إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
المراد بسجود التلاوة
والمراد بسجود التلاوة: السجود الذي سببه تلاوة أو استماع آيةٍ من آيات السجود في القرآن الكريم.
حكم سجود التلاوة
وقد اتفق العلماء على مشروعيته، ومـمَّا ورد في فضله: ما جاء في (صحيح مسلم) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : إذا قرأ ابن آدم السجدة اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويْلِي، أُمِر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار [1].
قال النووي: “والمراد بقوله: إذا قرأ ابن آدم السجدة أي: آية السجدة”.
ومع اتفاق العلماء على مشروعية سجود التلاوة، إلا أنَّـهم اختلفوا في حكمه: هل هو واجبٌ أم مستحب؟
- فذهب جمهور العلماء إلى استحبابه، وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة.
- وذهب بعض أهل العلم إلى وجوبه، وهو مذهب الحنفية، وروايةٌ عن أحمد.
والأقرب -والله أعلم- في هذه المسألة هو قول الجمهور: وهو أن سجود التلاوة مستحبٌ، وليس واجبًا.
لِمَا جاء في الصحيحين عن زيد بن ثابت قال: قرأت على النبي : وَالنَّجْمِ، -أي: سورة: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى– فلم يسجد فيها” [2]، ولو كان السجود واجبًا لَـم يقرَّه النبي على ترك السجود.
ويدل لذلك أيضًا: ما جاء في (صحيح البخاري): “أن عمر بن الخطاب قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل، حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد، وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بـها، حتى إذا جاء السجدة قال: يا أيها الناس، إنَّا نَـمرُّ بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لَـم يسجد فلا إثم عليه، ولـم يسجد عمر “.
قال البخاري: “وزاد نافعٌ عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن عمر أنه قال: إن الله لَـم يفرض السجود إلا أن نشاء”.
قال الموفق ابن قدامة: “وهذا كان يوم الجمعة بـمحضرٍ من الصحابة وغيرهم، ولـم ينكر، فيكون إجماعًا”.
هل تعد صلاة؟
واختلف العلماء في سجود التلاوة: هل هو صلاةٌ أم ليس بصلاةٍ؟
ويترتَّب على هذا الخلاف أنه على القول بأنه صلاة، يشترط له ما يشترط لصلاة النافلة: من الطهارة، وستر العورة، واستقبال القبلة، وجميع ما يشترط لصلاة النافلة، وأما على القول بأنه ليس بصلاة، لا يشترط له ذلك.
والأقرب -والله تعالى أعلم- أنه ليس بصلاة.
ويدل لذلك: ما جاء في (صحيح البخاري) عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: “أن النبي سجد بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون، والجن والإنس”.
وقد بوَّب البخاري رحمه الله في صحيحه لهذا الحديث بقوله: “بابٌ: سجود المسلمين مع المشركين”، والمشرك نجسٌ ليس له وضوء، ثم قال: “وكان ابن عمر رضي الله عنهما يسجد على غير وضوء”.
ويدل لذلك من جهة المعنى: أن تعريف الصلاة شرعًا: أنَّـها عبادةٌ ذات أقوالٍ وأفعالٍ مُفتتحة بالتكبير، مُـختتمةٌ بالتسليم، وهذا التعريف لا ينطبق على سجود التلاوة؛ إذ لَـم يثبت في السنة أن له تكبيرًا أو تسليمًا.
والأحاديث الواردة في سجود التلاوة ليس فيها إلا مـجرَّد السجود فقط: “يسجد ونسجد معه” إلا حديثًا أخرجه أبو داود في سننه: “أنه كبَّـر عند السجود” ولكن إسناده ضعيف، وأما التسليم فلم يرد لا في حديثٍ صحيحٍ ولا ضعيف، أنه سلَّم من سجود التلاوة، وحينئذٍ لا ينطبق عليه تعريف الصلاة.
وبناءً على ترجيح هذا القول: وهو أن سجود التلاوة ليس بصلاةٍ لا يشترط له الطهارة، ولا استقبال القبلة، ولا سائر ما يشترط للصلاة من الشروط، ولكن لا شك أن الأولى والأفضل ألا يسجد إلا وهو طاهرٌ مستقبل القبلة.
