logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح أبواب من صحيح مسلم/(19) فضائل طلحة والزبير- من حديث:”لَم يبق مع رسول الله..”

(19) فضائل طلحة والزبير- من حديث:”لَم يبق مع رسول الله..”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

أيها الإخوة، سيكون التعليق على كتاب “الفضائل” من “صحيح مسلم” في هذا اليوم الثلاثاء 9 ربيع الآخر 1442هـ.

فضائل طلحة والزبير رضي الله عنهما

ما زلنا في الكلام عن فضائل الصحابة ، وكنا قد وصلنا إلى باب: فضائل طلحة والزبير رضي الله عنهما.

طبعًا الإمام مسلم لا يُبوِّب، وإنَّما الذي يُبوِّب هو الشارح النووي.

قال: بابٌ من فضائل طلحة والزبير رضي الله عنهما.

طلحة هو: طلحة بن عبيدالله ، أحد العشرة المُبشَّرين بالجنة، قُتِلَ يوم الجمل سنة ستٍّ وثلاثين، رُمِيَ بسهمٍ.

والزبير بن العوام أيضًا أحد العشرة المُبشَّرين بالجنة، وأمه صفية بنت عبدالمطلب عمة النبي ، فيكون الزبير ابن عمة النبي .

هاجر للحبشة، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله ، وكان من أصحاب عليٍّ  في حروبه، وقُتِلَ ، ولَمَّا أُخبر عليٌّ  بذلك قال: “بشِّر قاتل ابن صفية بالنار”.

قال الإمام مسلمٌ رحمه الله:

حدثنا محمد بن أبي بكرٍ المقدمي، وحامد بن عمر البكراوي، ومحمد بن عبدالأعلى، قالوا: حدثنا المُعتمر -وهو ابن سليمان- قال: سمعتُ أبي، عن أبي عثمان قال: لم يبقَ مع رسول الله  في بعض تلك الأيام التي قاتل فيهنَّ رسول الله غير طلحة وسعد [1].

المراد بقول الراوي: “لم يبقَ .. في بعض تلك الأيام ..”

قوله: “لم يبقَ .. في بعض تلك الأيام” المراد بذلك يوم أُحدٍ، وقد حصل ما حصل مما ذكره الله ​​​​​​​ في سورة آل عمران، وكان النصر في البداية للمسلمين، ثم إنَّ الرُّماة خالفوا توجيه النبي عليه الصلاة والسلام، ونزلوا لأخذ الغنائم، وكان قائد قُريشٍ خالد بن الوليد، فالتفَّ من وراء الجبل، وأعاد الكرَّة، فحصلت في المسلمين جراحاتٌ وقتلى، وفرَّ مَن فرَّ.

هنا في هذه الرواية يقول: إنه لم يبقَ غير طلحة وسعد، وجاء في روايةٍ أخرى عند مسلمٍ: “أُفْرِدَ رسول الله في سبعةٍ من الأنصار، ورجلين من قريشٍ” [2]، والمراد بالرجلين: طلحة وسعد رضي الله عنهما.

وعلى هذا يكون المراد في هذا الحديث بقوله: “لم يبقَ .. غير طلحة وسعد”، أي: من المُهاجرين، وإلا فالأنصار بقي منهم سبعةٌ.

معنى قوله: فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ

لمَّا وقعت الهزيمة فيمن انهزم صاح الشيطان في الناس: قُتِلَ محمدٌ! قُتِلَ محمدٌ!

فاشتغل كلُّ واحدٍ منهم بنفسه، ثم بعد ذلك عرفوا أنه لم يُقتل؛ فتراجعوا أولًا فأول، وهذا معنى قوله تعالى: فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ [آل عمران:153]، فإن مصيبة قتل النبي بالنسبة لهم مصيبةٌ شديدةٌ، أشدّ من الهزيمة في المعركة، فأصابهم غمٌّ شديدٌ لمَّا سمعوا ذلك؛ سمعوا أن النبي قد قُتل في غزوة أُحدٍ، ثم لمَّا تبيَّن لهم أنه لم يُقتل فرحوا بهذا، وزال عنهم غَمُّ الهزيمة، وهذا معنى قوله تعالى: فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ.

كأن يُصاب الإنسان بمصيبةٍ، ثم يُخْبَر بخبرٍ أشدَّ من المصيبة التي وقع فيها، ثم يأتيه أن هذا الخبر غير صحيحٍ؛ تجد أن مُصيبته الأولى تَخِفُّ عليه، فكانت المصيبة الأشد عند الصحابة هي ما أُشيع من أن النبي قد قُتِل، ثم لمَّا تبيَّن لهم أنه لم يُقتل فرحوا بذلك فرحًا عظيمًا أنساهم مرارة الهزيمة، وهذا معنى قوله: فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ، وهذا من حكمة الله ​​​​​​​، ومن رحمته بهم.

وصف النبي  للزبير

قال: حدثنا عمرو الناقد: حدثنا سفيان بن عيينة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبدالله قال: سمعتُه يقول: نَدَبَ رسول الله الناس يوم الخندق، فانتَدَب الزبير، ثم نَدَبَهم، فانتَدَب الزبير، ثم نَدَبَهم، فانتَدَب الزبير، فقال النبي : لكل نبيٍّ حواري، وحواريّ الزبير [3].

“انتَدَب” يعني: دعاهم للجهاد، وحرَّضهم عليه.

ولكن جاءت هذه الرواية مُفسَّرةً عند البخاري بعبارةٍ أوضح من حديث جابرٍ  قال: قال النبي : مَن يأتيني بخبر القوم؟ يوم الأحزاب، قال الزبير: أنا. ثم قال: مَن يأتيني بخبر القوم؟ قال الزبير: أنا. فقال النبي : إن لكل نبيٍّ حواريَّ، وحواريِّ الزبير [4].

فرواية البخاري مُفسِّرةٌ لهذه الرواية المذكورة هنا، يعني: أراد النبي عليه الصلاة والسلام أحد أصحابه في مهمةٍ استطلاعيةٍ؛ يأتي بخبر القوم، يذهب معهم، وبطريقته الخاصة يأتي بخبر ذلك الجيش وخبر القوم، وهي مهمةٌ صعبةٌ جدًّا؛ كونه يدخل فيهم، ويأخذ أخبارهم، ثم يأتي بها النبيَّ عليه الصلاة والسلام، هذه مهمةٌ صعبةٌ؛ ولذلك لمَّا قال النبي عليه الصلاة والسلام: مَن يأتيني بخبر القوم؟ سكت الصحابة، ما تكلم أحدٌ إلا الزبير ، ثم المرة الثانية، ثم المرة الثالثة، وهذا يدل على شجاعته، ويدل على فضله؛ ولذلك أثنى عليه النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: إن لكل نبيٍّ حواريَّ، وحواريِّ الزبير.

والحواري: هو خاصته من أصحابه؛ ولذلك أصحاب المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام يُقال لهم: حواريون، يعني: خُلصاؤه وأنصاره.

وهذه منقبةٌ عظيمةٌ للزبير بن العوَّام ، حيث وصفه النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الوصف، وجعله حواريَّه، يعني: خاصة أصحابه، جعله من خواص أصحابه رضي الله عنه وأرضاه.

وجاء في قصةٍ أخرى: أن النبي انتدب حذيفة ليأتي بخبر القوم [5]، فهما قصتان، ومن المهام التي تكون في الحروب: المهام الاستطلاعية؛ للإتيان بخبر العدو.

