عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين:
لا يزال الحديث موصولًا عن أوقات الصلوات، وكنا قد تحدثنا سابقًا عن شرط دخول الوقت، وأنه آكد شروط الصلاة، ثم تحدثنا عن وقت صلاة الظهر، ووقت صلاة العصر، ووعدنا باستكمال الحديث عن بقية أوقات الصلوات، فنقول:
وقت صلاة المغرب
يبدأ بغروب الشمس بإجماع العلماء، والمراد بغروب الشمس: غروب قرصها جميعه، بحيث لا يرى منه شيءٌ، لا من سهلٍ ولا من جبل، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك.
ويدل له: ما جاء في الصحيح عن سلمة بن الأكوع : “أن رسول الله كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس، وتوارت بالحجاب” [1].
وفي حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: “أن النبي كان يصلي المغرب إذا وجبت” [2].
قال الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله: “أصل الوجوب: السقوط، والمراد سقوط قرص الشمس، ففاعل (وجبت) مستترٌ وهو الشمس، وفي رواية أبي داود: “والمغرب إذا غربت الشمس” [3]، وفيه دليلٌ على أن سقوط قرص الشمس يدخل به وقت المغرب، ولا يخفى أن محلَّه إذا كان لا يحول بين رؤيتها غاربةً وبين الرائي حائلٌ”.
ويـمكن في الوقت الحاضر حساب وقت غروب الشمس بدقَّةٍ متناهية؛ ولهذا فيـمكن الاعتماد على التقاويم في دخول وقت صلاة المغرب، وفي الفطر بالنسبة للصائم، بل إن عامَّة التقاويم فيها احتياطٌ لدخول وقت صلاة المغرب، فتتأخَّر قليلًا بعد سقوط قرص الشمس.
وليُعلَم بأن المعوَّل عليه شرعًا هو سقوط قرص الشمس، ولا عبرة بالحمرة التي تكون بعد سقوط القرص.
وتسمى صلاة المغرب: بصلاة الشاهد، وهي وِتْر النهار، وقد جاء ذلك في بعض الروايات، كما في حديث عقبة عند أحمد وغيره: فإنـها وِتْر النهار [4].
والمعنى: أنَّـها فُرضت ثلاثًا من أول الأمر حضرًا وسفرًا، فكأنـها بـهذا وترٌ للنهار.
ويـمتد وقت المغرب إلى مغيب الشفق.
والشفق: بياضٌ تخالطه حُـمْرة، ثم تذهب ويبقى بياضٌ خالص، وبينهما زمنٌ قليل، فيُستدَل بغيبوبة البياض على مغيب الحمرة، وقد جاء في (صحيح مسلمٍ) من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن النبي قال: إذا صليتم المغرب، فإنه وقتٌ إلى أن يسقط الشفق [5]، وفي روايةٍ أخرى عند مسلمٍ: وقت صلاة المغرب ما لَـم يغب الشفق [6]، وفي روايةٍ: ووقت المغرب ما لَـم يسقط ثور الشفق [7].
قال النووي رحمه الله: “قوله: ثور الشفق أي: ثورانه وانتشاره، وهذه رواية مسلم، وفي رواية أبي داود: فور الشفق [8]. بالفاء، وهو بـمعناه، ويعبر جمهور العلماء عنه بالشفق الأحمر، والمراد هنا: الحُمْرة النسبية، وهذه الحُمْرة لا تتضح في الغالب، إلا مع صفاء الجو، أو مع وجود الرطوبة، وإلا ففي بعض الأحيان لا تتضح هذه الحُمْرة، خاصةً مع عدم صفاء الجو، فيُستدل بالبياض على هذه الحمرة”.
وقت صلاة العشاء
وهذا الوقت الذي ينتهي به وقت صلاة المغرب؛ يدخل به وقت صلاة العشاء، فليس بينهما فاصل.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “لا خلاف بين الناس في دخول وقت العشاء الآخرة بغيبوبة الشفق”.
واختلف العلماء في آخر وقت صلاة العشاء:
- فقيل: ثلث الليل.
- وقيل: نصف الليل.
والقول في هذه المسألة -والله أعلم- وهو الذي عليه أكثر المـحققين من أهل العلم أن للعشاء وقتين: وقت اختيارٍ، ووقت ضرورة:
- أما وقت الاختيار: فإلى نصف الليل.
- وأما وقت الضرورة: فإلى طلوع الفجر.
ويدل للقول: بأن وقت العشاء الاختياري إلى نصف الليل: ما جاء في (صحيح مسلمٍ) من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي قال: وقت العشاء إلى نصف الليل [9]، وفي روايةٍ أخرى عند مسلمٍ: فإذا صليتم العشاء، فإنه وقتٌ إلى نصف الليل [10].
ويدل للقول: بأن وقت الضرورة يـمتد إلى طلوع الفجر: حديث أبي قتادة : أن النبي قال: ليس في النوم تفريط، إنـما التفريط على من لَـم يصلِّ الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى [11].
