logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح أبواب من صحيح مسلم/(17) تتمة باب فضائل عثمان بن عفان- حديث “..افتح وبشره بالجنة..”

(17) تتمة باب فضائل عثمان بن عفان- حديث “..افتح وبشره بالجنة..”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

اللهم آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشَدًا.

اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.

اللهم ارزقنا الفقه في دينك يا حي يا قيوم.

هذا هو الدرس السابع عشر في التعليق على كتاب الفضائل من “صحيح مسلم”، في هذا اليوم الثلاثاء، الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول من عام 1442 للهجرة.

تتمة فضائل عثمان بن عفان

وكنا في فضائل الصحابة قد وصلنا إلى فضائل عثمان بن عفان ، وأخذنا في الدرس السابق في بعض فضائل عثمان ، ووصلنا إلى قول الإمام مسلم رحمه الله: 

28 – (2403) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ ، فِي حَائِطٍ مِنْ حَائِطِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ مُتَّكِئٌ يَرْكُزُ بِعُودٍ مَعَهُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ، إِذَا اسْتَفْتَحَ رَجُلٌ، فَقَالَ: افْتَحْ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ. قَالَ: فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ، فَفَتَحْتُ لَهُ وَبَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ، قَالَ: ثُمَّ اسْتَفْتَحَ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ: افْتَحْ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ. قَالَ: فَذَهَبْتُ فَإِذَا هُوَ عُمَرُ، فَفَتَحْتُ لَهُ وَبَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ، ثُمَّ اسْتَفْتَحَ رَجُلٌ آخَرُ، قَالَ: فَجَلَسَ النَّبِيُّ فَقَالَ: افْتَحْ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تَكُونُ. قَالَ: فَذَهَبْتُ فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، قَالَ: فَفَتَحْتُ وَبَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ، قَالَ: وَقُلْتُ الَّذِي قَالَ، فَقَالَ: اللهُمَّ صَبْرًا، أَوِ اللهُ الْمُسْتَعَانُ.

ثم ساق المصنف رحمه الله الحديث من طرق أخرى.

قوله: «في حائط من حائط المدينة». الحائط المقصود به: البستان، يعني النبي عليه الصلاة والسلام، كان في بستان من بساتين المدينة.

قوله: «وهو يركز بعود معه بين الماء والطين». يعني: يضرب بأسفله ليثبته على الأرض، يضرب بهذا العود هكذا يثبته على الأرض.

قال: «إذا استفتح رجل» جاء في الرواية الأخرى: أمرني أن أحفظ الباب، وفي رواية: «لأكونن بواب رسول الله »، وهذا جاء في الرواية الأخرى التي أيضًا ساقها المصنف رحمه الله.

فيحتمل أنه أمره أن يكون بوابًا في جمع ذلك المجلس؛ ليبشر هؤلاء المذكورين بالجنة.

ويحتمل أنه أمره بحفظ الباب أولًا إلى أن يقضي حاجته عليه الصلاة والسلام ويتوضأ، ثم حفظ أبو موسى الباب من تلقاء نفسه.

فوائد من حديث افتح وبشره بالجنة

هذه القصة ساقها المصنف بعدة روايات، وفيها فوائد:

  • الفائدة الأولى: فضيلة هؤلاء الثلاثة: أبي بكر وعمر وعثمان ، وأنهم من أهل الجنة.

معتقد أهل السنة والجماعة: أننا لا نشهد لمعين بجنة ولا نار، إلا من شهد له الله في كتابه، أو شهد له رسوله بالجنة.

فالعشرة المبشرون بالجنة قد شهد لهم النبي بالجنة؛ فنشهد لهم بالجنة.

أبو لهب قد ذكر الله تعالى أنه من أهل النار؛ فنشهد بأن أبا لهب من أهل النار، وكذلك امرأته: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ[المسد: 1]، ثم قال: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ۝فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ[المسد: 4، 5]، فنشهد بأن أبا لهب وامرأته في النار.

نشهد بأن العشرة المبشرين بالجنة أنهم في الجنة.

فإذا معتقد أهل السنة والجماعة: أنه لا يشهد لمعين بجنة ولا نار، إلا ما ورد به النص، ولكن نرجو للمحسنين الخير، ونخاف على المسيئين.

فإذَنْ، هؤلاء الثلاثة: أبو بكر وعمر وعثمان ، هؤلاء من أهل الجنة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام شهد لهم بالجنة، وأمر أبا موسى  في هذا الحديث بأن يبشر كل واحد منهم بالجنة.

  • أيضًا من فوائد هذا الحديث: جواز الثناء على الإنسان في وجهه إذا أمنت عليه الفتنة؛ فإن هؤلاء أثني عليهم وبشروا بالجنة، وأثني عليهم أيضًا في أحاديث أخرى، وهذا يدل على أن من أُمنت عليه الفتنة لا بأس بمدحه، والثناء عليه في وجهه.

أما من كان يخشى عليه من الغرور والعجب فإنه لا يثنى عليه في وجهه، وعليه تُحمل الأحاديث التي فيها النهي عن الثناء على الإنسان في وجهه، مثل حديث: احثُوا في وجوه المَدَّاحين التراب [1]. وحديث الذي مدح رجلًا في وجهه، فقال له النبي : قطعت عنق صاحبك [2].

فإذا كان يُخشى على الممدوح من العجب أو الفتنة فإنه لا يمدح في وجهه.

أما إذا كان لا يخشى عليه لغزارة علمه وقوة إيمانه، فلا بأس بأن يمدح في وجهه؛ فقد مدح النبي عليه الصلاة والسلام بعض أصحابه في وجوههم، وأثنى عليهم ثناءً كثيرًا.

  • من فوائد هذا الحديث: أن هذا الحديث فيه آية ومعجزة للنبي عليه الصلاة والسلام؛ حيث أخبر بأن عثمان يقع له بلاء، وقد وقع بالفعل لما حوصر في بيت الخلافة، وابتلي ابتلاءً شديدًا، فهذا فيه آية من آيات الله ​​​​​​​ لكون النبي عليه الصلاة والسلام أخبر عن أمر من أمور الغيب ووقع كما أخبر.
  • أيضًا من الفوائد: قال ابن بطال رحمه الله: إنما خُصَّ عثمان بذكر البلاء مع أن عمر قُتل أيضًا؛ لكون عمر لم يمتحن بمثل ما امتحن به عثمان ، من تسلط القوم الذين أرادوا منه أن ينخلع من الإمامة؛ بسبب ما نسبوه إليه من الجور والظلم، ثم هجومهم عليه داره، وهتكهم ستر أهله، وكل ذلك زيادة على قتله، فهذا كله بلاء وقع لعثمان ، وإلا، فعمر قتل كما قتل عثمان ، ولكن عثمان حصل مع القتل هذا البلاء.
  • أيضًا من الفوائد: أنه ينبغي أن يقول المسلم عندما يتعرض لبلاء: الله المستعان، فإن عثمان لما بشَّره أبو موسى ، وقال: إن النبي يقول: بشره بالجنة على بلوى تصيبه. قال عثمان : الله المستعان! أي: الله المستعان على ما يقضي ويقدر، ففيه استسلام لأمر الله تعالى، ورضًا بما قدَّره الله .

