الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
تكلمنا سابقًا عن مواقيت الصلوات الخمس، وبيَّنا أن شرط دخول الوقت أنه آكد شروط الصلاة، وأنه قد تسقط جميع شروط الصلاة مراعاةً لهذا الشرط، كما لو افترضنا أن رجلًا عاجزٌ عن ستر العورة، عاجزٌ عن الطهارة، عاجزٌ عن استقبال القبلة، عاجزٌ عن بقية شروط الصلاة، فنأمره بأن يصلي في وقت الصلاة، ولا يؤخرها، ويصلي على حسب استطاعته، ولو أن يصلي بقلبه.
ثم بيَّنا مواقيت الصلوات الخمس.
حكم الاعتماد على الحساب الفلكي في تحديد المواقيت
ويـمكن الاعتماد على الحسابات الفلكية في تحديد مواقيت الصلوات الخمس، وقد بيَّـن الإمام القَرَافي رحمه الله الفرق بين إثبات أوقات الصلوات الخمس بالحساب، وبين قاعدة الأهلَّة في الرمضانات فلا يجوز إثباتـها بالحساب، فقال في كتابه (الفروق) في الفرق: الثاني والمائة، قال: “الفرق الثاني والمائة: بين قاعدة أوقات الصلوات: يجوز إثباتـها بالحساب والآلات، وبكل ما دلَّ عليها، وبين قاعدة الأهلة في الرمضانات، لا يجوز إثباتـها بالحساب.
ثم قال رحمه الله: إن الله تعالى نصب زوال الشمس سببًا لوجوب الظهر، وكذلك بقية الأوقات؛ لقول الله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء:78] أي: لزوال الشمس، وكذلك قوله تعالى: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الروم:17-18]، قال المفسرون: هذا خبرٌ معناه: الأمر بالصلوات الخمس في هذه الأوقات: حِينَ تُمْسُونَ: المغرب والعشاء، وَحِينَ تُصْبِحُونَ: الصبح، وَعَشِيًّا: العصر، وَحِينَ تُظْهِرُونَ: الظهر.
والصلاة تسمى: سُبْحة، ومنه: سُبْحَة الضحى، أي: صلاتـها، فالآية أمرٌ بإيقاع هذه الصلوات في هذه الأوقات، وغير ذلك من الكتاب والسنة الدال على أن نفس الوقت سببٌ، فمن علم السبب بأي طريقٍ كان؛ لزمه حكمه، فلذلك اعتبر الحساب المفيد للقطع في أوقات الصلوات.
وأما الأهِلَّة: فلم ينصب صاحب الشرع خروجها من الشعاع سببًا للصوم، بل رؤية الهلال خارجًا من شعاع الشمس هو السبب، فإذا لَـم تحصل الرؤية لَـم يحصل السبب الشرعي، فلا يثبت الحكم.
ويدل على أن صاحب الشرع لَـم ينصب نفس خروج الهلال عن شعاع الشمس سببًا للصوم، قول النبي : صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته [1]، ولـم يقل: لخروجه عن شعاع الشمس، كما قال تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: فإن غُمَّ عليكم، أي: خفيت عليكم رؤيته، فاقْدُرُوا له وفي روايةٍ: فأكملوا العدة ثلاثين [2]؛ فنصب رؤية الهلال، أو إكمال العدة ثلاثين، ولـم يتعرَّض لخروج الهلال عن الشعاع.
هذا يدل على أن هناك فرقًا بين قاعدة أوقات الصلوات، فيجوز إثباتـها بالحساب، وبين قاعدة الأهلَّة في الرمضانات، فلا يجوز إثباتـها بالحساب.
وبناءً على ذلك نقول: إنه يجوز الاعتماد على الحسابات الفلكية الصادرة عن أهل خبرةٍ وأمانة، يجوز الاعتماد عليها في تحديد مواقيت الصلوات.
