إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
سجود الشكر
وسجود الشكر هو كسجود التلاوة في أفعاله وأحكامه وشروطه، ولكن سبب سجود التلاوة هو قراءة، أو استماع آية سجدةٍ من آيات السجدات في القرآن.
وأما سجود الشكر فسببه تجدُّد النِّعَم، أو اندفاع النِّقَم، فهو سجودٌ لله تعالى، شكرًا له على تجدُّد النعمة، أو اندفاع النقمة، فتكون الإضافة في قولنا: سجود الشكر، من باب إضافة الشيء إلى نوعه، كما تقول: خاتم حديد، لأن هذا السجود هو نوعٌ من الشكر.
وقبل الحديث عن أحكام سجود الشكر، يحسن بيان حقيقة الشكر، ومنزلة الشكر في الدين.
تعريف الشكر
فالشكر معناه في اللغة: ظهور أثر الغذاء في بدن الحيوان ظهورًا بيِّنًا، يُقَال: شكرت الدابَّة إذا ظهر عليها أثر العلف، ودابَّةٌ شكور إذا ظهر عليها أثر السمن فوق ما تأكل، وما تعطى من العلف.
قال ابن القيم رحمه الله: “وكذلك حقيقته في العبودية، فهو ظهور أثر نعمة الله تعالى على لسان عبده ثناءً واعترافًا، وعلى قلبه شهودًا ومحبَّةً، وعلى جوارحه انقيادًا وطاعة، فحقيقة الشكر الاعتراف بالنعم باللسان، والإقرار بـها بالقلب، والقيام بطاعة المنعم بالجوارح، فتعتقد بقلبك أن النعمة من الله، وتنطق بذلك بلسانك كما قال سبحانه: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11]، وتقوم بطاعة الله تعالى المنعم بـها بجوارحك”.
قال ابن القيم رحمه الله: “والشكر مبنـيٌ على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له، واعترافه بنعمته، وثناؤه عليه بـها، وألا يستعملها فيما يكره، فهذه الخمس هي أساس الشكر، وبناؤه عليها، فمتى عُدِم منها واحدٌ؛ اختلَّ من قواعد الشكر قاعدة، وكل من تكلم في الشكر وحدِّه فكلامه إليها يرجع، وعليها يدور”.
منزلة الشكر
منزلة الشكر في الدين من أعلى المنازل.
قال ابن القيم رحمه الله: “هي فوق منزلة الرضا وزيادة، فالرضا مندرجٌ في الشكر، إذ يستحيل وجود الشكر بدونه، وقد أمر الله سبحانه بالشكر، فقال: وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [النحل:114]، ونـهى عند ضده، فقال: وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152]، وأثنى على أهله، ووصف به خواصَّ خلقه، فقال عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ [النحل:121]، وقال عن نوح عليه الصلاة والسلام: إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [الإسراء:3]، ووعد أهله بأحسن الجزاء، فقال: وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144].
وجعله سببًا للمزيد من فضله، وحارسًا وحافظًا لنعمته، فقال: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
وأخبر بأن أهله هم المنتفعون بآياته، فقال: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [إبراهيم:5].
وجعل الشكر سببًا لأن يكون الشاكر مشكورًا، فقال: إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا [الإنسان:22].
وأخبر عن رضا الربِّ به، فقال: وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7].
وأخبر عن قلَّة أهله في العالمين، فقال: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13].
وعن عائشة رضي الله عنها: “أن النبي كان يقوم من الليل، حتى تورَّمت قدماه، فتقول له عائشة: لـم تفعل هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخَّر، فيقول: يا عائشة، أفلا أكون عبدًا شكورًا؟! [1].
ووصَّى عليه الصلاة والسلام معاذًا، فقال: يا معاذ، والله إني لأحبك، فلا تدعنَّ أن تقول دبر كل صلاةٍ: اللهم أعنـي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك [2].
وصح عنه ، كما عند أحمد، والترمذي، وغيرهما: “أنه عليه الصلاة والسلام كان يسأل الله بأن يكون له شاكرًا، فصح عنه أنه كان يدعو بكلماتٍ، ومنها: اللهم اجعلني لك شكَّارًا، لك ذكَّارًا [3].
مشروعية سجود الشكر
ونعود بعد ذلك للحديث عن نوعٍ خاصٍّ من أنواع الشكر: وهو سجود الشكر.
والأصل فيه حديث أبي بكرة : “أن النبي كان إذا أتاه أمرٌ يسرُّ به؛ خرَّ ساجدًا” [4]، أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه.