فإذا تعرض الإنسان للبلاء فإنه يندب له أن يقول: الله المستعان. أو مثلًا: طَلَبَ تأويل رؤيا فذُكِر أنه يتعرض لمحنة أو لبلاء، فيقول: الله المستعان. أو ظهرت قرائن تدل على أنه مقبل على مصاعب وعلى بلوى، فيقول: الله المستعان. وهذه قد قالها يعقوب عليه الصلاة والسلام: وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ[يوسف: 18].

  • من فوائد هذه القصة: ما ذكره بعض العلماء من أن حمل النبي للعصا في هذا الحديث جريٌ على عادة العرب من إمساك العصا، والاعتماد عليها عند الكلام وغيره، فكان من عادة العرب: أنهم يحملون العصا، وعندما يتكلمون أو يخطبون يتكئون على العصا، فهذه عادة معروفة عند العرب، وموسى عليه الصلاة والسلام لما قال الله تعالى: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى۝قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى[طه: 17، 18]، فقد ترجم البخاري رحمه الله في “صحيحه” على هذا الحديث بقوله: «باب من نَكَتَ العود في الماء والطين»؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان معه هذا العود، وجعل يَرْكُز به بين الماء والطين.

ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث بروايات أخرى:

عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَخْبَرَنِي أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ ، أَنَّهُ تَوَضَّأَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ: لَأَلْزَمَنَّ رَسُولَ اللهِ ، وَلَأَكُونَنَّ مَعَهُ يَوْمِي هَذَا، فَجَاءَ الْمَسْجِدَ، فَسَأَلَ عَنِ النَّبِيِّ فَقَالُوا: خَرَجَ، وَجَّهَ هَاهُنَا.

وَجَّهَ: بتشديد الجيم، وضبطه بعضهم بإسكانها: وَجْهَ هاهنا [3]، لكن الأول هو قول الجمهور، يعني: قصَد هذه الوجهة.

قَالَ فَخَرَجْتُ عَلَى أَثَرِهِ.

هذه كلها زيادة على الرواية الأولى.

فَخَرَجْتُ عَلَى أَثَرِهِ أَسْأَلُ عَنْهُ، حَتَّى دَخَلَ بِئْرَ أَرِيسٍ، قَالَ: فَجَلَسْتُ عِنْدَ الْبَابِ، وَبَابُهَا مِنْ جَرِيدٍ، حَتَّى قَضَى رَسُولُ اللهِ حَاجَتَهُ وَتَوَضَّأَ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ جَلَسَ عَلَى بِئْرِ أَرِيسٍ وَتَوَسَّطَ قُفَّهَا،

القُفُّ: هو حافَة البئر، وأصله: الغليظ المرتفع من الأرض.

وَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ، وَدَلَّاهُمَا فِي الْبِئْرِ، قَالَ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ فَجَلَسْتُ عِنْدَ الْبَابِ، فَقُلْتُ: لَأَكُونَنَّ بَوَّابَ رَسُولِ اللهِ الْيَوْمَ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَدَفَعَ الْبَابَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَقُلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ. قَالَ: ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ. فَقَالَ: ائْذَنْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ. قَالَ فَأَقْبَلْتُ حَتَّى قُلْتُ لِأَبِي بَكْرٍ. ادْخُلْ، وَرَسُولُ اللهِ يُبَشِّرُكَ بِالْجَنَّةِ. قَالَ: فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ، فَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللهِ  مَعَهُ فِي الْقُفِّ، وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فِي الْبِئْرِ، كَمَا صَنَعَ النَّبِيُّ ، وَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَجَلَسْتُ، وَقَدْ تَرَكْتُ أَخِي يَتَوَضَّأُ وَيَلْحَقُنِي، فَقُلْتُ: إِنْ يُرِدِ اللهُ بِفُلَانٍ -يُرِيدُ أَخَاهُ- خَيْرًا يَأْتِ بِهِ. فَإِذَا إِنْسَانٌ يُحَرِّكُ الْبَابَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. فَقُلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ. ثُمَّ جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ: هَذَا عُمَرُ يَسْتَأْذِنُ، فَقَالَ: ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ. فَجِئْتُ عُمَرَ فَقُلْتُ: أَذِنَ وَيُبَشِّرُكَ رَسُولُ اللهِ بِالْجَنَّةِ. قَالَ: فَدَخَلَ فَجَلَسَ مَعَ رَسُولِ اللهِ فِي الْقُفِّ عَنْ يَسَارِهِ، وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فِي الْبِئْرِ،

إذَنْ، رسول الله في الوسط، وأبو بكر عن يمينه، وعمر عن شماله، وكلهم قد دَلَّوْا أرجلهم في البئر.

ثُمَّ رَجَعْتُ فَجَلَسْتُ، فَقُلْتُ: إِنْ يُرِدِ اللهُ بِفُلَانٍ خَيْرًا -يَعْنِي أَخَاهُ- يَأْتِ بِهِ، فَجَاءَ إِنْسَانٌ فَحَرَّكَ الْبَابَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ. فَقُلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ. قَالَ: وَجِئْتُ النَّبِيَّ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ، مَعَ بَلْوَى تُصِيبُهُ. قَالَ فَجِئْتُ فَقُلْتُ: ادْخُلْ، وَيُبَشِّرُكَ رَسُولُ اللهِ بِالْجَنَّةِ مَعَ بَلْوَى تُصِيبُكَ، قَالَ: فَدَخَلَ فَوَجَدَ الْقُفَّ قَدْ مُلِئَ، فَجَلَسَ وِجَاهَهُمْ مِنَ الشِّقِّ الْآخَرِ. قَالَ شَرِيكٌ: فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: فَأَوَّلْتُهَا قُبُورَهُمْ.

هذه الرواية فيها تفسير، وفيها زيادات على الرواية السابقة، ففيها أن النبي عليه الصلاة والسلام بشَّر هؤلاء الثلاثة بالجنة.

  • وأيضًا: في هذه القصة بهذه الرواية من الفوائد: أنَّ من أتى إنسانًا في المجلس ووجده على هيئةٍ؛ فمن المؤانسة والمباسطة له أن يفعل مثل فعله، إذا كان هذا الأمر ليس منكرًا وليس مما يستحيا منه، فرسول الله كان قد جلس على حافَة البئر ودلَّى رجليه، فأتى أبو بكر وفعل مثلما فعل، وأتى عمر وفعل مثلما فعل؛ فهذا من المؤانسة والمباسطة لمن يكون في المجلس، يعني مثلًا: أتيت إلى مجلس وقد تبسطوا، مثلًا: خلعوا غترهم فتفعل مثلما يفعلون، كانوا في البَرِّيَّة مثلًا، وخلعوا الغتر، فتفعل مثلما يفعلون، هذا من باب المؤانسة والمباسطة للحاضرين أن تفعل مثلما يفعلون، ما لم يكن ذلك أمرًا منكرًا، لكن إذا كان من الأمور المباحة فمن المؤانسة لأهل المجلس أن تفعل مثل ما يفعلون؛ لأن هذا أبلغ في إدخال الأنس والسرور عليهم.

