logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح أبواب من صحيح مسلم/(24) باب فضائل عبد الله بن مسعود- من قوله: “على قراءة من تأمروني أن أقرأ؟..”

(24) باب فضائل عبد الله بن مسعود- من قوله: “على قراءة من تأمروني أن أقرأ؟..”

مشاهدة من الموقع

عناصر المادة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

اللهم آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشَدًا.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

هذا هو الدرس الرابع والعشرون، في التعليق على كتاب الفضائل من “صحيح مسلم”، في هذا اليوم الثلاثاء، السابع والعشرين من جمادى الآخرة، من عام 1442 للهجرة.

تتمة فضائل عبد الله بن مسعود

وكنا في الدرس السابق بدأنا بفضائل عبدالله بن مسعود ، ووصلنا إلى قول المصنف رحمه الله:

114 – (2462) حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِاللهِ ، أَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ[آل عمران: 161]. ثُمَّ قَالَ: عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ تَأْمُرُونِي أَنْ أَقْرَأَ؟ فَلَقَدْ قَرَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً، وَلَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ أَنِّي أَعْلَمُهُمْ بِكِتَابِ اللهِ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا أَعْلَمُ مِنِّي لَرَحَلْتُ إِلَيْهِ. قَالَ شَقِيقٌ: فَجَلَسْتُ فِي حَلَقِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ، فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا يَرُدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَلَا يَعِيبُهُ.

قصة جمع المصحف

هذه الرواية من الإمام مسلم رحمه الله فيها اختصار وحذف، ولا يتضح بها المقصود، إلا إذا رجعنا للرواية الأصل كما نبه على ذلك الشراح.

وذلك أنه في عهد عثمان بن عفان ، لما كثر موت القراء، واتسعت رقعة الدولة الإسلامية في ذلك الزمن، حصل شيء من الاختلاف في قراءة القرآن، فأتى الناسُ لكبار الصحابة، وقالوا: أدركوا الناس؛ لأن القرآن نزل على سبعة أحرف تيسيرًا على الناس، ولكن حصل هذا الاختلاف، فالصحابة اجتمعوا وتشاوروا، وكان المصحف قد جمع في عهد أبي بكر الصديق ، فأمر عثمان بأن تجمع المصاحف كلها وأن تحرق، ما عدا المصحف الذي على لغة قريش، والذي كانت عليه العرضة الأخيرة التي عرضها النبي على جبريل ، فاجتمع الصحابة على ذلك، وجمعوا الناس على حرف واحد، على حرف قريش، كان القرآن قد نزل على سبعة أحرف، وأمر عثمان بتحريق بقية المصاحف، وكان هذا الرأي رأيًا موَفَّقًا، وفق الله له صحابة رسول الله ، ودرأ الله به شرورًا عظيمةً، وفتنًا كبيرةً، وجمع الله به الأمة، فأجمع الصحابة على ذلك.

سبب استثناء ابن مسعود عند جمع المصحف

لما أمر عثمان بتحريق المصاحف عدا المصحف المجمع أو المجتمع عليه، ابن مسعود كان من كبار الصحابة، وأمر عثمانُ أربعةً هم الذين يقومون بجمع المصحف على حرف قريش وكتابته، ولم يكن عبدالله بن مسعود منهم، فعظم ذلك على ابن مسعود ، وإنما لم يجعل الصحابة ابن مسعود منهم، مع أنه من أعلم الصحابة بكتاب الله ؛ لأن ابن مسعود كان هُذَليًا، وكان حفظ القرآن على لغة هُذَيلٍ، فكان على هذا الحرف، والصحابة يريدون أن يجمعوا الناس على لغة قريش، وبين لغة هذيل ولغة قريش تباين عظيم، ولهذا؛ رأى الصحابة أن من الحكمة ألا يدخلوا ابن مسعود في هؤلاء النفر الذين يكتبون المصحف على حرف واحد، على حرف قريش، فعَظُم ذلك على ابن مسعود ، وابن مسعود بشر.

ولذلك قال لما قيل له ذلك: على قراءة من تأمروني أن أقرأ؟ وهنا اختصر مسلم الرواية، قالوا: على قراءة زيد بن ثابت ؛ لأنه أحد النفر الأربعة الذين أمرهم عثمان بكتابة المصحف، فقال ابن مسعود : أخذتُ القرآن من فِي رسول الله بضعًا وسبعين سورةً، وزيد بن ثابتٍ له ذؤابتان يلعب مع الغلمان، يعني: تأمرونني أن أقرأ على قراءة زيد بن ثابت وقد كان صبيًّا وأنا رجل كبير في السن، وأخذت القراءة من لسان رسول الله ؟

فعَظُم ذلك على ابن مسعود ، فأخذ مصحفه الخاص به وأخفاه، وأصبح يقول في الناس: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ[آل عمران: 161]. يعني: اجعلوني غللت مصحفي، آتي بمصحفي يوم القيامة، وهذا اجتهاد منه ، وقد خفي عليه الوجه الذي ظهر للصحابة من المصلحة العظيمة التي هي من أعظم ما حفظ الله به القرآن عن الاختلاف، فاجتهد هذا الاجتهاد، وأخفى مصحفه، وكان يقرأ بقراءته الخاصة به، ولم يكن هذا الرأي يقدح في إجماع الصحابة؛ فالصحابة أجمعوا على جمع الأُمَّة على مصحف واحد، وعلى حرف واحد.

أين ذهبت الأحرف السبعة عند جمع القرآن؟

وعلى هذا؛ فقول النبي عليه الصلاة والسلام: أُنزل القرآن على سبعة أحرف [1]. هذه الأحرف السبعة لم يَبْقَ منها سوى حرف واحد، هو الذي جمع عثمان والصحابة الناس عليه.

وأما بقية الأحرف التي كتبت بها المصاحف فأمر عثمان بأن تحرق، ولعل الحكمة في ذلك، والله أعلم: أن هذه الأحرف السبعة نزلت وقت النبي عليه الصلاة والسلام من أجل التيسير على الناس.

ثم بعد ذلك -بعد انقطاع الوحي بوفاة النبي عليه الصلاة والسلام- اقتضت الحكمة جمع الناس على حرف واحد، فكان هذا من التوفيق الذي وفق الله له صحابة رسول الله .

فأجمع الصحابة   على جمع الناس على حرف واحد.

هل القراءات السبع هي الأحرف السبعة؟

وأما القراءات السبع المتواترة فليست هي الأحرف المذكورة في الحديث: أنزل القرآن على سبعة أحرف [2]؛ وإنما هذه القراءات السبع المتواترة وحتى العشر، هذه كلها قراءات عن الحرف الواحد الذي جمع عثمان الناس عليه، بعض الناس يفهم أن القراءات السبع أنها هي الأحرف السبعة المذكورة في الحديث، وهذا فهم غير صحيح، ليس المقصود بالقراءات السبع الأحرف السبعة؛ وإنما القراءات السبع هذه قراءات سبع عن الحرف الواحد الذي جمع عثمان الصحابة عليه، فكان هذا من توفيق الله تعالى للصحابة، أن جمعوا الناس على حرف واحد على لغة قريش، وعلى العرضة الأخيرة التي عرضها النبي عليه الصلاة والسلام على جبريل .