ما أفضل وقت لتأدية الصلاة
أيها الإخوة، وقد دلت السنة عن النبي : أن الأفضل أن تؤدَّى كل صلاةٍ في أول وقتها، ما عدا صلاة الظهر عند اشتداد الحرِّ، فالسنة تأخيرها إلى الإبراد، وما عدا صلاة العشاء، فالسنة تأخيرها إلى قريبٍ من ثلث الليل.
أما صلاة الظهر فالسنة أن تصلى في أول وقتها.
ففي حديث جابرٍ : “أن النبي كان يصلي الظهر بالهاجرة” فكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يصلي الظهر في أول وقتها، لكن إذا اشتد الحر، كان عليه الصلاة والسلام يؤخِّرها إلى آخر وقتها، أي: إلى حين الإبراد، وقال: إذا اشتدَّ الحر؛ فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحرِّ من فيح جهنم [3].
وسبق أن قلنا: إنه مع وجود المكيِّفات لا يُشرَع الإبراد بصلاة الظهر؛ لأن النبي علَّق الأمر بالإبراد على عِلَّةٍ تنتفي مع وجود المكيِّفات، فقد علَّق بالإبراد على اشتداد الحر، فقال: إذا اشتدَّ الحر؛ فأبردوا بالصلاة ومعلومٌ أن المكيِّفات في الوقت الحاضر تنكسر بـها شدة الحر، وحينئذٍ نقول: إن هذه العلَّة التي عُلِّق الأمر عليها لا تتحقَّق مع وجود المكيِّفات، فلا يُشرَع الإبراد بصلاة الظهر مع وجود المكيِّفات التي تكسر شدة الحر.
وأما صلاة العصر فكان عليه الصلاة والسلام يصليها في أول وقتها.
وجاء في حديث أبي بَرْزَة الأسلمي قال: “كان رسول الله يصلي العصر، ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة، والشمس حيَّة” [4]، وجاء في حديث بُريْدة: “أن النبي كان يصلي العصر والشمس بيضاء نقية” [5]، وفي حديث أبي موسى: “والشمس مرتفعة” [6]، وكان عليه الصلاة والسلام يصلي صلاة العصر في أول وقتها.
وهكذا بالنسبة لصلاة المغرب: كان عليه الصلاة والسلام يصلي صلاة المغرب من حين غروب الشمس، إلا أنه كان يتأخَّر قليلًا بقدر ما تؤدَّى فيه ركعتان، فكان الصحابة يتبادرون السواري لأداء هاتين الركعتين، لكن كان هديه عليه الصلاة والسلام أنه يبادر بأداء صلاة المغرب بعد غروب الشمس.
كما جاء ذلك في حديث سلمة قال: “كنا نصلي المغرب إذا توارت الحجاب”، وفي حديث رافع بن خديج قال: “كنا نصلي المغرب، فينصرف أحدنا، وإنه ليُبصِر مواقع نبلِه” [7].
وأما صلاة الفجر: فكان عليه الصلاة والسلام يصليها بِغَلَس، وكان يصليها في أول وقتها بعد التحقق من طلوع الفجر، جاء في حديث أبي موسى: “فأقام الفجر حين انشق الفجر، والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضًا” [8].
وكان عليه الصلاة والسلام يدخلها بِغَلَس، وجاء في حديث رافع بن خديج: “كان ينصرف من صلاة الصبح، والناس يعرف بعضهم بعضًا” فكان يصلي صلاة الصبح مُغلِّسًا، ويخرج منها وقد بدا شيءٌ من الإسفار، وبـهذا جمع ابن القيم رحمه الله بين صلاة النبي الفجر بغَلَس، وبين حديث: أسفروا بالصبح؛ فإنه أعظم لأجوركم [9]، قال: “كان عليه الصلاة والسلام يدخل صلاة الفجر مُغلِّسًا، ويخرج منها حين الإسفار”.