وهذا يدل على جواز التَّجسس في الجهاد، وبَعث مَن يأتي بالأخبار؛ لأن الإتيان بالأخبار مهمٌّ بالنسبة لقيادة المعارك، فالنبي عليه الصلاة والسلام بعث الزبير وبعث حذيفة رضي الله عنهما في مهماتٍ استطلاعيةٍ يأتون فيها بأخبارٍ عن القوم، فهذه الأخبار معروفةٌ عند الناس من قديم الزمان؛ في الحروب وفي الجيوش يُرسلون مَن يذهب ويتجسَّس على العدو، ويأتي بأخبارهم؛ لأن ذلك يُفيد كثيرًا في قيادة المعركة، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يفعل ذلك.

قول النبي  للزبير : فداك أبي وأمي

ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث من طريقٍ أخرى، ثم قال:

حدثنا إسماعيل بن الخليل، وسُويد بن سعيد، كلاهما عن ابن مُسْهِرٍ، قال إسماعيل: أخبرني علي بن مُسْهِرٍ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبدالله بن الزبير قال: كنتُ أنا وعمر بن أبي سلمة يوم الخندق مع النِّسْوة في أُطُم حسان، فكان يُطأطئ لي مرةً فأنظر، وأُطأطئ له مرةً فينظر، فكنتُ أعرف أبي إذا مرَّ على فرسه في السلاح إلى بني قُريظة.

قال: وأخبرني عبدالله بن عروة، عن عبدالله بن الزبير قال: فذكرتُ ذلك لأبي، فقال: ورأيتني يا بُني؟ قلتُ: نعم. قال: أما والله لقد جمع لي رسول الله يومئذٍ أبويه فقال: فِدَاك أبي وأمي [6].

هذه الرواية ساقها المصنف رحمه الله عن عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما، وعبدالله بن الزبير هو أول مولودٍ في الإسلام بالمدينة من المهاجرين، وُلد في السنة الأولى من الهجرة، ومن المعلوم أن غزوة الخندق وقعت في السنة الخامسة، وعلى ذلك فيكون عمره أربع سنواتٍ وأشهرًا، ومع ذلك ضبط هذه القصة ونقلها، فقال: “كنتُ أنا وعمر بن أبي سلمة”.

أيضًا عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما كان صبيًّا صغيرًا يوم الخندق، وكانا مع النساء في أُطُمٍ، والأُطُم هو: الحصن.

“فكان يُطأطئ لي مرةً” يعني: عمر بن أبي سلمة يخفض لعبدالله بن الزبير ظهره، ويصعد على ظهره لكي يرى، وتارةً العكس؛ عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما هو الذي يُطأطئ ظهره، فيصعد عليه عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما.

وعبدالله يقول أنه رأى أباه الزبير  على فرسه في السلاح إلى بني قُريظة، وحكى ذلك لأبيه، فقال: “أما والله لقد جمع لي رسول الله يومئذٍ أبويه فقال: فِدَاك أبي وأمي“.

وهذه أيضًا قالها عليه الصلاة والسلام لسعد بن أبي وقاص [7]، وسبق القول بأن هذه العبارة لا بأس بها، فلا بأس أن يقول الإنسان لغيره: “فِدَاك أبي وأمي”، وأنها من العبارات التي لا يُراد بها حقيقتها، وإنما يُراد إكرام المُخاطَب وتوقيره، وقد فعلها النبي مع أكثر من صحابيٍّ؛ مع سعد بن أبي وقاص، ومع الزبير بن العوام .

فوائد من حديث جمع النبي  والديه للزبير 

في هذا الحديث من الفوائد:

  • فضل الزبير بن العوام ، حيث قال له النبي : فِدَاك أبي وأمي.
  • ومن الفوائد أيضًا: أن فيه منقبةً لعبدالله بن الزبير رضي الله عنهما، حيث ضبط هذه القصة وعمره أربع سنواتٍ وأشهر، وهذا يدل على ذكائه وقوة ذاكرته؛ إذ إن كثيرًا من الصبيان لا يضبطون في هذه السن.
    وفيه ردٌّ على مَن قال: إنه لا يصح سماع الصبي حتى يبلغ خمس سنوات.
    والصواب: صحته متى حصل معه الضبط والإتقان، حتى وإن كان ابن أربع سنواتٍ، فالصبيان يتفاوتون فيما بينهم تفاوتًا كبيرًا؛ فبعضهم قد يُرزَق بحِدَّة ذكاءٍ وقوة ذاكرةٍ، ويستطيع أن يضبط بعض القصص وعمره أربع سنوات، فهذا ليس مُمتنعًا، فهذا الآن عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما يحكي لنا قصةً وعمره أربع سنوات وأشهر.

وعبدالله بن الزبير رضي الله عنهما وَلِيَ الخلافة على الحجاز والجزيرة العربية عمومًا تسع سنواتٍ، ثم حاصره الحجاج بن يوسف الثقفي بجيشٍ، واستطاع التَّغلُّب عليه، وأمسك بعبدالله بن الزبير رضي الله عنهما وقتله، ثم صلبه على خشبةٍ، وبقي مصلوبًا عدة أيامٍ، فَمَرَّ عليه عبدالله بن عمر رضي الله عنهما -الصحابي الجليل- وقال: “السلام عليك أبا خُبَيب، أما والله لقد كنتُ أَنْهَاك عن هذا” يعني: كان ينهاه عن الدخول في أمور السياسة، ويقول: هذه هي النتيجة الآن.

“أما والله لقد كنتَ صوَّامًا قوَّامًا” شهد له بذلك، وهذه تزكيةٌ، فكان يصوم الدهر ولا يُفطر، ولم يبلغه النهي عن صيام الدهر، فكان صوَّامًا، وكان يقوم الليل، فكان من أفاضل الصحابة، ومن عُبَّادهم، ومع ذلك قتله الحجاج بن يوسف، ثم صلبه.

ولمَّا قال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما هذه المقولة، زبانية الحجاج أبلغوه كلام ابن عمر رضي الله عنهما، فَهَابَ أن يتعرَّض لابن عمر رضي الله عنهما بسوءٍ، وأمر أن يُلقى ابن الزبير رضي الله عنهما في مقبرةٍ قريبةٍ، فأُلقي، فجمع أعضاءه بعضُ مَن كان حاضرًا من الصحابة، جمعوه وغسَّلوه وكفَّنوه وصلوا عليه.

فهذا قد حصل لهذا الصحابي الجليل، مع كونه صحابيًّا، وابن الزبير رضي الله عنهما الذي هو ابن عمة النبي عليه الصلاة والسلام، وصوَّامٌ، وقوَّامٌ، لكنه قد ابتُلي بهذا الأمر.

طيب، ثم ساق المصنف هذا الحديث من طريقٍ أخرى، قال:

وحدثنا أبو كُريب: حدثنا أبو أسامة، عن هشامٍ، عن أبيه، عن عبدالله بن الزبير قال: لمَّا كان يوم الخندق كنتُ أنا وعمر بن أبي سلمة في الأُطُم الذي فيه النِّسوة. يعني: نسوة النبي ، وساق الحديث [8].

قال:

وحدثنا قتيبة بن سعيد: حدثنا عبدالعزيز -يعني: ابن محمدٍ-، عن سهيلٍ، عن أبيه، عن أبي هريرة : أن رسول الله كان على حِرَاء هو وأبو بكرٍ وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير، فتحرَّكت الصخرة، فقال رسول الله : اهدأ، فما عليك إلا نبيٌّ، أو صدِّيقٌ، أو شهيدٌ [9].