قال سعيد بن المسيَّب رحمه الله: “فأولتها قبورهم”. يعني: أوَّل هذا المظهر بقبور النبي عليه الصلاة والسلام وأبي بكر وعمر وعثمان ، فالنبي وعن يمينه أبو بكر ، وعن يساره عمر ، فأوَّل سعيد بن المسيَّب رحمه الله بأن النبي عليه الصلاة والسلام سيدفن، وسيدفن عن يمينه أبو بكر ، وسيدفن عن يساره عمر ، وهذا هو الذي وقع بالفعل.

وأما عثمان فإنه لن يدفن معهم، وإنما سيدفن في مكان آخر، وهذا هو الذي وقع بالفعل، حيث دفن عثمان في البقيع.

لكن قول سعيد رحمه الله: “فأوّلتها..”. هل المقصود بذلك أنها رؤيا عبَّرها، أو المقصود غير ذلك؟

الجواب: قال الشُّرَّاح: إنها ليست رؤيا، وإنما هذا من باب الفِرَاسة الصادقة، فهو قد تفرَّس لمَّا رأى هذا المظهر تفرَّس بأن هذا هو الذي سيكون، وقد صدقت فراسته، وإلا ليست رؤيا، ولم يرد في الرواية ما يدل على أنها رؤيا؛ إنما المقصود أنه قد تفرس في ذلك، يقول: إن صدقت فراستي فهذا هو الذي سيكون، أن النبي عليه الصلاة والسلام سيدفن وبجواره صاحباه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وأما عثمان فلن يدفن معهم، وإنما سيدفن في مكان آخر؛ لأن عثمان في هذه القصة لم يكن معهم على نفس الجانب، وإنما كان في الجهة المقابلة لهم.

ثم ساق المصنف رحمه الله أيضًا هذا الحديث برواية أخرى، وقال في آخره:

قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: فَتَأَوَّلْتُ ذَلِكَ قُبُورَهُمُ اجْتَمَعَتْ هَاهُنَا، وَانْفَرَدَ عُثْمَانُ .

كلهم قد دفنوا في المدينة، لكن النبي عليه الصلاة والسلام دفن في حجرة عائشة رضي الله عنها، ودفن بجواره أبو بكر وعمر ، وأما عثمان فدفن في مقبرة البَقِيع.

النبي دفن في حجرة عائشة رضي الله عنها؛ لأنه هو المكان الذي قبض فيه، والأنبياء يدفنون في الأماكن التي يقبضون فيها، ولذلك؛ دفن عليه الصلاة والسلام في حجرة عائشة رضي الله عنها؛ لأنه قد قبض في حجرة عائشة رضي الله عنها، ثم دفن أبو بكر الصديق معه، وكانت عائشة رضي الله عنها تريد أن تجعل القبر الثاني لها، ولكن لما قُتل عمر بن الخطاب ، من محبتها له وتوقيرها وتعظيمها له، قالت: آثرتُ عمر على نفسي، فطلبت أن يدفن عمر بجوار النبي وأبي بكر الصديق ، وهذا هو الذي حصل، قبر النبي عليه الصلاة والسلام، وبجواره قبر صاحبيه؛ أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، أما عثمان فقد دفن في مقبرة البقيع.

قبر النبي عليه الصلاة والسلام، قد أحيط ببناء من جميع الجهات، وهذا من توفيق الله تعالى للصحابة، أنهم فعلوا ذلك؛ حتى لا يُغْلَى في قبره عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لو بقي مكشوفًا كسائر القبور لأتى من يغلو فيه ويدعوه من دون الله، ويستغيث به من دون الله، بل ويعبده من دون الله تعالى، فمن توفيق الله تعالى للصحابة أنهم أحاطوا القبر بالبناء من جميع الجهات، فلا أحد يستطيع أن يصل إليه، فلم يكن قبره مكشوفًا وبارزًا كسائر القبور لهذا المعنى؛ حتى لا يُغلى فيه.

من فضائل علي بن أبي طالب

ننتقل بعد ذلك لفضائل عليٍّ :

4 – بَابُ مِنْ فَضَائِلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ

30 – (2404) حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، وَعُبَيْدُ اللهِ الْقَوَارِيرِيُّ، وَسُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ كُلُّهُمْ، عَنْ يُوسُفَ الْمَاجِشُونِ، -وَاللَّفْظُ لِابْنِ الصَّبَّاحِ- حَدَّثَنَا يُوسُفُ أَبُو سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ –يعني عن سعد بن أبي وقاص– قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ لِعَلِيٍّ: أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي. قَالَ سَعِيدٌ: فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُشَافِهَ بِهَا سَعْدًا، فَلَقِيتُ سَعْدًا فَحَدَّثْتُهُ بِمَا حَدَّثَنِي عَامِرٌ، فَقَالَ: أَنَا سَمِعْتُهُ، فَقُلْتُ آنْتَ سَمِعْتَهُ؟ فَوَضَعَ إِصْبَعَيْهِ عَلَى أُذُنَيْهِ فَقَالَ: نَعَمْ، وَإِلَّا فَاسْتَكَّتَا.

هذه القصة التي ذكرها سعد بن أبي وقاص ، وأنه سمع هذا من النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا ساقه المصنف رحمه الله بعدة روايات.

في الرواية الأخرى: 

قَالَ: خَلَّفَ رَسُولُ اللهِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ر فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، تُخَلِّفُنِي فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟! فَقَالَ: أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟ غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي؟.

النبي عليه الصلاة والسلام، كان من هديه أنه إذا كان يريد مغادرة المدينة، إما لغزوة أو لحج أو لعمرة أو لغير ذلك، فإنه يستخلف على المدينة من يقوم مقامه في رعاية أهلها، فلما أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يذهب إلى تبوك، استخلف على المدينة علي بن أبي طالب فحزَّ ذلك في نفس عليٍّ، وقال: تخلفني في النساء والصبيان؟! يعني: أنا أريد أن أذهب معك إلى تبوك أيضًا؛ فالنبي أراد أن يطيِّب خاطره فأتى بهذه الكلمات العظيمة، وقال له: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؛ لأن موسى استخلف هارون  على قومه لمَّا ذهب لميقات ربِّه، فكأنه يقول عليه الصلاة والسلام: أنا أستخلفك يا عليُّ عَلَى المدينة كما استخلف موسى هارونَ عليهما السلام، فإن موسى لما ذهب لميقات ربه ليكلمه الله ، وكان قد واعده ثلاثين ليلة، ثم أتَمَّها بعشر فكانت أربعين ليلة، فاستخلف موسى على بني إسرائيل هارون ، فهنا في هذه القصة، النبي عليه الصلاة والسلام لمَّا ذهب إلى تبوك في غزوة تبوك استخلف على أهل المدينة علي بن أبي طالب ، وقال مطيبًا لخاطر عليٍّ : أنت مني بمنزلة هارون من موسى. يعني كما استخلف موسى هارونَ على بني إسرائيل لما ذهب لميقات ربه؛ فأنا استخلفتك على أهل المدينة لما ذهبتُ إلى تبوك، هذا هو معنى هذا الحديث.

