logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح أبواب من صحيح مسلم/(20) باب فضائل عبد الله بن جعفر- من حديث “أتذكر إذ تلقينا رسول الله..”

(20) باب فضائل عبد الله بن جعفر- من حديث “أتذكر إذ تلقينا رسول الله..”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

هذا هو الدرس العشرون في التعليق على كتاب الفضائل من “صحيح مسلم” في هذا اليوم، الثلاثاء، السادس عشر من ربيع الآخر، من عام 1442 للهجرة.

وهذا سيكون إن شاء الله هو الدرس الأخير في هذا الفصل الدراسي، وسنتوقف اعتبارًا من الأسبوع القادم، فترة الاختبارات والإجارة، ويُستأنف الدرس -إن شاء الله تعالى- مع بداية الفصل الدراسي الثاني، يعني: يوم الثلاثاء 6/6 السادس من شهر جمادى الآخرة، من عام 1442 للهجرة.

فضائل عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما

كنا قد وصلنا إلى:

11 – بَابُ فَضَائِلِ عَبْدِاللهِ بْنِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا

65 – (2427) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ عَبْدُاللهِ بْنُ جَعْفَرٍ لِابْنِ الزُّبَيْرِ: أَتَذْكُرُ إِذْ تَلَقَّيْنَا رَسُولَ اللهِ أَنَا وَأَنْتَ وَابْنُ عَبَّاسٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَحَمَلَنَا وَتَرَكَكَ.

ثم ساق المصنف -رحمه الله- هذا الحديث من طريقٍ أخرى:

عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: “كَانَ رَسُولُ اللهِ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ تُلُقِّيَ بِصِبْيَانِ أَهْلِ بَيْتِهِ، قَالَ: وَإِنَّهُ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَسُبِقَ بِي إِلَيْهِ، فَحَمَلَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ جِيءَ بِأَحَدِ ابْنَيْ فَاطِمَةَ، فَأَرْدَفَهُ خَلْفَهُ، قَالَ: فَأُدْخِلْنَا الْمَدِينَةَ، ثَلَاثَةً عَلَى دَابَّةٍ”.

ثم ساق المصنف -رحمه الله- هذا الحديث أيضًا عن عبدالله بن جعفر رضي الله عنهما:

قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ تُلُقِّيَ بِنَا. قَالَ: فَتُلُقِّيَ بِي وَبِالْحَسَنِ أَوْ بِالْحُسَيْنِ. قَالَ: فَحَمَلَ أَحَدَنَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَالْآخَرَ خَلْفَهُ، حَتَّى دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ.

ثم أيضًا ساق المصنف -رحمه الله- هذا الحديث:

عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللهِ ذَاتَ يَوْمٍ خَلْفَهُ، فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا لَا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ.

هذه الأحاديث أوردها المصنف -رحمه الله- في بيان فضائل هذا الصحابي الجليل، عبدالله بن جعفر الطَّيَّار رضي الله عنهما، وجعفر الطيار المعروف يسمى: جعفر الطيار، وهو جعفر بن أبي طالبٍ، وعبدالله بن جعفرٍ كان صغيرًا، وكان أيضًا في سِنِّه أو مقاربًا لسنه عبدُالله بن الزبير رضي الله عنهما.

هنا في هذه القصة يقول عبدالله بن جعفر لابن الزبير : أتذكر إذ تَلَقَّينا رسول الله أنا -يعني: عبدالله بن جعفر رضي الله عنهما- وأنت -يعني: عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما- وابن عباس رضي الله عنهما؟ قال: نعم. قال: فحملنا وتركك. يعني: كان على الدابة النبي عليه الصلاة والسلام، وعبدالله بن جعفر، وعبدالله بن عباس .

وأيضًا في القصة الأخرى: كان رسول الله إذا قدم من سفر تُلُقِّيَ بصبيان أهل بيته، وإنه قدم من سفر فسُبق بي إليه، فحملني بين يديه، ثم جيء إما بالحسن أو بالحسين وأردفه خلفه، ودخلنا المدينة ثلاثة على دابة.

وفي هذه الأحاديث: ثبوت الصحبة لعبدالله بن جعفر ولعبدالله بن الزبير ، وفَضْلِهما، وهما متقاربان في السن، فقد حفظا عن النبي عدة أحاديث.

والحديث التالي يدل على فضل عبدالله بن جعفر رضي الله عنهما، قال: أردفني رسول الله ذات يوم خلفه، فأسر إليَّ حديثًا لا أحدث به أحدًا من الناس. وهذا يدل على قرب عبدالله بن جعفر من النبي عليه الصلاة والسلام؛ إذ إن الإنسان لا يُسِرُّ بالسر إلا لمن كان قريبًا منه، أما من كان بعيدًا عنه فلا يحدثه بالسر.

فوائد من أحاديث باب فضائل عبدالله بن جعفر

  • جواز ركوب الثلاثة على الدابة؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام كان على الدابة، وحمل بين يديه عبدالله بن جعفر، وكان صغيرًا صبيًّا، وخلفه الحسن أو الحسين، فثلاثة ركبوا الدابة، وهذا يدل أيضًا على تواضع النبي عليه الصلاة والسلام، حيث كان يُرْدِف على الدابة من يَركَب معه، وهنا في هذه القصة أردف من أركَبَ معه بين يديه وخلفه.
  • وأيضًا في هذه الأحاديث من الفوائد: استحباب استقبال القادم من السفر، وقد كان النبي يُستقبل قبل أن يدخل ثَنِيَّة الوداع.

قال النووي رحمه الله: وهذه سنةٌ مستحبةٌ، أن يَتَلَقَّى الصبيانُ المسافر، فيقول: إن هذه سنةٌ مستحبةٌ، أن الصبيان يَستقبلون ويتلقون المسافر؛ لأنهم يفرحون به ويفرح هو بهم.

فضائل خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها

ننتقل بعد ذلك إلى الباب التالي:

12 – بَابُ فَضَائِلِ خَدِيجَةَ..

خير النساء

قال المصنف رحمه الله:

69 – (2430) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو أُسَامَةَ، ح وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ وَوَكِيعٌ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، ح وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، وَاللَّفْظُ حَدِيثُ أَبِي أُسَامَةَ، ح وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَاللهِ بْنَ جَعْفَرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلِيًّا بِالْكُوفَةِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ  يَقُولُ: خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ. قَالَ: أَبُو كُرَيْبٍ، وَأَشَارَ وَكِيعٌ إِلَى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.

وهذا الحديث بيَّن النبي فيه أن خير نسائها، والمراد: خير نساء الأرض، والمعنى: أن كل واحدة منهما خير نساء الأرض في عصرها، فخير نساء الأرض في عصر مريم، هي مريم بنت عمران، وخير نساء الأرض في عصر خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، هي خديجة بنت خويلد.

وأما المفاضلة بين خديجة ومريم، فقال النووي رحمه الله: وأما التفضيل بينهما فمسكوت عنه، وسنتكلم عن المفاضلة بين مريم وخديجة وعائشة وفاطمة وسيأتي الكلام عنه.

قال المصنف -رحمه الله- بعدما ساق بسنده:

عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ غَيْرُ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، وَآسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ.

هذا الحديث يدل على فضل مريم بنت عمران، وفضل آسية امرأة فرعون.

مريم بنت عمران فضَّلها الله ​​​​​​​ على نساء العالمين: يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ[آل عمران: 42].

مريم بنت عمران، هذه المرأة الصالحة القانتة، العفيفة العابدة الصدِّيقة، لها مناقب كثيرة، ولكن الله ذكر أعظم مناقبها، وهي عفتها، فقال: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَ مِنْ رُوحِنَا[الأنبياء: 91]. فذكر الله عفتها، مع أنها صوامة قوامة عابدة، لكن العفة من أفضل وأعظم وأشرف الخصال في المرأة، فلذلك؛ خص الله هذه المنقبة بالذكر.

وأما آسية بنت مزاحم، امرأة فرعون، فهذه المرأة الصالحة ابتليت بأن زوجها أكبر طاغية في التاريخ، فرعون الذي تجبر وتكبر وادعى الربوبية، وقال: أنا ربكم الأعلى، وأما زوجته فكانت خير نساء العالمين، وهذه آية من آيات الله ، ولذلك؛ قال سبحانه: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[التحريم: 11].

فإذا أراد الله الإيمان بإنسانٍ، لم يضرَّه أن قريبًا له أو زوجًا أو زوجة ليس على الإيمان؛ فهذه امرأة فرعون، خير نساء العالمين في زمانها، وزوجها أكبر طاغية في التاريخ، وهذه امرأة نوح وامرأة لوط، زوجتا نبيَّين كريمين ورسولين عظيمين، ومع ذلك لم يغنيا عنهما من الله شيئًا.

هل مريم وآسية نبيتان؟

وهذا الحديث يدل أيضًا على فضل عائشة رضي الله عنها، وقبل أن نشير لفضل عائشة رضي الله عنها، من العلماء من قال بنبوة مريم، ونبوة آسية، قال: إنهما نبِيَّتَانِ. قال النووي رحمه الله: وهذا القول غريب ضعيف، وقد نُقل الإجماع على عدمه.

والقرطبي -رحمه الله- قال: الصحيح: أن مريم نبِيَّةٌ؛ لأن الله أوحى إليها بواسطة المَلَك. ولكن هذا قول مرجوح، والصواب: أن مريم صِدِّيقةٌ وليست نبيةً، وأن امرأة فرعون كذلك ليست نبية، وأن الأنبياء إنما يكونون من الرجال: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ[الأنبياء: 7]، فالأنبياء إنما يكونون من الرجال، ولم يرد في النصوص ما يدل على أن النساء فيهن أنبياء.

فالصواب إذَنْ: أن مريم صِدِّيقةٌ، كما قال الله تعالى في الآية الكريمة: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ[المائدة: 75]. وأنها ليست نبية.

قال: وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثَّرِيد على الطعام. الثريد ما معنى الثريد؟ الثريد: هو الخبز المفتت في المرق وغيره، وهو طعام سريع الهضم كثير النفع، وغالبًا لا يكون إلا باللحم، وهو أفضل الطعام عند العرب، أفضل الطعام عند العرب هو الثريد.

قال القرطبي رحمه الله: إنما كان الثريد أفضل الأطعمة؛ ليَسَار مؤونته، وسهولة إساغته، وعظيم بركته؛ ولأنه كان جُلَّ أطعمتهم، وألذها بالنسبة لهم.

وأما غيرهم فقد يكون غير الثريد أطيب وأفضل، ولكن العرب في عهد النبي عليه الصلاة والسلام كان أفضل طعامهم الثريد، وهو الخبز المفتت في المرق، ويكون معه لحم، وكان أفضل الأطعمة عند العرب.

فبيَّن النبي عليه الصلاة والسلام: أن فضل عائشة رضي الله عنها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام، وهذا يدل على فضل عائشة رضي الله عنها.

وتشبيهها بالثريد على سائر الطعام، كما أن الثريد عظيم النفع، كذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ كثيرة النفع للأمة بالعلم والفتيا، وهذا يدل على فضل عائشة رضي الله عنها، وتفضيلها على نساء الأمة.

ترجمة مختصرة عن أم المؤمنين خديجة

وأما خديجة رضي الله عنها: فخديجة هي بنت خويلد بن أَسَد بن عبدالعزى بن قصيٍّ، القُرشية الأسَدَية، أول من أسلم، وآمن بالنبي على وجه الأرض، وكانت تدعى قبل البِعثة بـ(الطاهرة)، تزوجت رجلين قبل النبي ، ثم تزوجها النبي قبل البِعثة بخمسة عشر عامًا، وكان عمر النبي عليه الصلاة والسلام لما تزوجها خمسة وعشرين، وكان عمرها ثمانية وعشرين، على القول الراجح، وأما القول المشتهر بأن عمرها كان أربعين فلا يثبت؛ وإنما الثابت أن عمر خديجة رضي الله عنها لما تزوجها النبي كان ثمانية وعشرين، وأن عمر النبي عليه الصلاة والسلام كان خمسًا وعشرين، فكانت تكبره سنًّا بثلاث سنوات تقريبًا، وكانت موسرة وثرية، وأرسلت للنبي أن يتاجر بمالها في الشام، فذهب في رحلة، وكان معه غلام خديجة مَيْسَرَة، ورأى مَيْسَرَة في تلك الرحلة من العجائب والغرائب شيئًا عظيمًا، حتى إنَّ السحابة كانت تظلل النبي عليه الصلاة والسلام، ورَبِح في تلك الرحلة ضِعف ما كان يربح غيره، ثم لما رجع النبي عليه الصلاة والسلام، ورجع معه غلامها ميسرة، حدثها مَيْسَرَة بما شاهده من العجائب من النبي عليه الصلاة والسلام، ومن علامات النبوة قبل البعثة، فأعجبت بالنبي عليه الصلاة والسلام، وقبلت به زوجًا، فتزوجها عليه الصلاة والسلام، وكانت أم أولاده فأنجبت جميع أولاده، ما عدا إبراهيم، أنجبت له القاسم وعبدالله، وأنجبت له بناته الأربع: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، وماتت قبل الهجرة بثلاث سنين.

ما تقول في رجل مات أبوه وهو في بطن أمه، ثم ماتت أمه وعمره أربع أو ست سنين، ثم مات جده وعمره ثمان سنين، ثم مات عمه الذي كان يَكفُله، ثم مات جميع أولاده ما عدا بنتًا واحدةً، وماتت أم أولاده؟ من هو؟

هو رسول الله ، سبحان الله! ابتلي هذا البلاء العظيم؛ يتيم الأبوين، مات حتى جدُّه الذي كان يكفله، ثم مات عمه، وأم أولاده خديجة ماتت، مات جميع أولاده من بنين وبنات إلا بنتًا واحدةً، وهي فاطمة، فجميع أسرته ماتوا وهو ينظر عليه الصلاة والسلام، وأبوه مات وهو في بطن أمه، ومع ذلك، ومع هذه الابتلاءات العظيمة؛ فإن الله قال له: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى[الضحى: 4]. وجعله سيد البشر وأفضل البشر وسيد الأولين والآخرين صلوات الله وسلامه عليه، وفيه سلوة وأسوة لمن فقد بعض أقاربه، من يتألم ويحس بحرقة لفقد بعض أقاربه وبعض من يحبهم، أقول: لك أسوة في النبي عليه الصلاة والسلام، الذي فقد أحبابه كلهم، فقد أبويه وجده وعمه وزوجته وجميع أولاده إلا بنتا واحدة، فقدهم كلهم في حياته، ومع ذلك صبر فكانت العاقبة له، وهو سيد البشر، وسيد الأولين والآخرين صلوات الله وسلامه عليه.

نعود للكلام عن فضائل خديجة رضي الله عنها، يعني هذا الذي ذكره المصنف -رحمه الله- من حديث أبي موسى ليس فيه ذكر لخديجة رضي الله عنها، قال: كَمَل من الرجال كثير، ولم يَكمُل من النساء غير مريم وآسية..، وفضل عائشة.. .

المفاضلة بين أكمل النساء

ففي فضل هؤلاء النسوة، لكن ربما أن مراد المصنف المفاضلة بين خديجة رضي الله عنها وبين هؤلاء النسوة، والمفاضلة بين خديجة وعائشة ومريم وآسية وفاطمة بنت محمد عليهم الصلاة والسلام، هؤلاء الخمس النسوة أيهم أفضل؟ هل أفضلهم خديجة، أم عائشة، أم آسية امرأة فرعون، أم مريم ابنة عمران، أم فاطمة بنت محمد عليه الصلاة والسلام؟

هذا فيه خلاف كثير بين أهل العلم، ولمَّا سئل ابن تيمية رحمه الله: أيهما أفضل، خديجة أم عائشة؟

قال: “جهات الفضل بينهما متقاربة”. كأنه توقف.

وقال ابن القيم: إن أريد بالتفضيل كثرة الثواب عند الله، فذاك أمر لا يطلع عليه؛ فإن عمل القلوب أفضل من عمل الجوارح، وإن أريد كثرة العلم فعائشة رضي الله عنها أفضل لا محالة، وإن أريد شرف الأصل ففاطمة رضي الله عنها لا محالة، وإن أريد شرف السيادة ففاطمة رضي الله عنها كما جاء به النص.

والذي يظهر -والله أعلم- أن لكل واحدة من هؤلاء النسوة مزيد فضل، وأنه لا يقال بتفضيل واحدة على أخرى؛ وإنما كل من هؤلاء النسوة له مزيد فضل، كما قال ابن تيمية رحمه الله، وأن جهات الفضل بينهن متقاربة.

فمريم بنت عمران صِدِّيقة، وهي أفضل نساء العالمين في زمنها.

كذلك آسية امرأة فرعون، أفضل نساء العالمين في زمانها.

كذلك خديجة بنت خويلد، أفضل نساء العالمين في زمانها.

كذلك عائشة أيضًا، أفضل نساء العالمين في زمانها.

كذلك فاطمة بنت محمد عليه الصلاة والسلام، جمعت بين شرف الأصل والفضل، فهي أيضًا أفضل نساء العالمين في زمانها.

فلكل واحدة من هؤلاء النسوة مزيد فضل وكمال.

وقوله: كَمَل من الرجال كثير. المراد بالكمال هنا: التناهي في جميع الفضائل وخصال البر والتقوى.

وكمل من النساء مريم وآسية. وهذا يدل على أن جنس الذكور أفضل من جنس الإناث في الجملة، حيث كمل من الذكور كثير، ولم يكمل من الإناث إلا قليل.

ولكن هذا من حيث الجنس، وإلا فقد تكون امرأة خيرًا من آلاف الرجال، فمثلًا: أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها خير من ملايين الرجال، فلا يمكن مقارنة امرأة صالحة فاضلة برجال فساق لأجل أن هذه امرأة وهذا رجل، ولكن الكلام من حيث الجنس، فالله تعالى جعل جنس الرجال أعلى درجة من الإناث؛ ولهذا قال: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ. درجة واحدة فقط، وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ، فجعل الله تعالى للرجال درجة على النساء، يعني تفضيلًا بهذه الدرجة على النساء.

ولعل الحكمة في ذلك -والله أعلم- حتى تكون القوامة للرجل؛ فإنه لو لم يكن كذلك فكيف تكون القوامة للرجل؟ ولكن هذا لا يقتضي ذم النساء أو ذم المرأة البتة، فقد تكون المرأة خيرًا من آلاف الرجال، قد تكون امرأةٌ صالحةٌ خيرًا من آلاف الرجال.

ولكن المقصود من حيث الجنس، ولله تعالى الحكمة البالغة في ذلك.

بشارة جبريل لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها

ثم ساق المصنف -رحمه الله- حديث أبي هريرة رضي الله عنه:

71 – (2432) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ  قَالَ: أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْكَ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ، فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا ​​​​​​​ وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ”.

هذا الحديث رواه أبو هريرة ، وأبو هريرة أسلم في السنة السابعة من الهجرة، ولم يدرك خديجة، ولهذا؛ عدَّ العلماء هذا الحديث من مراسيل الصحابة ، يعني: أن أبا هريرة رواه عن صحابي آخر، وهو حجة؛ لأن الصحابة  كلهم عدول.

