عناصر المادة
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
لا يزال الحديث موصولًا عن شرط استقبال القبلة في الصلاة: وقد تكلمنا في الحلقة السابقة عن الحكم فيما إذا اشتبهت القبلة على المصلي، وذكرنا أنه إذا كان يحسن الاجتهاد في طلب القبلة بأن يعرف القبلة بعلاماتها وأدلتها لزمه أن يجتهد، وإذا اجتهد وصلى فصلاته صحيحه، حتى ولو تبيّن له فيما بعد أنه أخطأ في إصابة القبلة، أما إذا صلى من غير اجتهاد فصلاته غير صحيحة إذا تبيّن له أنه أخطأ في القبلة، وتصح صلاته إذا تبيّن له أنه قد أصاب على القول الراجح من قول الفقهاء في المسألة، وأما من لا يحسن الاجتهاد فيلزمه تقليد من يثق فيه.
الحكم عند اختلاف رجلين في القبلة
وإذا اختلف اجتهاد رجلين في القبلة؛ فإن كان اختلافهما في جهةٍ واحدة، بأن يـميل أحدهما يـمينًا، والآخر شمالًا مع اتفاقهما في الجهة، فلا بأس أن يتبع أحدهما الآخر في القبلة؛ لأن الانحراف في الجهة لا يضر، وقد قال النبي : ما بين المشرق والمغرب قبلة [1].
مثال ذلك: اشتبهت القبلة على رجلين في سفرٍ، فاتفقا على أن جهة القبلة هي جهة الغرب، لكن أحدهما يـميل إلى الشمال، والآخر يـميل إلى الجنوب، ففي هذه الحال لا بأس أن يتبع أحدهما الآخر.
أما إذا كان اختلافهما في الجهة، بأن قال أحدهما: القبلة جهة الغرب مثلًا، وقال الآخر: بل القبلة جهة الشمال، فلا يتبع أحدهما الآخر؛ لأن كل واحدٍ منهما يعتقد خطأ صاحبه.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “متى اختلف مجتهدان، ففرض كل واحدٍ الصلاة إلى الجهة التي يؤديه إليها اجتهاده، فلا يسعه تركها، ولا تقليد صاحبه، وإن كان أعلم منه، كالعالِـمَين يختلفان في الحادثة، فإن اجتهد أحدهما دون الآخر، لَـم يجز له تقليد من اجتهد حتى يجتهد بنفسه”.
ولكن إذا قلنا: إن المـجتهدين إذا اختلفا في جهة القبلة، فليس لأحدهما أن يتبع الآخر، فهل معنى ذلك: أن كل واحد منهما يصلي وحده إلى الجهة التي يعتقد أنَّـها جهة القبلة، أو يأتـمّ أحدهما بصاحبه، ولو اختلف معه في جهة القبلة؟
هذا محل خلافٍ بين الفقهاء:
- فمنهم من قال: ليس لأحدهما أن يؤم صاحبه في هذه الحال؛ لأن كل واحدٍ منهما يعتقد خطأ الآخر، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة.
- وقال بعض الفقهاء: يجوز أن يأتـمَّ أحدهما بالآخر في هذه الحال، كما أن المصلين حول الكعبة يصلي بـهم الإمام إلى جهةٍ، وبعض المأمومين يصلي خلف الإمام إلى جهةٍ أخرى، وهكذا المـجتهدان إذا اختلفا؛ كلٌ منهما يتجه إلى الجهة التي يعتقد أنـها جهة القبلة.
ولعل هذا القول الأخير هو الأقرب في هذه المسألة، والله أعلم.
وقد اختار هذا القول الموفق ابن قدامة رحمه الله، قال: “فصلٌ: متى اختلف اجتهادهما لـم يـجز لأحدهما أن يؤمَّ صاحبه؛ لأن كل واحدٍ منهما يعتقد خطأ الآخر، فلم يـجز له الائتمام به، قال: وقياس المذهب جواز ذلك، وهو مذهب أبي ثور؛ لأن كل واحدٍ منهما يعتقد صحة صلاة الآخر، وأن فرضه التوجُّه إلى ما تَوجَّه إليه، فلـم يـمنع الاقتداء به اختلاف الجهة، كالمصلين حول الكعبة، وقد نص أحمد على صحة الصلاة خلف المصلي في جلود الثعالب، إذا كان يعتقد صحة الصلاة فيها، قال: وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى”.