هذا الحديث، أولًا الكلمات التي تحتاج إلى توضيح: أن سعيد بن المسيَّب رحمه الله سمع هذا الحديث من عامر بن سعد بن أبي وقاص ، ثم إن سعيد بن المسيَّب رحمه الله لمَّا لقِيَ سعدًا أراد أن يتأكد من الحديث، فسأل سعدًا: هل أنت سمعته؟ قال: فوضع سعد بن أبي وقاص أصبعيه على أذنيه، وقال: نعم -يعني: أنا سمعت هذا الحديث من رسول الله – وإلا فاستَكَّتَا. يعني: صُمَّتَا، يعني: كأنه يدعو يقول: إن لم أكن سمعته فإذَنْ أُصابُ بالصَّمَم، وهذا هو المقصود، فهو من باب التأكيد لكونه قد سمع هذا الحديث من النبي .

من فوائد حديث أنت مني بمنزلة هارون من موسى..

  • فضل عليٍّ ، وأنه ذو مكانة عند الله ، حيث جعله الله تعالى من نبيه محمدٍ بمنزلة هارون من موسى ، وهذا غاية الفضل والكمال، وعليٌّ هو أفضل الصحابة بعد أبي بكر وعمر وعثمان .

وقد أجمع أهل السنة على أن أفضل الصحابة أبو بكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب .

واختلفوا: هل الأفضل بعد عمر عثمانُ أو عليٌّ؟ 

فقال جمهور أهل السُّنة: إن الأفضل عثمان .

وقال بعضهم: إن الأفضل عليٌّ .

والراجح: أن الأفضل عثمان  أجمعين.

أيضًا: هذا الحديث مما تعلق به الشيعة في أن الخلافة كانت حقًّا لعليٍّ ، وأن النبي وصَّى له بها؛ لأنه قال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى. ولا حجة لهم فيه؛ لأن هذا الحديث لا يدل على أن الخلافة لعليٍّ بعد النبي عليه الصلاة والسلام، بل فيه إثبات فضيلة عليٍّ ولم يتعرض النبي عليه الصلاة والسلام لكونه الأحق بالخلافة من بعده؛ وإنما قال ذلك تطييبًا لخاطره؛ لأن عليًّا قال: تُخَلِّفُني في النساء والصبيان؟ فقال تطييبًا لخاطره: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟. ويؤيد هذا: أن هارون المُشبَّهَ به لم يكن خليفة بعد موسى ، بل توفي في حياة موسى وقبل وفاة موسى -قيل: بنحو أربعين سنة- وإنما استخلفه موسى عليه الصلاة والسلام حين ذهب لميقات ربه للمناجاة.

  • أيضًا من الفوائد: قال النووي رحمه الله: قال العلماء: وفي هذا الحديث دليل على أن عيسى ابن مريم إذا نزل في آخر الزمان نزل حَكَمًا من حُكام هذه الأمة، يحكم بشريعة نبينا محمدٍ ، ولا يَنزل نبيًّا.

وهذا المعنى قد دلت له نصوص كثيرة، فإن الله يقول عن نبيه عليه الصلاة والسلام: وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ[الأحزاب: 40]. فهو خاتم النبيين، وهو آخر الأنبياء والرسل، وأما عيسى عليه الصلاة والسلام عندما ينزل فإنه ينزل مجَدِّدًا لشريعة محمدٍ ، فهو يحكم بشريعة محمدٍ عليهما الصلاة والسلام، ولا يأتي بشرعٍ جديدٍ، ولذلك؛ عندما ينزل عيسى عليه الصلاة والسلام ينزل على المسلمين وقد أقيمت صلاة الفجر، وقد اصطفوا لصلاة الفجر، فينزل عيسى عليه الصلاة والسلام، يُنزِله ملكان، فإذا رآه المسلمون عَرَفوه، وقد حدد النبي عليه الصلاة والسلام مكان نزوله، وهو في دمشق في الشام، عندما ينزل عيسى يطلب إمامُ المسلمين من عيسى أن يتقدم ويصلي بهم إكرامًا له، فيأبى عيسى عليه الصلاة والسلام ويقول لإمام المسلمين: تقدَّم أنت وصلِّ؛ إكرامًا لهذه الأُمَّة، فيصلي معهم عيسى مأمومًا، ثم بعد ذلك يلحق عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام بالمسيح الدجال حتى يدركه بـ(بابِ لُدٍّ) فيقتله، ثم يَحكم بشريعة الإسلام، ويعم الإسلام الكرة الأرضية كلها، حتى لا يبقى بيت شجرٍ ولا حجرٍ ولا مَدَرٍ إلا أدخله الله تعالى هذا الدين، بعز عزيزٍ أو ذل ذليلٍ.

فإذَنْ، قوله: إلا أنه لا نبي بعدي. يدل على أن عيسى عليه الصلاة والسلام عندما ينزل، ينزل مجَدِّدًا لشريعة محمدٍ .

الحكمة من نزول عيسى آخر الزمان

ولعل مِن الحكم مِن نزول عيسى : أن عيسى رفعه الله إليه لما أريدَ قتلُه، أَلقَى الله الشبه على غيره فظنوا أنه عيسى ، فقتلوا الشبيه، وأما عيسى فرفعه الله تعالى بجسده وروحه إلى السماء.

ومن حكمة الله : أن البشر خلقوا من الأرض ويعادون فيها: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى[طه: 55]

فمن حكمة الله تعالى أن عيسى ينزل إلى الأرض ويموت في الأرض كسائر البشر، هذا هو السبب الذي لأجله ينزل عيسى ، ولماذا عيسى من بين الأنبياء؟ لماذا عيسى هو الذي ينزل آخر الزمان؟

الذي يظهر: أن السبب -والله أعلم- هو هذا.

ثلاث مناقب لعلي بن أبي طالب

ننتقل بعد ذلك إلى الحديث التالي في فضائل عليٍّ :

32 – (2404) حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ -وَتَقَارَبَا فِي اللَّفْظِ- قَالَا: حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، وَهُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ -عَنْ بُكَيْرِ بْنِ مِسْمَارٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَمَرَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ سَعْدًا فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسُبَّ أَبَا التُّرَابِ؟ فَقَالَ: أَمَّا مَا ذَكَرْتُ ثَلَاثًا قَالَهُنَّ لَهُ رَسُولُ اللهِ فَلَنْ أَسُبَّهُ، لَأَنْ تَكُونَ لِي وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ لَهُ، خَلَّفَهُ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللهِ خَلَّفْتَنِي مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ : أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟ إِلَّا أَنَّهُ لَا نُبُوَّةَ بَعْدِي. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ: لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ. قَالَ: فَتَطَاوَلْنَا لَهَا، فَقَالَ: ادْعُوا لِي عَلِيًّا. فَأُتِيَ بِهِ أَرْمَدَ، فَبَصَقَ فِي عَيْنِهِ وَدَفَعَ الرَّايَةَ إِلَيْهِ، فَفَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ، وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ[آل عمران: 61]، دَعَا رَسُولُ اللهِ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا، فَقَالَ: اللهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي.

