الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
تحدثنا معكم في الحلقة السابقة عن بعض ما يباح للمصلي فعله في الصلاة، ونستكمل الحديث في هذا الموضوع بذكر جملة أخرى مما للمصلي فعله في الصلاة، فمن ذلك:
الفتح على الإمام
الفتح على إمامه إذا ارتُجَّ عليه، وهذا الفتح قد يكون واجبًا، وقد يكون مستحبًا:
فيكون واجبًا إذا كان اللحن في الفاتحة، وكان لحنًا يُـحِيْل المعنى؛ لأن اللحن الـمُحِيْل للمعنى في الفاتحة مُبِطلٌ للصلاة، كما لو قال: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتُ عَلَيْهِمْ)، بدل: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7]، فهذا اللحن وأشباهه يُـحِيل المعنى.
وكما لو أسقط آيةً من الفاتحة، فيجب على المأموم أن يفتح عليه.
فإذا صحَّح الإمام القراءة صحَّت صلاته، وإذا لـم يستطع تصحيح القراءة لأيِّ سببٍ من الأسباب، أو أن الإمام ارتبَك وارتُجَّ عليه، فلم يستطع إكمال الفاتحة، فإنه يستخلفُ من يؤمُّ الناس بدلًا عنه.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “إن ارتُجَّ على الإمام في الفاتحة فعلى المأموم أن يفتح عليه، كما لو نسي سجدةً، لزمهم تنبيهه بالتسبيح، فإن عجزَ عن إتـمام الفاتحة فله أن يستخلف من يصلي بـهم، وكذلك لو عجز في أثناء الصلاة عن ركنٍ يـمنع الائتمام كالركوع، فإنه يستخلف من يتم بـهم الصلاة”.
وأما الفتح المستحب: فيكون فيما لو ترك الإمام أمرًا مستحبًا، كما لو أسرَّ فيما يُـجهَر به، أو جهر فيما يُسرُّ به، أو نسي أن يقرأ سورةً بعد الفاتحة، ونحو ذلك.
ويدل لمشروعية الفتح على الإمام: ما جاء في الصحيحين عن ابن مسعودٍ : أن رسول الله قال: إنـما أنا بشرٌ مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني [1].
وأخرج أبو داود في سننه عن ابن عمر رضي الله عنهما: “أن رسول الله صلى صلاةً فقرأ فيها، فلُبِس عليه -أي: التبس- فلـمَّا انصرف قال لأُبَـيِّ بنِ كعب: أصليتَ معنا؟ قال: نعم، قال: فما منعك؟! [2]، أي: ما منعك أن تفتح عليَّ.
هذا الحديث أخرجه أبو داود، وقال الخطابي: إسناده جيد.
وأخرج أبو داود في سننه عن الـمُسَوَّر بن يزيد، قال: “شهدتُّ رسول الله يقرأ في الصلاة، فترك آيةً من القرآن، فقال له رجلٌ: تركت آية كذا وكذا، فقال : هلَّا أذْكَرتَنِيها؟ [3].
وينبغي للمأموم عند الفتح على إمامه أن يكون رفيقًا، وأن يتحرَّى سكتات الإمام للفتح عليه فيها، ويلاحظ أن بعض الناس يربك الإمام، إما لعدم وضوح صوته، أو لكونه يفتح على الإمام والإمام يقرأ، فإذا سكت الإمام سكت معه ها المأموم.
التسبيح للرجال والتصفيق للنساء
وإذا عرض للمصلي شيءٌ وهو في صلاته فيُسبِّح، أي يقول: سبحان الله، إذا كان رجلًا، وتصفِّق المرأة.
ويدل لذلك: ما جاء في الصحيحين عن سهل بن سعد ، قال: قال رسول الله : ما لي رأيتكم أكثرتم التصفيق، من رابه شيء في صلاته، فليسبح فإنه إذا سبح التفت إليه، وإنما التصفيق للنساء [4].
وفي روايةٍ للبخاري: إذا رابكم أمر، فليُسبِّح الرجال، ولتصفِّق النساء [5].
والتسبيح للمصلي إذا كان رجلًا، والتصفيق إذا كان امرأةً، لا يختص بتنبيه الإمام إذا سها، بل يشمل أي عارضٍ يَعرِض للمصلي في صلاته، فلو استأذن عليه أحدٌ، بأن قرع عليه الباب وهو يصلي، فإنه يُسبِّح إذا كان رجلًا، وتُصفِّق إذا كانت امرأة.
وهكذا لو نداه أحدٌ وهو يصلي فإنه يسبِّح إذا كان رجلًا، وتصفِّق المرأة؛ وذلك لتنبيه المنادي على أنه في صلاة.
