عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
كنا قد تحدثنا في حلقات سابقة عن ما يجتنبه المصلي من مبطلات الصلاة أو مكروهاتها ونتحدث في هذه الحلقة عن ما يباح للمصلي فعله فنقول:
الحركة اليسيرة في الصلاة
لا بأس بالعمل اليسير لحاجة؛ ويدل لذلك: ما جاء في الصحيحين عن أبي قتادة قال: “كان رسول الله يصلي، وهو حاملٌ أُمَامَة بنت زينب بنت رسول الله ، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها” [1]، وهو يؤمُّ الناس في المسجد.
وفتح الباب لعائشة وهو يصلي: ففي (سنن أبي داود) والترمذي، عن عائشة رضي الله عنها قالت: “كان رسول الله يصلي والباب مغلق، فجئت فاستفتحت، فمشى ففتح لي، ثم رجع إلى مُصلَّاه” [2].
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : اقتلوا الأسودين في الصلاة: الحيَّة والعقرب [3]، أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه بسندٍ صحيحٍ.
وعن علي قال: “كان لي من رسول الله مدخلان” أي: وقتان أدخل عليه فيهما، فكنت إذا أتيته وهو يصلي تنحنح لي” [4] أخرجه النسائي، وابن ماجه، وصححه ابن السكن.
وعن سهل بن سعدٍ : “أن النبي صلى على منبره، فإذا أراد أن يسجد نزل عن المنبر فسجد بالأرض، ثم رجع إلى المنبر حتى قضى صلاته” [5]، أخرجه البخاري ومسلم.
وفي حديث جابرٍ رضي الله عنهما في صلاة الكسوف، قال: “ثم تأخر وتأخرت الصفوف خلفه، حتى انتهينا إلى النساء، ثم تقدم وتقدم الناس معه، حتى قام في مقامه” [6].
فهذه الأحاديث تدل على أن العمل اليسير في الصلاة لحاجةٍ لا بأس به.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله بعد أن ساق طرفًا من هذه الأحاديث: “فكل هذا وأشباهه لا بأس به في الصلاة، ولا يبطلها، وإن فعله لغير حاجةٍ كُرِه، ولـم يبطلها أيضًا”.
وقد فهم الصحابة من النبي الرخصة في العمل اليسير للحاجة، ففي (صحيح البخاري) عن الأزرق بن قيس قال: كنا نقاتل الحرورية، وإذا أبو برزة الأسلمي يصلي، ولجام دابَّته بيده، فجعلت الدابة تنازعه، وجعل يتبعها، فجعل رجلٌ من الخوارج يقول: اللهم افعل بـهذا الشيخ، وفي روايةٍ: فجعل يسبُّه، وفي روايةٍ: جعل يقول: انظروا إلى هذا الشيخ، ترك صلاته من أجل فرس، فلـمَّا انصرف أبو برزة قال: إني سمعت قولكم، وإني غزوت مع رسول الله ست غزواتٍ، أو سبع غزوات، وشهِدتُّ تيسيره، وإني إن كنت أن أرجع مع دابتي، أحب إليَّ من أدعها ترجع إلى مألفها فيشقُّ عليَّ” [7].
هل الثلاث حركات تبطل الصلاة؟
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “ولا يتقيَّد الجائز من هذا بثلاثٍ، ولا بغيرها من العدد؛ لأن فعل النبي الظاهر منه زيادته على ثلاث، كتأخُّره حتى تأخَّر الرجال، فانتهوا إلى النساء، وكذلك مشي أبي برزة مع دابَّته؛ ولأن التقدير بابه التوقيف، وهذا لا توقيف فيه، لكن يرجع في الكثير واليسير إلى العرف، فيما يُعدُّ كثيرًا ويسيرًا، وما شابه فعل النبي فهو يسير.
وبـهذا يتبين أن ما يعتقده بعض العامة من أن المصلي إذا تحرك ثلاث حركات بطلت صلاته، أن هذا غير صحيح، وهو وإن كان قد قال به بعض الفقهاء، إلا أنه ضعيفٌ، ولا دليلٌ عليه، بل الدليل على خلافه، فإن فعل النبي الذي نقلنا بعض الأحاديث في وصفه، أكثر من ثلاث حركات”.
قال المرداوي رحمه الله في (الإنصاف) بعد أن حكى هذا القول: “وهو ضعيفٌ، وقد نصَّ أحمد في من رأى عقربًا في الصلاة أنه يخطو إليها، ويأخذ النعل ويقتلها، ويرد النعل إلى موضعه، وهي أكثر من ثلاثة أفعال”.
ضابط الحركة الكثيرة التي تبطل بها الصلاة
وقد ضبط الموفق ابن قدامة رحمه الله في الكلام الذي نقلناه عنه آنفًا: الحركة الكثيرة بالعرف، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، والواقع أن العرف في هذه المسألة لا يكاد ينضبط، فإن الأعراف تختلف باختلاف الأفهام، وتختلف باختلاف البيئات، فقد يرى بعض الناس هذه الحركة كثيرة، ويراها آخرون قليلة.