استشكال حول قول معاوية ما منعك أن تسبَّ أبا التراب؟

هذه القصة أيضًا فيها فضائل عليٍّ ، لكن فيها إشكال: معاوية صحابي جليلٌ، وقول معاوية : ما منعك أن تسبَّ أبا التراب؟

أولًا: أبو التراب، هي كنية عليٍّ ، وسيأتي بيان سببها: أن النبي عليه الصلاة والسلام لما أتاه وهو نائم على الترابٍ، فقام يمسح التراب من على ظهره، ويقول: قم أبا تراب، قم أبا تراب. فكان يسمَّى: أبا التراب، فمعاوية لم يسب عليًّا ، قول معاوية هذا: ما منعك -يعني: يا سعد- أن تسب أبا التراب، ليس فيه تصريح بأن معاوية أمر سعدًا بسبه، وإنما سأله عن السبب المانع له من السبِّ، كأنه يقول: هل امتنعت تورُّعًا أو خوفًا أو لغير ذلك؟

فإن كان تورعًا وإجلالًا له عن السب فأنت مصيب محسن، وإن كان غير ذلك فله جوابٌ آخر.

وهذا نَشَأ لمَّا حصلت الفتن، الفتن التي حصلت بعد مقتل عليٍّ ، فكان هناك طائفة تسب عليًّا ، فمعاوية استفسر من سعد ، وطرح عليه هذا السؤال، فسعد بن أبي وقاص أتى ببعض مناقب عليٍّ ، فأتى له به بثلاث مناقب، وقال: “لَأَنْ تكون لي واحدة منهن أحبُّ إليَّ من حمْر النَّعَم”.

إذَنْ، ينبغي أن يفهم الحديث بهذا الفهم، فمعاوية هو صحابيٌّ جليلٌ، معاذ الله أن يسب عليًّا ؛ وإنما طرح هذا السؤال على سعدٍ ؛ لأنه كان هناك أناس يسبون عليًّا ، فمعاوية يريد أن يستفسر من سعد يعني ما هو السبب؟ هل السبب تورعٌ وخوفٌ وإجلالٌ، أو أنه إجلالٌ ومحبةٌ أو لغير ذلك من الأسباب.

فإذَنْ، ليس فيه تصريح بأن معاوية أنه أمر بسب عليٍّ ، وإنما هو مجرد استفسارٍ فقط من معاوية لسعد بن أبي وقاصٍ عن السبب في هذا، وإلا، فكلهم صحابة رسول الله ، رضي الله عنهم وأرضاهم، وكلهم يريدون الحق، ويبحثون عن الحق، لكن هذه فتنةٌ وقعت فحصل ما حصل، وهو أمر قد قدره الله .

ما هي الخصال الثلاث التي ذكرها سعد ؟

ذكر له ثلاث خصال، ذكر سعد بن أبي وقاص لعليٍّ ثلاث خصالٍ، قال: “لَأَنْ تكون لي واحدة منهن أحبُّ إليَّ من حمْر النَّعَم»، وحمْر النَّعَم: هي الإبل، وهي أنفس الأموال عند العرب.

  • الخصلة الأولى: أن النبي قال له: أما ترضى أن تكون منِّي بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نُبُوَّة بعدي. وهذا فيه فضل عظيم لعليٍّ ، حيث جعله النبي قريبًا منه جدًّا، كمنزلة هارون من موسى عليهما السلام.
  • والفضيلة الثانية: أنَّ النبي قال يوم خيبر: لأُعطِيَنَّ الراية رجلًا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. فكلٌّ تَشَوَّف لأن يكون هذا الرجلَ؛ لأن هذا وصف عظيم، أن يكون الإنسان يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، ثم قال: ادعوا لي عليًّا فدَعَوْا عليًّا ، فإذا هو أَرْمَدُ، قد أصيبت عيناه بالرَّمَد.

فقال: ادعوا لي عليًّا. فدعوه له وهو أرمد، فبصق في عينه فبرئ بإذن الله ، ودفع النبي إليه الراية ففتح الله عليه.

  • والخصلة الثالثة: أنه لما نزل قول الله تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ[آل عمران: 61]، دعا رسول الله عليًّا وفاطمة والحسن والحسين ، وقال: اللهم هؤلاء أهلي. فجعل عليًّا من أهله، وهذه منقبة عظيمة لعليٍّ ، مع أنه ابن عم رسول الله ، وزوج ابنته، ومع ذلك اعتبره النبي من أهله.

فهذه ثلاث مناقب لعليٍّ ذكرها سعدٌ وتَمَنَّاها، وقال: «لأن تكون لي واحدة منهن أحبُّ إلي من حمْر النَّعَم».

ثم ساق المصنف رحمه الله أيضًا الحديث لعليٍّ : أَمَا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟. ثم حديث سهل .  

33 – (2405) قال حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِالرَّحْمَنِ الْقَارِيَّ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ، قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، يَفْتَحُ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنهما: مَا أَحْبَبْتُ الْإِمَارَةَ إِلَّا يَوْمَئِذٍ، قَالَ فَتَسَاوَرْتُ لَهَا –يعني: تطاولت لها وتشوفت لها– رَجَاءَ أَنْ أُدْعَى لَهَا، قَالَ فَدَعَا رَسُولُ اللهِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، وَقَالَ: امْشِ وَلَا تَلْتَفِتْ، حَتَّى يَفْتَحَ اللهُ عَلَيْكَ. قَالَ فَسَارَ عَلِيٌّ شَيْئًا، ثُمَّ وَقَفَ وَلَمْ يَلْتَفِتْ، فَصَرَخَ: يَا رَسُولَ اللهِ، عَلَى مَاذَا أُقَاتِلُ النَّاسَ؟ قَالَ: قَاتِلْهُمْ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ مَنَعُوا مِنْكَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ.

ثم أيضًا: ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث برواية أخرى:

أَنَّ النبيَّ ، قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ رَجُلًا يَفْتَحُ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ. قَالَ: فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا، قَالَ فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللهِ ، كُلُّهُمْ يَرْجُونَ أَنْ يُعْطَاهَا، فَقَالَ: أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ؟. فَقَالُوا: هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ. قَالَ فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِ. فَأُتِيَ بِهِ، فَبَصَقَ رَسُولُ اللهِ فِي عَيْنَيْهِ، وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ، حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ، فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا؟ فَقَالَ: انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ، حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللهِ فِيهِ، فَوَاللهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ.

ثم ساق أيضًا المصنف رحمه الله هذا الحديث: 

عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ قَدْ تَخَلَّفَ عَنِ النَّبِيِّ فِي خَيْبَرَ، وَكَانَ رَمِدًا، فَقَالَ: أَنَا أَتَخَلَّفُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ؟! فَخَرَجَ عَلِيٌّ فَلَحِقَ بِالنَّبِيِّ ، فَلَمَّا كَانَ مَسَاءُ اللَّيْلَةِ الَّتِي فَتَحَهَا اللهُ فِي صَبَاحِهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ : لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ، أَوْ لَيَأْخُذَنَّ بِالرَّايَةِ غَدًا رَجُلٌ يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، أَوْ قَالَ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، يَفْتَحُ اللهُ عَلَيْهِ. فَإِذَا نَحْنُ بِعَلِيٍّ، وَمَا نَرْجُوهُ. فَقَالُوا: هَذَا عَلِيٌّ، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللهِ الرَّايَةَ. فَفَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ.

هذه القصة قصة عظيمة، النبي يوم خيبر، قال: لأعطين هذه الراية رجلًا... وذكر أوصاف هذا الرجل:

  • الوصف الأول: أنه يفتح الله على يديه، فهو سينتصر.
  • الوصف الثاني: أنه يحب الله ورسوله.
  • الوصف الثالث: أنه -وهو الوصف الأعظم- يحبه الله ورسوله.

فذكر هذه الأوصاف الثلاثة العظيمة، ثم سكت عليه الصلاة والسلام، فجعل الناس يدوكون -يعني: يخوضون- وكل من الناس يرجو أن يكون ذلك الرجل.

عليٌّ كان قد تخلف عن رسول الله ؛ لكونه كان مريضًا، فقد أصيب بالرمد في عينيه، ثم إنه بعد ذلك تحامل على نفسه، وقال: أنا أتخلف عن رسول الله ؟! فخرج متحاملًا على نفسه مريضًا، فلحق بالنبي ، ولعل الله تعالى علم منه صدق النية وهذا الموقف العظيم، في كونه كان مريضًا ومعذورًا، ومع ذلك تحامل على نفسه، مع أن الرمد في عينيه، وتحامل على نفسه حتى أدرك النبي .

فلما أتى عليٌّ وهو خالي الذهن، لم يعلم بما قاله النبي ، والناس كلهم كل واحد منهم يرجو أن يكون ذلك الرجل الذي ذكر النبي فيه هذه الأوصاف الثلاثة العظيمة: 

  • الوصف الأول: أن الله يفتح على يديه.
  • والوصف الثاني: أنه يحب الله ورسوله.
  • والوصف الثالث: أنه يحبه الله ورسوله.

فهنا قال عليه الصلاة والسلام: ادعوا لي علي بن أبي طالب. وعمر على عظيم مكانته يقول: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ، تمنيت أن أكون ذلك الرجل؛ لأجل أن أنال هذه الأوصاف العظيمة المذكورة في هذا الحديث، ولكن نالها رجل كان خاليَ الذهن ما كان يعلم بما قاله النبي عليه الصلاة والسلام، ولكنه فعل هذا الموقف العظيم، تحامل على نفسه وهو مريض حتى لحق بالنبي .

ولما قال عليه الصلاة والسلام: ادعوا لي عليًّا. قالوا: إنه مريض وبعينيه رَمَدٌ، قال: ادعوا لي عليًّا. فلما دعوه له وهو مريض، بصق في عينيه فشفاه الله تعالى، فأعطاه النبي الراية وقال: لا تلتفت. وهو سائر لم يلتفت، صرخ ونادى، وقال: يا رسول الله، أقاتلهم على ماذا؟ قال: حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله تعالى. وفي الرواية الأخرى: قال: ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله، فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا، خير لك من حُمْر النَّعَم.

فوائد من قصة حديث لَأعطين الراية غدا..

  • أولًا: فضل عليٍّ ، حيث نال هذه المناقب العظيمة المذكورة في هذا الحديث، والتي تَشَوَّف لها جميع الصحابة بمن فيهم عمر ، حتى إن عمر يقول: ما تمنيت الإمارة إلا يومئذ رجاء أن أنال هذه المناقب الثلاث المذكورة في الحديث، وهي: أن الله يفتح على يديه، وأنه يحب الله ورسوله، وأنه يحبه الله ورسوله؛ وهذا يدل على فضل عليٍّ فهو من أفاضل الصحابة، وهو من الخلفاء الراشدين الأربعة، ومن العشرة المبشرين بالجنة.
  • أيضًا من فوائد هذه القصة: فيها معجزة ظاهرة للنبي عليه الصلاة والسلام؛ قولية وفعلية، أما القولية: فإعلامه بأن الله يفتح على يديه، وهذا ما تحقق بالفعل، وأما الفعلية، فبَصْقُه في عينيه فشفاه الله من الرَّمَد تمامًا.
  • أيضًا من الفوائد: أنه يُشترَط في صحة الإسلام: النطق بالشهادتين فإنه عليه الصلاة والسلام قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. فمن أسلم فلا بد من أن يتلفظ بالشهادتين، فإذا قال إنسان: أنا أريد أن أسلم، فنقول: قل أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهدُ أن محمدًا رسول الله، لا بد من النطق بالشهادتين.
  • أيضًا في هذا الحديث من الفوائد: فضل الدعوة إلى الله ؛ لقوله : فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حُمْر النَّعم. وحُمْر النَّعَم: هي الإبل، وهي أنفس أموال العرب، يضربون بها المثل في نفاسة الشيء، وهذا يدل على أن التسبب في هداية رجلٍ واحدٍ خيرٌ للإنسان من أموالٍ كثيرةٍ، خير لك من حمر النعم، خير لك من أنفَس الأموال وأفضل الأموال؛ لأن الله تعالى إذا هدى على يديك رجلًا واحدًا فإنه يكون لك مثل أجور أعماله الصالحة، يكون لك مثل أجور صلاته وصيامه وزكاته وحجه، وجميع أعماله الصالحة؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: من دعا إلى هدًى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا [4]. لو أسلم على يديك رجلٌ واحدٌ يكون لك مثل أجور أعماله الصالحة، فجميع أجور صلواته وزكواته وحجه وصيامه وجميع أعماله الصالحة يكون لك مثل أجره، من غير أن ينقص من أجره شيء، وهذا فضل عظيم، من أسلم على يده رجل واحد فقط، فقد حقق إنجازًا عظيمًا في حياته، كأنه كتب له عمر جديد مع عمره؛ لأنه يكتب له مثل أجور هذا الذي قد أسلم على يديه، إذا تسببت في إسلام شخص واحد فقط، يكون لك مثل أجور أعماله الصالحة إلى أن يموت، فكيف لو تسببت في إسلام أكثر من رجل؟ وهذا يدل على فضل الدعوة إلى الله ، ولهذا؛ قال عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حُمْر النَّعَم. والله يقول: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ لا أحد أحسن من هذه الفضيلة: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ[فصلت: 33].

وصية النبي بأهل بيته

ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث من حديث زيد بن أرقم .

36 – (2408) قال حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَشُجَاعُ بْنُ مَخْلَدٍ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنِي أَبُو حَيَّانَ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ حَيَّانَ، قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَحُصَيْنُ بْنُ سَبْرَةَ، وَعُمَرُ بْنُ مُسْلِمٍ، إِلَى زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ –زيد بن أرقم صحابي جليل كان من صغار الصحابة– فَلَمَّا جَلَسْنَا إِلَيْهِ قَالَ لَهُ حُصَيْنٌ: لَقَدْ لَقِيتَ يَا زَيْدُ خَيْرًا كَثِيرًا، رَأَيْتَ رَسُولَ اللهِ ، وَسَمِعْتَ حَدِيثَهُ، وَغَزَوْتَ مَعَهُ، وَصَلَّيْتَ خَلْفَهُ لَقَدْ لَقِيتَ، يَا زَيْدُ خَيْرًا كَثِيرًا، حَدِّثْنَا يَا زَيْدُ مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللهِ ، قَالَ زيد: يَا ابْنَ أَخِي، وَاللهِ لَقَدْ كَبِرَتْ سِنِّي، وَقَدُمَ عَهْدِي، وَنَسِيتُ بَعْضَ الَّذِي كُنْتُ أَعِي مِنْ رَسُولِ اللهِ ، فَمَا حَدَّثْتُكُمْ فَاقْبَلُوا، وَمَا لَا، فَلَا تُكَلِّفُونِيهِ.

يعني: كأنهم كلموا زيدًا على كبر سنه، ثم ذكر بعض ما حفظ.

ثُمَّ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللهِ يَوْمًا فِينَا خَطِيبًا، بِمَاءٍ يُدْعَى (خُمًّا) بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ –وهو اسم لغَيضَةٍ عندها غَدِيرٌ مشهورٌ يقال له: غدير خُمٍّ- فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَوَعَظَ وَذَكَّرَ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ.

وسماهما: “ثَقَلَين”؛ لعِظَمِهما وكِبَرِ شأنهما.

أَوَّلُهُمَا: كِتَابُ اللهِ؛ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ، فَخُذُوا بِكِتَابِ اللهِ، وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ. فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللهِ وَرَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ –يعني: والثقل الثاني-: وَأَهْلُ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي.

قالها ثلاث مرات يوصي بهم.

فَقَالَ لَهُ حُصَيْنٌ –يعني قال لزيد-: وَمَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ يَا زَيْدُ؟ أَلَيْسَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ؟ قَالَ: نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ.

يعني أن نساءه من أهل مسكنه، وإنما أهل بيته المراد بهم:

وَلَكِنْ أَهْلُ بَيْتِهِ مَنْ حُرِمَ الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ.

يعني: من كان لا يجوز له أن يأخذ من الزكاة.

قَالَ: وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ آلُ عَلِيٍّ، وَآلُ عَقِيلٍ، وَآلُ جَعْفَرٍ، وَآلُ عَبَّاسٍ. قَالَ: كُلُّ هَؤُلَاءِ حُرِمَ الصَّدَقَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ.

هذه القصة أوردها المصنف رحمه الله، عن زيد بن أرقم ، وفيها: أن النبي عليه الصلاة والسلام خطب الناس في هذا المكان عند ماء خُمٍّ، فحمد الله وأثنى عليه، وأوصاهم بثَقَلَين، يعني أمرين عظيمين:

  • الأمر الأول: التمسك بكتاب الله ؛ ففيه الهدى والنور.
  • والأمر الثاني: الوصية بأهل البيت، باحترامهم وتوقيرهم ومعرفة حقهم.

مَنْ هم أهل بيت النبي ؟

فسئل زيدٌ : مَن أهل البيت؟ هل نساؤه من أهل بيته؟

قال: لا، نساؤه من أهل مسكنه، ولكن أهل بيته من كان لا تحل لهم الزكاة، وهم: آل علي بن أبي طالب، وآل عقيل بن أبي طالب، وآل جعفر بن أبي طالب، وآل عباس بن عبدالمطلب، يعني يريد بذلك بني هاشم، وهذا فيه حجة لمن قال: إن آل البيت الذين لا تحل لهم الزكاة هم بنو هاشم.

وهذه المسألة اختلف فيها الفقهاء: من هم أهل البيت الذين لا تحل لهم الزكاة؟

أولًا: الصدقة والهبة تحل لأهل البيت، وقد نُقل الإجماع على ذلك.

ولكن الخلاف في الزكاة: من هم أهل البيت الذين يحرم عليهم أخذ الزكاة؟ 

اختلف العلماء في ذلك على قولين:

  • القول الأول: أن المراد بأهل البيت الذين لا تحل لهم الزكاة: هم بنو هاشم.
  • والقول الثاني: أنهم بنو هاشم وبنو المطلب؛ وذلك أن بني هاشم هم ذرية هاشم بن عبدمناف، وهاشم هو الأب الثالث للنبي عليه الصلاة والسلام، فإنه محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم، فهو الجد الثاني والأب الثالث.

عبدمناف له أربعة أبناء: هاشم والمطلب ونوفل وعبدشمس.

أما بنو نوفل وبنو عبدشمس، فهؤلاء ليسوا من أهل البيت، لكن بنو المطلب اختلف العلماء: هل يدخلون مع بني هاشم في أهل البيت في أنهم لا تحل لهم الزكاة؟

أولًا: بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد في النصرة، ولما حاصرت قريش بني هاشم انضم إليها بنو المطلب، وقال عليه الصلاة والسلام: إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيءٌ واحدٌ [5]، ولكن هذا إنما هو في الخُمُس؛ لأنه مبنيٌّ على النُّصرة والمُؤازرة.

وأما الزكاة: فالقول الراجح: أن الذين لا تحل لهم الزكاة هم بنو هاشم فقط، ولا يشمل ذلك بني المطلب؛ لأنهم ليسوا من آل النبي .

إذَنْ، القول الراجح في أهل البيت الذين لا تحل لهم الزكاة: أنهم بنو هاشم، وأنه لا يدخل معهم بنو المطلب، هذا هو القول الراجح الذي اختاره جمع من المحققين من أهل العلم.

حكم أخذ فقراء بني هاشم من الزكاة إذا لم يعطوا من الخمس

لكن لو أن بني هاشم لم يُعْطَوا من الخمس وكانوا فقراء، فهل يجوز لهم أن يأخذوا من الزكاة؟

اختلف الفقهاء في ذلك؛ فمنهم من أخذ بعموم الأدلة، وقال: لا يحل لهم أن يأخذوا من الزكاة حتى لو كانوا فقراء.