فابن مسعود كان منه هذا الاجتهاد، ولذلك كان يقول: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ[آل عمران: 161]. يعني: وأنا أريد أن أَغُلَّ مصحفي.

ثُمَّ قَالَ: عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ تَأْمُرُونِي أَنْ أَقْرَأَ؟ قالوا: على زيد. قال: قرأت على رسول الله بِضْعًا وسبعين سورةً.

من يقرأ “صحيح مسلم” من غير أن يرجع لسياق هذه القصة لا يتضح له المقصود، لكن بيَّنَّا أصل هذا الكلام وسببه، أن أصله وسببه هو ما ذكرنا.

حكم تزكية النفس

ثم إن ابن مسعود أثنى على نفسه في هذه الرواية، قال:

وَلَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ، أَنِّي أَعْلَمُهُمْ بِكِتَابِ اللهِ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا أَعْلَمُ مِنِّي لَرَحَلْتُ إِلَيْهِ.

ولم يرد عليه أحد من الصحابة .

وفي الرواية الأخرى التي ساقها مسلم أيضًا:

وَالله الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، مَا مِنْ كِتَابِ اللهِ سُورَةٌ إِلَّا أَنَا أَعْلَمُ حَيْثُ نَزَلَتْ، وَمَا مِنْ آيَةٍ إِلَّا أَنَا أَعْلَمُ فِيمَا أُنْزِلَتْ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا هُوَ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللهِ مِنِّي تَبْلُغُهُ الْإِبِلُ، لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ.

هذا فيه ثناء على النفس، وتزكية للنفس، وقد ورد النهي عن تزكية النفس فَلَا تُزَكُّوٓاْ أَنفُسَكُم[النجم: 32]، أَلَم تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ[النساء: 49].

قال أهل العلم: إن النهي عن تزكية النفس إنما هو لمن زكَّاها ومدحها لغير حاجة، بل على سبيل الفخر والإعجاب.

أما تزكية النفس للحاجة فلا بأس، كأن يُتَنَقَّص من الإنسان، عندما يُتَنَقَّص من الإنسان فلا بأس أن يذكر بعضًا من مناقبه ومآثره، ويزكي نفسه؛ دفعًا لهذه المنقصة، ولذلك؛ ابن مسعود إنما قال هذا الكلام -قال: إني لأعلمهم بكتاب الله، ولو أعلم أن أحدًا أعلم مني لرحلتُ إليه- لأنه كأنه شعر بشيء من أنهم لم يضعوه مع الأربعة الذين كتبوا المصحف، كأنه عَظُم عليه ذلك، كأنه شعر بشيء من الانتقاص، والصحابة حاشاهم ذلك، ولكن بيَّنا السبب، أن المقصود: أن ابن مسعود كان من هُذَيلٍ، والصحابة يريدون كتابة المصحف على لغة قريشٍ، لكن ابن مسعودٍ بَشَرٌ، حَزَّ في نفسه ذلك؛ فأثنى على نفسه لأجل بيان مكانته في الصحابة، وهذا لا بأس به عندما ينتقص من الإنسان أو يحط من قدره، لا بأس أن يُثْنِيَ على نفسه، وأن يزكي نفسه، وأن يبيِّن شيئًا من مناقبه ومآثره.

ولهذا؛ قال النووي رحمه الله: النهي عن تزكية النفس إنما هو لمن زكَّاها ومدحها لغير حاجة، بل للفخر والإعجاب، وقد كثرت تزكية النفس من الأماثل عند الحاجة؛ كدفع شر عنه بذلك، أو تحصيل مصلحة للناس، أو ترغيب في أخذ العلم عنه أو نحو ذلك.

فمن المصلحة قول يوسف : قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ[يوسف: 55]. فقول يوسف : إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ. هذه تزكية، بل تزكية شديدة للنفس، لكن إنما فعل ذلك يوسف لأجل المصلحة العظيمة المترتبة على ذلك؛ فإن يوسف لو لم يقل ذلك لما جعله الملك على خزائن الأرض، ولم يأت من يسد مكانه، فرأى يوسف عليه الصلاة والسلام أن المصلحة العظيمة تقتضي أن يقول ذلك، وبالفعل لما تكلم يوسف جعله الملك على خزائن الأرض، فنفع الله به نفعًا عظيمًا، وأصبحت الناس تَفِدُ إلى مصر بسبب حسن تدبير يوسف عليه الصلاة والسلام، لما حصلت المجاعة أصبح الناس يفدون إلى مصر، ويأخذون منها المِيرَة، بسبب حسن تدبير يوسف عليه الصلاة والسلام، وصِدقِه لما قال: إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ. حتى إن إخوة يوسف أتوا مع من أتى من الناس، وحصل ما حصل مما قصَّه الله علينا في سورة يوسف .

فتزكية النفس لأجل المصلحة الراجحة لا بأس.

فلو أن يوسف لم يقل للملك: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ. لما جعله الملك على خزائن الأرض، ولَبَقِيَ كغيره من الناس، لكن لما رأى المصلحة العظيمة في ذلك طلب الولاية، وزكَّى نفسه، ليس لأجل مصلحة نفسه الخاصة؛ وإنما لأجل مصلحة الناس.

وكذلك أيضًا: تجوز تزكية النفس إذا كان في تلك التزكية ترغيب في أخذ العلم عنه، أو في الاقتداء به، كأن يذكر أنه كان يفعل كذا وكذا؛ لأجل أن يقتدي به طلابه وتلامذته، فهذا لا بأس به، فيقول مثلًا: يختم القرآن في كذا، مثلا يقول لطلابه أو لتلامذته أو لمن معه ممن يقتدي به: احرصوا على الإكثار من تلاوة القرآن، أنا أختم القرآن مثلًا في كل أسبوع، فهذا لا بأس به؛ لأن هذا سوف يشحذ همم هؤلاء، ويجعلهم يقتدون به، وفي ذلك مصلحة عظيمة، أو يقول مثلًا: إني أصوم كذا من النوافل؛ لأجل أن يشحذ همم من حوله، فمدح النفس أو الثناء على النفس لأجل ترغيب الآخرين في الاقتداء به، وليس على سبيل الإعجاب والفخر، لا بأس به.

قال النووي رحمه الله: وأيضاً تجوز تزكية النفس لدفع الشرِّ، ومن ذلك: قول عثمان في وقت حصاره: إنه جهَّز جيش العسرة، وحفر بئر رُومَة.

عثمان لما حَصَرَه أولئك الخوارج حصروه في بيته، في بيت الخلافة، متَنَقِّصين له، فجعل عثمان يذب عن نفسه، وأنه قد جهَّز جيش العسرة، وأنه قد حفر بئر رومة، وهذا فيه تزكية للنفس، لكن أراد بذلك دفع الشرِّ عن نفسه.