وهكذا لو خشي على إنسانٍ الوقوع في شيءٍ فإنه يُسبِّح، أو كانت المرأة تصلي وبجوارها طفلٌ خشيت عليه من أمرٍ ما، فأرادات تنبيه من حولها للانتباه للطفل، فإنـها تُصفِّق.
والمقصود: أنه إذا عَرَض للمصلي أي عارضٍ، فإنه يسبِّح إذا كان رجلًا، وتُصفِّق المرأة.
وللمأموم أن يُنبِّه بغير التسبيح مـمَّا ورد، كالنحنحة مثلًا.
لقول عليٍّ : “كان لي من رسول الله مدخلان -أي: وقتان أدخل عليه فيهما- واحدٌ بالليل، وواحدٌ بالنهار، فكنت إذا أتيته وهو يصلي تنحنح لي” [6]، أخرجه أبو داود والنسائي بسندٍ صحيح.
ويجوز أن يكون التنبيه بالجهر بالقراءة، فإذا استأذن عليه أحدٌ، أو ناداه وهو يصلي، فرفع صوته بالقراءة، أو بالذكر الذي يقوله جاز ذلك، ولكن الأفضل هو التسبيح؛ لأنه هو الذي أمر به النبي .
حمد الله عند العطاس
وإذا عطس المصلي، فإنه يشرع له أن يحمد الله تعالى، ولكن ليس لمن حوله من المصلين تشميته، وليس له إجابتهم، والفرق بينهما: أن حمد الله تعالى ذكرٌ لله تعالى، فلم يُـمنع أن يأتي به وهو في الصلاة، وأما تشميت العاطس، وإجابة المشمِّت، فخطاب آدمي، وكلام الآدمي ومخاطبته لا يصلح أن تكون في الصلاة.
ويدل لذلك: ما جاء في (صحيح مسلم) عن معاوية بن الحَكَم السلمي قال: “بينا أنا أصلي مع رسول الله ، إذ عطس رجلٌ من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثُكْلَ أُمِّيَاه، ما شأنكم تنظرون إليَّ؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلـمَّا رأيتهم يُصمِّتُونَني لكنِّـي سَكَتُّ، فلـمَّا صلى رسول الله ، فبأبي هو وأمي ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فو الله ما كَهَرنِـي، ولا ضربني، ولا شتمني، وإنـما قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس، إنـما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن [7].
وقد استدلَّ كثيرٌ من العلماء بـهذا الحديث على أن المصلي إذا عطس في الصلاة، فإنه يحمد الله تعالى، لكن لا يُشمَّت، أي: لا يقال له: يرحمك الله؛ لأن النبي لـم ينكر على ذلك الرجل الذي حمد الله تعالى في الصلاة لـمَّا عطس، وإنـما أنكر على معاوية تشميته إياه وهو في الصلاة.
وقال النووي رحمه الله: “في هذا الحديث النهي عن تشميت العاطس في الصلاة، وأنه من كلام الناس الذي يحرم في الصلاة، وتفسد به، إذا أتى به عالـمًا عامدًا.
قال: وأما العاطس في الصلاة فيستحب له أن يحمد الله تعالى سِرًّا، هذا مذهبنا -يعني: الشافعية- وبه قال مالكٌ وغيره، وعن ابن عمر والنخعي وأحمد: أنه يجهر به، أي: بحمد الله تعالى، قال: والأول أظهر؛ لأنه ذكرٌ، والسنة في الأذكار في الصلاة الإسرار بـها، إلا ما استثني من القراءة في بعضها، ونحوها”.
وقد ورد سؤالٌ للجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: إذا عطس أو تثاءب شخصٌ في الصلاة، فهل يحمد الله تعالى للعطاس، ويستعيذ بالله من الشيطان للتثاؤب؟
فكان جواب اللجنة: “من عطس أو تثاءب في الصلاة، يحمد الله تعالى للعطاس، ولا يستعيذ بالله من الشيطان لتثاؤبه؛ لعدم ورود ذلك، ولا يجيب من شَـمَّتَه لعطاسه حال كونه في صلاته، ولا يرد السلام على من سلَّم عليه، وهو في الصلاة إلا بالإشارة؛ لعموم ما ثبت من قول النبي : إن في الصلاة لشغلًا [8].
ولحديث معاوية بن الحكم لـمَّا شَـمَّت رجلًا في الصلاة، قال له النبي : إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس، إنـما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن [9]. أخرجه مسلمٌ في صحيحه.
أيها الإخوة، هذا ما تيسر عرضه في هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية