد هذا الاجتهاد غير المُوَفَّق.
فقال النبي : صدق. يعني: مقولته هذه أخبر بها عن الواقع.
فقال عمر : دَعْنِي، يَا رَسُولَ اللهِ أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ؛ لأن هذا العمل خيانة، كيف يذهب ويرسل لهم الكتاب، وبينه وبين المسلمين حرب، يرسل كتابا يذكر فيه بعض أسرار النبي عليه الصلاة والسلام؟! لكن الرجل كان متأوِّلًا، واجتهد اجتهادًا لم يوفق فيه، فعمر غضب وقال: دعني أضرب عنقه!
فقال النبي : إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ.
الله أكبر! اطلع الله على أهل بدر وقال: اعملوا ما شئتم. هنا قال: لعل الله اطلع. وفي رواية أحمد: إن الله قد اطلع على أهل بدر، وقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم [1]. يعني: أن الله غفر لهم ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر؛ وذلك لفضل عملهم العظيم الذي قاموا به في تلك الغزوة، وفي نصرة النبي عليه الصلاة والسلام ونصرة الإسلام.
كان حاطب بن أبي بلتعة رجلًا بدريًّا ممن شهد بدر، فكأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول لعمر : إن له فضلًا، إن هذا الصحابي حاطبًا، إن له فضلًا ومنقبة، وسبقًا في الإسلام وشهودًا لبدر والله تعالى اطلع على أهل بدر، وقال: افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
سبحان الله! انظر كيف تعامل النبي عليه الصلاة والسلام مع الصحابة؟ كيف يتعامل مع أصحابه؟ يفعل الرجل هذه الفعلة الشنيعة العظيمة التي فيها خيانة كبيرة، ومع ذلك النبي عليه الصلاة والسلام يدعوه ويستمع إلى وجهة نظره، ماذا أراد؟ هذا الرجل اجتهد، كان مجتهدًا، قال: إن المهاجرين لهم قرابات يحمون بها قرابتهم، وأنا ليس لي ذلك النسب الذي أحمي به قرابتي، فأردت أن أضع عندهم يدا لكي أحمي قرابتي في مكة، اجتهد هذا الاجتهاد، وقال: لم أكن مرتدًّا ولم أفعله كفرًا ولا رضًا بالكفر، لكنني اجتهدت في هذا. فالنبي عليه الصلاة والسلام ماذا كان موقفه؟ قال: صدق. صدق يعني: أخبره عما في نفسه صدقًا، فانظر كيف تعامل النبي عليه الصلاة والسلام مع أصحابه، حتى في هذه، حتى في أحلك المواقف، وفي مثل هذه المضائق.
طيب، نزل القرآن بعد ذلك، أنزل الله قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ[الممتحنة: 1].
ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث برواية أخرى عن علي قال:
بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ ، وَأَبَا مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ .
سبق أن قلنا: إن النووي رحمه الله رجح أنهم أربعة: عليٌّ وأبو مرثدٍ الغنويُّ والزبير بن العوام والمقداد بن الأسود ، وَكُلُّنَا فَارِسٌ. كلهم من فرسان النبي عليه الصلاة والسلام، ومن الشجعان الأبطال.
فقال: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ. يعني حدد لهم حتى المكان فَإِنَّ بِهَا امْرَأَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَعَهَا كِتَابٌ مِنْ حَاطِبٍ إِلَى الْمُشْرِكِينَ.. . فذكر الحديث.
كيفية التعامل مع المخطئ
ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث عن جابر ، أن عبدًا لحاطب جاء رسول الله يشكو حاطبًا، فقال: يا رسول الله، لَيَدخُلَنَّ حاطبٌ النار. يعني: بسبب هذه الفعلة، فقال رسول الله : كَذَبْتَ، لَا يَدْخُلُهَا؛ فَإِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ.
فانظر إلى تعامل النبي عليه الصلاة والسلام مع أصحابه، كيف يتعامل النبي عليه الصلاة والسلام مع أصحابه عند وقوع الخطأ منهم، يعني غاية الرقي في التعامل، يدعو الرجل الذي وقع منه الخطأ، يستمع منه، ما حملك على ما صنعت؟ لما استمع مقولته صدَّق مقالته، قال: صدق. لما عمر قال: دعني أضرب عنق هذا المنافق. قال: لا، وما يدريك يا عمر، فإن الله اطلع على أهل بدر، وقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. وأتى عبد حاطب قال: يا رسول الله، لَيَدخُلَنَّ حاطب النار. قال النبي عليه الصلاة والسلام: كذبت، لا يدخلها؛ فإنه شهد بدرًا والحديبية.