المواضع التي يجوز فيها تزكية النفس

إذَنْ، نقول: إن النهي عن تزكية النفس، ومدح النفس والثناء عليها، إنما يُحمَل ذلك على من فعل هذا على سبيل الفخر والإعجاب، وأن تزكية النفس تجوز في مواضع؛ منها:

  • أن تكون تزكية النفس لأجل المصلحة، كما فعل يوسف عليه الصلاة والسلام: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ[يوسف: 55]
  • ومنها: إذا تُنُقِّص الإنسان فلا بأس أن يذكر بعضًا من مناقبه ومآثره، ويزكي نفسه دفعًا لهذا التنقيص، كما في هذه القصة، فإن ابن مسعود شعر بشيء من ذلك، حيث لم يُجعل مع الأربعة النفر الذين كتبوا المصحف، فقال مقولته هذه: لقد علم أصحاب رسول الله أني أعلمهم بكتاب الله، ولو أعلم أن أحدًا أعلم مني لرحلت إليه.
  • أيضًا من المواضع: دفع الشر عن نفسه كما فعل عثمان ، حينما قال: إنه قد جهَّز جيش العسرة، وحفر بئر رومة.
  • أيضًا من المواضع: ترغيب الناس في أخذ العلم عنه، وفي الاقتداء به، فهذه مصلحة راجحة يجوز معها أن يذكر بعض مناقبه ومآثره لأجل أن يقتدي به غيره، بشرط: أن يغلب على ظنه أن غيره سيقتدي به في ذلك.

فهذه مواضع تجوز فيها تزكية النفس.

فوائد من رواية “على قراءة من تأمروني أن أقرأ؟..”

  • ودل هذا الحديث: على فضل ابن مسعود ، حيث كان أعلم الصحابة بكتاب الله ، بدليل أن الصحابة لم يعترضوا عليه، ولهذا؛ قال شَقِيقٌ رحمه الله: فجلست في حَلَق أصحاب محمدٍ فما سمعتُ أحدًا يرد ذلك عليه ولا يعيبه، وهذا يدل على أنهم مُقِرُّون له بهذا الفضل، وهذا يدل على فضله وعلى علمه .
  • أيضًا من الفوائد: استحباب الرحلة في طلب العلم، والذهاب إلى الفضلاء حيث كانوا؛ لقوله : ولو أعلم أن أحدًا أعلم مني لرحلت إليه. وفي الرواية الأخرى: ولو أعلم أحدًا هو أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه. وهذا يدل على فضل الرحلة في طلب العلم، وأن الإنسان إذا سمع بعالم وبمن هو أعلم منه وبمن يرجو أن يستفيد منه، فينبغي أن يتواصل معه إن كان قريبًا، ويرتحل إليه إن كان بعيدًا، كما كان السلف الصالح يفعلون ذلك.
  • أيضًا من الفوائد: أن الصحابة لم ينكروا قول ابن مسعود أنه أعلمهم، والمراد أعلمهم بكتاب الله، ولا يلزم من ذلك أن يكون أعلمهم بالسُّنة، فإن أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا وغيرهم أعلم من ابن مسعودٍ رضي الله عنهم أجمعين، لا شك أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما هما أعلم من ابن مسعود ، لكن ابن مسعود مراده أنه أعلمهم بكتاب الله، فلا يلزم من قوله: إني أعلمهم بكتاب الله. أن يكون أيضًا هو أعلمهم بالسُّنة، ولا يلزم أيضًا من ذلك أن يكون هو أفضلهم عند الله .
    أما بالنسبة للعلم؛ فقد يكون الإنسان أعلم بباب من العلم، ولا يكون أعلم بباب آخر، وأما بالنسبة للفضل فلا يلزم من العلم الفضل، قد يكون الأقل علمًا هو الأفضل عند الله   بزيادة تقواه وخشيته لله .

خُذُوا القرآن من أربعةوأن القرآن يرفع صاحبه

قال الإمام مسلم رحمه الله:

116 – (2464) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِاللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: كُنَّا نَأْتِي عَبْدَاللهِ بْنَ عَمْرٍو فَنَتَحَدَّثُ إِلَيْهِ -وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: عِنْدَهُ- فَذَكَرْنَا يَوْمًا عَبْدَاللهِ بْنَ مَسْعُودٍ ، فَقَالَ: لَقَدْ ذَكَرْتُمْ رَجُلًا لَا أَزَالُ أُحِبُّهُ بَعْدَ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ -يعني ابن مسعود- فَبَدَأَ بِهِ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ.

فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بأن يؤخذ القرآن من هؤلاء الأربعة.

قال العلماء: سببه أن هؤلاء أكثر ضبطًا لألفاظه، وأتقن لأدائه، وإن كان غيرهم أفقه في معانيه منهم؛ لأن هؤلاء الأربعة المذكورين تفرغوا لأخذ القرآن من النبي مشافهة، وغيرهم اقتصروا على أخذ بعضهم من بعض.

أو لأن هؤلاء الأربعة تفرغوا لِأَنْ يؤخذ عنهم، فهذا يدل على فضل هؤلاء الأربعة: ابن مسعودٍ ومعاذٍ وأُبيٍّ وسالمٍ مولى أبي حذيفة .

وبدأ بابن مسعود ، وهذا يدل على أنه أعلم الصحابة بكتاب الله ​​​​​​​.

وساق المصنف رحمه الله هذا الحديث بروايةٍ أخرى أيضًا: 

اقْرَؤوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةِ نَفَر..، وذكر هؤلاء الأربعة.

ثم أيضًا ساقه بروايةٍ أخرى؛ ساقه عن عبدالله بن عمروٍ رضي الله عنهما، قال:  

ذَاكَ رَجُلٌ لَا أَزَالُ أُحِبُّهُ، بَعْدَمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ يَقُولُ: اسْتَقْرِئُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ.

فهذا يدل على فضل هؤلاء الأربعة، ويدل أيضًا على فضل القرآن، وأن من اعتنى بحفظه ومعانيه رفعه الله تعالى بذلك، فالقرآن يرفع صاحبه.

وقد جاء في “صحيح مسلم” أن نافع بن عبدالحارث واليَ مكة لقِيَ عمر ، فقال عمر: من استخلفت على الناس؟ يعني: في مكة، قال: استخلفتُ عليهم ابن أبي أَبْزَى، قال: ومن هو؟ قال: مولى من الموالي، قال: استخلفت مولًى على أشراف أهل مكة؟! قال: يا أمير المؤمنين، إنه قارئ لكتاب الله. قال عمر: إني سمعتُ رسول الله يقول: إنَّ الله يرفع بهذا القرآن أقوامًا، ويضع به آخرين [3].

فرفع الله تعالى هذا المولى واستخلفه نافع بن عبدالحارث على مكة؛ فالله تعالى يرفع بهذا القرآن من يشاء من عباده، فهذا القرآن هو كلام رب العالمين، وهو رِفعة لمن تمسك به، وشرف في الدنيا والآخرة، يرفع الله به أقوامًا ويضع به آخرين.

أيضًا من أعرض عن القرآن وضعه الله تعالى، فالرفعة إنما تكون لمن تمسك بهذا القرآن العظيم.

ولهذا؛ نجد أن الحافظ لكتاب الله ​​​​​​​ إذا أتى في أي مكان؛ يُقدَّم في الإمامة، ويُقدَّم في المجلس، وينظر له بمنظار الاحترام والتوقير بسبب هذا القرآن، فالله تعالى يرفع بهذا القرآن من يشاء من عباده.