ولهذا: فإن بعض العلماء ذهب إلى أن الضابط في ذلك: هو أن قدر الكثير ما خُيِّلَ للناظر أنه ليس في صلاة، فإذا رأينا هذا الشخص يتحرك، بحيث يظنُّ من يراه أنه ليس في صلاةٍ من كثرة حركته، فإن هذه الحركة تبطل الصلاة؛ لأن هذا هو الذي ينافي الصلاة، وأما الشيء الذي لا ينافي الصلاة، وإنـما هو حركةٌ يسيرة، فلا تبطل به الصلاة.
شرط بطلان الصلاة بالحركة
ويشترط لبطلان الصلاة بالحركة: أن تكون الحركة كثيرةً متواليةً لغير ضرورة.
أما كونـها كثيرة، فسبق بيان الضابط في ذلك.
وأما كونـها متوالية، أي: لا تكون متفرَّقة، فإنه لو تحرك حركةً في الركعة الأولى، وحركةً في الركعة الثانية، وحركةً في الركعة الثالثة، وحركةً في الركعة الرابعة، فإن مجموعها كثير، لكن كل واحدةٍ منها على انفرادها قليل، فلا تبطل الصلاة بـها.
وأما كونـها لغير ضرورة: فيُعلم منه أنه لو كثرت الحركة لضرورة، فإن الصلاة لا تبطل بـها.
ويدل لذلك: قول الله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:238-239] فقوله: فَرِجَالًا أي: راجلين، والمعنى: تصلون وأنتم تـمشون، وقوله: أَوْ رُكْبَانًا، أي: على الرواحل، ومعلومٌ أن الراجل والماشي يتحرك كثيرًا، فلو أن رجلًا خاف من سبع أو من عدو، فصلى وهو يـمشي، فصلاته صحيحة؛ لأنه في حال ضرورة، حتى ولو صلى إلى غير القبلة.
أقسام الحركة التي ليست من جنس الصلاة
والحركة التي ليست من جنس الصلاة تنقسم إلى خمسة أقسام:
- حركةٌ واجبة.
- حركةٌ مندوبة.
- حركةٌ مباحةٌ.
- حركةٌ مكروهةٌ.
- حركةٌ محرمة.
والذي يبطل الصلاة منها هو الـمحرَّم.
- فالحركة الواجبة: هي التي يتوقف عليها صحة الصلاة، وهذا هو الضابط لها، وصورها كثيرة:
فمنها: لو أن رجلًا ابتدأ الصلاة إلى غير القبلة بعد أن اجتهد، ثم جاءه شخصٌ، وقال له: القبلة على يـمينك، فالحركة هنا واجبة، فيجب عليه أن يتحرك إلى جهة اليمين؛ ولهذا: لـمَّا جاء رجلٌ إلى أهل قباء وهم يصلون إلى بيت المقدس، وأخبرهم بأن القبلة حُوِّلت إلى الكعبة، تحوَّلوا في نفس الصلاة، وبنوا على صلاتـهم.
ولو ذكر أن في عمامته أو في غُتْرَته نجاسة وهو يصلي، وجب عليه خلعها لإزالة النجاسة، ويـمضي في صلاته، وإن كانت النجاسة في ثوبه، وأمكن نزعها بدون كشف العورة؛ نزعه ومضى في صلاته، وإن كان لا يـمكنه نزعه إلا بكشف العورة؛ قطع صلاته وغسل ثوبه، أو أبدله بغيره، ثم استأنف الصلاة. - والحركة المندوبة، أي: المستحبة: هي التي يتوقف عليها كمال الصلاة، ولها صورٌ عديدة:
منها: لو أنه لـم يستر أحد عاتقيه، فهنا الحركة لستر أحد العاتقين مستحبة، ولو تبيَّـن له أنه متقدمٌ على جيرانه في الصف؛ فتأخره سنة، ولو تقلص الصف حتى صار بينه وبين جاره فُرْجَة؛ فالحركة هنا سنة، ولو صفَّ إلى جنبيه رجلان، فتقدم الإمام هنا سنة. - وأما الحركة المباحة: فهي الحركة اليسيرة للحاجة، أو الكثيرة للضرورة، وقد سبق ذكر أمثلةٍ لها.
- وأما الحركة المكروهة: فهي اليسيرة لغير حاجة، ولا يتوقف عليها كمال الصلاة، كما يوجد من بعض الناس من النظر إلى الساعة، وزر الأزرار، ومسح النظارة، وغير ذلك مـمَّا لا داعي له في الصلاة؛ فهذه الحركة وأشباهها حركةٌ مكروهة.
أيها الإخوة، هذا ما اتسع له وقت هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 516، ومسلم: 543. |
---|---|
^2 | رواه أبو داود: 922، والترمذي: 601، والنسائي: 1206، وأحمد: 24027، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. |
^3 | رواه أبو داود: 921، والترمذي: 390، وابن ماجه: 1245، والنسائي في السنن الكبرى: 525، وابن حبان: 2351، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. |
^4 | رواه ابن ماجه: 3708، والنسائي: 1212. |
^5 | رواه البخاري: 377، ومسلم: 544. |
^6 | رواه مسلم: 904. |
^7 | رواه البخاري: 1211. |