عناصر المادة
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
ما يجوز فعله من الصلوات في أوقات النهي
أولًا: الفرائض الفائتة
فيجوز قضاؤها في جميع أوقات النهي؛ لقول الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14].
قال أكثر المفسرين: معنى الآية: أقم الصلاة متى ذكرت أن عليك صلاة، سواء كنت في وقتها أو لَـم تكن.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره في معنى هذه الآية: “وقوله: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي قيل: معناه: صلِّ لتذكرني، وقيل: معناه وأقم الصلاة عند ذكرك لي، ويشهد لهذا الثاني حديث أنسٍ : أن النبي قال: إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها، فليصلها إذا ذكرها، فإن الله تعالى يقول: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [1]، وهذا الحديث مُـخرَّجٌ في الصحيحين.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “وقيل المعنى: إذا ذكرت الصلاة فقد ذكرتني، فإن الصلاة عبادةٌ لله، فمتى ذكرها ذكر المعبود، فكأنه أراد لذكر الصلاة”.
ومـمَّا يدل على جواز قضاء الفرائض في أوقات النهي: ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : من أدرك ركعةً من الصبح قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعةً من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر [2].
وفي روايةٍ عند أحمد: من صلى من صلاة الصبح ركعةً قبل أن تطلع الشمس ثم طلعت، فليصلِّ إليها أخرى [3].
وهذا الحديث صريحٌ في مشروعية الصلاة حين طلوع الشمس وحين غروبـها، وهما من الأوقات التي النهي عن الصلاة فيها شديد، بل جاء في الرواية الأخرى الأمر بصلاة الركعة الثانية من الفجر وقت طلوع الشمس، فهو نصٌ في المسألة.
ويدل لذلك أيضًا: ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة : أن النبي قال: من نام عن صلاةٍ أو نسيها؛ فليصلها إذا ذكرها، لا كفَّارة لها إلا ذلك [4].
وفي (صحيح مسلمٍ) عن أبي قتادة : أن النبي قال: أما إنه ليس في النوم تفريط، إنـما التفريط على من لـم يصلِّ الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى، فمن فعل فليصلها حين ينتبه لها [5].
فأمر النبي من نام عن الصلاة أو نسيها أن يصلها حين ينتبه لها، وحين يذكر، ولـم يُخصِّص وقتًا دون وقت، فهو يتناول جميع الأوقات بـما في ذلك جميع أوقات النهي.
والحاصل: أنه يجوز قضاء الصلاة في جميع أوقات النهي، فيكون هذا مستثنًـى من أحاديث النهي عن الصلاة في هذه الأوقات.
ثانيًا: الصلاة على الجنازة
وتجوز الصلاة على الجنازة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد صلاة العصر حتى تـميل الشمس للغروب، وقد حُكِي الإجماع على ذلك.
قال ابن المنذر رحمه الله: “إجماع المسلمين في الصلاة على الجنازة بعد العصر والصبح”.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “وهذا بغير خلاف”.
أما الصلاة على الجنازة في الأوقات الثلاثة الأخرى المذكورة في حديث عقبة: “حين تطلع الشمس بازغةً حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تـميل الشمس، وحين تَضيَّف الشمس للغروب حتى تغرب” فقد اختلف العلماء في حكم الصلاة على الجنازة في هذه الأوقات:
فجمهور العلماء على أنه لا تُشرع الصلاة على الجنازة في هذه الأوقات، وهو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة.
لحديث عقبة بن عامر السابق ذكره، وجاء في أوله: “ثلاث ساعاتٍ كان النبي ينهانا عن الصلاة فيهنَّ، وأن نقبر فيهنَّ موتانا” [6].
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “وذكره للصلاة مقرونًا بالدفن يدل على إرادة صلاة الجنازة”.
وذهب الشافعية إلى مشروعية الصلاة على الجنازة في هذه الأوقات، وهو روايةٌ عن مالك وأحمد؛ لأن الصلاة على الجنازة تُباح بعد الفجر، وبعد العصر بالإجماع، وهما من أوقات النهي، فأبيحت في سائر أوقات النهي كالفرائض، وقياسًا على صلاة ذات السبب، والتي وردت أدلةٌ كثيرةٌ تدل على جواز فعلها في وقت النهي.