نسأل الله تعالى أن يرفعنا وينفعنا بهذا القرآن العظيم.

فضائل أبي بن كعب

ننتقل بعد ذلك إلى: 

23 – بَابٌ مِنْ فَضَائِلِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ.

أُبيّ بن كعب: هو أُبيّ بن كعب الأنصاري، سيد القراء، شهد بدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله ، سأله النبي : أي آية في كتاب الله أعظم؟. قال: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ[البقرة: 255]. يقصد آية الكرسي، فقال عليه الصلاة والسلام: ليهنك العلم أبا المنذر [4].

وكان عمر يسميه سيد المسلمين، وكان ممن يجيد الكتابة، وكان يكتب للنبي ، ويقال إنه أول من كتب: كتبه فلان بن فلان، مات سنة 22 للهجرة، ولما مات قال عمر : مات سيد المسلمين.

119 – (2465) قال حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ: مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ. قَالَ قَتَادَةُ: قُلْتُ لِأَنَسٍ: مَنْ أَبُو زَيْدٍ؟ قَالَ: أَحَدُ عُمُومَتِي.

ثم ساق المصنف رحمه الله أيضًا هذا الحديث برواياتٍ أخرى.

ما المقصود بقول أنس: جمع القرآن .. أربعة؟

وقول أنسٍ : “جمع القرآن”. هل المقصود بقوله: “جمع القرآن”. يعني: حفظ القرآن، واستظهره حفظًا، وأنه لم يحفظ القرآن إلا هؤلاء الأربعة؟ هذا مُشْكِل، ولذلك؛ تكلم العلماء عن هذا الحديث كلامًا طويلًا، وقالوا: إن هذا الحديث مجمَل، فيحتمل: أن يكون مقصود أنسٍ : أنه لم يحفظ القرآن من الأنصار إلا هؤلاء الأربعة بحسب علمه، فربما يكون هناك غيرهم ممن لم يعلم، فهو إنما نفى بحَسَب علمه.

ويحتمل أن مراد أنس  بالجمع في هذا الحديث: الكتابة، أي أن هؤلاء هم الذين كتبوا القرآن، فلا ينفي أن يكون غيرهم حفظه عن ظهر قلب، أما هؤلاء الأربعة فجمعوه كتابة وحفظًا عن ظهر قلب، وهذا هو الأقرب، والله أعلم، أن مقصود أنسٍ  بقوله: “جمع القرآن”. يعني: كتبه، وإلا فالذين حفظوا القرآن في عهد النبي كُثُر؛ فحفظه الخلفاء الراشدون الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي كانوا يحفظون القرآن عن ظهر قلب، وجماعات من الصحابة كانوا يحفظون القرآن. 

وذكر المازِرِيُّ خمسة عشر صحابيًّا حفظ القرآن، وابن مسعود كذلك كان يحفظ القرآن، وسالمٌ مولى أبي حذيفة.

وجاء في الصحيح: أنه قُتل يوم اليمامة سبعون ممن حفظ القرآن، واليمامة كانت قريبة من وفاة النبي .

الرد على شبهة أن الصحابة لم يكونوا حافظين للقرآن

فإذَنْ، الذين حفظوا القرآن في عهد النبي كُثُر، وهذه مقولة يتشدق بها بعض من يريد الطعن في القرآن، أو من يريد التزهيد في حفظ القرآن، يقول: إن الصحابة لم يكونوا يحفظون القرآن، هذا غير صحيح، ويأتي بعضهم بهذه الرواية، بقول أنسٍ : إنه جمع القرآن على عهد رسول الله أربعة. وأنه لم يحفظ القرآن على عهد النبي عليه الصلاة والسلام إلا أربعة، وهذا غير صحيح، وهذا فهم غير صحيح، فهذا ربما يأتي بهذا الحديث بعض من يريد الطعن في القرآن، والمازِرِيُّ رحمه الله قال: إنه يتعلق به بعض الملاحدة أيضًا في تواتر القرآن، وأيضًا هناك من يستدل بهذا الحديث على أن أكثر الصحابة لم يكونوا يحفظون القرآن، وهذه كلها دعاوَى غير صحيحة، وهذا الحديث عن أنس بيَّنَّا الصحيح في معناه، وأن المقصود بقول أنس : جمع القرآن على عهد رسول الله أربعة. أن المقصود بالجمع هنا الكتابة، وأنه لا ينفي أن يكون غيرهم جمعه حفظًا عن ظهر قلب، وأن هؤلاء كتبوه.

وحتى لو قلنا: إن المقصود بقوله: “جمع”: حفظ، فهذا محمول على مَن علِمه أنس من الأنصار فقط، ولا يشمل جميع الصحابة ، وإلا، فالذين حفظوا القرآن من الصحابة جماعات وأعداد كثيرة، وكما ذكرنا أنه قُتل يوم اليمامة سبعون حافظًا لكتاب الله ​​​​​​​.

فهذه المقولة التي يقولها بعض الناس، أن أكثر الصحابة لم يكونوا حافظين للقرآن، هذه مقولة غير صحيحة، بل كان معظم الصحابة يحفظون كتاب الله عن ظهر قلب، وكان أكثر الصحابة يختمون القرآن كل أسبوع، كل أسبوع يختمون القرآن، ولذلك كان تحزيب المصحف وقت الصحابة على سبعة أجزاء فقط، كما ذكر ذلك ابن تيمية وغيره، كانوا يقسمون المصحف سبعة أقسام فقط؛ لأنهم كانوا يختمون القرآن في كل أسبوع مرة، كما أوصى بذلك النبي عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، واختاره كثير من السلف، ختم القرآن في كل أسبوع مرة.

وكان الإمام أحمد رحمه الله يفعل هذا، يختم القرآن في كل أسبوع مرة، فيقرأ كل يوم سُبُع القرآن، فهذا يدل على أن أكثر الصحابة كانوا حافظين للقرآن؛ لأن كثيرًا منهم كانوا من الأُمِّيِّين، لكن كانوا يحفظون القرآن عن ظهر قلب، ويختمون القرآن في كل أسبوع مرة، وكان بعضهم يختم القرآن في أقل من ذلك، لكن أكثرهم كانوا  يختمون في كل أسبوع مرة.

فإذَنْ نقول: إن مقولة: إن أكثر الصحابة غير حافظين للقرآن. هذه مقولة غير صحيحة؛ وإنما يقولها من يريد التزهيد في حفظ القرآن، أو من يريد أيضًا من الملاحدة وغيرهم الطعن في القرآن.

وهناك متشابه من النصوص يَتمسك بها من في قلبه زَيْغٌ، ويريد أن يُرَوِّج بها لباطله، وهذا قد ذكره الله في قوله: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا[آل عمران: 7].

فطريقة أهل الزيغ والضلال أنهم يتبعون المتشابه من النصوص، ويستدلون به لباطلهم، وأما الراسخون في العلم فإنهم يردون المتشابه إلى المحكم، ويقولون: كل من عند ربنا.