يعني هذا الصحابي أخطأ خطأً شنيعًا، كيف تعامل معه النبي عليه الصلاة والسلام؟ استمع منه، ثم أصبح يدافع عنه، فما ظنك بهذا التعامل، بالأثر ووَقْعِ هذا التعامل على نفس هذا الصحابي الجليل، ولذلك؛ قال الله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ[القلم: 4]. أكد ذلك بحرف التأكيد (إنَّ)، ثم باللام، ثم بحرف الاستعلاء (على)، ثم وصف الخلق بأنه عظيم.
هذا منهج عظيم في كيفية التعامل مع المخطئ، انظر إلى غاية الرفق والحلم، والاستماع إلى العذر، وتقييم هذا العذر، والنظر أيضا إلى تاريخ هذا الرجل، فالنبي عليه الصلاة والسلام وقع هذا الخطأ الشنيع من أحد أصحابه، استدعى هذا الصحابي، سأله: لماذا؟ ما حملك على ما صنعت؟ قال هذا بكل لطف ورفق، ذكر وجهة نظره، تبيَّن أنه اجتهد اجتهادًا غير مُوَفَّقٍ، النبي عليه الصلاة والسلام قال: صدق. ما زاد على كلمة: صدق، قال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق. اعتذر النبي عن هذا الصحابي، قال: وما يدريك يا عمر؟ لعل الله اطلع على أهل بدر، وقال: افعلوا ما شئتم إني قد غفرت لكم.
جاء عبد هذا الصحابي عبد حاطب بن أبي بلتعة ، قال: ليدخلن النار. قال النبي عليه الصلاة والسلام: كذبت، لا يدخلها، فإنه شهد بدرًا والحديبية. فاعتذر عنه؛ لأنه رأى أنه قد اجتهد اجتهادًا غير مُوَفَّقٍ، وأيضًا نظر إلى تاريخه المشرق، تاريخه النبيل، هو ممن شهد بدرًا، هو رجل بدري، يعني: لا يُلغَى له هذا التاريخ وهذا السبق وهذه التضحيات وهذا الصدق، نلغيها كلها من أجل خطأ واحد ارتكبه، ليس هذا من العدل، ولا من الإنصاف، فانظر إلى رقي تعامل النبي عليه الصلاة والسلام مع أصحابه، وإلى المنهج العظيم في التعامل مع وقوع الخطأ من الصاحب، كان بإمكان النبي عليه الصلاة والسلام أن يعاقبه، كان بإمكانه أن يأذن لعمر بضرب عنقه، كان بإمكانه على الأقل أن يعنفه، أن يهجره، ما فعل النبي عليه الصلاة والسلام شيئا من ذلك كله، استمع إلى وجهة نظره، ثم قال: صدق. ثم أصبح يدافع عنه، وبذلك احتواه، وأنزل الله في ذلك يعني الحكم في هذا الأمر: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ[الممتحنة: 1]، لكن النبي قرر منهجا عظيمًا في التعامل مع من يقع منه الخطأ.
إذَنْ، من يقع منه الخطأ فأحسن طريقة هي أن يُتَوَاصل معه، ويُستَمَع إلى وجهة نظره؛ ربما يكون متأوِّلًا، ربما يكون قد فهم خطأً.
ثم أيضًا: ينظر لتاريخه؛ إن كان ممن له تاريخ مشرق، وصاحب صدق وتضحية، فتاريخه يشفع له، فلا يترك هذا التاريخ المشرق، ويطرح ويحاسب على خطأ واحد وقع منه، ليس هذا من العدل، وليس هذا من الإنصاف.
فانظر إلى منهج النبي العظيم في التعامل مع من وقع منه الخطأ من أصحابه، صلوات الله وسلامه عليه.
فضائل أهل بيعة الرضوان
قال المصنف رحمه الله:
بابٌ من فضائل أصحاب الشجرة، أهل بيعة الرضوان
ويقصد المصنف النووي، وليس مسلمًا؛ فمسلم لم يبوب.
