عناصر المادة
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
نستكمل الحديث عن شرط استقبال القبلة:
متى يسقط شرط استقبال القبلة؟
استقبال القبلة الذي أجمع العلماء على أنه شرطٌ لصحة الصلاة، يسقط في ثلاثة مواضع:
- الأول: عند العجز عنه.
- الثاني: في حال اشتداد الخوف.
- الثالث: في النافلة في السفر على الراحلة.
أولًا: العجز عن استقبال القبلة
أما الموضع الأول: وهو حال العجز عن استقبال القبلة؛ فإن جميع شروط وأركان وواجبات الصلاة، تسقط بالعجز عنها، ما عدا النية، فلا يُتصوَّر العجز عنها.
ويدل لذلك: عموم قول الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وقول الله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].
وقول النبي : وما أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم [1].
مثال العجز عن استقبال القبلة
أن يكون الإنسان مريضًا لا يستطيع أن يتوجَّه إلى القبلة بنفسه، وليس عنده من يوجهه إلى القبلة.
ومثل ذلك أيضًا: من كان في الطائرة، وحان وقت صلاة الفريضة، ويعلم بأن الطائرة لن تـهبط في المطار قبل خروج وقت الصلاة، وكانت الصلاة مـمَّا لا تجمع مع غيرها كصلاة الفجر، أو كانت مـمَّا تجمع مع غيرها، ولكن يعلم بأن الطائرة لن تـهبط قبل خروج وقت الثانية، فيلزمه في هذه الحال أن يصلي في الطائرة على حسب حاله، فإن أمكنه استقبال القبلة لزمه ذلك، وإن تعذَّر عليه استقبال القبلة، أو شقَّ عليه، فإنه يصلي ولو إلى غير القبلة، ويسقط عنه شرط استقبال القبلة في هذه الحال للعجز عنه، أو لوجود الحرج والمشقة.
وبعض المسافرين على الطائرات يتساهلون في هذه المسألة، فيؤخرون الصلاة إلى حين هبوط الطائرة، وهم يعلمون بأنـها لن تـهبط إلا بعد خروج وقت الصلاة، بحجة أنَّـهم لا يتمكَّنون من استقبال القبلة، ومن بعض أركان الصلاة كالركوع والسجود، وهذا الفهم غير صحيح، بل الواجب عليهم أن يؤدوا الصلاة في وقتها على حسب استطاعتهم، فإن تعذَّر أو شقَّ عليهم استقبال القبلة؛ سقط هذا الشرط، وإن لـم يـمكن الإتيان بالركوع والسجود، أجزأ الإيـماء بـهما، ولا تؤخَّر الصلاة عن وقتها؛ وتأخير الصلاة عن وقتها معدودٌ عن العلماء من كبائر الذنوب.
ثانيًا: حال اشتداد الخوف
أما الموضع الثاني الذي يسقط معه شرط استقبال القبلة: فهو اشتداد الخوف؛ كأن يكون الإنسان في معركة، ومثل ذلك: هرب الإنسان من عدوٍ، أو من سَيْلٍ، أو حريقٍ، ونحو ذلك؛ لقول الله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:238-239]، أي: إن خفتم فصلوا رِجَالًا: مُشاةً على أرجلكم، أَوْ رُكْبَانًا أي: راكبين ظهور دوابكم ونحوها.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: “أي: فصلوا على أي حال كان، رجالًا أو ركبانًا، يعني: مستقبِلِي القبلة وغير مستقبِليها، كما قال مالكٌ عن نافع: أن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها، ثم قال: فإن كان خوفٌ أشد من ذلك؛ صَلَّوْا رجالًا على أقدامهم، أو ركبانًا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها”.
ثالثًا: حكم استقبال القبلة على الراحلة في النافلة
أما الموضع الثالث الذي يسقط معه شرط استقبال القبلة: فهو صلاة النافلة على الراحلة في السفر؛ فيجوز لمن كان في السفر أن يصلي ما شاء من النوافل، ولو لـم يستقبل القبلة، إذا كان راكبًا على راحلته.
