عناصر المادة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
لا يزال الحديث موصولًا عن صفة الصلاة، وقد وصل بنا البحث إلى ما يقال في دعاء الاستفتاح.
دعاء الاستفتاح
ورد دعاء الاستفتاح على عدة أنواع:
- وأصحها ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة قال: “كان رسول الله يسكت بين التكبير وبين القراءة هُنَيَّةً، فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله، إسكاتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدَّنَس، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد [1].
وهذا الدعاء دعاءٌ عظيم، يسأل المصلي ربَّه المغفرة من الذنوب والخطايا، والمباعدة بينه وبينها، ويسأل ربَّه محو خطاياه غاية المـحو، بالماء والثلج والبرد.
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: “عبَّـر بذلك عن غاية المـحو، فإن الثوب الذي يتكرر عليه ثلاثة أشياء منقية، يكون في غاية النقاء”.
- ومن أشهر أدعية الاستفتاح: ما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها: “أن النبي كان يستفتح بـ: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّك، ولا إله غيرك” [2]، أخرجه أبو دواد والترمذي وابن ماجه وأحمد، وهو حديثٌ صحيحٌ، وقد كان عمر بن الخطاب يستفتح به في مقام النبي ، ويجهر به، ويعلمه الناس.
قال الإمام أحمد: “أما أنا فأذهب إلى ما روي عن عمر ، ولو أن رجلًا استفتح ببعض ما روي عن النبي كان حسنًا”.
قال ابن القيم: “وإنـما اختار الإمام أحمد هذا؛ لعشرة أوجه:
- منها: جهر عمر به يعلمه الصحابة، ومنها: اشتماله على أفضل الكلام بعد القرآن، فإن أفضل الكلام بعد القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وقد تضمَّنها هذا الاستفتاح مع تكبيرة الإحرام.
- ومنها: أنه استفتاحٌ أُخلِص للثناء على الله، وغيره مُتضمِّنٌ للدعاء، والثناء أفضل من الدعاء؛ ولهذا كانت سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن؛ لأنـها أُخلِصت لوصف الرحمن تبارك وتعالى، والثناء عليه؛ ولهذا كان قول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أفضل الكلام بعد القرآن، فيلزم أن ما تـضمَّنها من الاستفتاحات أفضل من غيره.
- ومنها: أن غيره من الاستفتاحات عامَّتها في قيام الليل في النافلة، وهذا كان عمر يفعله، ويعلمه الناس في الفرض.
- ومنها: أن هذا الاستفتاح إنشاءٌ للثناء على الرَّب تعالى، مُتضمِّنٌ للإخبار عن صفات كماله، ونعوت جلاله”.
حكم دعاء الاستفتاح في حق المسبوق
واعلم أن دعاء الاستفتاح وإن كان مستحبًّا في حق المصلي، إلا أنه لا يشرع في حق المسبوق إذا أتى والإمام يقرأ في الصلاة الجهرية؛ لأن المأموم مأمورٌ بالاستماع والإنصات لقراءة إمامه؛ لقول الله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204]، وقد قال جمهور المفسرين: الاستماع والإنصات المأمور به في هذه الآية إنـما هو في داخل الصلاة.
وحينئذٍ: إذا أتى المسبوق والإمام يقرأ في الصلاة الجهرية، فقد تعارض عنده أمران: الإتيان بدعاء الاستفتاح، أو الاستماع والإنصات لقراءة الإمام، ولا شك أن الاستماع لقراءة الإمام آكد من الإتيان بدعاء الاستفتاح؛ لأنه مأمورٌ به، بينما غاية ما يكون دعاء الاستفتاح أنه مستحبٌ وليس بواجب.
حكم دعاء الاستفتاح في صلاة الجنازة
ولا يشرع دعاء الاستفتاح كذلك في الصلاة على الجنازة؛ لأنـها صلاةٌ شُرِع فيها التخفيف؛ ولهذا لا يُقرأ فيها بعد الفاتحة بشيءٍ، وليس فيها ركوعٌ ولا سجود.