كان على جبل حِرَاء النبيُّ ، وكان معه أبو بكرٍ الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفَّان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيدالله، والزبير بن العوام ، فتحرَّكت الصخرة، فقال النبي : اهدأ يعني: الجبل، فما عليك إلا نبيٌّ هو رسول الله ، أو صدِّيقٌ يعني: أبا بكرٍ الصدِّيق، أو شهيدٌ وهم البقية؛ أما عثمان وعلي فقد قُتِلا شهيدين، وكذلك طلحة والزبير قُتِلا أيضًا شهيدين؛ لأنهما قُتِلا في معركة الجمل ظُلْمًا، والمقتول ظلمًا شهيدٌ، وكذلك طلحة بن عبيدالله قُتِلَ ظلمًا أيضًا، فيكون شهيدًا، فتحقَّق ما أخبر به النبي .

فضيلة الصحابة الذين كانوا مع النبي على جبل حِرَاء

وساق المصنف رحمه الله هذا الحديث من روايةٍ أخرى، قال:

أن رسول الله كان على جبل حِرَاء، فتحرَّك، فقال رسول الله : اسكن حِرَاء، فما عليك إلا نبيٌّ أو صديقٌ أو شهيدٌ، وعليه النبي وأبو بكرٍ وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاصٍ  [10].

فهذه الرواية فيها زيادة سعدٍ ، ونحن ذكرنا أن هؤلاء: النبي هو النبي عليه الصلاة والسلام، وأبو بكرٍ الصديق صِدِّيقٌ، وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير  هؤلاء قُتلوا شُهداء، وسعد بن أبي وقاصٍ  لم يُقْتَل، فكيف اعتبره النبي  شهيدًا؟

الجواب عن ذلك: قال القاضي عياض رحمه الله: “إنَّما سُمِّي شهيدًا؛ لأنه مشهودٌ له بالجنة”، هذا أحسن ما يُقال في الجواب عن ذلك.

هذا إن صحَّت الرواية الأخرى؛ لأن الرواية الأولى لم يُذكر فيها سعد بن أبي وقاصٍ ، والرواية الثانية ذُكر فيها سعدٌ ، والإمام مسلمٌ أحيانًا يَذكر الرواية بعد الرواية من باب التنبيه على ضعف الرواية الثانية، لكن إن ثبتت الرواية الثانية فيُجاب عن ذلك بأن سعد بن أبي وقاصٍ سُمِّي شهيدًا؛ لأنه مشهودٌ له بالجنة.

فوائد حديث: اسكن حِرَاء ..

في هذا الحديث من الفوائد:

جاء في حديث أنسٍ عند البخاري رحمه الله قال: صعد النبي أُحدًا ومعه أبو بكرٍ وعمر وعثمان ، فَرَجَفَ، وقال: اسكن أُحُد، فليس عليك إلا نبيٌّ وصِدِّيقٌ وشهيدان [11].

ويُجمع بين القصتين بالحَمْل على تعدُّد القصة؛ فالقصة الأولى كانت على جبل حِرَاء، والثانية كانت على جبل أُحُدٍ.

ثم أيضًا القصة الثانية ليس فيها سوى النبي عليه الصلاة والسلام وأبي بكرٍ وعمر وعثمان ، بينما القصة الأولى فيها النبي عليه الصلاة والسلام وأبو بكرٍ وعمر وعثمان وعليٌّ وطلحة والزبير وسعدٌ ، فتُحمل على تعدد القصة.

من فوائد القصة

في هذه القصة من الفوائد:

  • إثبات التمييز في الجمادات؛ حيث تحرَّكت الصخرة، وسَكَّنها النبي ، وخاطبها بما يُخاطب به العُقلاء، ففهمتْ ذلك وسكنتْ.
    والنصوص تدل على أن الجمادات لها إدراكٌ يَخصُّها ويليق بها، ليس كإدراك الإنسان وإدراك العُقلاء، وإنما إدراكٌ مناسبٌ لها، وهذا قد دلَّت عليه نصوصٌ كثيرةٌ:

1. كان الحصى يُسبِّح في يد النبي عليه الصلاة والسلام [12].

2. كان الجذع يصيح، لما كان النبي عليه الصلاة والسلام يخطب على جِذْعٍ، ثم صُنع له منبرٌ؛ فترك الجذع وصعد على المنبر الذي صُنع له، فسُمِعَ لذلك الجذع بكاءٌ كبكاء الصبي، فأخذه النبي عليه الصلاة والسلام، وجعل يُسكِّنه ويُسكِّته كما يُسكت الصبي [13].

فهذا يدل على أن الجمادات لها إدراكٌ مناسبٌ لها، فهنا لمَّا تحرَّكت الصخرة خاطبها النبي عليه الصلاة والسلام وقال: اهدأ، فما عليك إلا نبيٌّ، أو صِدِّيقٌ، أو شهيدٌ، فهدأ، فخاطب هذه الصخرة بما يُخاطب به العقلاء.

  • أيضًا من الفوائد: معجزة النبي عليه الصلاة والسلام؛ حيث أخبر عن قتل هؤلاء شهداء، وقد تحقق ما أخبر به، فهذه آيةٌ من آيات الله ​​​​​​​.
  • أيضًا من الفوائد: جواز التزكية والثناء على الإنسان في وجهه إذا لم تُخَفْ عليه فتنةٌ بإعجابٍ ونحوه، فالنبي عليه الصلاة والسلام أثنى على هؤلاء الصحابة، ووصف أبا بكرٍ بأنه صِدِّيقٌ، ووصف البقية بأنهم شهداء، وهذا ثناءٌ عليهم، وفي القصة السابقة وصف الزبير بن العوام  بأنه حواريه، فكان عليه الصلاة والسلام يُطلق ألقابًا، ويُثني على بعض أصحابه.

وهذا عند أهل العلم -الثناء على الإنسان بحضرته- مشروطٌ بأن يأمَن الفتنة، فإن بعض الناس قد لا يأمَن، فإذا أُثْنِيَ عليه قد يُصاب بالعُجْب والغرور، وربما وقع في الكِبْر بسبب ذلك، ولكن مَن كان لا يُخَفْ عليه ذلك؛ لقوة صلاحه وعلمه وفضله، فلا بأس بالثناء عليه في وجهه.

استجابة الزبير  لله ورسوله 

ننتقل بعد ذلك إلى قول المصنف رحمه الله:

حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا ابن نُمَير وعَبْدَة، قالا: حدثنا هشامٌ، عن أبيه قال: قالت لي عائشة: أبواك -والله- من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القَرْح [14].

هذا حصل بعد غزوة أُحدٍ: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ [آل عمران:172]، والقَرْح: هو الجراح.

وفي هذا إشارةٌ لِمَا جرى في غزوة حمراء الأسد؛ لَمَّا رجع النبي إلى المدينة من أُحدٍ بمَن بقي من أصحابه، وأكثرهم جريحٌ، وقد بلغ بهم الجَهد والمشقَّة نهايتهما، فأمرهم النبي  بالخروج في إثر العدو، وقال: لا يَخْرُجَنَّ معنا إلا مَن شَهِدَ القتال، فخرجوا كلهم، واستجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القَرْح، وربما كان فيهم المُثْقَل بالجراح، لا يستطيع المشي، ولا يجد مَركُوبًا، فربما حُمِلَ على الأعناق، حتى وصلوا إلى حمراء الأسد، فلقيهم نُعَيم بن مسعودٍ، وأخبر بأن أبا سفيان وقريشًا قد جمعوا جُموعهم على أن يرجعوا للمدينة فيستأصلوا أهلها، فلمَّا قال نُعَيم بن مسعودٍ هذا للنبي والصحابة، قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173].