وقد سجد كعب بن مالك لـمَّا بُشِّر بتوبة الله عليه، كما في قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا، وهي في الصحيحين وغيرهما، وقد روي عن أبي بكرٍ ، أنه سجد لـمَّا بُشِّر بفتح اليمامة، ومقتل مُسَيْلِمة، وسجد عليٌ حين وجد ذا الثُّدَيَّة في الخوارج الذين قاتلهم، لأن النبي قد أخبر بأنه يكون فيهم.
وسجود الشكر إنـما يُشرع عند تجدُّد النِّعَم، أو اندفاع النِّقَم.
وقولنا: عند تجدُّد النعم، احترازٌ من النعم المستمرة، فإنه لو قيل بـمشروعية السجود عندها، لكان الإنسان دائمًا في سجود؛ لأن الله تعالى يقول: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، وما أكثر نعم الله تعالى على الإنسان، فسلامة السمع نعمة، وسلامة البصر نعمة، وسلامة النطق نعمة، إلى غير ذلك من النعم الكثيرة التي لا تعدُّ ولا تُحصى، ولـم ترد السنة بالسجود لمثل هذه النعم المستمرة.
ولهذا نقل المرداوي رحمه الله في (الإنصاف) عن بعض الفقهاء أنه قال: “إنـما يستحب السجود عند تجدُّد نعمةٍ، أو دفع نقمةٍ ظاهرة، لأن العقلاء يهنئون بالسلامة من العارض، ولا يفعلونه في كل ساعة، وإن كان الله تعالى يصرف عنهم البلاء والآفات، ويُـمتِّعهم بالسمع والبصر والعقل والدين، ويفرقون في التهنئة بين النعمة الظاهرة والباطنة، وكذلك السجود للشكر”.
ومن أمثلة تجدُّد النعم التي يُشرع سجود الشكر لها: لو بُشِّر الإنسان بولد، فهذه نعمة متجددةٌ فيشرع السجود لها، أو أنه سمع مثلًا بانتصار للمسلمين في أي مكانٍ، فهذه نعمةٌ متجدِّدة، أو أنه نجح في اختبارٍ ما، وهو مشفقٌ ألا ينجح فيه، وهكذا.
وأما قولنا: أو اندفاع النِّقَم، فالمقصود بـها النقم التي وُجِد سببها فسلم منها.
مثال ذلك: رجلٌ حصل له حادث سيارةٍ مثلًا، وانقلبت السيارة، فخرج سالـمًا، فيشرع له السجود في هذه الحال، لأن هذه النقمة قد وجد سببها، وهو هذا الحادث بانقلاب السيارة، ولكنه سلم منه.
مثال آخر: إنسانٌ احترق بيته، فيسَّر الله تعالى إطفاء هذا الحريق، وسلم هو وجميع أفراد أسرته، فهذا اندفاع نقمةٍ، فيشرع له أن يسجد لله تعالى شكرًا، والأمثلة في هذا كثيرة.
والمقصود: أنه يشرع السجود عند اندفاع النقم التي انعقد سببها، فسلم منها، وأما اندفاع النقم المستمر، فلا يـمكن إحصاؤه، ولو قيل: يشرع السجود له، لكان الإنسان دائمًا في سجود.
صفة سجود الشكر
وأما صفة سجود الشكر: فهو كصفة سجود التلاوة.
وقد تكلمنا عن صفة سجود التلاوة سابقًا، وذكرنا أن المشروع أن يقال فيه ما يقال في سجود صلب الصلاة، كما نصَّ على ذلك الإمام أحمد وغيره، فيقول: “سبحان ربي الأعلى”، ويكررها، ويقول: “سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي”، وإن قال بعد ذلك شيئًا مـمَّا ورد، كان حسنًا.
وقد أشرنا سابقًا كذلك إلى خلاف العلماء في سجود التلاوة: هل هو صلاة أو ليس بصلاةٍ؟ وهذا الخلاف يجري كذلك على سجود الشكر، وقد ذكرنا أن القول الراجح عند كثيرٍ من المـحققين من أهل العلم أنه ليس بصلاة، وبناءً على ذلك: يكون القول الراجح في سجود الشكر أنه ليس بصلاةٍ كذلك، فيصح أن يسجد الإنسان عند تجدُّد نعمةٍ، أو عند اندفاع نقمةٍ، ولو كان على غير طهارة، ولو إلى غير القبلة.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من الشاكرين الذاكرين له كثيرًا، وأن يرزقنا الفقه في الدين.
وإلى الملتقى في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.