ولعل هذا القول الأخير، وهو: أن صلاة الجنازة تُبَاح في هذه الأوقات الثلاثة؛ لعله هو الأقرب في هذه المسألة -والله تعالى أعلم- وقد اختاره جمعٌ من المـحققين من أهل العلم، كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تعالى على الجميع.
وأما ما استدلَّ به أصحاب القول الأول من حديث عقبة بن عامر ، فإن القول بأن المراد بالصلاة في الحديث صلاة الجنازة قولٌ بعيد؛ ولهذا قال السندي في حاشيته على سنن النسائي: “ولا يخفى أنه تأويلٌ بعيدٌ، لا ينساق إليه الذهن من لفظ الحديث”.
ثالثًا: صلاة ذوات الأسباب
وأما ذوات الأسباب، كركعتي تحية المسجد، وصلاة الكسوف، وركعتي الطواف، ونحو ذلك مـمَّا له سبب، فهل يجوز فعلها في أوقات النهي؟
اختلف العلماء في ذلك:
- فذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز فعل ذوات الأسباب من النوافل في أوقات النهي مطلقًا.
- وذهب بعض العلماء إلى جواز فعل ذوات الأسباب في أوقات النهي عند وجود سببها، وهو مذهب الشافعية، وروايةٌ عند الحنابلة.
ولعل هذا القول الأخير هو الأقرب في هذه المسألة -والله تعالى أعلم- وقد اختاره جمعٌ من المـحققين من أهل العلم، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم رحمهما الله تعالى جميعًا.
ويدل لذلك: أن الأحاديث الواردة في فعل ذوات الأسباب عند وجود سببها عامةٌ محفوظةٌ لـم تخصص، بخلاف أحاديث النهي عن الصلاة، فإنـها مخصوصةٌ بـما سبق من صلاة الفريضة الفائتة، فإنه يجوز فعلها في أوقات النهي، كما في قول النبي : من أدرك من الصبح ركعةً قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، وفي روايةٍ: فليصلِّ إليها أخرى [7].
ومخصوصٌ كذلك بـما سبق من جواز أداء صلاة الجنازة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد صلاة العصر حتى تـميل الشمس للغروب، وقد سبق نقل إجماع العلماء على ذلك.
والقاعدة: أن العام المـحفوظ الذي لـم يُخصَّص أقوى من العام المخصوص.
ثم إن ذوات الأسباب مقرونةٌ بأسبابٍ، فيبعد أن يقع الاشتباه في مشابـهة المشركين؛ لأن النهي عن الصلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبـها لئلا يتشبَّه المصلي بالمشركين الذين يسجدون للشمس عند طلوعها وعند غروبـها، فإذا رُبِطت الصلاة بسببٍ معلوم كانت المشابـهة للمشركين بعيدة أو معدومة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “النهي عن الصلاة في هذه الأوقات إنـما كان لسد ذريعة الشرك، وذوات الأسباب فيها مصلحةٌ راجحة، والفاعل يفعلها لأجل السبب، لا يفعلها مطلقًا، فتمتنع المشابـهة”.
ومـمَّا يدل لذلك أيضًا: أنه قد جاء في بعض أحاديث النهي عن الصلاة بلفظ: لا تَـحرُّوا ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي قال: لا تَـحرَّوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبـها [8]؛ والذي يصلي لسببٍ لا يقال: إنه مُتَحرٍّ، وإنـما يقال: صلى لقيام السبب.
ومـمَّا يدل لذلك أيضًا: أن الصلاة في أوقات النهي ليس فيها مفسدةٌ في ذاتـها، وإنـما نُـهي عنها لكونـها ذريعةً إلى المفسدة، وهي مشابـهة المشركين، وما كان منهيًا عنه لسدِّ الذريعة، لا أنه مفسدة في ذاته، يُشرع إذا كان فيه مصلحة راجحةٌ، وذوات الأسباب تفوت إذا أُخِّرت عن وقت النهي.
والحاصل: أنّ القول الراجح في هذه المسألة أنه يجوز فعل ذوات الأسباب في أوقات النهي، وعلى هذا: لو دخل أحدٌ المسجد بعد صلاة الفجر، أو بعد صلاة العصر مثلًا، فيشرع في حقه أن يأتي بتحية المسجد، ولو كان الوقت وقت نَـهي؛ لكون تحية المسجد من ذوات الأسباب، وهكذا يقال في بقية ذوات الأسباب الأخرى.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في الدين، والإحسان في القول والعمل.
وإلى الملتقى في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.