قال النووي:
بابٌ من فضائل أصحاب الشجرة، أهل بيعة الرضوان
قال الإمام مسلم رحمه الله:
163 – (2496) حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِاللهِ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللهِ يَقُولُ: أَخْبَرَتْنِي أُمُّ مُبَشِّرٍ أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ يَقُولُ عِنْدَ حَفْصَةَ: لَا يَدْخُلُ النَّارَ، إِنْ شَاءَ اللهُ، مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَحَدٌ، الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا. قَالَتْ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللهِ فَانْتَهَرَهَا، فَقَالَتْ حَفْصَةُ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا[مريم: 71]. فَقَالَ النَّبِيُّ : قَدْ قَالَ اللهُ : ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا[مريم: 72].
فوائد من حديث لَا يَدْخُلُ النَّارَ، إِنْ شَاءَ اللهُ، مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَحَدٌ..
- هذا الحديث يدل على فضل من بايع من الصحابة تحت الشجرة، الذين قال الله عنهم: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ[الفتح: 18]. وأنهم يدخلون الجنة، ولا يدخل النار منهم أحد، وقوله : إن شاء الله. قال العلماء: إن هذا للتبرك لا للشك.
وأما قول حفصة رضي الله عنها: بلى. وانتهار النبي عليه الصلاة والسلام لها، فهي أرادت أنهم سَيَرِدون على النار، فصدقها النبي عليه الصلاة والسلام، قال: قَدْ قَالَ اللهُ : ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا[مريم: 72].
والمراد بالورود المذكور في الآية وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا[مريم: 71]: العبور على الصراط، جميع الناس، حتى بمن فيهم الأنبياء والرسل والصديقين والشهداء والصالحين، جميعهم سيمرون ويعبرون الصراط المنصوب على متن جهنم، لكن منهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من هو دون ذلك؛ وأما أهل النار فيسقطون ويقعون في النار، لكنَّ المؤمنين ينجيهم الله ، وهذا يدل على شدة الموقف، جميع بني آدم سيمرون على هذا الصراط المنصوب على متن جهنم، نسأل الله العافية والسلامة.
فهنا حفصة رضي الله عنها، زوجة النبي عليه الصلاة والسلام، راجعته قالت: أليس الله يقول: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا؟ قال: قال الله: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا.
- وفي هذا دليل على أنه لا بأس بالمناظرة والاعتراض للاسترشاد، والجواب أيضًا على ذلك، وهذا هو مقصود حفصة رضي الله عنها، كأنها حاورت النبي عليه الصلاة والسلام في هذا.
- وأيضا فيها من الفوائد: أن أصحاب الشجرة كلَّهم في الجنة، وأنهم لا يدخلون النار كما أخبر بذلك النبي .
- وفيه من الفوائد: أن المراد بالورود في الآية: المرور على الصراط: وهو جسر منصوب على متن جهنم، ويسقط فيه أهل النار، وينجي الله تعالى المتقين وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّاثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا[مريم: 71، 72].
ونقف عند: باب من فضائل أبي موسى الأشعري .
ونكتفي بهذا القدر.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
الآن نجيب عن ما تيسر من الأسئلة.
الأسئلة والأجوبة
هل فترة الانتظار بين الأذان والإقامة فيها نص شريعي؟
السؤال: هل يوجد نص شرعي يحدد فترة الانتظار بين الأذان والإقامة للصلاة؟
الجواب: النبي كان من هديه أنه إذا رآهم اجتمعوا عجَّل، وإذا رآهم تأخروا أخَّر [2]، هذا هو هدي النبي عليه الصلاة والسلام لكن الذي يظهر، يعني من عموم الأحاديث أن الفاصل بين الأذان والإقامة في عهد النبي لم يكن طويلا، كما جاء في حديث زيد بن ثابت : أن ما بين أذان الفجر وإقامة صلاة الفجر أنها قدر قراءة خمسين آية، وقدرها الحافظ ابن حجر رحمه الله قال: ثلث خمس ساعة، وذلك بمقدار ما يتوضأ الرجل عادة، يعني: في حدود أربع إلى خمس دقائق كانت في هذه الحدود، الذي يظهر: أن ما بين الأذان والإقامة لم يكن طويلًا، من خمس إلى عشر دقائق على الأكثر، أما زيادة على ذلك إلى ثلث ساعة أو بعضهم إلى نصف ساعة، فالذي يظهر أن هذا لم يكن موجودًا في عهد النبوة؛ وإنما لم تكن الفترة ما بين الأذان والإقامة طويلة، ولكن إذا وجهت وزارة الشؤون الإسلامية بتحديد أوقات معينة، فينبغي الالتزام بتلك التعليمات؛ لأنها تمثل ولي الأمر، وولي أمر يختار ما يرى أن فيه المصلحة في الترتيب والتنظيم لمثل هذه الأمور.