وأما صلاة العشاء: فكان عليه الصلاة والسلام يستحب تأخيرها.
جاء في حديث جابر : “والعشاء أحيانًا يقدمها وأحيانًا يؤخِّرها، إذا رآهم اجتمعوا عجَّل، وإذا رآهم أبطؤوا أخَّر” [10]، وجاء في حديث أبي بَرْزَة : “كان يستحب أن يؤخِّر من العشاء”.
وقد أخر النبي الصحابة يومًا حتى أعتم الليل، ثم قال: إنه لوقتها، لولا أن أشقَّ على أمتي [11]، فدل ذلك على استحباب تأخير العشاء إلى قريبٍ من ثلث الليل.
ولهذا نقول: من كان ليس من أهل الجماعة كالمرأة في منزلها، فإن السنة لها أن تؤخر صلاة العشاء إلى قريبٍ من ثلث الليل، ولا تبادر بأداء صلاة العشاء من حين أن يؤذن المؤذِّن، هذا هو المستحب، وهذا هو السنة في ذلك.
وأما صلاة الناس في المساجد العامَّة، فينبغي أن تصلى في أول الوقت؛ وذلك لأن تأخيرها يكون فيه مشقةٌ على كثيرٍ من الناس، وقد كان النبي يراعي هذا المعنى، فكان لا يُؤخر صلاة العشاء خشية المشقَّة على أمته، وكان يقول: لولا أن أشقَّ على أمتي؛ لأمرتـهم بالصلاة هذه الساعة [12].
وكان عليه الصلاة والسلام يكره النوم قبل العشاء، والحديث بعدها؛ وذلك لأن النوم قبلها ربَّـما يُفوِّت صلاة العشاء، فتفوت صلاة العشاء بسبب هذا النوم، وهكذا الحديث بعدها: وهو التحادث مع الناس، فيمنعه هذا الحديث وهذا السهر من القيام لصلاة الفجر، أو من تفويت قيام الليل؛ ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يكره الحديث بعد صلاة العشاء، وهذا إذا كان السهر من غير فائدة، ومن غير غرضٍ صحيحٍ معتبرٍ شرعًا، أما إذا كان لفائدةٍ، وغرضٍ صحيح، وحاجةٍ مفيدةٍ، فلا بأس بذلك.
وبـهذا يُعلم: أن السهر الذي يُؤدي إلى تفويت صلاة الفجر أنه محرم؛ لأن ما أدى إلى المـحرم فإنه يكون محرمًا.
أيها الإخوة، هذه مواقيت الصلوات الخمس التي فرضها الله تعالى على عباده، فينبغي التقيد بـهذه المواقيت، فلا يصلها الإنسان قبل وقتها، ولا يؤخرها عنها، فقد قال الله : فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5] وقد فُسِّر قوله: سَاهُونَ أي: الذين يُؤخرون الصلاة عن وقتها.
وقال تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلَّا مَنْ تَابَ [مريم:59-60]، ومعنى أضاعوها، أي: أخروها عن وقتها.
فالذي يُؤخر الصلاة عن وقتها سماه الله: ساهيًا عنها، ومضيعًا لها، وتوعَّده بالويل والغي، قيل: هو وادٍ في جهنم.
أيها الإخوة: هذا هو ما اتسع له وقت هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة، إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 1909، ومسلم: 1081. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 1907. |
^3 | رواه البخاري: 536، ومسلم: 615. |
^4 | رواه البخاري: 547، ومسلم 647. |
^5, ^6 | رواه مسلم: 613. |
^7 | رواه البخاري: 559، ومسلم: 637. |
^8 | رواه مسلم: 614. |
^9 | رواه أبو داود: 424، وأحمد: 17257. |
^10 | رواه البخاري: 560، ومسلم: 646. |
^11 | رواه مسلم: 638. |
^12 | رواه البخاري: 7239، ومسلم: 642. |