والقول الثاني: أن بني هاشم إذا كانوا فقراء ولم يعطوا من الخمس ما يكفيهم، فيجوز لهم الأخذ من الزكاة دفعًا لضرورتهم، وهذا هو القول الراجح، واختاره جمع من المحققين من أهل العلم، أنهم يعطون من الزكاة في هذه الحال.

إذَنْ، هذا هو تحقيق الكلام في المقصود بأهل البيت الذين لا تحل لهم الزكاة.

ثم ساق المصنف رحمه الله هذا الحديث بروايات أخرى، وجاء في بعض الروايات: 

فَقُلْنَا: مَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ؟ نِسَاؤُهُ؟ قَالَ: لَا، وَايْمُ اللهِ إِنَّ الْمَرْأَةَ تَكُونُ مَعَ الرَّجُلِ الْعَصْرَ مِنَ الدَّهْرِ -يعني قطعة من الدهر- ثُمَّ يُطَلِّقُهَا فَتَرْجِعُ إِلَى أَبِيهَا وَقَوْمِهَا، أَهْلُ بَيْتِهِ: أَصْلُهُ وَعَصَبَتُهُ الَّذِينَ حُرِمُوا الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ.

فظاهر من هذا: أنه إنما يريد زيدٌ بأهل البيت، لا يريد النساء؛ وإنما المراد بني هاشم.

ونكتفي بهذا القدر.

ونقف عند قصة أبي تراب .

وبقية الوقت نجيب فيه عما تيسر من الأسئلة. 

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة والأجوبة

نصيحة لمن يقول: أدعو ولم أجد إجابة

السؤال: أدعو كل يوم ولم أجد إجابة، فما نصيحتكم؟

الجواب: قضاء الحاجات أخَصُّ من إجابة الدعاء، فالنبي أخبر بأنه ما من داع يدعو إلا حصل له بتلك الدعوة إحدى ثلاث:

إما أن تعجل له الإجابة في الدنيا -يعني تقضى حاجته- وإما أن تُدَّخَر له في الآخرة، وإما أن يُدفع عنه من السوء مثلها، قالوا: إذَنْ نكثر يا رسول الله، قال: الله أكثر. فهذا يدل على أن إجابة الدعاء أعَمُّ من قضاء الحاجات، فقد لا تُقضَى حاجة الإنسان لكن تجاب دعوته، وذلك بأن يَدَّخِر الله تعالى هذه الدعوة له في الآخرة، أو أن يدفع عنه من السوء مثلها، والمهم: أن المسلم إذا دعا الله لا يستعجل الإجابة، ولهذا؛ قال عليه الصلاة والسلام: يستجاب لأحدكم مالم يَعْجَل. قالوا: كيف يعجل يا رسول الله؟ قال: يقول: قد دعوت وقد دعوت، فلم يستجب لي [6].

حكم غِيبة الميت

السؤال: ما حكم غِيبة الميت؟ وهل هناك فرق بين غيبة الميت والحي؟

الجواب: غِيبة الميت محرمة، ولا فرق بين غيبة الميت والحي، الغيبة: هي ذكرك أخاك بما يكره، سواء كان حيًّا أو ميتًا.

حكم العدل بين الأحفاد في العطية

السؤال: ما حكم العدل بين الأحفاد في العطية؟ هل هو واجب؟

الجواب: ليس واجبًا، العدل الواجب إنما هو خاص بالأولاد من الذكور والإناث، وبالزوجات فقط، ولا يجب على الإنسان أن يعدل بين سائر أقاربه، فلا يجب عليه أن يعدل بين أحفاده، يجوز له أن يخص بعض أحفاده بهبة أو عطية، ولا يجب عليه أن يعدل بين إخوانه، يجوز له أن يخص بعض إخوانه أو بعض أخواته بهبة أو عطية، ولا يجب عليه أن يعدل بين أعمامه ولا بين أخواله ولا بين خالاته؛ إنما العدل الواجب بين أولاده من بنين وبنات، وبين زوجاته إن كان له أكثر من زوجة.

حكم من نسي تكبيرة من تكبيرات الانتقال

السؤال: في الصلاة لو نسيت قول: “الله أكبر”. بعد الرفع من السجود، حتى استويت قائمًا في الركعة الأخرى، هل أُلغِي الإتيانَ بها وأسجد للسهو؟ وكذلك قول: “ربنا ولك الحمد”؟

الجواب: نعم، من نسي أن يقول: “الله أكبر”. ولم تكن هذه التكبيرة تكبيرة الإحرام فيكون قد ترك واجبًا من واجبات الصلاة، ويُجبَر هذا الواجب بسجود السهو، كل واجبٍ من واجبات الصلاة فإنه يُجبَر ذلك بسجود السهو في آخر صلاته.

كيفية وصول طالب العلم إلى الدليل

السؤال: كيف يصل طالب العلم إلى الدليل في المسائل الخلافية بين العلماء؟

الجواب: يكون بالرجوع لكتب أهل العلم، ويركز على كتب المحققين من أهل العلم؛ لأنهم هم الذين يعتنون بذكر الدليل، ومن أبرز المحققين: الإمام ابن تيمية، والإمام ابن القيم، وكذلك أيضًا من المعاصرين: الشيخ عبدالرحمن بن سعدي، وشيخنا عبدالعزيز بن باز، والشيخ محمد بن عثيمين، رحمة الله تعالى على الجميع، فيحرص على القراءة في كتب المحققين، فيجد أن هؤلاء المحققين لهم عناية بذكر الأدلة في المسائل الخلافية.

زكاة الأسهم

السؤال: شخص عنده نصاب الزكاة، وقبل إتمام العام عليها اشترى أسهمًا بغرض الاستثمار، متى تجب الزكاة؟

الجواب: إذا كان اشترى أسهمًا بغرض الاستثمار، فالشركات عندنا في المملكة العربية السعودية تزكي عن المساهمين، وتكفي زكاة الشركة، والمساهم لا يخلو؛ إما أن يكون مستثمرًا، أو مضاربًا.

فإن كان مستثمرًا، أي إن تملَّك هذه الأسهم اشتراها أو اكتتب فيها، المهم أنها ملك له، وتركها، لم يتاجر فيها لم يضارب فيها، فتكفي زكوات الشركات، الشركة تزكي فلا يحتاج إلى أن يزكي هو مرة أخرى.

أما إذا كان المساهم مضاربًا أي متاجرًا يبيع ويشتري فيها، فهذا يجب عليه أن يزكيها بغض النظر عن زكاة الشركة، وذلك بأن يقوم ما لديه في المحفظة عند نهاية العام ويخرج ربع عشر قيمتها.

ونكتفي بهذا القدر.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه أحمد: 23824.
^2 رواه مسلم: 3000.
^3 على الظرفية، والعامل فيه: خَرَجَ، أي: خرج في هذه الجهة. ينظر: “المفهم” للقرطبي: 6/ 264.
^4 رواه مسلم: 2674.
^5 رواه البخاري: 3140.
^6 رواه البخاري: 6340، ومسلم: 2735.
zh