نرجع لكلام الإمام مسلم رحمه الله:

قال: جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ: مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ.

يعني: هؤلاء الصحابة معروفون، لكن أبو زيد..

قَالَ قَتَادَةُ: قُلْتُ لِأَنَسٍ: مَنْ أَبُو زَيْدٍ؟ قَالَ: أَحَدُ عُمُومَتِي.

وهو سعد بن عبيد بن النعمان الأوسي، يعرف بسعد القارئ، قُتل بالقادسية سنة خمس عشرة للهجرة، في أول خلافة عمر ، وكان من القراء.

السبب الذي أبكى أُبِيّ بن كعب

قال الإمام مسلم رحمه الله:

121 – (799) حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ  قَالَ لِأُبَيٍّ: إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ. قَالَ: آللَّهُ سَمَّانِي لَكَ؟! قَالَ: اللهُ سَمَّاكَ لِي. قَالَ فَجَعَلَ أُبَيٌّ يَبْكِي.

122 – (799) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَابْنُ بَشَّارٍ قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ : إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا[البينة: 1]. قَالَ: وَسَمَّانِي؟! قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَبَكَى.

وهذا الحديث حديث عظيم، يقول فيه النبي لأُبيٍّ : إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا. قال أُبيٌّ : سماني الله؟ قال: نعم. فبكى.

وحُقَّ له أن يبكي، أن رب العالمين، خالق كل شيء، يأمر نبيه أن يقرأ على هذا الصحابي سورة من القرآن، هذا والله هو غاية الشرف، ولهذا بكى أُبيٌّ .

لماذا بكى أُبيٌّ؟ بكى أُبيٌّ قيل إنه إنما بكى سرورًا بهذا الشرف وهذا الفضل، واستصغارًا لنفسه عن تأهيله لهذه النعمة، وإعطائه لهذه المنزلة، فكأنه يقول: من أنا حتى يأمر الرب –  خالق كل شيء- نبيه  أن يقرأ علي سورة من كتابه؟! من أنا؟! فبكى سرورًا بهذه النعمة واستصغارًا لنفسه عن تأهيله لهذه النعمة، وإعطائه هذه المنزلة العالية الرفيعة.

والنعمة فيها من وجهين:

أحدهما: كونه منصوصًا عليه بعينه، ولهذا؛ قال: سماني؟ قال: نعم. يعني لم يقل الرب ​​​​​​​: اقرأ على أحد من أصحابك، بل سماه الله له، فتزايدت بذلك النعمة.

الوجه الثاني: قراءة النبي ؛ فإنها منقبة عظيمة له لم يشاركه فيها أحد من الناس.

وقيل: إن أُبيًّا إنما بكى خوفًا من تقصيره في شكر هذه النعمة.

وأما تخصيص هذه السورة، سورة لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ[البينة: 1]، فلأنها سورة عظيمة، فهي مع وجازتها، جامعة لأصولٍ وقواعدَ ومهماتٍ عظيمةٍ.

الحكمة من أمر النبي بالقراءة على أُبيٍّ

وأما الحكمة من أمر النبي بالقراءة على أُبيٍّ ؛ لكي يتعلم أُبيٌّ ألفاظ القرآن، وصيغة أدائه، ومواضع الوقوف ونحو ذلك، فكانت القراءة عليه ليتعلم منه.

وقيل: إنما قرأ عليه ليَسُنَّ عرض القرآن على حُفَّاظه البارعين فيه، المُجِيدين لأدائه، وليسن التواضع في أخذ الإنسان القرآن وغيره من العلوم الشرعية من أهلها، وإن كانوا دونه في النسب والدين والفضيلة والمرتبة والشهرة وغير ذلك.

ولينبه الناس على فضيلة أُبيٍّ في ذلك، ويحثهم على الأخذ منه، وكان الأمر كذلك، فكان أُبيٌّ بعد النبي رأسًا وإمامًا، مقصودًا في ذلك مشهورًا به.

ولهذا؛ كان من النفر الذين ذكروا في هذا الحديث: جمع القرآن على عهد رسول الله أربعة كلهم من الأنصار: معاذ بن جبل، وأُبيُّ بن كعب،.. كان من هؤلاء النفر الأربعة.

وأيضًا كان عمر لما رأى الناس يصلون صلاة التراويح أوزاعًا جمع الناس على أُبيِّ بن كعبٍ، وعلى تَمِيمٍ الدَّارِيِّ ،  فكانا يؤمان الناس في صلاة التراويح.

من فضائل سعد بن معاذ

 24 – بَابٌ مِنْ فَضَائِلِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ

سعد بن معاذ : هو سعد بن معاذ بن النعمان، سيد الأوس، رُمِيَ بسهم يوم الخندق، وكان جرحه يَثْعُبُ دمًا، وكان النبي قد سار إلى بني قريظة لما نقضوا العهد، فقال: “اللهم لا تُمِتْنِي حتى تُقِرَّ عيني بهلاكهم”. فحقق الله له ما تمنَّى، ولما ذهب النبي إلى بني قريظة وحاصرهم، طلبوا من النبي عليه الصلاة والسلام أن يُنزِلهم على حكم سعد بن معاذ ، فوافق النبي على ذلك.

وأُتي بسعد بن معاذ ، وكان جريحًا مريضًا أُتي به على حمار والناس ينظرون، فقال النبي للأوس: قوموا إلى سيدكم. فقاموا إليه وأنزلوه عن الحمار، فجلس والناس يترقبون لحكمه، وبنو قريظة طلبوا النزول على حكمه، ورضي بذلك النبي ، فقال له النبي : إنَّ هؤلاء قد ارتضوا حكمك. قال: حكمي نافذ على هؤلاء؟ قال: نعم. قال: وحكمي نافذ على من هنا؟ يريد النبي عليه الصلاة والسلام؛ إجلالًا له، قال: نعم. قال: فأحكم فيهم بأن تُقتل رجالهم، وأن تُسبى أموالهم وذَرَارِيُّهم، فقال النبي : لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات [5]. ثم بعد ذلك رجع سعد ومات.

لمَّا مات ذكر النبي عليه الصلاة والسلام ما ذكر في هذا الحديث العظيم:

123 – (2466) قال حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُالرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللهِ رضي الله عنهما، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ  وَجِنَازَةُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمُ: اهْتَزَّ لَهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ.

124 – (2466) حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ إِدْرِيسَ الْأَوْدِيُّ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ  قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ.

125 – (2467) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِاللهِ الرُّزِّيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُالْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ الْخَفَّافُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ قَال وَجِنَازَتُهُ مَوْضُوعَةٌ -يَعْنِي سَعْدًا- اهْتَزَّ لَهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ.

المقصود بقوله: اهتز عرش الرحمن

وقد رَوى هذا الحديث أيضًا البخاري رحمه الله في “صحيحه”: اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ [6]. وهذا الاهتزاز من عرش الرحمن لموت سعد رضي الله عنه فرحًا بقدومه، وقد جعل الله تعالى في العرش تمييزًا حصل به هذا، والله تعالى يجعل إدراكًا في الجمادات وفي المخلوقات؛ كما قال سبحانه: وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة:74].