ثم إن مَعْبَد الخزاعي -وهو حليفٌ للنبي عليه الصلاة والسلام- لقي أبا سفيان وقريشًا وخوَّفهم بأن محمدًا وأصحابه في جيشٍ عظيمٍ، وقد اجتمع معه كل مَن تَخلَّف عنه، وقد تَحرَّقوا عليكم، ومُغتاظون بالنسبة لكم، قال: “فالنَّجاء، النَّجاء”، فقذف الله في قلوبهم الرعب، ورجعوا إلى مكة مُسرعين، خائفين، ورجع النبي في أصحابه إلى المدينة مأجورًا، منصورًا: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:174] [15].

هذه القصة حصلت بعد غزوة أُحُدٍ، فهؤلاء الصحابة مُثْخَنون بالجراح، قد بلغ بهم الجهد والمشقَّة نهايتهما، ومع ذلك لمَّا أمرهم النبي ونَدَبَهم لمُلاقاة عدوهم استجابوا لله والرسول ، حتى إن بعضهم لا يستطيع المشي، ولا يجد مركوبًا، فيحمله الصحابة على أعناقهم؛ مُستجيبين لله وللرسول .

وخوَّفهم نُعَيم بن مسعودٍ بأن قريشًا سوف تستأصلهم من المدينة، فقالوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ يعني: نُعيم بن مسعود : إِنَّ النَّاسَ يعني: قريشًا قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ۝ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [آل عمران:173-174]؛ لأن مَعْبَدًا الخزاعي ذهب إلى قريشٍ وخَوَّفهم، فرجعتْ قريشٌ خائفين، فالنبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه انقلبوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ.

وهذا يدل أيضًا على أن الأخبار مُؤثِّرةٌ في الحروب العسكرية، فقد يكون خبرٌ من شخصٍ واحدٍ يُؤثِّر على جيشٍ بأكمله، فهذا نُعيم بن مسعودٍ قال ما قال، لكن النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه كانوا على جانبٍ من الإيمان والتقوى؛ فلم يُؤثِّر فيه قوله، بل زادهم إيمانًا وقالوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، لكن مَعْبَدًا الخزاعي لمَّا خوَّف قريشًا خافوا، فتسبب في رجوعهم خائفين، مُسرعين، فهذا يدل على أن الحرب النفسية مُؤثِّرةٌ في الحروب العسكرية، بل أحيانًا تكون هي الحاسِمة في الحروب العسكرية، فنقل الأخبار والحرب النفسية هذه من أعظم ما تكون في الحروب، فالأمور النفسية تُؤثر تأثيرًا كبيرًا على سير الحروب وعلى الانتصار في المعارك.

بابٌ: من فضائل أبي عبيدة بن الجراح

قال:

بابٌ: من فضائل أبي عُبَيدة بن الجَرَّاح .

ترجمةٌ مُختصرةٌ لأبي عبيدة

أبو عبيدة هو: عامر بن عبدالله بن الجرَّاح، الصحابي الجليل، أحد العشرة المُبشَّرين بالجنة، قُتِل أبوه يوم بدرٍ كافرًا، وما ذُكِرَ من أن أبا عبيدة  هو الذي قتل أباه لم يصح، وهذا مذكورٌ في بعض الكتب: أن أبا عبيدة  لقي أباه في غزوة بدرٍ فقتله، وهذا لم يثبت ولم يَصح، لكن أباه قُتل كافرًا، ولم يثبت أن أبا عبيدة  هو الذي قتله.

ولمَّا قَدِم عمر  الشام دخل منازل بعض الصحابة الموجودين هناك، فطلب منه أبو عبيدة  أن يدخل بيته، وكان هو أمير الشام، وقد فتح الله عليه الفتوح، واجتمعت له الكنوز والخزائن، فلمَّا دخل عمر لم يجد في بيته أكثر من سلاحه وأداة رَحْلِه، فبكى عمر وقال: “صدق رسول الله ، أنت أمين هذه الأمة”.

يعني: أبو عبيدة  هو أمير الشام، وعنده الكنوز، وعنده الغنائم، وعنده الأموال، ومع ذلك ليس في بيته شيءٌ، فلم يجد عمر  في بيته شيئًا سوى سلاحه، فقال: “صدق رسول الله ، أنت أمين هذه الأمة”، وبكى عمر .

أبو عبيدة  أمين هذه الأمة

والأمين: هو الثقة والرَّضي.

قال:

حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا إسماعيل ابن عُليَّة، عن خالدٍ. ح، وحدثني زهير بن حرب: حدثنا إسماعيل ابن عُليَّة: أخبرنا خالدٌ، عن أبي قِلابة قال: قال أنسٌ: قال رسول الله : إن لكل أُمةٍ أمينًا، وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح [16].

وهذه منقبةٌ عظيمةٌ لهذا الصحابي الجليل: أبو عبيدة عامر بن الجرَّاح .

ثم ساق المصنف رحمه الله الحديث، قال:

حدثني عمرو الناقد: حدثنا عفَّان: حدثنا حَمَّاد -وهو ابن سلمة-، عن ثابتٍ، عن أنسٍ: أن أهل اليمن قدموا على رسول الله ، فقالوا: ابعث معنا رجلًا يُعلِّمنا السنة والإسلام. قال: فأخذ بيد أبي عبيدة، فقال: هذا أمين هذه الأمة [17].

وساق المصنف رحمه الله هذا الحديث أيضًا عن حذيفة، قال:

جاء أهل نَجْرَان إلى رسول الله فقالوا: يا رسول الله، ابعث إلينا رجلًا أمينًا. فقال: لأَبْعَثَنَّ إليكم رجلًا أمينًا حقَّ أمينٍ، حقَّ أمينٍ.

قالها مرتين.

قال: فاستشرف لها الناس، فبعث أبا عبيدة بن الجراح [18].

وصف النبي لأبي عبيدة 

هذه من مناقب هذا الصحابي الجليل أبي عبيدة عامر بن الجراح: أن النبي وصفه بأنه أمين هذه الأمة، وبعثه إلى أهل نَجْران يُعلمهم السنة، ووصفه بالأمانة.

لمَّا قالوا: ابعث إلينا رجلًا أمينًا، قال: لأَبْعَثَنَّ إليكم رجلًا أمينًا حقَّ أمينٍ، حقَّ أمينٍ، ولمَّا قال هذه المقولة استشرف لها الناس، كلٌّ يريد أن ينال هذه المنقبة وهذا الوصف العظيم، فبعث أبا عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه.

أثر الكلمات المُشجعة

كان عليه الصلاة والسلام يُطلق ألقابًا على بعض أصحابه، فأطلق على أبي بكرٍ : الصِّدِّيق، وأطلق على أبي عبيدة : أنه أمين هذه الأمة، وعلى خالد بن الوليد : أنه سيف الله المسلول، وأطلق ألقابًا على عددٍ من أصحابه، وكان يُثني عليهم ويُشجعهم، فكانت هذه الكلمات لها أثرٌ كبيرٌ في تشجيع هؤلاء الصحابة.