قال أبو داود: “سمعت أحمد يُسأل عن الرجل يستفتح الصلاة على الجنازة بسبحانك اللهم وبحمدك…، فقال الإمام أحمد: ما سمعت؛ أي: ما سمعت فيها بشيءٍ عن النبي ، أو آثارٍ عن الصحابة “.
الاستعاذة بالله من الشيطان
وبعد أن يأتي المصلي بدعاء الاستفتاح: يستعيذ بالله من الشيطان؛ وأكمل صيغ الاستعاذة أن يقول: “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه”، كما جاء ذلك عند ابن ماجه والدارقطني بسندٍ صحيح.
وجاء عن أبي داود: “أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه”، ويكفيه أن يقول: “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم”؛ لعموم قول الله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98].
والاستعاذة للقراءة وليست للصلاة؛ إذ لو كانت للصلاة لكانت تلي تكبيرة الإحرام، ثم إن الله تعالى قد أمر بالاستعاذة من الشيطان الرجيم عند قراءة القرآن: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وهذا يعم القراءة داخل الصلاة وخارجها.
فائدة الاستعاذة
إبعاد الشيطان عن الإنسان، وهو يتلو كتاب الله، حتى يحصل له بذلك تدبُّر القرآن، وتفهُّم معانيه، والانتفاع به، والشيطان يحرص عندما يرى الإنسان يقرأ القرآن في الصلاة، أو في خارجها، يحرص على أن يُشغل قلبه وفكره، فلا يتدبَّر ما يقرأ؛ ولهذا شرعت الاستعاذة منه حتى يحصل للقارئ التدبر بالقرآن.
البسملة وحكم الإسرار بها
ثم بعد الاستعاذة يُشرع أن يقول: “بسم الله الرحمن الرحيم”، ويُسِرُّ بـها، ولو كان في صلاةٍ جهرية، وهذا هو هدي النبي .
ففي الصحيحين عن أنسٍ : “أن النبي ، وأبا بكرٍ، وعمر، كانوا يفتتحون الصلاة بـ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2].
وفي “صحيح مسلم” عنه ، قال: “صليتُ خلف رسول الله وأبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم” يريد: لَـم يسمع أحدًا منهم يجهر بالبسملة.
قال ابن القيم رحمه الله: “ولا ريب أنه لَـم يكن يجهر بالبسملة دائمًا في كل يومٍ وليلةٍ خمس مراتٍ أبدًا، حضرًا وسفرًا، ويخفى ذلك على خُلفائِه الراشدين، وعلى جمهور أصحابه، وأهل بلده في الأعصار الفاضلة، هذا من أمحل المـحال”
هل البسملة آية من الفاتحة؟
البسملة ليست بآيةٍ من الفاتحة؛ لكنها آيةٌ مستقلةٌ من القرآن، نزلت للفصل بين السور، يُفتَتح بـها جميع سور القرآن ما عدا سورة براءة.
والدليل على أن البسملة ليست بآيةٍ من الفاتحة: ما جاء في “صحيح مسلم” عن أبي هريرة : أن النبي قال: قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال: مـجَّدني عبدي، وإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل [3].
فقوله: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين قال النووي رحمه الله: “قال العلماء: المراد بالصلاة هنا الفاتحة، سميت بذلك لأنـها لا تصح إلا بـها، فهو كقوله : الحج عرفة [4]، ولو كانت البسملة آيةً من الفاتحة لذكرها؛ لكنه ابتدأ بالحمد لله رب العالمين، فدل على أنـها ليست بآيةٍ من الفاتحة”.
ويترتب على هذا: أن من ترك قراءة البسملة لـم يكن تاركًا لجزءٍ من الفاتحة، وتصح الصلاة بدونـها، وغاية الأمر: أن قراءة البسملة في ابتداء قراءة الفاتحة، وفي ابتداء قراءة سورةٍ بعدها، مع عدا سورة براءة: أن ذلك مستحبٌّ، وليس بواجبٍ.
وسوف تأتي إن شاء الله تعالى للأحكام المتعلقة بقراءة سورة الفاتحة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.