فعرش الرحمن اهتز فرحًا بقدوم سعد ، يقال: لكل من فرح بقدوم قادم عليه اهتز له، ومنه: اهتزت الأرض بالنبات.

وبعض العلماء تأوَّل هذا الحديث وقال: إن المراد اهتزاز أهل العرش، وهم حملته وغيرهم من الملائكة، فحذَف المضاف.

وقيل: المراد بالاهتزاز: الاستبشار والقبول، ومنه قول العرب: فلان يهتز للمكارم، وقولهم: أظْلَمَت الأرض، واهتزت الأرض، ونحو ذلك.

والأقرب والله أعلم: أن هذا الحديث على ظاهره، وأن عرش الرحمن اهتز فرحًا بقدوم سعد بن معاذ ، واستبشارًا بذلك.

وهذا فيه منقبة عظيمة لهذا الصحابي الجليل، أن عرش الرحمن اهتز فرحًا لقدومه، وكما ذكرنا أن الأقرب أنه على ظاهره، ولا يُتأول هذا الحديث، فلا يقال: المراد به: اهتزاز حملة العرش أو الملائكة، أو نحو ذلك؛ وإنما هو على ظاهره أن العرش نفسه اهتز فرحًا واستبشارًا بقدوم سعد بن معاذ ، اهتزازًا الله أعلم بحقيقته، لكنه يفيد الفرح والاستبشار بقدوم هذا الصحابي الجليل.

وعرش الرحمن خلق عظيم، يقول النبي كما عند أبي داود بسند صحيح: أُذِنَ لي أن أحدِّث عن مَلَكٍ من حملة العرش، ما بين أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة [7]. أحد حملة العرش هذه عظمته فكيف بعظمة العرش؟! وكيف بعظمة خالق العرش جل وعلا؟! ومع ذلك اهتز لموت سعد بن معاذ ، فهذه منقبة عظيمة ومرتبة عَلِيَّة لهذا الصحابي الجليل.

والعجيب أن سعد بن معاذ إنما بقي في الإسلام ستًّا أو سبع سنين، أسلم وعمره واحد وثلاثون، ومات وعمره سبع وثلاثون أو ثمان وثلاثون، يعني بقي في الإسلام ستًّا أو سبع سنين فقط، ومع ذلك لما مات اهتز لموته عرش الرحمن.

يا ترى بماذا ملأ سعدٌ هذه السُّنَيْهات؟ هذه السنين قليلة؛ ستٌّ أو سبع سنين تعتبر قليلة مقارنة بأعمال كثير من الناس، فيا ترى بماذا ملأ سعد هذه السنوات القليلة التي لما مات اهتز لموته عرش الرحمن؟ وهذا يدل على أنه ليس العبرة في الإنسان بكثرة السنين التي عاشها، وإنما العبرة بكيف عاشها؟ وبماذا ملأها؟ هذه هي العبرة، فهذا سعد إنما عاش في الإسلام ستًّا أو سبع سنين ومع ذلك لما مات اهتز لموته عرش الرحمن، وبعض الناس يُعمَّر عُمُرًا مديدًا، ومع ذلك تكون أعماله الصالحة قليلة، وبضاعته مزجاة بالنسبة للأعمال الصالحة.

فعلى الإنسان أن يحرص على الاقتداء بهؤلاء العظماء، سعد بن معاذ يظهر -والله أعلم- أن عنده أعمالًا قلبية جعلته يصل إلى هذه المرتبة العظيمة وهذه الفضيلة، وهذا الشرف الكبير الذي لم يذكره النبي لغيره، لا يُعلم أن أحدًا أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنه اهتز لموته عرش الرحمن إلا هذا الصحابي الجليل.

فنستفيد من هذا فائدة عظيمة، وهي: أن العبرة ليست بكثرة السنين التي يعيشها الإنسان؛ وإنما العبرة بكيف يقضي هذه السنين وبماذا يملؤها.

عِظَم منزلة سعد بن معاذ في الجنة

قال الإمام مسلم رحمه الله:

126 – (2468) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَابْنُ بَشَّارٍ قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ: أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللهِ  حُلَّةُ حَرِيرٍ، فَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَلْمِسُونَهَا وَيَعْجَبُونَ مِنْ لِينِهَا، فَقَالَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ لِينِ هَذِهِ؟ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ، خَيْرٌ مِنْهَا وَأَلْيَنُ.

ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث برواياتٍ أخرى؛ ومنها هذه الرواية:

حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ  أَنَّهُ أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللهِ جُبَّةٌ مِنْ سُنْدُسٍ –يعني من حرير– وَكَانَ يَنْهَى عَنِ الْحَرِيرِ، فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْهَا، فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ مَنَادِيلَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا.

أُهدي للنبي حُلة من حرير أو من سندس، فتعجب الناس من لينها، وتعجب الناس من نفاستها، فقال عليه الصلاة والسلام: مناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين وأحسن منها. وفي هذا إشارة إلى عظيم منزلة سعد في الجنة، وأن أدنى ثيابه فيها، وعبَّر عن ذلك بالمنديل، والمنديل هو أدنى بالثياب؛ لأنه معد للوسخ والامتهان فأدنى ثيابه في الجنة خير من هذه الحلة التي تعجب الناس منها.

وهذا يدل على أن نعيم الجنة نعيم عظيم إذا كانت مناديل سعد بن معاذ خير من هذه الحلة من الحرير التي يتعجب منها الناس فكيف بما هو أعظم من ذلك من النعيم؟ والجنة فيها من النعيم، ومن لذة العين؛ ما لا يستطيع العقل البشري أن يتخيله مجرد تخيل؛ فهو فوق مستوى تصور وتخيل العقل البشري؛ كما قال عليه الصلاة والسلام عن الجنة: فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر [8]. النعيم الذي في الجنة لا يخطر أصلًا على قلب بشر، يعني: فوق مستوى الخيال، فوق مستوى التصور والخيال البشري، فنعيم الجنة نعيم عظيم جدًّا، فهذه الحُلَّة التي تعجب منها الناس في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، حلة من حرير لم يروا أنعم منها ولا أحسن منها، يقول عليه الصلاة والسلام: مناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين. وهذا يدل على فضيلة هذا الصحابي الجليل، وعظيم منزلته ، كما ذكرنا أنه قد اهتز لموته عرش الرحمن، وأن أدنى ثيابه خير من حرير الدنيا.

وأيضًا: هذا يدل على أن سعد بن معاذ في الجنة، فنشهد له بالجنة، معتقد أهل السنة والجماعة: أنهم لا يشهدون لمعين بجنة ولا نار، إلا من شهد له الكتاب أو شهد له رسول الله .

فإذا شهد القرآن لأحد بالجنة أو شهد له بالنار فنشهد له بذلك، فنشهد بأن أبا لهب في النار؛ لأن الله تعالى قال: سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ[المسد: 3].

نشهد بأن أبا بكر في الجنة؛ لأن النبي شهد له بذلك، ونشهد بأن عمر وعثمان وعليًّا، والعشرة المبشرين كلهم هؤلاء في الجنة، رضي الله عنهم أجمعن [9].

نشهد بأن بلالًا   في الجنة؛ لأن النبي شهد له بذلك.

أيضًا هنا نشهد بأن سعد بن معاذ في الجنة؛ لأن النبي شهد له بذلك.

فمعتقد أهل السنة والجماعة: أنهم لا يشهدون لمعين بجنة ولا نار، إلا من شهد له القرآن أو شهد له رسول الله بذلك.

لماذا خُصَّ سعد بذكر هذه المناديل؟ 

طيب، لماذا خص سعد بن معاذ بذلك؟ لماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين. لماذا لم يقل: لمناديل فلان من الصحابة، يعني: لماذا خص سعد من بين سائر الصحابة ؟

تخصيص سعد بذلك؛ قيل: لأنه كان يعجبه ذلك الجنس من الثوب، أو لأن هذه الحادثة كانت قريبة من موت سعد ، أو لأجل كون اللامسين المتعجبين من هذه الحلة من الحرير كانوا من الأنصار، فقال: مناديل سيدكم خير منها.

ثم قال الإمام مسلم رحمه الله:

127 – حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا سَالِمُ بْنُ نُوحٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَامِرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ : أَنَّ أُكَيْدِرَ دُومَةِ الْجَنْدَلِ أَهْدَى لِرَسُولِ اللهِ حُلَّةً.. فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ: وَكَانَ يَنْهَى عَنِ الْحَرِيرِ.

أكيدر دومة الجندل، سبق في درس سابق أن تكلمنا عن هذا، كان النبي أرسل إليه خالد بن الوليد في سَرِيَّة، فأسره وقدم به إلى المدينة، فصالحه النبي على الجزية وأطلقه، فكان هو الحاكم لدومة الجندل، وبعد وفاة النبي ارتد مع من ارتد وقُتِل، قيل: إنه أسلم. لكن ذلك لم يثبت، لم يثبت أنه أسلم، لكن لما صالح النبي عليه الصلاة والسلام بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام رفض دفع الجزية، هذا المقصود بقولنا: ارتد. وإلا فالصحيح أنه لم يسلم.

لما أسره النبي عليه الصلاة والسلام ثم صالحه بعد ذلك على الجزية أهدى للنبي حلة من حرير، ردها النبي في أول الأمر، فلما رأى أن أكيدر دومة الجندل تغير وجهه قَبِلها النبي عليه الصلاة والسلام، وأعطاها عليًّا ، وقال: شَقِّقْه خُمُرًا بين الفَوَاطِم [10].

حكم قبول هدية المشرك

استدل العلماء بهذه القصة على جواز قبول هدية المشرك؛ لأن أكيدر دومة الجندل كان نصرانيًّا، وقد ترجم البخاري رحمه الله في “صحيحه” على هذه القصة بقوله: باب قبول هدية المشرك. وهذا يدل على أنه يجُوز قبول هدية غير المسلم، وأنه لا بأس بذلك، والنبي كان يقبل هدية اليهود، وهدايا المشركين، لا بأس بذلك، وهذا لا ينافي عقيدة الولاء والبراء، فقبول هدية المشرك لا بأس بها، بل قبول دعوتهم أيضًا للطعام لا بأس بها، ولهذا؛ قبل النبي عليه الصلاة والسلام دعوة اليهود للوليمة، وأيضًا كان يتبايع معهم، وتوفي ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعًا من شعير، فهذه التعاملات مع غير المسلمين لا بأس بها.

ونقف عند فضائل أبي دُجَانَة نفتتح بها درسنا القادم.

نكتفي بهذا القدر في هذا الدرس.

والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

والآن نجيب عن ما تيسر من الأسئلة:

الأسئلة والأجوبة

حكم الجمع لمن سافر بالطائرة قبل المغرب

السؤال: إذا كان الشخص في سفر وأقلعت الطائرة قبل أذان المغرب وسيصل لبلده في وقت العشاء، هل يصلي المغرب في الطائرة على الكرسي مع عدم وجود مكان للصلاة، أم يجمعها مع العشاء إذا وصل؟

الجواب: يجمعها مع العشاء؛ لأنه مسافر، والمسافر يجوز له الجمع، فيجمعها مع العشاء لكن بشرط أنه يصلي العشاء أربع ركعات؛ لأنه إذا وصل إلى بلد الإقامة انقطعت في حقه جميع رخص السفر، لكن يجوز له أن يؤخر المغرب بحكم أنه مسافر، فيؤخر المغرب إلى وقت العشاء، ويصلي المغرب والعشاء إذا وصل إلى بلده، يصلي المغرب ثلاث ركعات والعشاء أربع ركعات.

هل تُقضى النوافل إذا فاتت؟

السؤال: ما الحكمة في قضاء ركعتي الفجر لمن فاتته بعد الصلاة، بينما الأربع ركعات التي قبل الظهر لا تقضى بعده؟

الجواب: هذا أولًا غير مُسلَّم، الأربع ركعات التي قبل الظهر إذا فاتت تقضى بعد الظهر، فقول الأخ السائل: إنها لا تقضى. هذا غير صحيح؛ السنن الرواتب كلها تقضى؛ سواء أكانت ركعتي الفجر، أو سنة الظهر، أو سنة المغرب، أو سنة العشاء، كلها تقضى؛ لعموم قول النبي عليه الصلاة والسلام: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها [11]. فكل السنن الرواتب تقضى.

الصيغة الواردة في الصلاة على النبي بعد الأذان

السؤال: ما الصيغة الواردة في الصلاة على النبي بعد الأذان؟

الجواب: أن تقول: اللهم صل وسلم على رسولك محمد، تُتابع المؤذن إذا أذَّن، السُّنة عند الاستماع للأذان: أن يتابع المسلم المؤذن إذا أذَّن، فيقول مثلما يقول، فإذا قال: أشهد أنَّ محمدًا رسول الله. المرة الثانية، يقول: أشهد أن محمدًا رسول الله. ثم يقول: رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ نبيًّا ورسولًا، ثم إذا قال: حيَّ على الصلاة، حي على الفلاح. يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم يتابعه في التكبيرتين: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. ثم يقول: “اللهم صل وسلم على رسولك محمد، اللهم ربَّ هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه اللهم مقامًا محمودًا الذي وعدته”.

حكم من ينشر الحرام ثم تاب

السؤال: ما حكم من ينشر الحرام ثم تاب، هل له توبة؟ وهل يجب إخبار من كان يرسل إليه؟

الجواب: من كان ينشر الحرام يلحقه الإثم عند كل من استعمل هذا الحرام، وهذا يبيِّن لنا خطورة المسألة؛ فكل من شاهده إذا كان مما يشاهد، أو استمع له إذا كان مما يستمع، يبوء بإثمه الذي نشره؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: من دعا إلى ضلالة كان عليه من الوِزْرِ مثل أوزار من تبعه [12]. وإذا أراد أن يتوب، أولًا يتوب فيما بينه وبين الله، ثم يحرص على منع هذا النشر بما يستطيع، ويتواصل مع من نشر لهم هذا الأمر المحرم ويطلب منهم أن يحذفوه، ولعل الله تعالى أن يتجاوز عنه.