والكلمات المُشجِّعة لا شك أنها تُؤثِّر على الإنسان تأثيرًا كبيرًا، فتشجيع الإنسان في أي مجالٍ من المجالات: تشجيعه في طلب العلم، تشجيعه في المجال الذي يُحسنه أيضًا بأنه قد أحسن في هذا المجال؛ هذه من الأمور المهمة، والتي ينبغي أن يَتَنَبَّه لها أيضًا على وجه الخصوص المعلمون مع طلابهم، فإن الطالب إذا شجَّعه المعلم يكون لهذا الأثر الطيب على هذا الطالب.

الحافظ الذهبي رحمه الله يقول: إنه رآه شيخه وقد كتب كتابةً، فقال: “خطُّك هذا يُشبه خطَّ المُحدِّثين”، قال: “فحُبِّب إليَّ الحديث”، وأصبح من المُحدِّثين الكبار ومن الحُفَّاظ بسبب كلمةٍ سمعها من شيخه.

الإمام البخاري رحمه الله -الذي صنَّف هذا الصحيح، هذا الكتاب العظيم- سمع كلمةً من شيخه إسحاق، قال: “لو أن أحدًا منكم صنَّف في الصحيح من حديث النبي عليه الصلاة والسلام”، قال: “فوقعتْ هذه الكلمة في نفسي”.

فبدأت الفكرة من مقولة شيخه: “لو أن أحدكم صنَّف وجمع الحديث من كلام النبي عليه الصلاة والسلام”، فصنَّف هذا الكتاب العظيم “صحيح البخاري” أعظم دواوين السنة، وهذا كله بسبب تشجيعٍ بكلمةٍ عابرةٍ من شيخه، ربما لم يُلْقِ لها بالًا.

فمثل هذه الكلمات قد تكون مُشجِّعةً، ويكون أثرها عظيمًا؛ ولذلك طرح الأفكار وتشجيع الطلاب بمثل هذه الكلمات وهذه العبارات، هذا لا شك أنه مُفيدٌ للطالب، يستفيد منه فائدةً كبيرةً، خاصةً الصغار، فالصغار يحتاجون إلى تشجيعٍ، فإنهم بالتَّشجيع يتقدمون ويتحمَّسون، وربما بَرَعوا في ذلك المجال، كما حصل للحافظ الذهبي رحمه الله؛ كلمة سمعها من أستاذه، فقال: حُبِّب إليَّ هذا المجال؛ مجال الحديث، فأصبح من كبار المُحدِّثين.

من فوائد قصة إرسال النبي لأبي عبيدة 

أيضًا في هذه القصة من الفوائد: مشروعية بَعث مَن يُعلم الناس الإسلام والسنة، مشروعية بعث المُعلِّمين والدعاة إلى الله ​​​​​​​، وهذا كان يفعله النبي ؛ يُرسل دعاةً إلى الله ​​​​​​​ في أقطار الأرض؛ كي يُعلموا الناس الإسلام، ويُعلمونهم أمور دينهم.

بابٌ: من فضائل الحسن والحسين

ننتقل بعد ذلك إلى: باب من فضائل الحسن والحسين رضي الله عنهما.

والحسن والحسين هما ابنا فاطمة بنت النبي ، فالنبي هو جدُّهما من قِبَل الأم.

دعاء النبي للحسن 

قال:

حدثني أحمد بن حنبل: حدثنا سفيان بن عيينة: حدثني عبيدالله بن أبي يزيد، عن نافع بن جبير، عن أبي هريرة، عن النبي : أنه قال لحسنٍ: اللهم إني أُحبه فأحبه، وأحبب مَن يُحبُّه [19].

هذه منقبةٌ عظيمةٌ للحسن بن عليٍّ رضي الله عنهما: أن النبي أخبر أنه يُحبه، ودعا لمَن أحبَّه، قال: اللهم إني أُحبه فأحبه، وأحبب مَن يُحبُّه، مَن يُحب الحسن  دعا له النبي بأن الله يُحبه: وأحبب مَن يُحبُّه.

فنحن نُحب الحسن سبط رسول الله ، ونتقرَّب إلى الله ​​​​​​​ بحبه، ونرجو أن يكون ذلك سببًا لنيل مَحبَّة الله سبحانه.

قال:

حدثنا ابن أبي عمر: حدثنا سفيان، عن عبيدالله بن أبي يزيد، عن نافع بن جُبير بن مُطْعِم، عن أبي هريرة قال: خرجتُ مع رسول الله في طائفةٍ من النهار لا يُكلِّمني ولا أُكلمه، حتى جاء سوق بني قَيْنُقَاع، ثم انصرف حتى أتى خِبَاء فاطمة، فقال: أثَمَّ لُكَع؟ أثَمَّ لُكَع؟ يعني: حسنًا، فظننا أنه إنما تحبسه أمه؛ لأن تُغسِّله وتُلْبِسَه سِخَابًا، فلم يلبث أن جاء يسعى حتى اعتنق كل واحدٍ منهما صاحبه، فقال رسول الله : اللهم إني أُحبُّه فأحبه، وأحبب مَن يُحبُّه [20].

هنا هذه الرواية بيَّنت السياق الذي قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام هذه المقولة.

يقول أبو هريرة : “خرجتُ مع رسول الله في طائفةٍ من النهار” يعني: في قطعةٍ من النهار، “لا يُكلمني ولا أُكلمه” يعني: أتى مُصاحبًا له، “حتى جاء النبي عليه الصلاة والسلام سوق بني قَيْنُقاع، ثم انصرف حتى أتى خِباء فاطمة” يعني: بيت فاطمة، “فقال: أثَمَّ لُكَع؟ أثَمَّ لُكَع؟ يعني: الحسن، يعني بـ”لُكَع”: الحسن، “لُكَع” المراد به الصغير، “لُكَع” قد تُطلق على الصغير، كأنه يقول: أين الصغير؟ أين الحسن؟

فانتظر النبي ، وكانت أمه فاطمة تُغسِّله وتُلْبِسه سِخَابًا.

والسِّخَاب: هو القلادة من القرنفل والمسك والعود ونحوها من أخلاط الطِّيب، يُعْمَل على هيئة السبحة، ويُجْعَل قِلادةً للصبيان والجواري، فنظَّفته أمه فاطمة، غسَّلته ثم وضعتْ عليه هذا السِّخَاب، أي: هذه القلادة.

فلمَّا أتى النبي عليه الصلاة والسلام اعتنقه، كلٌّ منهما اعتنق صاحبه، النبي عليه الصلاة والسلام اعتنقه، والحسن اعتنق النبيَّ عليه الصلاة والسلام، فقال: اللهم إني أُحبُّه فأحبه، وأحبب مَن يُحبُّه.

فوائد من حديث: اللهم إني أُحبُّه ..

في هذا الحديث:

  • جواز إلباس الصبيان القلائد ونحوها من الزينة حتى وإن كان ذكرًا، لا بأس بأن يُلْبَس قِلادةً، فلا يختص هذا بالإناث من الصغار، فإلباس الصبي الذكر القلادة لا بأس به، فهنا فاطمة ألبست الحسن قلادةً، ولم يُنكر عليها النبي .
  • وأيضًا فيه من الفوائد: استحباب تنظيف الصغار، خاصةً عند لقائهم لأهل الفضل، واستحباب النظافة مطلقًا.
  • وأيضًا في هذه القصة من الفوائد: استحباب مُلاطفة الصبي ومُداعبته؛ رحمةً له ولُطْفًا، فالنبي كان إذا لقي الأطفال يُلاعبهم ويُداعبهم ويُمازحهم، لم يكن فظًّا، ولا غليظًا، فكان هذا هو هدي النبي عليه الصلاة والسلام: التَّبسُّط مع الأطفال، ومُلاعبتهم، ومُمازحتهم، والضحك معهم، كان عليه الصلاة والسلام يفعل هذا مع الأطفال، خاصةً مع الأطفال من قرابته: كالحسن والحسين.

ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث من طريقٍ أخرى عن البراء قال:

رأيتُ الحسن بن عليٍّ على عاتق النبي ، وهو يقول: اللهم إني أُحبُّه فأحبَّه [21].

وأيضًا ساقه من طريقٍ أخرى عن البراء قال:

رأيتُ رسول الله واضعًا الحسن بن عليٍّ على عاتقه، وهو يقول: اللهم إني أُحبُّه فأحبَّه [22].

فائدةٌ من وضع النبي الحسن  على عاتقه

“رأيتُ رسول الله واضعًا الحسن بن عليٍّ على عاتقه” أخذ العلماء من هذا فائدةً، وهي: أن الأصل في الأطفال الطهارة ما لم يُتحقَّق من نَجاستهم، فالنبي عليه الصلاة والسلام حمل الحسن بن علي رضي الله عنهما ووضعه على عاتقه، مع أنه يحتمل أن به نجاسةً، لكنه حمل ذلك وبناه على الأصل، فالأصل فيهم الطهارة، والأصل في مُمَاسَّتهم الطهارة حتى يُتحقَّق من نجاستها.

قال النووي رحمه الله: “لم يُنقل عن السلف التَّحفُّظ من ملابس الأطفال”، بناءً على الأصل وهو: أن الأصل الطهارة، وهذا الأصل عمومًا: الأصل في الأشياء الطهارة وليس النجاسة، وهذا الأصل مفيدٌ للإنسان: الأصل في الأشياء الطهارة، فمثلًا: الثوب الذي تلبسه، السراويل الأصل فيها الطهارة، فابْنِ على هذا الأصل ما لم تتحقَّق من نجاستها.

الأصل في البقعة الطهارة، فلك أن تُصلي في أي مكانٍ؛ لأن الأصل هو الطهارة ما لم تتحقق من نجاسة هذه البقعة.

بعض الناس إذا أراد أن يصلي يتحَرَّج ويقول: ربما تكون في هذا المكان نجاسةٌ.

وهذا التَّحرُّج لا وجه له؛ لأنه ينبغي أن يبني على الأصل وهو الطهارة، الأصل هو الطهارة، فإذا كنت لا تعلم عن هذا المكان شيئًا فابْنِ على الأصل وهو الطهارة وصَلِّ فيه، إلا إذا تَحقَّقتَ من نجاسته فلا تُصلِّ فيه.

وهذا أصلٌ عظيمٌ يفيد الإنسان في أموره وفي تعاملاته.

كذلك الأصل في الأطفال الطهارة، فعندما تحمل طفلًا ربَّما يكون هذا الطفل يَحمل نجاسةً، لكن أنت تبني على الأصل وهو: الطهارة، فلا تضر مُمَاسَّة هذا الطفل؛ ولهذا فإن النبي عليه الصلاة والسلام حمل الحسن ووضعه على عاتقه، مع أنه طفلٌ صغيرٌ، وربَّما خرجتْ أو تخرج منه نجاسةٌ، لكنه بنى هذا الأمر على الأصل.

قال المصنف رحمه الله:

حدثني عبدالله بن الرومي اليمامي، وعباس بن عبدالعظيم العنبري، قالا: حدثنا النضر بن محمد: حدثنا عكرمة -وهو ابن عمار-: حدثنا إياس، عن أبيه قال: لقد قُدْتُ بنبي الله والحسن والحسين بغلته الشَّهباء حتى أدخلتهم حجرة النبي ، هذا قُدَّامَه، وهذا خلفه [23].

هذا يدل على تواضع النبي عليه الصلاة والسلام، وهو نبي الأمة، وهو القائد، وهو كل شيءٍ بالنسبة للصحابة، ومع ذلك يُرْدِف خلفه بعض أصحابه.

في هذه القصة أردف الحسن والحسين رضي الله عنهما، فجعل أحدهما قُدَّامه، والآخر خلفه.

حديث الكساء

قال:

حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن عبدالله بن نُمَيْر -واللفظ لأبي بكرٍ- قالا: حدثنا محمد بن بِشْرٍ، عن زكرياء، عن مصعب بن شيبة، عن صفية بنت شيبة قالت: قالت عائشة: خرج النبي غَدَاةً وعليه مِرْطٌ مُرَحَّلٌ من شَعْرٍ أسود، فجاء الحسن بن عليٍّ فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء عليٌّ فأدخله، ثم قال: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33] [24].

هذا الحديث يُسمَّى: حديث الكساء، وهو حديثٌ معروفٌ ومشهورٌ.

خرج النبي لمَّا نزلت الآية: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا وعليه مِرْطٌ مُرَحَّلٌ.

والمِرْط: هو الكساء.

والمُرَحَّل أي: المنقوش عليه صور رِحال الإبل.

فهذا الكساء جاء الحسن بن عليٍّ رضي الله عنهما فأدخله فيه -في هذا الكساء- ثم جاء الحسين فأدخله فيه، ثم جاءت فاطمة رضي الله عنها -بنته- فأدخلها في هذا الكساء، ثم جاء عليٌّ فأدخله، ثم قال: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا.

وهذا يدل على أنهم كلهم من أهل البيت، أن هؤلاء المذكورين في هذه القصة من أهل البيت: الحسن، والحسين، وفاطمة، وعلي ، أنهم من أهل البيت، ولكن هذا لا ينفي أن يكون غيرهم من أهل البيت، فأزواج النبي من أهل البيت؛ لأن هذه الآيات إنَّما نزلتْ فيهم: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ، نزلتْ في الأصل في زوجات النبي عليه الصلاة والسلام، لكن أدخل معهم النبي عليه الصلاة والسلام في أهل البيت، أدخل معهم: الحسن، والحسين، وفاطمة، وعليًّا ، فهؤلاء كلهم من أهل البيت.

بابٌ: من فضائل زيد بن حارثة وابنه أسامة

بابٌ: من فضائل زيد بن حارثة وابنه أسامة رضي الله عنهما.

حدثنا قتيبة بن سعيد: حدثنا يعقوب بن عبدالرحمن القاري، عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبدالله، عن أبيه: أنه كان يقول: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمدٍ، حتى نزل في القرآن: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب:5] [25].

إبطال الإسلام للتَّبني

كان النبي قد تبنَّى زيد بن حارثة، ودعاه ابنه، فكان يُقال: زيد بن محمد، وكانت العرب تفعل ذلك؛ يَتَبنَّى الرجلُ مولاه أو غيره، فيكون ابنًا له؛ يرثه وينتسب إليه، حتى أبطل الإسلام التَّبنِّي، ونزل قول الله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ، فرجع كل إنسانٍ إلى نسبه إلا مَن لم يكن له نسبٌ معروفٌ، فيُضاف إلى مواليه؛ لهذا قال سبحانه: فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ [الأحزاب:5].