حكمه في أوقات النهي
ويتفرَّع عن هذه المسألة مسألةٌ أخرى: وهي سجود التلاوة في أوقات النهي، فمن كان يقرأ القرآن بعد صلاة الفجر، أو بعد صلاة العصر مثلًا، ومرَّ بآية سجدة: فهل يسجد؟
أما على القول بأن سجود التلاوة ليس بصلاةٍ، فإنه يسجد ولو كان في وقت النهي، وأما على القول بأنه صلاةٌ، فإن أصحاب هذا القول مختلفون:
- فمنهم من يرى أنه من ذوات الأسباب، وذوات الأسباب يجوز فعلها في أوقات النهي.
- ومن أصحاب هذا القول من يـمنع من ذلك مطلقًا.
وبناءً على القول الراجح: وهو أن سجود التلاوة ليس بصلاةٍ، يكون القول الراجح في هذه المسألة: أنّ القارئ للقرآن إذا مرَّ بآية سجدةٍ سجد، ولو كان في وقت نـهي.
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: “يجوز سجود التلاوة في أوقات النهي عن الصلاة، على الصحيح من قولي العلماء؛ لأنه ليس له حكم الصلاة، ولو فرضنا أن له حكم الصلاة، جاز فعله في وقت النهي؛ لأنه من ذوات الأسباب، كصلاة الكسوف، وركعتي الطواف لمن طاف في وقت النهي”.
آيات سجود التلاوة
آيات السجود في القرآن خمس عشرة سجدة في أظهر أقوال أهل العلم:
في سورة الأعراف، وفي سورة الرعد، وفي سورة النحل، وفي سورة الإسراء، وفي سورة مريم، وفي سورة الحج في موضعين، وفي سورة الفرقان، وفي سورة النمل، وفي سورة ألـم تنزيل السجدة، وفي سورة فصِّلت، وفي سورة النجم، وفي سورة الانشقاق، وفي سورة العلق.
وكذلك في سورة (ص) عند قول الله تعالى: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [ص:24]، وقد اختلف العلماء فيها:
- فمن العلماء من قال: لا يشرع السجود فيها؛ لأنـها توبة نبي، وقد وردت بلفظ الركوع، وليس بلفظ السجود.
- وقال بعض أهل العلم: يشرع السجود عند قراءة هذه الآية؛ لأن السنة قد وردت بذلك.
ففي (صحيح البخاري) عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: “ص ليست من عزائم السجود، وقد رأيت النبي يسجد فيها” [3].
ويكفي لإثبات مشروعية السجود عندها: أن النبي سجد فيها؛ ولذلك قال مجاهد: “سألت ابن عباسٍ رضي الله عنهما عن سجدة (ص)، فقال: أو ما تقرأ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ [الأنعام:84]، إلى قوله: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90] فكان داود مـمَّا أُمِر نبيِّكُم أن يقتدي به، فسجدها داود ، فسجدها رسول الله .
وأما ما ذكره أصحاب القول الأول: من أن الآية إنـما وردت بلفظ الركوع: وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فالمراد بالركوع في هذه الآية السجود.
قال الحافظ ابن كثيرٍ رحمه الله في تفسيره: “وقوله تعالى: وَخَرَّ رَاكِعًا أي: ساجدًا، ويحتمل أنه ركع أولًا، ثم سجد بعد ذلك”.
على أننا نقول: إنّ السجود عند بعض الآيات مبناه على التوقيف؛ ولهذا قال الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله: “السجدة التي في (ص) إنـما وردت بلفظ الركوع، ولولا التوقيف ما ظهر أن فيها سجدة”.
ومـمَّا يدل لذلك أيضًا: أنه ترد بعض الآيات التي فيها الأمر بالسجود، ومع ذلك لا يشرع السجود عندها بالإجماع، كما في آخرة سورة الحجر، في قول الله : وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [الحجر:97-98].
والحاصل: أن القول الراجح في هذه المسألة: هو مشروعية السجود عند آية (ص)؛ لأنه قد صحَّ عن النبي أنه سجد لـمَّا قرأها، ونحن مأمورون بالاقتداء به.
أيها الإخوة، هذا ما تيسر عرضه في هذه الحلقة، ونستكمل الحديث عن بقية أحكام سجود التلاوة في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.