عناصر المادة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
ذكرنا أنّ أسباب سجود السهو ثلاثة: الزيادة، والنقص، والشك.
وتحدثنا عن أحكام الزيادة والنقص، ونستكمل الحديث عن الأحكام المتعلقة بالشك في الصلاة، ثم نتحدث عن موضع سجود السهو في الصلاة: هل هو قبل السلام أم بعده؟
الأحكام المتعلقة بالشك في الصلاة
الشك: هو التردد بين أمرين، أيهما الذي وقع، والشك لا يُلتَفت إليه في العبادات في ثلاث حالات:
- الأولى: إذا كان مـجرَّد وهمٍ لا حقيقة له كالوساوس.
- الثانية: إذا كثر مع الإنسان، بحيث لا يفعل عبادةً إلا حصل له فيها شك.
- الثالثة: إذا كان بعد الفراغ من العبادة، فلا يلتفت إليه ما لَـم يَتيقَّن الأمر، فيعمل بـمقتضى يقينه.
مثال ذلك: شخصٌ صلى الظهر فلـمَّا فرغ من صلاته شكَّ: هل صلى ثلاثًا أو أربعًا؟ فلا يلتفت لهذا الشك، إلا أن يتيقَّن أنه لَـم يصلِّ إلا ثلاثًا، فإنه يكمل صلاته إن قرب الزمن ثم يسلِّم، ثم يسجد للسهو ويُسلِّم، فإن لَـم يذكر إلا بعد زمنٍ طويل، أعاد الصلاة من جديد.
وأما الشك في غير هذه المواضع الثلاثة فإنه معتبر، ولا يخل الشك من حالين:
- الحال الأولى: أن يترجَّح عنده أحد الأمرين، فيعمل بـما ترجح عنده، ويتم صلاته ويسلم، ثم يسجد للسهو ويسلم.
مثال ذلك: شخصٌ يصلي الظهر فشكَّ في الركعة: هل هي الثانية أو الثالثة؟ لكن ترجح عنده أنَّـها الثالثة، فإنه يجعلها الثالثة، فيأتي بعدها بركعةٍ ويُسلِّم، ثم يسجد للسهو ويسلِّم.
ودليل ذلك: ما جاء في الصحيحين عن عبدالله بن مسعودٍ : أن النبي قال: وإذا شكَّ أحدكم في صلاته فليتحرَّ الصواب، فليتمَّ عليه ثم ليُسلِّم، ثم يسجد سجدتين [1].
- الحال الثانية: ألا يترجَّح عنده أحد الأمرين، فإنه حينئذٍ يعمل باليقين، وهو الأقل، فيتم صلاته، ويسجد للسهو قبل أن يسلم ثم يسلم.
مثال ذلك: شخصٌ يصلي العصر فشكَّ في الركعة: هل هي الثانية أو الثالثة، ولـم يترجح عنده أنَّـها الثانية أو الثالثة، فيجعلها الثانية فيتشهَّد التشهُّد الأول، ويأتي بعده بركعتين، ويسجد للسهو ويسلم.
ويدل لذلك: ما جاء في (صحيح مسلمٍ) عن أبي سعيدٍ : أن النبي قال: إذا شكَّ أحدكم في صلاته، فلم يدرِ كم صلى ثلاثًا أم أربعًا، فليطرح الشكَّ وليبْنِ على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلِّم [2].
ومن أمثلة الشك: إذا جاء الشخص والإمام راكعٌ، فإنه يكبِّـر تكبيرة الإحرام، وهو قائمٌ معتدل ثم يركع، وحينئذٍ لا يخل الأمر من ثلاث حالات:
- الأولى: أن يتيقَّن أنه أدرك الإمام في ركوعه قبل أن يرفع منه، فيكون مدركًا للركعة، وتسقط عنه قراءة الفاتحة.
- الثانية: أن يتيقَّن أن الإمام قد رفع من الركوع قبل أن يدركه، فقد فاتته الركعة حينئذٍ.
- الثالثة: أن يشك: هل أدرك الإمام في ركوعه فيكون مدركًا للركعة، أو أن الإمام قد رفع من الركوع قبل أن يدركه ففاتته الركعة؟ فإن ترجَّح عنده أحد الأمرين، عمل بـما ترجَّح، فأتـمَّ صلاته وسلَّم، ثم سجد للسهو وسلَّم حينئذٍ، وإن لَـم يترجَّح عنده أحد الأمرين، فإنه يعمل باليقين، وهو: أن الركعة قد فاتته، فيتم صلاته ويسجد للسهو قبل أن يُسلِّم، ثم يُسلِّم.
موضع سجود السهو
الحديث عن موضع سجود السهو، هل هو قبل السلام أم بعده؟
اختلف العلماء في ذلك على أربعة أقوال:
- الأول: أن سجود السهو قبل السلام مطلقًا، وهو مذهب الشافعية.
- الثاني: أن سجود السهو بعد السلام مطلقًا، وهو مذهب الحنفية.
- الثالث: أن سجود السهو إن كان عن زيادةٍ فهو بعد السلام، وإن كان عن نقصٍ فهو قبل السلام، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية.
- الرابع: أن سجود السهو قبل السلام، إلا إذا سلَّم قبل إتـمام صلاته، وإذا بنى على غالب ظنِّه، وهذا هو الصحيح من مذهب الحنابلة.
وقد ورد عن النبي أنه سجد قبل السلام، وسجد بعد السلام، فمما ورد قبل السلام: ما جاء في (صحيح البخاري) عن عبدالله بن بحينة قال: “صلى لنا رسول ركعتين من بعض الصلوات، ثم قام فلم يجلس -أي: للتشهد الأول- فقام الناس معه، فلـمَّا قضى صلاته ونظرنا تسليمه كبَّـر قبل التسليم، فسجد سجدتين وهو جالسٌ ثم سلَّم” [3].
ومما ورد بعد السلام: ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة قال: “صلى النبي إحدى صلاتي العشي الظهر أو العصر ركعتين، ثم سلم، ثم قام إلى خشبةٍ في مقدم المسجد، فوضع يده عليها كأنه غضبان، وفيهم أبو بكرٍ وعمر رضي الله عنهما، فهابا أن يُكلماه، وخرج سَرَعَان الناس، فقالوا: أقُصِرت الصلاة، ورجلٌ يدعوه رسول الله ذا اليدين، فقال: يا رسول الله، أنيستَ أم قُصِرت الصلاة؟ فقال : لَـم أنس، ولـم تُقصَر فقال: بلى قد نسيتَ يا رسول الله، فقال النبي للصحابة: أكما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم، فصلى ركعتين ثم سلَّم، ثم سجد سجدتين ثم سلَّم” [4].
ففي هذه القصة سجد النبي للسهو بعد السلام، وفي حديث عبدالله بن بُـحَينة، سجد للسهو قبل السلام، ومن هنا اختلف العلماء في موضع سجود السهو.
فالقائلون: بأن موضع سجود السهو بعد السلام مطلقًا يستدلون بسجود النبي للسهو بعد السلام، كما في قصة ذي اليدين، ولكن يرد عليهم أنه قد ثبت أن النبي سجد للسهو قبل السلام في بعض الحالات، كما في حديث ابن بُـحينة.
والقائلون بأن موضع سجود السهو قبل السلام مطلقًا يستدلون بسجود النبي للسهو قبل السلام، كما في حديث ابن بُـحينة، لكن يرد عليهم أنه قد ثبت أن النبي سجد للسهو بعد السلام، كما في قصة ذي اليدين.
وأما القائلون بالتفصيل: إن كان عن زيادةٍ فيكون بعد السلام، وإن كان عن نقصٍ فيكون قبل السلام، فإنـهم يحملون ما ورد من سجوده عليه الصلاة والسلام، بعد السلام على الزيادة، ويحملون ما ورد من سجوده قبل السلام على النقص، ولكن يرد على هذا القول أنه في حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين سلَّم النبي من صلاة الظهر أو العصر من ركعتين؛ لـمَّا نبَّهَه ذو اليدين أتـمَّ بقية صلاته، وسجد للسهو بعد السلام، وتسليمه من ركعتين هذا نقصٌ، ومع هذا سجد للسهو بعد السلام، وليس قبل السلام.
ولكن أصحاب هذا القول يعتبرون من سلَّم قبل الصلاة، أنه قد زاد في صلاته، يقولون: قد زاد تسليمًا، وربَّـما زاد تشهُّدًا، ولكن هذا في الحقيقة محل نظر؛ إذ أن من سلَّم قبل إتـمام صلاته قد نقص ركعةً أو أكثر، فكيف يقال: إنه قد زاد في صلاته؟!
ولهذا: فإن الأقرب في هذه المسألة -والله أعلم- هو القول الرابع، وهو المشهور من مذهب الحنابلة، وهو: أن سجود السهو قبل السلام، إلا في الموضعين اللذين ورد النص بأن يكون السجود فيهما بعد السلام، وهما:
- أولًا: إذا سلَّم قبل إتـمام صلاته؛ لحديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين، فإن النبي سلَّم من ركعتين، في صلاة الظهر أو العصر، وسجد للسهو بعد السلام.
- الموضع الثاني: إذا شكَّ وبنى على غالب ظنِّه، فإنه يسجد للسهو بعد السلام؛ لحديث ابن مسعودٍ : أن النبي قال: إذا شكَّ أحدكم في صلاته، فليَتَحرَّ الصواب، فليتم ما عليه ثم ليُسلِّم، ثم ليسجد سجدتين [5]، أخرجه البخاري ومسلم.
وهذا القول الأخير قال به الإمام أحمد، واختاره شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمة الله تعالى على الجميع.
قال الإمام أحمد: “كل سهوٍ سجد له النبي قبل السلام أو بعده، فمحله حيث سجد، وما سوى المواضع التي ورد السهو فيها عنه ، فالسجود لها قبل السلام؛ لأنه يتمُّ ما نقص من صلاته، قال: ولولا ما روي عن النبي لرأيت السجود كله قبل السلام؛ لأنه من شأن الصلاة: أن يقضيها قبل السلام، ولكن أقول: كل ما روي عنه أنه سجد فيه بعد السلام؛ فإنه يسجد فيه بعد السلام، وسائر السهو يسجد فيه قبل السلام”.
أيها الإخوة، نكتفي بـهذا القدر في هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.