في هذا الحديث: “أتى جبريل النبي فقال: يا رسول الله، هذه خديجة أتتك معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها”. وهذا أعظم ما يكون من الفضل ومن الشرف ومن المكانة ومن الرفعة ومن المنزلة، أن يقال لإنسان: إن الله ​​​​​​​ خالق كل شيء، يقرأ عليك السلام، أيُّ شرف أعظم من هذا؟

الإنسان: هذا المخلوق الصغير، وهو ذرة صغيرة في هذا الكون العظيم الفسيح، خالق هذا الكون العظيم عندما يقول لواحد من البشر: إن الله يقرأ عليك السلام، فأيُّ شرفٍ وأي عُلُوٍّ وأي مرتبة أعظم وأرفع من هذا؟! وهذا يدل على فضل أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وأن الله ​​​​​​​ أرسل جبريل وقال: إن الله يقرئك السلام. قال: فاقرأ عليها السلام من ربها ومني أيضًا، والسلام من جبريل، وهذا أيضًا فيه شرف؛ لأن جبريل هو الروح الأمين، وهو أعظم الملائكة، فالسلام عليها من ربها، والسلام عليها من أعظم الملائكة وهو جبريل .

ثم أيضًا بشرها بالبشارة العظيمة، بشرها بالجنة، وبشرها في الجنة، قال: “وبشرها ببيت في الجنة من قَصَبٍ”. والقصب: هو اللؤلؤ المجوف، ولم يقل: بشرها في الجنة ببيت من لؤلؤ، قالوا: لأن في لفظ “قصب” مناسبة لكونها أحرزت قصب السبق بمبادرتها بالإيمان بالنبي دون غيرها، فبشرت في الجنة ببيت من قصب يعني من لؤلؤ مجوف، لا صخب فيه ولا نصب، والصخب: هو الصوت المختلط المرتفع، وهو مؤذٍ للسمع، عندما يكون الإنسان في مكان فيه أصوات مرتفعة فإنه يتأذى بهذه الأصوات، والنصب: هو المشقة والتعب، وهذا من نعيم الجنة، من نعيم الجنة أن الجنة ليس فيها صَخَبٌ ولا نَصَبٌ، ولا تعبٌ ولا مرضٌ، ولا همٌّ ولا غمٌّ، ولا موتٌ ولا هَرَمٌ، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وأنتم فيها خالدون، لا نصب فيها ولا لُغُوب، هي دار النعيم، فجبريل طلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن يبشر خديجة رضي الله عنها بهذا البيت من اللؤلؤ في الجنة، والذي لا صخب فيه ولا نصب.

وكأن خديجة رضي الله عنها عانت مع النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنها كانت في أول البعثة، وحصل ما حصل من أذِيَّة قريش للنبي عليه الصلاة والسلام، أذية شديدة، حتى ألقوا سَلَى الجَزُور [1] على ظهره وهو ساجد، فبشرت خديجة رضي الله عنها بأن الله سيعوضها في الجنة ببيت ليس فيه هذا الصخب ولا النصب والتعب ولا المشقة.

ثم ساق المصنف -رحمه الله- هذا الحديث عن عبدالله بن أبي أوفى ، أن إسماعيل قال له:

أَكَانَ رَسُولُ اللهِ بَشَّرَ خَدِيجَةَ بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، بَشَّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ، فِيهِ وَلَا نَصَبَ.

وهذا يدل على فضل خديجة رضي الله عنها، وقلنا: إنها أفضل نساء العالمين في زمانها، ولذلك؛ قال عليه الصلاة والسلام: خير نسائها خديجة بنت خويلد [2].

ثم ساق المصنف -رحمه الله- هذا الحديث من طريقٍ أخرى، ثم قال:

73 – (2434) حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: “بَشَّرَ رَسُولُ اللهِ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ”.

محبة النبي لخديجة رضي الله عنها

ثم ساق المصنف -رحمه الله- هذا الحديث، قال:

74 – (2435) حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: “مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ وَلَقَدْ هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي بِثَلَاثِ سِنِينَ، لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَبُّهُ ​​​​​​​ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ، ثُمَّ يُهْدِيهَا إِلَى خَلَائِلِهَا”.

كان عليه الصلاة والسلام يحب خديجة رضي الله عنها ويعظمها، حتى إنه من شدة محبته لها كانت عائشة رضي الله عنها تغار منها، وهي لم ترها، قد ماتت قبلها ولم ترها.

قالت: “ولقد هلَكَت قبل أن يتزوجني بثلاث سنين”. يعني ماتت قبل أن يتزوج عائشة بثلاث سنين.

وأمره ربه ​​​​​​​ أن يبشرها ببيت من قصب كما سبق في الرواية السابقة.

وإن كان ليذبح الشاة ثم يهديها إلى خَلَائلها، يعني: إلى صديقات خديجة رضي الله عنها.

ثم ساق المصنف -رحمه الله- هذا الحديث:

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ ، إِلَّا عَلَى خَدِيجَةَ، وَإِنِّي لَمْ أُدْرِكْهَا. قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ إِذَا ذَبَحَ الشَّاةَ، فَيَقُولُ: أَرْسِلُوا بِهَا إِلَى أَصْدِقَاءِ خَدِيجَةَ. قَالَتْ: فَأَغْضَبْتُهُ يَوْمًا، فَقُلْتُ: خَدِيجَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا.

وحفظ النبي لها هذا الود وهذا الحب بعد وفاتها.

ثم ساق المصنف -رحمه الله- هذا الحديث:

عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: “مَا غِرْتُ لِلنَّبِيِّ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ، مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ؛ لِكَثْرَةِ ذِكْرِهِ إِيَّاهَا، وَمَا رَأَيْتُهَا قَطُّ”.

ثم ساق أيضًا المصنف رحمه الله:

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: “لَمْ يَتَزَوَّجِ النَّبِيُّ عَلَى خَدِيجَةَ حَتَّى مَاتَتْ”.

فكان عليه الصلاة والسلام يحب خديجة رضي الله عنها، وقال: إني رُزقت حبها.

أول من آمن بالنبي  

ولم يُعَدِّد عليها؛ لأنها رضي الله عنها ضحت تضحية عظيمة مع النبي عليه الصلاة والسلام؛ فهي أول إنسان آمن به، وصدَّق به، ولما أتاه الوحي وقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ. فضمه، وقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق[العلق: 1]. القصة المعروفة، أتى عليه الصلاة والسلام خائفًا وجلًا يرتجف، وقال لخديجة رضي الله عنها: زمِّلوني زمِّلوني، دثِّروني دثِّروني، فقالت خديجة رضي الله عنها كلمتها المشهورة: كلا والله، لا يخزيك الله أبدًا، ثم ذكرت في هذا المقام بعض مناقب النبي عليه الصلاة والسلام؛ لتشجعه وتقوي قلبه، قالت: كلا والله، لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتَحمِل الكَّلَّ، وتكرم الضيف، وتعين على نوائب الدهر، والله لا يخزيك الله أبدًا، وذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وذكر له ما جرى معه، فقال ورقة: هذا هو الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى -يريد جبريل- يا ليتني أكون جَذَعًا إذ يخرجك قومك، وبقيت مع النبي عليه الصلاة والسلام، وصبرت على ما كان من أذًى من قريش، ودخلت مع النبي في شعب أبي طالب الذي ضُيِّق فيه على النبي عليه الصلاة والسلام وعلى الصحابة المؤمنين معه  حتى أكلوا من ورق الشجر، فأكرمها النبي بأنه لم يتزوج عليها في تلك الفترة، ثم لما هاجر تزوج النبي عليه الصلاة والسلام عددًا من النساء، ولذلك؛ قالت عائشة رضي الله عنها: لم يتزوج النبي على خديجة رضي الله عنها حتى ماتت، وكان عليه الصلاة والسلام إذا ذُبحَت الشاة يقول: أرسلوا بها إلى صديقات خديجة. وذلك من حبه لها، ومن باب الوفاء لها، مع أنها قد ماتت، فعائشة رضي الله عنها لمَّا رأت هذه المحبة العظيمة، وهذه المنزلة الرفيعة لخديجة رضي الله عنها في قلب النبي غارت منها، وهي لم تَرَها قط، ولذلك؛ قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة رضي الله عنها.

ثم ساق المصنف رحه الله هذا الحديث:

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، أُخْتُ خَدِيجَةَ، عَلَى رَسُولِ اللهِ ، فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ فَارْتَاحَ لِذَلِكَ؛ فَقَالَ: اللهُمَّ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ.

يعني: أن أخت خديجة هالة رضي الله عنها، لما استأذنت على النبي عليه الصلاة والسلام، كانت تشبه أختها خديجة رضي الله عنها في الاستئذان، فالنبي عليه الصلاة والسلام هَشَّ وبَشَّ وارتاح، وقال: اللهم هالة بنت خويلد.

قالت عائشة رضي الله عنها:

فَغِرْتُ فَقُلْتُ: وَمَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ، حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ، هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ فَأَبْدَلَكَ اللهُ خَيْرًا مِنْهَا؟

لأنها غارت منها غَيرة شديدة فقالت هذه الكلمة.

وهذه الكلمة يعني: “ما تذكر من عجوز من عجائز قريش، حمراء الشدقين، هلَكَت في الدهر”. هذا فيه نيل من خديجة رضي الله عنها، ولكن نقل النووي رحمه الله: أن العلماء قالوا: إن الغَيرة مسامَح للنساء فيها، ولا عقوبة عليهن فيها؛ لما جبلن عليه من ذلك، ولذلك؛ لم يزجر عائشة رضي الله عنها عن هذا الكلام، فقالوا: إن الغيرة تجعل الإنسان يتكلم بكلام لا يزنه ولا يضبطه، فهو أشبه بالمُكرَه عليه، فلذلك لم يؤاخذ النبي عليه الصلاة والسلام عائشة على هذا الكلام.

ولهذا الإمام مالك -رحمه الله- قال: إن القذف الذي يكون بسبب الغيرة لا يحد عليه القاذف؛ لأن الغيرة تجعل هذا الذي يغار غيرة شديدة كالمكره على التلفظ بهذا الكلام.

فضائل عائشة رضي الله عنها

ننتقل بعد ذلك إلى الباب الذي بعده:

13 – بَابٌ فِي فَضْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا

79 – (2438) حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، وَأَبُو الرَّبِيعِ، جَمِيعًا عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ -وَاللَّفْظُ لِأَبِي الرَّبِيعِ- حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ :أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، جَاءَنِي بِكِ الْمَلَكُ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ، فَيَقُولُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَأَكْشِفُ عَنْ وَجْهِكِ فَإِذَا أَنْتِ هِيَ، فَأَقُولُ: إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ يُمْضِهِ.

هذه الرؤيا كانت قبل النبوة، فأُرِيَ النبي عائشة رضي الله عنها في سَرَقَة من حرير، والسرقة: هي الخرقة البيضاء من الحرير، فلما رأى النبي عليه الصلاة والسلام هذه الرؤيا ثلاث مرات، يعني في ثلاث ليال، ويؤتَى له بعائشة رضي الله عنها في هذه السرقة من الحرير، ويقال: هذه امرأتك، وهذه زوجتك.

ثم ساق المصنف -رحمه الله- هذا الحديث من طرقٍ أخرى، ثم قال:

وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ : إِنِّي لَأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى. قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَمِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لَا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ. وَإِذَا كُنْتِ غَضْبَى قُلْتِ: لَا وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ. قَالَتْ: قُلْتُ: أَجَلْ، وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ.

هذا يحصل بين النبي عليه الصلاة والسلام وعائشة رضي الله عنها، من المغاضبة ومن الهجر، وهذا يحصل بين الزوجين، فمثل هذه الأمور تحصل بين الزوجين عادة؛ لأن الزوجين يحصل بينهما احتكاك وقرب شديد، وطبيعة الرجل تختلف عن المرأة، فيحصل بينهما ما يحصل من المغاضبة ومن الهجر.

فكان أحيانًا يحصل من عائشة رضي الله عنها مغاضبة النبي عليه الصلاة والسلام، خاصةً أن لها ضرائر، فكانت تهجر النبي عليه الصلاة والسلام أحيانًا، فيعرف النبي عليه الصلاة والسلام إذا كانت غاضبة أو إذا كانت راضية؛ إذا كانت راضية قالت: لا وربِّ محمد، وإذا كانت غاضبة قالت: لا وربِّ إبراهيم. وتقول: ما أهجر إلا اسمك.

وقال القاض عياض رحمه الله: مغاضبة عائشة رضي الله عنها للنبي عليه الصلاة والسلام، هي مما سبق من الغيرة التي عُفي عنها للنساء في كثير من الأحكام؛ لعدم انفكاكهن عنها، حتى قال مالك وغيره من علماء المدينة: يسقط عنها الحد إذا قذفت زوجها بالفاحشة على جهة الغيرة. قال: ولولا ذلك؛ لكان على عائشة رضي الله عنها في ذلك من الحرج ما فيه؛ لأن الغضب على النبي وهجرَه كبيرةٌ، ولهذا؛ قالت: لا أهجر إلا اسمك. فدل ذلك على أن قلبها وحبها كما كان، وإنما الغيرة في النساء لفَرْط المحبة.

ثم ساق المصنف -رحمه الله- حديثًا عن عائشة رضي الله عنها، قال:

81 – (2440) حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُالْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا كَانَتْ تَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ، قَالَتْ: وَكَانَتْ تَأْتِينِي صَوَاحِبِي فَكُنَّ يَنْقَمِعْنَ مِنْ رَسُولِ اللهِ ، قَالَتْ: “فَكَانَ رَسُولُ اللهِ يُسَرِّبُهُنَّ إِلَيَّ”.

كانت عائشة رضي الله عنها صغيرة حين تزوجها النبي عليه الصلاة والسلام، ودخل بها وعمرها تسع سنين، وكان لها صُوَيْحِبَات يَلعبن معها، فكان إذا دخل النبي عليه الصلاة والسلام يَنْقَمِعْنَ، يعني: يتغَيَّبْنَ حياء منه وهيبة، فكان عليه الصلاة والسلام يُسرِّبهن، يعني: يرسلهن إلى عائشة رضي الله عنها، ويقول: الْعَبْنَ معها، وهذا من لطفه ، وحسن معاشرته.

حكم اللُّعب التي على شكل ذوات الأرواح

وفي هذه القصة من الفوائد: جواز اللعب من الصغار، حتى وإن كانت هذه اللعب فيها صورٌ لذوات أراوح؛ لأن عائشة رضي الله عنها كانت تلعب بهذه البنات، وكانت مصنوعة من صور فيها ذوات أرواح، وجاء في بعض الروايات: أن بعضها على شكل خيل، والخيل من ذوات الأرواح، فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: ما هذه؟ خيل؟. قالت: نعم. قال: لها أجنحة؟!. هل الخيل لها أجنحة؟! قالت: أما سمعت أن خيل سليمان لها أجنحة؟ فضحك النبي ، فأخذ العلماء من هذا: أن الصور التي تكون في ألعاب الأطفال يتسامح فيها، ولا يشدد على الصغار فيها، ومن جهة النظر: أن الصورة في يد الطفل هي كالمُمْتَهَنَة، والصورة إذا امتُهِنَت زال المحظور الشرعي فيها.

فإذَنْ: ألعاب الأطفال التي تكون على شكل ذوات أراوح: لا حرج فيها إذا كانت للأطفال، على القول الراجح، والأصل في ذلك: هو هذا الحديث، أن عائشة رضي الله عنها كانت تلعب بمثل هذه اللُّعَب، وكان فيها صور لذوات أرواح؛ لأن هذه اللعبة في يد هذا الصبي كالممتهنة؛ لأن اللعبة التي فيها صورة: الصورة فيها كالممتهنة.

حب النبي لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها

ثم ساق المصنف -رحمه الله- حديثًا آخر:

82 – (2441) حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: “أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ؛ يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ مَرْضَاةَ رَسُولِ اللهِ “.

كان عليه الصلاة والسلام يحب عائشة أكثر نسائه، واشتهر ذلك واستفاض حتى عرف الصحابة ذلك، فكان الصحابة إذا أرادوا أن يهدوا للنبي اختاروا اليوم الذي يكون فيه عند عائشة رضي الله عنها؛ طلبًا لمرضاة النبي .

ثم ساق المصنف -رحمه الله- قصة، قال:

83 – (2442) حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ النَّضْرِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ -قَالَ عَبْدٌ: حَدَّثَنِي. وقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا- يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها، زَوْجَ النَّبِيِّ  قَالَتْ: أَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ، فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ مَعِي فِي مِرْطِي فَأَذِنَ لَهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَزْوَاجَكَ أَرْسَلْنَنِي إِلَيْكَ يَسْأَلْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ.

يقصدن عائشة رضي الله عنها، يعني: اعدِل بيننا وبينها في المحبة، هذا هو المقصود، وإلا فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يعدل بين زوجاته في النفقة والكسوة والمبيت، ولكن مقصودهن: اعدل بيننا وبين عائشة رضي الله عنها  في المحبة، والمحبة لا يجب فيها العدل، ولا تجب فيها التسوية بين الزوجات؛ كما قال الله تعالى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ[النساء: 129].

فأزواج النبي عليه الصلاة والسلام أرسلن فاطمة رضي الله عنها للنبي عليه الصلاة والسلام، يسألنه العدل في عائشة، في ابنة أبي قحافة رضي الله عنها.

قالت عائشة رضي الله عنها:

وَأَنَا سَاكِتَةٌ، قَالَتْ: فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ -لفاطمة-: أَيْ بُنَيَّةُ، أَلَسْتِ تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ؟. فَقَالَتْ: بَلَى. قَالَ: فَأَحِبِّي هَذِهِ -وأشار إلى عائشة رضي الله عنها- قَالَتْ: فَقَامَتْ فَاطِمَةُ حِينَ سَمِعَتْ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللهِ ، فَرَجَعَتْ إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -وهن ينتظرنها- فَأَخْبَرَتْهُنَّ بِالَّذِي قَالَتْ، وَبِالَّذِي قَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ ، فَقُلْنَ لَهَا: مَا نُرَاكِ أَغْنَيْتِ عَنَّا مِنْ شَيْءٍ، -يعني ما أتيتِ بشيء جديد- فَارْجِعِي إِلَى رَسُولِ اللهِ -ارجعي له مرة ثانية- فَقُولِي لَهُ: إِنَّ أَزْوَاجَكَ يَنْشُدْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ -يعني في عائشة رضي الله عنها- فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: وَاللهِ لَا أُكَلِّمُهُ فِيهَا أَبَدًا.

لأن النبي ردَّ عليها بهذا الجواب، قال: أما تحبين من أحب؟ قالت: بلى. قال: فأحبي هذه. قالت فاطمة رضي الله عنها: إذَنْ لا أكلمه.

فماذا فعل أزواج النبي عليه الصلاة والسلام؟

قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، زَوْجَ النَّبِيِّ ، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْهُنَّ…

“تساميني” يعني: هي التي تنافسني وتضاهيني في الحُظْوَة، والمنزلة الرفيعة، ثم انظروا إلى أوصاف عائشة رضي الله عنها، مع أنها هي أكثر أزواج النبي عليه الصلاة والسلام منافسة لها، ومع ذلك؛ انظر إلى ثناء عائشة على زينب رضي الله عن الجميع.

قالت: وَلَمْ أَرَ امْرَأَةً قَطُّ خَيْرًا فِي الدِّينِ مِنْ زَيْنَبَ، وَأَتْقَى لِلَّهِ، وَأَصْدَقَ حَدِيثًا، وَأَوْصَلَ لِلرَّحِمِ، وَأَعْظَمَ صَدَقَةً، وَأَشَدَّ ابْتِذَالًا لِنَفْسِهَا فِي الْعَمَلِ الَّذِي تَصَدَّقُ بِهِ، وَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى،

كله ثناء من عائشة رضي الله عنها على أشدِّ أزواج النبي منافسة لها، وهي زينب، وهذا يدل على عظيم الورع والتقوى عند عائشة رضي الله عنها.

قالت:

مَا عَدَا سَوْرَةً مِنْ حِدَّةٍ

“سَوْرَة” يعني: ثوران وعجلة.

من حِدَّةٍ كَانَتْ فِيهَا

يعني: عندها حدة وهي شدة الخُلُق.