نصيحة للمتكاسل عن العبادات
السؤال: نصيحة لمن يتكاسل عن العبادات؟
الجواب: التكاسل عن العبادات من علامة قلة التوفيق، والذي ينبغي للمسلم: أن يحرص على أن يغتنم ساعات عمره؛ فإنه لا يدري، ربما يكون الأجل قريبًا وهو لا يشعر، وحياتك أيها الإنسان فرصة واحدة، غير قابلة للتعويض، فإن نجحت في هذا الاختبار العظيم الذي تعيشه الآن سعدت السعادة الأبدية، وإن فشلت في هذا الاختبار خسرت الخسارة العظيمة، ولا قيمة لما تحصله من نجاحات في هذه الحياة الدنيا إذا فشلت في علاقتك بربك، مهما حصلت من المال، ومن المنصب، ومن الجاه، ومن..، قل ما شئت من نجاحات الدنيا، إذا كنت فاشلا في علاقتك بربك، فالنتيجة في النهاية أنك فاشل، وأنك خاسر؛ أما إذا نجحت في علاقتك بربك فمهما حصل لك من تَعَثُّرات وصعوبات وعوائق في هذه الحياة، فأنت في المُحَصِّلَة النهائية ناجح، وأنك فائز؛ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ[آل عمران: 185]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًايُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].
فعلى المسلم: أن يبادر للطاعات، وأن يبادر بالأعمال الصالحة، وأن يعتبر كل يوم غنيمة يغتنمه في التزود بزاد التقوى، وفي الأعمال الصالحة، وفي زيادة رصيد الحسنات.
هل ترك القراءة ببقية القراءات من هجر القرآن؟
السؤال: هل ترك القراءة لبَقِيَّة قراءات القرآن المتواترة يدخل في هجر القرآن؟
الجواب: لا يدخل في هجر القرآن، هذه قراءات إنما يضبطها المتخصصون، وهناك -ولله الحمد- في الأمة من هو متخصص بالقراءات، ويحفظون القرآن الكريم بالقراءات المتواترة، فالحمد لله هناك من يقرأ بها، وأما عامة الناس فيكفيهم قراءة واحدة، يكفيهم قراءة واحدة.
هل الدعاء للأموات يُكْسِب الحسنات؟
السؤال: هل صحيح أن الدعاء للأموات يُكْسِب الحسنات؟
الجواب: لا أعلم أنه ثبت في ذلك شيء عن النبي ، لكن الدعاء عمومًا للمؤمنين هذا امتدح الله تعالى من يفعله، قال: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[الحشر: 10]، فالدعاء للمؤمنين والمؤمنات هذا من الأمور الحسنة التي يؤجر ويثاب عليها المسلم، وأما ما رُوي أن: من دعا للمؤمنين والمؤمنات يكون له بكل مؤمن حسنة [3]، فالأحاديث المروية في ذلك لا تثبت من جهة الصناعة الحديثية.
ما يعمل من به نوبات من الخوف والهلع؟
السؤال: بماذا تنصحون من به نوبات خوف وهَلَع أثرت سلبًا على حياته، مع الدعاء له؟
الجواب: اسأل الله تعالى أن يكشف عنه الضر وأن يصلح شأنه!
إذا كانت هذه النوبات من الخوف والهلع بشكل غير طبيعي؛ فهذا نوع من المرض النفسي، فننصحه بأن يتواصل مع الطبيب النفسي المختص؛ فإن لهم طرائق في معالجتها، فأحيانًا بعض الناس يكون عنده خوف غير مبرر، وخوف غير طبيعي من أشياء معينة، بطريقة مبالغ فيها، هذا نوع من المرض النفسي.
حكم من حلف ألا يعود للمعصية وعاد
السؤال: من حلف ألا يعود لمعصية وعاد إليها فما الحكم؟
الجواب: يكون عليه كفارة يمين، من حلف ألا يفعل أمرًا ففعله، فعليه كفارة يمين.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.