من يتبع المقلد إذا اختلف المجتهدان في اتجاه القبلة؟
ولكن لو كان مع هذين المـجتهدين رجلٌ ثالثٌ مقلِّد، إما لكونه أعمى، أو لكونه ليس عنده القدرة على الاجتهاد في طلب القبلة؛ لكونه لا يعرف علاماتـها وأدلتها، فاختلف هذان المـجتهدان، فأيهما يتبع هذا المقلِّد؟
قال الفقهاء: إن المقلِّد في هذه الحال يتبع أوثقهما في نفسه.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “متى اختلف مجتهدان، وكان معهما أعمى، أو جاهلٌ لا يقدر على تعلُّم الأدلة قبل خروج الوقت، ففرضه تقليد أوثقهما في نفسه وأعلمهما، وأكثرهما تحريًا؛ لأن الصواب إليه أقرب، فإن قلَّد المفضول؛ فلا تصح صلاته؛ لأنه ترك ما يغلب على ظنِّه أنه الصواب، فلم يـجز ذلك، كالمـجتهد إذا ترك اجتهاده.. قال الموفق رحمه الله: والأولى صحتها، وهذا مذهب الشافعي؛ لأنه أخذ بدليلٍ له الأخذ به لو انفرد، فكذلك إذا كان معه غيره، كما لو استويا، ولا عبرة بظنِّه، فإنه لو غلب على ظنِّه إصابة المفضول لـم يـمنع ذلك تقليد الأفضل، فإن استويا قلَّد من شاء منهما، كالعامي مع العلماء في بقية الأحكام”.
هل يلزم المجتهد الاجتهاد لكل صلاة؟
والمـجتهد العارف بأدلة القبلة: هل يلزمه أن يجتهد لكل صلاة، فإذا اجتهد وصلى صلاة الظهر مثلًا، فيلزمه أن يعيد اجتهاده ونظره لأدلة القبلة لصلاة العصر، أو أنه يكفيه اجتهاده الأول؟
هذا محل خلافٍ بين الفقهاء، والأقرب في هذه المسألة -والله أعلم- أنه لا يلزمه أن يجتهد لكل صلاةٍ، ما لـم يكن هناك سببٌ يقتضي إعادة الاجتهاد، كأن يطرأ عليه الشك في اجتهاده الأول، فحينئذٍ يعيد النظر، ويعيد اجتهاده، فإن تغيَّـر اجتهاده عمل بالثاني، ولـم يُعد ما صلى بالأول، كالحاكم لو تغيَّـر اجتهاده في الحادثة الثانية، عمل به، ولـم ينقض حكمه الأول.
مثال ذلك: رجلٌ اشتبهت عليه القبلة في السفر، واجتهد فيها وصلى صلاة الظهر، ثم إنه عند صلاة العصر طرأ عليه الشك فأعاد اجتهاده، فظهر له أن القبلة إلى غير الجهة التي صلى إليها صلاة الظهر، فنقول: يعمل باجتهاده الجديد، ولا يلزمه إعادة صلاة الظهر؛ لأنه قد اجتهد فيها، وأتى بـما يلزمه؛ فلم تجب عليه إعادتـها.
والقاعدة: أن من أتى بـما يجب عليه لـم يُلزَم بإعادة العبادة؛ لأننا لو قلنا بلزوم الإعادة لأوجبنا عليه العبادة مرتين، قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “وهذا لا نعلم فيه خلافًا”.
مَنْ تبين له جهة القبلة وهو في الصلاة
وإذا تبيَّـن للمصلي أنه أخطأ في جهة القبلة، وهو في صلاته؛ توجه إلى جهة القبلة، وبنى على ما مضى من صلاته؛ لأن ما مضى منها كان صحيحًا، فجاز البناء عليه، وإن كانوا جماعةً قد قدموا أحدهم، ثم بان لهم الخطأ في جهة القبلة، كأن يأتيهم رجلٌ ثقةٌ ويخبرهم بذلك؛ توجَّهوا إلى الجهة التي بان لهم فيها الصواب.
ويدل لذلك: قصة أهل قُبَاء لـمَّا كانوا يصلون إلى بيت المقدس، فجاءهم رجلٌ وهم يصلون صلاة العصر، فقال: أشهد أني صليت مع رسول الله ، وأنه توجَّه نحو الكعبة، فانحرفوا من جهة بيت المقدس، حتى توجَّهوا نحو الكعبة.
خفاء جهة القبلة وتعذر معرفتها
وإذا اشتبهت القبلة على الإنسان، وكان يـمكنه الاجتهاد في معرفة أدلتها وعلاماتـها، لكن هذه الأدلة خفيت عليه، إما بسبب غيومٍ، أو ظلمةٍ، أو لغير ذلك من الأسباب، فإنه يتحرَّى ويصلي على حسب حاله، وتصح صلاته؛ لأنه قد اتقى الله ما استطاع.
وهكذا المقلِّد أو الأعمى إذا كان في سفرٍ، ولم يجد من يقلده، أو من يخبره بالقبلة، فإنه يصلي على حسب حاله، وصلاته صحيحة.
قال الفقهاء: ويستحب للإنسان أن يتعلم أدلة القبلة والوقت لِمَا يترتب على ذلك من الفوائد والمصالح.
أسأل الله تعالى أن يوفقنا للعلم النافع، والفقه في الدين، والسداد في القول والعمل، وإلى الملتقى في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه الترمذي: 344، وابن ماجه: 1011، وقال الترمذ: هذا حديث حسن صحيح. |
---|