تُسْرِعُ مِنْهَا الْفَيْئَةَ.

يعني: كان عندها سرعة غضب وحدة، وكانت مع ذلك إذا غضبت واحتدت سرعان ما تندم وتتراجع.

قَالَتْ: فَاسْتَأْذَنَتْ -يعني زينب- عَلَى رَسُولِ اللهِ ، وَرَسُولُ اللهِ مَعَ عَائِشَةَ فِي مِرْطِهَا، عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي دَخَلَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا وَهُوَ بِهَا، فَأَذِنَ لَهَا رَسُولُ اللهِ ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَزْوَاجَكَ أَرْسَلْنَنِي إِلَيْكَ يَسْأَلْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ.

يعني: في عائشة رضي الله عنها.

 قَالَتْ: ثُمَّ وَقَعَتْ بِي،

يعني: زينب وقعت بي.

فَاسْتَطَالَتْ عَلَيَّ، وَأَنَا أَرْقُبُ رَسُولَ اللهِ ، وَأَرْقُبُ طَرْفَهُ، هَلْ يَأْذَنُ لِي فِيهَا؟ قَالَتْ: فَلَمْ تَبْرَحْ زَيْنَبُ حَتَّى عَرَفْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ لَا يَكْرَهُ أَنْ أَنْتَصِرَ.

ولكن هنا قال النووي رحمه الله: لا يحل اعتقاد أن النبي أذن لعائشة رضي الله عنها أن تتكلم على زينب أبدًا؛ فإنه عليه الصلاة والسلام تحرم عليه خائنة الأعين، لكن هي انتصرت بنفسها، والنبي عليه الصلاة والسلام ساكت لم يتكلم.

قَالَتْ: فَلَمَّا وَقَعْتُ بِهَا، لَمْ أَنْشَبْهَا حَتَّى أَنْحَيْتُ عَلَيْهَا.

يعني: أثخنتُها، و”أنحيتُ عليها” يعني: قصدتها بالكلام وباللَّوم، فحصل مخاصمة بين زينب وعائشة في بيت عائشة رضي الله عن الجميع.

قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ وَتَبَسَّمَ:

ضحك النبي عليه الصلاة والسلام، وهو يرى زوجتيه تتخاصمان بالكلام، فقال:

إِنَّهَا ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ.

وهذا جواب مختصر، وفيه رد بليغ على أزواج النبي عليه الصلاة والسلام عمومًا، يعني: أنا أحبها؛ لأنها ابنة صَدِيقي أبي بكر الصدِّيق ، أعظم أصحابي وأصدقائي.

ثم ساق المصنف -رحمه الله- هذا الحديث عن عائشة رضي الله عنها من طريقٍ أخرى.

من فضائل عائشة أن النبي قبض في حجرها

84 – (2443) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ: وَجَدْتُ فِي كِتَابِي: عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ  لَيَتَفَقَّدُ يَقُولُ: أَيْنَ أَنَا الْيَوْمَ؟ أَيْنَ أَنَا غَدًا؟. اسْتِبْطَاءً لِيَوْمِ عَائِشَةَ،

هذا كان في مرض النبي عليه الصلاة والسلام حين وفاته في مرض موته.

قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمِي قَبَضَهُ اللهُ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي.

في مرض النبي عليه الصلاة والسلام، كان النبي يحب أن يقبض في بيت عائشة رضي الله عنها، فكان يقول: أين أنا اليوم؟ أين أنا غدا؟. فعرف أزواج النبي عليه الصلاة والسلام أنه يحب أن يكون في بيت عائشة رضي الله عنها، فاجتمع أزواج النبي عليه الصلاة والسلام، وتنازلن كلهن، كل واحدة عن ليلتها، وقلن: إذَنْ يا رسول الله تكون في بيت عائشة رضي الله عنها، فقُبض النبي في بيت عائشة رضي الله عنها وهو ما بين سَحْرِها ونَحْرِها، يعني: مستند إليها، والسَّحْر بفتح السين وضمها وإسكان الحاء: الرِّئَة، فكان مستندًا إلى عائشة رضي الله عنها، وقبضه الله ​​​​​​​ وهو ما بين سحر عائشة رضي الله عنها ونحرها.

وقصة وفاة النبي عليه الصلاة والسلام طويلة، لعلنا نُرجِئها للدرس القادم إن شاء الله.

لعلنا نبدأ بهذا الحديث: “إن كان رسول الله يتفقد يقول: أين أنا اليوم؟. نجعله بداية درسنا القادم بإذن الله ​​​​​​​، يعني: وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، وكيف توفي، نفتتح به الدرس القادم إن شاء الله تعالى، فنكتفي بهذا القدر، ونجيب عما تيسر من الأسئلة.

الأسئلة والأجوبة

حكم الزكاة في صناديق الريت العقارية

السؤال: ما طريقة الزكاة للمستثمر في صناديق الرِّيت العقارية؟

الجواب: الصناديق لا تُخرج الزكاة، يعني الشركات المساهمة تخرج منها الزكاة لمصلحة الزكاة والدخل، هذا عندنا في المملكة العربية السعودية، لكن بالنسبة للصناديق هذه: المسؤولية على المشترك في هذا الصندوق، ولذلك؛ من اشترك في أي صندوق من الصناديق التي في البنوك، فلا بد أن يزكِّي.

صناديق الريت العقارية بعضها تخرج الزكاة عن المساهمين وبعضها لا تخرج، والزكاة في الصناديق العقارية قليلة؛ لأنها -في الغالب- أصول عقارية ولها رِيع، فالزكاة تكون في هذا الريع فهي ليست زكاة كثيرة، هي قليلة، ويفترض أن القائمين على الصندوق -صندوق الريت- يفصحون للعملاء عن مقدار الزكاة، فبعض الصناديق تفصح وتخبر بأن الزكاة على المستثمر مقدارها كذا، لكن هناك صناديق ريت عقارية أخرى تخرج الزكاة على المشتركين في هذه الصناديق، فلذلك؛ من اشترك في صندوق من صناديق الريت، فعليه أن يتأكد؛ فمعظم الصناديق لا تخرج الزكاة، فعلى المشترك فيها أن يخرج الزكاة.

فضل الجلوس والذكر بعد صلاة الفجر إلى الشروق

السؤال: ما فضل الجلوس وذكر الله تعالى بعد صلاة الفجر إلى شروق الشمس؟

الجواب: الجلوس في المسجد بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس سُنة، وقد كان النبي إذا صلى صلاة الفجر بقي في مصلاه حتى تطلع الشمس فهو سُنة عن النبي ؛ كما جاء ذلك في “صحيح مسلم” من حديث سمرة رضي الله عنه، وأما الحديث: من جلس في مصلاه يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كان له أجر حجة وعمرة تامَّة تامَّة تامَّة [3]، فهذا رواه الترمذي، ولكنه حديث ضعيف، ولكن يغني عنه ما جاء في “صحيح مسلم” من أن النبي كان يجلس في مصلاه بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، وكان بعض الصحابة يتحدثون في أمور الجاهلية وما منَّ الله عليهم به من الإسلام، فكان عليه الصلاة والسلام أحيانًا يستمع إلى حديثهم ويتبسم.

فالسُّنة إذَنْ: الجلوس في المسجد بعد صلاة الفجر، يذكر اللهَ ​​​​​​​ المسلمُ حتى تطلع الشمس، والمرأة كذلك، هي كالرجل تبقى في مصلاها إذا صلت الفجر تذكر الله ​​​​​​​ حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس وارتفعت قِيدَ رُمْحٍ، يعني: بعد طلوع الشمس بنحو عشر دقائق إلى ربع ساعة، فإن أراد أن يصلي صلاة الضحى في أول وقتها صلى ركعتين، وإن أراد تأخير صلاة الضحى إلى آخر وقتها فهذا هو الأكمل والأفضل؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: صلاة الأوابين حين تَرْمَضُ الفِصَال [4]. يعني: حين تشتد الرَّمْضاء قبل أذان الظهر بنحو نصف ساعة، هذا هو أفضل وقت تصلى فيه صلاة الضحى.

طالب العلم المبتدئ هل يبدأ بالسلسبيل أم تسهيل الفقه؟

السؤال: هذا الأخ الكريم يقول: قمت بالتقديم لكتاب “تسهيل الفقه” للشيخ عبدالله بن جبرين -رحمه الله- أيهما يبدأ طالب العلم المبتدئ بـ”السلسبيل”، أم بـ”تسهيل الفقه”؟

الجواب: في كلٍّ منهما خيرٌ إن شاء الله، “السلسبيل” هو شرح “لدليل الطالب”، فهو شرح لمتن فقهي عند الحنابلة، وفيه أيضًا ذكرٌ للخلاف والترجيح، وذكر لبعض المسائل المعاصرة، وأما “تسهيل الفقه” للشيخ عبدالله بن جبرين -رحمه الله- فهو كتاب متين لم يتقيد فيه بمتن معين؛ وإنما يذكر أبرز المسائل التي يحتاج إليها طالب العلم، ويحرِص فيها على تحقيق القول الراجح مقرونًا بالدليل، ويذكر الآثار، ويذكر أيضًا مسائل معاصرةً ونوازل، فكل منهما فيه خير إن شاء الله تعالى، لكن إن أردت أن تنطلق من مدرسة فقهية، فـ”السلسبيل” مرتبط بالدليل، الذي هو “دليل الطالب”، أما بالنسبة لـ”التسهيل” فهو غير مرتبط بمتن، وإنما من باب تقريب الفقه للناس، ولذلك وضعه الشيخ بلغة سهلة مبسطة.

حكم الحركة اليسيرة في الصلاة

السؤال: هل الحركة اليسيرة في الصلاة تبطلها؟

الجواب: الحركة اليسيرة في الصلاة لا تبطلها؛ إنما الحركة التي تبطل الصلاة هي الحركة الكثيرة المتوالية عرفًا لغير ضرورة، بهذا الضابط، فلا بد أن تكون حركة كثيرة، فإن كانت يسيرة لم تضر، ولا بد أن تكون متوالية، فإن لم تكن متوالية أيضًا لا تؤثر على صحة الصلاة، وأيضًا: أن تكون لغير ضرورة، فإن كانت لضرورة أيضًا لم تؤثر، فالحركة اليسيرة لا تضر، النبي عليه الصلاة والسلام كان يحمل بنت بنته أمامة بنت أبي العاص في صلاة العصر، ثم إذا أراد أن يسجدها وضعها، وإذا قام حملها [5]، هذه حركة، وكان يفتح الباب لعائشة رضي الله عنها [6]، وفي صلاة الكسوف تقدم فتقدمت الصفوف وتأخر فتأخرت الصفوف [7]، فالحركة اليسيرة لا تضر، ومع ذلك ينبغي أن لا يتحرك الإنسان ولا يعبث، لكن لو قُدِّر أن هذا حصل منه، فهذا لا يؤثر على صحة الصلاة، وما هو شائع عند بعض العامة: أن ثلاث حركات تبطل الصلاة، فهذا لا أصل له؛ إنما الحركة التي تبطل الصلاة هي الحركة الكثيرة المتوالية عرفًا لغير ضرورة.

من فاتته صلاة الجماعة هل يصلي في بيته؟

السؤال: من نام ولم يستيقظ إلا مع انقضاء صلاة الجماعة في المسجد، فهل الأفضل أن يصلي في بيته أم يذهب للصلاة في المسجد؟

الجواب: إذا كانت قد انقضت صلاة الجماعة في المسجد فلا فائدة من ذهابه إلى المسجد، إنما يصلي في بيته، وأما الحديث المروي أنه يكون له أجر الجماعة فحديث ضعيف لا يصح، فإذا كان سيدرك شيئًا من صلاة الجماعة، ولو أن يدرك التشهد الأخير، فيذهب ويصلي مع الجماعة في المسجد، أو أنه يرجو وجود جماعة أخرى في المسجد، فيذهب ويصلي في المسجد، لكن إذا كان لا يرجو وجود جماعة في المسجد؛ باعتبار أنه مضى وقت كثير، فيصلي في البيت، لا فائدة من ذهابه إلى المسجد في هذه الحال.

وهذا هو الدرس الأخير في هذا الفصل الدراسي، وسنتوقف -إن شاء الله تعالى- فترة الاختبارات والإجازة، إجازة منتصف الفصل، ونستأنف الدرس -بإذن الله- في يوم الثلاثاء، السادس من شهر جمادى الآخرة، من عام 1442 للهجرة، يعني: أول ثلاثاء من الفصل الدراسي الثاني إن شاء الله تعالى.

فنستودعكم الله، ونسأل الله ​​​​​​​ للجميع الفقه في الدين، والعلم النافع، والتوفيق لما يحب ويرضى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 السَّلَى: ما يخرج من بطن الماشية من الأمعاء عند الولادة، والجزور: البعير. ينظر: “النهاية” لابن الأثير: (س ل ا)، (ج ز ر).
^2 رواه البخاري: 3432، ومسلم: 2430.
^3 رواه الترمذي: 586.
^4 رواه مسلم: 748.
^5 رواه البخاري: 516، ومسلم: 543.
^6 رواه أبو داود: 922، والنسائي: 1205.
^7 رواه مسلم: 904.
zh