حكم النوم على البطن

السؤال: هل ورد نهي عن النوم على البطن؟

الجواب: رُوِي في ذلك حديث لكنه ضعيف، والذي يظهر: أن الأمر في ذلك على الإباحة، ولم يثبت عن النبي عليه الصلاة السلام أن هذه هي جلسة أو اضطجاع أهل النار؛ فالحديث المروي في ذلك ضعيف، فالأمر في ذلك على الإباحة، الإنسان يختار الطريقة الأنسب له في النوم، لكن السُّنة وردت بأن الأفضل أن يكون النوم على الجنب الأيمن؛ كما في حديث البراء أن الإنسان إذا أراد أن ينام يتوضأ وضوؤه للصلاة، وينام على جنبه الأيمن، ويقول: “اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك.. ” إلخ [13]، ويأتي بأذكار النوم، فالأفضل أن ينام على جنبه الأيمن، لكن مع ذلك؛ لو أراد أن يستلقي على ظهره أو ينام على جنبه الأيسر أو حتى على بطنه أو على أية صفة، الأمر في ذلك واسع، الأصل في هذا الإباحة، ولكن الأفضل والسُّنة هو أن يكون نومه على الجانب الأيمن.

حكم الصلاة على النبي أثناء سماع اسمه من المسجل

السؤال: إذا تردد اسم النبي أثناء الدروس، هل نصلي عليه؟ أم أن ذلك حكاية صوت كالأذان المسجل؟

الجواب: الأفضل هو أن تصلي عليه كلما سمعته؛ لعموم قول النبي عليه الصلاة والسلام: البخيل: من ذُكرتُ عنده فلم يُصَلِّ علَيَّ [14].

فقوله: من ذكرت عنده. يشمل الذكر بأية وسيلة، ويشمل كذلك عندما يذكر في محاضرة أو في دروس مسجلة، وهذه المسألة تختلف عن الأذان؛ لأن الأذان المطلوب فيه المتابعة، متابعة المؤذن، وإذا كان الأذان مسجَّلًا فلا يتابع؛ لأن المتابعة هنا متعذرة، هذه حكاية صوت، بينما الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام المطلوب الصلاة عليه كلما ذكر بأية طريقة، ولو كان بحكاية صوت، كلما ذكر النبي فتتأكد الصلاة عليه.

حكم الشراء من التطبيقات داخل المسجد

السؤال: ما حكم الشراء من التطبيقات داخل المسجد؟

الجواب: إذا كان سيعقد الشراء داخل المسجد فهذا لا يجوز؛ لأنه لا يجوز البيع والشراء داخل المساجد؛ لقول النبي : من رأيتموه يبيع أو يشتري داخل المسجد فقولوا: لا أَرْبَحَ الله تجارتك؛ فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا [15].

المساجد دُور عبادة بنيت للصلاة، وبنيت لحلق العلم، وبنيت لما بنيت له من الذِّكر والعبادة؛ ولم تبن للتجارة، لا لعقد صفقات تجارية، ولا للدعاية، ولا لنِشْدَان الضالة، فلا يجوز البيع والشراء داخل المسجد، هذا إذا كان سيعقد الشراء.

أما إذا كان لن يعقد الشراء؛ وإنما يطلب طلبًا فقط، ثم بعد ذلك إذا وصل الطلب سوف يشتري، فهذا لا يعتبر شراء، ولا يشمله النهي عن الشراء داخل المسجد.

حكم المسافر إذا دخل مع من يصلي العشاء ولم يصل المغرب

السؤال: إذا صلى المسافر مع جماعة يُتِمُّون الصلاة، ودخل معهم في صلاة العشاء بنية صلاة المغرب، هل يجلس بعد الثالثة وينتظر الإمام حتى ينزل للتشهد، أم ماذا يعمل؟

الجواب: إذا كان المسافر يريد أن يصلي صلاة المغرب، ودخل مع جماعة يصلون صلاة العشاء وهم مقيمون، فلا يلزمه أن يصلي معهم أربع ركعات، على القول الراجح؛ وإنما إذا قام الإمام للركعة الرابعة فيجلس للتشهد، ويكمل لنفسه ويسلم، ولا يلزمه الانتظار، ولو أنه انتظر حتى يصل الإمام إلى التشهد ويسلم معه فلا بأس، لكن الأولى أن يكمل لنفسه ويسلم، هذا هو الأكمل، والانفتال عن الإمام لمصلحة أو لحاجة لا بأس به، وقد فعله ذلك الأنصاري لمَّا صلى معاذ بقومه وأطال بهم الصلاة، حتى قرأ بهم سورة البقرة، فذلك الأنصاري أكمل لنفسه الصلاة وانصرف، وأقره النبي عليه الصلاة والسلام على هذا التصرف، فدل هذا على أنه لا بأس أن ينفتل المصلي عن الإمام، إذا وجد في ذلك مصلحة أو حاجة، ومن ذلك ما ذكر في هذا السؤال من اختلاف الهيئة بين الإمام والمأموم، فالمأموم يريد أن يصلي صلاة المغرب، والإمام يريد أن يصلي صلاة العشاء أربع ركعات، فإذا قام الإمام للركعة الرابعة يجلس ويأتي بالتشهد، ويكمل لنفسه ويسلم، هذا بناءً على القول الراجح في المسألة، وإلا فالمسألة فيها خلاف بين أهل العلم.

حكم المداومة على صلاة الضحى

السؤال: هل السنة المداومة على صلاة الضحى، أو يتركها أحيانًا؟

الجواب: هذا محل خلاف بين العلماء؛ والقول الراجح: أنه يسن المحافظة على صلاة الضحى؛ لعموم قول النبي : يصبح على كل سُلَامَى من أحدكم صدقة. فقوله: يصبح على كل سلامى. يعني: على كل مَفصِل من مفاصله، ومفاصل الإنسان ثلاثمائةٍ وستون مَفصِلًا، يعني: أنه إذا أصبح مطلوبٌ منه ثلاثمائةٍ وستون صدقةً؛ شكرًا لنعمة الله تعالى على سلامة مفاصله، ثم ذَكَرَ أنواعًا من الصدقات: فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة. ثم قال: ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى [16]. يعني: أن ركعتي الضحى تجزئ عن ثلاثمائة وستين صدقة، وهذا الحديث يدل على استحباب المداومة على ركعتي الضحى.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 2419، ومسلم: 818.
^2 سبق تخريجه.
^3 رواه مسلم: 817.
^4 رواه مسلم: 810.
^5 رواه البخاري: 4121، ومسلم: 1768.
^6 رواه البخاري: 3803.
^7 رواه أبو داود: 4727.
^8 رواه البخاري: 3244، ومسلم: 2824.
^9 رواه أبو داود: 4649، والترمذي: 3748، وابن ماجه: 133.
^10 رواه مسلم: 2071.
^11 رواه مسلم: 680.
^12 رواه مسلم: 2674.
^13 رواه البخاري: 6311، ومسلم: 2710.
^14 رواه أحمد: 1736، والحاكم: 2885.
^15 رواه ابن خزيمة في صحيحه: 1305.
^16 رواه مسلم: 720.
zh