الحكمة من ذكر اسم زيدٍ  في القرآن

التَّبنِّي كان في أول الإسلام، ثم أبطله الله ​​​​​​​، وأمر بأن يُدْعَى كل إنسانٍ إلى أبيه، فكان يُدْعَى بزيد بن محمد، فأصبح يُدْعَى: زيد بن حارثة، وعوَّضه الله ​​​​​​​ عن هذا بأن ذكر اسمه في القرآن، وهو الصحابي الوحيد الذي ذكر الله اسمه في القرآن: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا [الأحزاب:37].

لعل الحكمة في ذلك -والله أعلم-: أنه كان يُدْعَى: زيد بن محمد، فلمَّا أُبطل التَّبنِّي أصبح يُدْعى: زيد بن حارثة، جُبِرَ خاطره؛ فأكرمه الله سبحانه بأن ذكر اسمه في القرآن، وأي شرفٍ أعظم من هذا؟

هذا الشرف أعظم من الشرف السابق، وهو أنه كان يُدْعَى: زيد بن محمد، فأكرمه الله ​​​​​​​ بهذا الشرف؛ بأن الله تعالى ذكر اسمه في القرآن: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا، وهو الصحابي الوحيد الذي ذكره الله باسمه في القرآن.

وهذا يدل على إبطال التَّبنِّي، أنه لا يجوز التَّبنِّي؛ لأن بعض الناس يأخذ لقيطًا ثم ينسبه لاسمه، وهذا مُحرَّمٌ، بل من الكبائر، فلا يجوز أن ينسب إنسانٌ أحدًا إليه، وهو لا ينتسب إليه حقيقةً، والله تعالى يقول: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ [الأحزاب:5].

ثناء النبي  على أسامة بن زيد وأبيه رضي الله عنهما

قال:

حدثنا يحيى بن يحيى، ويحيى بن أيوب، وقتيبة، وابن حُجْر، قال يحيى بن يحيى: أخبرنا، وقال الآخرون: حدثنا إسماعيل -يعنون: ابن جعفر-، عن عبدالله بن دينار، أنه سمع ابن عمر يقول: بعث رسول الله بعثًا، وأمَّر عليهم أسامة بن زيد، فطعن الناس في إمرته، فقام رسول الله  فقال: إن تطعنوا في إمرته، فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل، وايْمُ الله، إن كان لَخَلِيقًا للإمرة، وإن كان لمن أحبِّ الناس إليَّ، وإن هذا لمن أحبِّ الناس إليَّ بعده [26].

ثم ساق المصنف أيضًا هذا الحديث بروايةٍ أخرى عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي  قال على المنبر:

إن تطعنوا في إمارته -يريد أسامة بن زيد- فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل، وايْمُ الله، إن كان لَخَلِيقًا لها، وايْمُ الله، إن كان لأحبَّ الناس إليَّ، وايْمُ الله، إن هذا لها لَخَلِيقٌ -يريد أسامة بن زيد-، وايْمُ الله، إن كان لأحبهم إليَّ من بعده، فأُوصيكم به، فإنه من صالحيكم [27].

أسامة بن زيد رضي الله عنهما لمَّا توفي النبي كان عمره ثماني عشرة سنة، فكان صغيرًا، ومع ذلك ولَّاه النبي على جيشٍ، فتكلَّم مَن تكلم: كيف يُولَّى على هذا الجيش هذا الشاب الصغير الذي عمره ثماني عشرة سنة، وهذا الجيش فيه كبارٌ في السن، وفيه أشياخٌ؟!

ثم تُوفي النبي ولم يُنْفَذ ذلك الجيش، وجاء مَن جاء إلى أبي بكر الصديق وطلب منه أن يُغيِّر إمرة أسامة؛ لأنه شابٌّ عمره ثماني عشرة سنة، والجيش فيه كبارٌ في السن، فرفض أبو بكر الصديق ذلك، وقال: “والله لا أُحِلَّنَّ لواءً عقده رسول الله “، وأمر بأن يسير ذلك الجيش، وفيهم كبار الصحابة، وفتح الله عليه وانتصر ذلك الجيش.

فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: إن تطعنوا في إمارته، فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل، وايْمُ الله، إن كان لَخَلِيقًا لها، فإنه عليه الصلاة والسلام توسَّم فيه أن عنده صفات القيادة، فهو من القياديين.

فوائد من الحديث:

  • هذا يدل على أن مَن كان مُؤهَّلًا فإنه يُولَّى وإن كان صغيرًا، فالسن لا يكون عائقًا لتولية الأفضل، فليس بالضرورة أن يُولَّى الأكبر، وإنَّما يُولَّى الأفضل، فالنبي عليه الصلاة والسلام وَلَّى أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وجعله أميرًا على جيشٍ فيه كبار الصحابة، مع أنه كان شابًّا صغيرًا عمره ثماني عشرة سنة؛ لِمَا رأى فيه من الأهليَّة والكفاءة؛ ولهذا قال: إن كان لَخَلِيقًا للإمرة، فالعبرة بالكفاءة، وليست العبرة بالسن، فإذا وُجد إنسانٌ كفؤٌ فإنه يُولَّى وإن لم يكن كبيرًا، وإن كان يوجد فيمن يُولَّى عليه من هو أكبر منه.
    إذن المُعوَّل عليه ليس كبر السنِّ، وإنَّما المُعول عليه هو الكفاءة؛ ولهذا يجوز أن يُولَّى الصغير على الكبير إذا كان الصغير أكفأ من الكبير، ويجوز أيضًا أن يُولَّى المفضول على الفاضل للمصلحة.
  • وفي هذا الحديث: فضل زيد بن حارثة وأسامة بن زيد رضي الله عنهما، وأن النبي كان يُحبُّهما حبًّا شديدًا، قال: وإن كان لمن أحبِّ الناس إليَّ، وإن هذا لمن أحبِّ الناس إليَّ بعده؛ ولذلك كان زيد بن حارثة  يُسمى: حِبُّ رسول الله ، وكان أسامة بن زيد رضي الله عنهما يُسمَّى: ابن حِبِّ رسول الله .
    فنحن نُحبهما؛ لأن النبي كان يُحبهما، ونحن نُحب الحسن ؛ لأن النبي كان يُحبه، بل كان يقول:
    اللهم … أحبب مَن يُحبه، بل نحن نُحب صحابة النبي  جميعًا، ونتقرَّب إلى الله ​​​​​​​ بحبهم.

ونقف عند قول المصنف رحمه الله: “بابٌ: من فضائل عبدالله بن جعفر” نفتتح به الدرس القادم، إن شاء الله.

وحتى الأذان نُجيب عما تيسر من الأسئلة.

الأسئلة

السؤال: يقول: عندي مشكلةٌ في فهم القَدَر، ألم يرد الحديث: “أن الله كتب مقادير العباد قبل أن يخلق السماوات والأرض”؟ فلماذا يُلام الإنسان على فعل ذنبٍ ارتكبه؟

الجواب: هل أنت تحتج بالقدر في أمورك الدنيوية؟

لو أتى إنسانٌ وضربك وقال: إنَّما فعلتُ ذلك بقدر الله، هل تقبل منه هذا العذر؟

إذا كنت لا تحتج بالقدر في أمورك الدنيوية، فلماذا تحتج به على ربك؟!

ولهذا لَمَّا أُتي بسارقٍ، فقال لعمر : مهلًا يا أمير المؤمنين، فإنَّما سرقتُ بقدر الله. قال عمر : “ونحن نقطع يدك بقدر الله”.