والراحلة: مفرد رواحل، وهي الإبل التي يُركَب عليها، وفي معناها في الوقت الحاضر: المراكب الحديثة، من السيارات والطائرات والسفن والقطارات.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “لا نعلم في إباحة التطوُّع على الراحلة إلى غير القبلة في السفر الطويل خلافًا بين أهل العلم”.
وقال ابن عبدالبر رحمه الله: “أجمعوا على أنه جائزٌ لكل من سافر سفرًا تقصر فيه الصلاة، أن يتطوَّع على دابَّته حيثما توجَّهت به، يومئ بالركوع والسجود، ويجعل السجود أخفض من الركوع”.
وحكم السفر القصير في ذلك، حكم الطويل في أظهر قولي العلماء.
والأصل في هذا: ما جاء في الصحيحين عن جابرٍ أن النبي كان يصلي على راحلته حيث توجَّهت به، فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة [2].
وفي حديث ابن عمر عند البخاري وغيره: “أن النبي كان يُسبِّح على الراحلة قِبَل أي وجْهٍ تَوجَّه، ويُوتِر عليها، غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة” [3].
وقال بعض الفقهاء: يلزمه في هذه الحال استقبال القبلة عند تكبيرة الإحرام، إن أمكنه ذلك؛ لحديث أنسٍ “أن النبي كان إذا سافر فأراد أن يتطوَّع، استقبل بناقته القبلة فكبَّـر، ثم صلى حيث كان وُجْهة رِكَابِه” [4]، أخرجه أبو داود، قال الحافظ ابن حجر في (بلوغ المرام): “إسناده حسن”.
والأقرب في هذه المسألة -والله أعلم- أنه لا يلزمه في هذه الحال استقبال القبلة عند تكبيرة الإحرام، وإنـما يستحب له ذلك؛ لأن الواصفين لصلاة النبي على الراحلة في السفر لـم يذكروا ذلك، وحديث أنسٍ المذكور غاية ما يدل عليه استحباب استقبال القبلة عند تكبيرة الإحرام.
قال ابن القيم رحمه الله: “كان من هديه صلاة التطوُّع على راحلته، حيث توجَّهت به، وكان يُومِئ إيـماءً برأسه في ركوعه وسجوده، وسجوده أخفض من ركوعه، وروى أحمد وأبو داود من حديث أنسٍ: أنه كان يستقبل بناقته القبلة عند تكبيرة الافتتاح، ثم يصلي سائر الصلاة حيث توجَّهت به، قال: وفي هذا الحديث نظر، وسائر من وصف صلاته عليه الصلاة والسلام على راحلته، أطلقوا أنه كان يصلي عليها قِبَل أي وجهةٍ توجَّهت به، ولـم يستثنوا من ذلك تكبيرة الإحرام، ولا غيرها، كعامر بن ربيعة، وعبدالله بن عمر، وجابر بن عبدالله، رضي الله عنهم، وأحاديثهم أصح من حديث أنسٍ هذا “.
وهذا الحكم -أعني: عدم اشتراط استقبال القبلة في صلاة النافلة- إنـما هو خاصٌ بحال السفر، وأما في حال الحضر، فيلزمه استقبال القبلة في صلاة الفريضة والنافلة جميعًا، ثم إن هذا الحكم خاصٌ كذلك بحال السائر في السفر، فيجوز له أن يصلي صلاة النافلة على مركوبه إلى غير جهة القبلة، وأما النازل في السفر فليس له ذلك، بل يلزمه استقبال القبلة.
أيها الإخوة، ينبغي للمسلم إذا كان مسافرًا أن يغتنم وقته وهو سائرٌ على مركوبه، من سيارةٍ أو طائرةٍ أو قطارٍ أو غير ذلك بعملٍ صالحٍ، ومن ذلك أن يصلي ما شاء من النوافل، ولو إلى غير جهة القبلة، يومئ بالركوع والسجود، ويجعل السجود أخفض من الركوع.
قال الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله: “كأن السر فيما ذُكر: تيسير تحصيل النوافل على العباد وتكثيرها؛ تعظيمًا لأجورهم ورحمةً بـهم”.
أيها الإخوة، نكتفي بـهذا القدر في هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.