والإنسان مُغيَّبٌ عنه القَدَر، لا يدري، وعلى هذا فلا تقوم له الحُجة -الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي-؛ لأنه لا يدري، مُغيَّبٌ عنه القدر.

ومسائل القضاء والقدر نهى السلف عن التَّعمُّق فيها، لماذا؟

لأنها فوق مستوى عقل الإنسان، يعني: عقل الإنسان لا يُدرك كثيرًا من أمورها؛ ولهذا نؤمن بها كما وردتْ، وينبغي عدم التَّعمُّق فيها.

نؤمن بالقضاء والقدر، وأن الله كتب مقادير كل شيءٍ قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، والإنسان جعله الله تعالى مُخيَّرًا: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:3]، فالإنسان لا يحتج بالقدر في أمور دنياه، وكذلك ينبغي له ألا يَحتجَّ بالقدر على ربه ​​​​​​​.

ونُحيل الأخ الكريم إلى ما كتبه العلماء في كتب العقائد في هذا الموضوع، والكلام عنه يطول.

السؤال: إذا تقدم شخصٌ طالبٌ خطبة امرأةٍ، وأحضر هدايا لمَن يرغب في خطبتها؛ ترغيبًا في الزواج، فهل يلزم ردّ الهدايا؟ علمًا بأنه لم يُطالب بها، ولكن في النفس شيءٌ.

الجواب: ما دام أن هذه الهدايا قد قُبضتْ فليس له أن يُطالب بردِّها؛ لقول النبي : العائد في هِبَته كالكلب، يقيء ثم يعود في قَيئه [28]، فإذا وَهَبْتَ هِبةً، أو أهديتَ هديَّةً، وقُبِضَتْ هذه الْهِبَة أو الهدية، ليس لك أن ترجع فيها، وشبَّه النبي مَن يفعل ذلك بصورةٍ بشعةٍ، وهي: الكلب يقيء ثم يعود في قيئه.

إذا أهديتَ هديةً ينبغي أن تنسى هذه الهدية، ولا تُطالب مَن أهديتَ له هذه الهدية بإرجاعها.

السؤال: إذا ترك ركنًا -مثلًا- في الركعة الأولى، وتذكره بعد السلام، هل تلزمه تكبيرة الإحرام؟

الجواب: إذا تذكره بعد السلام لا يُكبِّر تكبيرة الإحرام، وإنَّما يقوم ويأتي بركعةٍ، فالركن الذي تركه في الركعة الأولى تبطل معه تلك الركعة، وتقوم الركعة التي بعدها مقامها، وعلى ذلك فلا بد أن يقوم ويأتي بركعةٍ بعد ذلك، ويسجد للسهو، وإذا لم يتذكر إلا بعد السلام فإنه يقوم ويأتي بركعةٍ، ولا حاجة لأن يُكبر تكبيرة الإحرام.

السؤال: ما توجيه فضيلتكم لمَن يلعن الأموات ويسبهم، وبعضهم من الأخيار؟

الجواب: النبي نهى عن سَبِّ الأموات، قال: لا تَسبُّوا الأموات، فإنَّهم قد أَفْضَوا إلى ما قدَّموا [29]، فلا يجوز سبّ الأموات، بل قال بعض أهل العلم: حتى وإن كانوا كفارًا؛ لأن النبي  قال: لا تسبُّوا الأموات، وأكثر الأموات في عهده عليه الصلاة والسلام كانوا من الكفَّار، فهؤلاء أفضوا إلى ما قدَّموا.

السؤال: متى يُشرع رفع السبَّابة في الصلاة؟ وأيضًا عند الدعاء خارج الصلاة؟

الجواب: يُشرع رفع السبَّابة في الصلاة في التَّشهُّد، من أول التَّشهُّد إلى آخره، في التَّشهد الأول والتشهد الأخير، فالسُّنَّة أن ترفع أصبعك السبَّابة مع إحنائه قليلًا، وكلما ذكرتَ اسم الله تُحرِّكه، تقول: “التحيَّات لله” تُحرِّكه، “أشهد أن لا إله إلا الله” تُحرِّكه، “اللهم صلِّ على محمدٍ” تُحرِّكه، كلما ذكرتَ اسم الله تُحرِّكه، فترفع أصبعك السبابة مع إحنائه قليلًا، يعني: لا تنصبه هكذا، وإنما تحنيه قليلًا، وتُحركه كلما ذكرتَ اسم الله.

والأخ يقول: وأيضًا عند الدعاء خارج الصلاة.

عند الدعاء خارج الصلاة السنة أن يرفع يديه، وليس السبَّابة، يرفع يديه هكذا، ويستقبل القبلة ويدعو، كما كان النبي  يفعل.

السؤال: مَن كان مُتهاونًا في الصيام لمَّا كان عمره من أربع عشرة سنة إلى سبع عشرة، ويشرب ماءً إذا عطش، ولا يُحصي الأيام التي أفطرها، ماذا يفعل الآن؟

الجواب: عليه التوبة إلى الله ​​​​​​​، وعليه أن يجتهد في قضاء الأيام التي يغلب على الظنِّ أنه أفطرها بعد بلوغه، ويحتاط ويجتهد في معرفة عدد تلك الأيام، فإذا شكَّ هل هي -مثلًا- عشرة أيامٍ أو خمسة عشر؟ يجعلها خمسة عشر يومًا ويحتاط لأجل ذلك.

السؤال: هل الفجر مدته مساويةٌ للشَّفَق؟ أي: أنه ساعةٌ وثنتا عشرة دقيقة إلى شروق الشمس.

الجواب: الفجر الصادق يطلع مع طلوع الشَّفَق، فالشَّفَق يطلع بطلوع الفجر الصادق، ويمتد إلى غروب الشمس، وعكسه: من بعد غروب الشمس حتى يغيب الشَّفَق الذي هو نهاية وقت المغرب، فحصة الفجر وحصة المغرب متساويتان.

والله أعلم.

وصلى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه مسلم: 2414.
^2 رواه مسلم: 1789.
^3 رواه مسلم: 2415.
^4 رواه البخاري: 2846.
^5 روا مسلم: 1788.
^6, ^8 رواه مسلم: 2416.
^7 روى البخاري: 4059، ومسلم: 2411 عن عليٍّ قال: ما سمعتُ النبيَّ جمع أبويه لأحدٍ إلا لسعد بن مالك، فإني سمعتُه يقول يوم أُحدٍ: يا سعد، ارمِ، فِدَاك أبي وأمي.
^9, ^10 رواه مسلم: 2417.
^11 رواه البخاري: 3699.
^12 روى الطبراني في “المعجم الأوسط”: 1244 عن أبي ذرٍّ الغفاري  قال: “إني لشاهدٌ عند النبي في حلقةٍ، وفي يده ‌حصًى، ‌فسبحن في يده”.
^13 رواه البخاري: 3583.
^14 رواه مسلم: 2418.
^15 “مغازي” الواقدي: 1/ 334، و”دلائل النبوة” للبيهقي: 3/ 217، و”زاد المعاد” لابن القيم: 3/ 216-217.
^16, ^17 رواه مسلم: 2419.
^18 رواه مسلم: 2420.
^19, ^20 رواه مسلم: 2421.
^21, ^22 رواه مسلم: 2422.
^23 رواه مسلم: 2423.
^24 رواه مسلم: 2424.
^25 رواه مسلم: 2425.
^26, ^27 رواه مسلم: 2426.
^28 رواه البخاري: 2589، ومسلم: 1622.
^29 رواه البخاري: 1393.
zh