ففي هذا الحديث دلالةٌ على امتداد وقت كل صلاةٍ من الصلوات الخمس إلى دخول وقت الصلاة الأخرى، فوقت صلاة الظهر يـمتد إلى دخول وقت صلاة العصر، ووقت صلاة العصر يـمتد إلى دخول وقت صلاة المغرب، والمراد به هنا وقت الضرورة، كما سبق بيان ذلك في الحلقة السابقة، ووقت صلاة المغرب يـمتد إلى دخول وقت صلاة العشاء، ووقت صلاة العشاء -والمراد به هنا وقت الضرورة- يـمتد إلى دخول وقت صلاة الفجر، وأما وقت صلاة الفجر، فإنه لا يـمتد إلى دخول وقت صلاة الظهر بالإجماع، فيكون هذا مستثنى من هذا الحديث.
قال النووي رحمه الله: “في هذا الحديث دليلٌ على امتداد وقت كل صلاةٍ من الصلوات الخمس، حتى يدخل وقت الأخرى، وهذا مستمرٌ على عمومه في الصلوات إلا الصبح، فإنـها لا تـمتد إلى الظهر، بل يخرج وقتها بطلوع الشمس؛ لمفهوم قوله : من أدرك ركعةً من الصبح قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك الصبح” [12].
وقد استنبط بعض العلماء ذلك من قول الله : أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ [الإسراء:78]، فقوله: لِدُلُوكِ الشَّمْسِ، أي: زوالها، إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ، أي: اشتداد ظلمته، فشمل بذلك الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم قال سبحانه: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الإسراء:78]، أي: صلاة الفجر، وسميت صلاة الفجر قرآنًا، لأنه تُطوَّل القراءة فيها: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78].
وقت صلاة الفجر
يدخل وقت صلاة الفجر: بطلوع الفجر الصادق، وسمي صادقًا لأنه يصدق عن الصبح، ويسمى: الفجر الثاني، احترازًا من الفجر الأول، الذي يسبقه ويسمى: الفجر الكاذب.
والفجر الصادق: هو البياض المعترض بالمشرق، ولا ظلمة بعده، وربـما يشوبه حُـمْرةٌ نسبية، خاصةً مع صفاء الجو، قال ابن حزم رحمه الله: “الفجر الصادق: هو البياض الذي يأخذ في عرض السماء في أفق المشرق في موضع طلوع الشمس في كل زمان، ينتقل بانتقالها، وهو مقدمة ضوئها، ويزداد بياضه، وربَّـما كان فيه توريدٌ بـحُمْرةٍ بديعةٍ”.
وأما الفجر الكاذب، ويسمى: الأول، وهو البياض المستَدِق المستطيل صُعُدًا من غير اعتراض، ويشبه ذنب السِّرْحان، أي: الذئب، وهذا الفجر لا يترتب عليه أي حكمٍ شرعي، فلا يحرم به الطعام ولا الشراب على الصائم، ولا يدخل به وقت صلاة الفجر.
ونظرًا لتشابه الفجرين على وجهٍ يخدع ويَغِرُّ من ليس عنده خبرةٌ للتمييز بينهما، فقد حذّر النبي من ذلك، ففي (صحيح مسلم) عن سَـمُرة بن جندب أن النبي قال: لا يغرنَّكُم من سحوركم أذان بلال، ولا بياض الأفق المستطيل هكذا، حتى يستطير هكذا [13]، يعني: معترضًا.
وفي روايةٍ لمسلم: لا يغرنَّكم نداء بلال حتى ينفجر الفجر [14]، وفي حديث قيس بن طَلْق، عن أبيه قال: قال رسول الله : كلوا واشربوا، ولا يهيدنَّكم أي: يـمنعكم، الساطع الـمُصْعِد يعني: الفجر الكاذب، حتى يعترض لكم الأحمر أي: الفجر الصادق، أخرجه أبو داود والترمذي، وهو حديثٌ حسن [15].
وتأمَّل كيف أن النبي قال في الفجر الكاذب: لا يغرنَّكم وفي هذا دلالةٌ على أنه يغر من لا يعرفه، ثم تأمَّل كيف وصفه بالساطع، وفي ذلك دلالة على أن له سطوعًا، وقد قال الله : وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187]، وفسَّر النبي الخيط بالأبيض ببياض النهار، والأسود بسواد الليل، كما جاء ذلك في الصحيحين من حديث عَدِي بن حاتمٍ [16]، وهذا البيان يحصل بطلوع الفجر الصادق.
ويـمتد وقت صلاة الفجر إلى طلوع الشمس.
أيها الإخوة، هذه مواقيت الصلوات الخمس التي فرضها الله تعالى على عباده، وقد قال الله : إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103].
وإلى أن نلتقي بكم في حلقة قادمةٍ، إن شاء الله، نستودعكم الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه مسلم: 636. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 560، ومسلم: 646. |
^3 | رواه أبو داود: 397. |
^4 | رواه الترمذي: 552، وأحمد: 4847، وقال الترمذي: هذا حديث حسن. |
^5, ^6, ^7, ^9, ^10 | رواه مسلم: 612. |
^8 | رواه أبو داود: 396. |
^11 | رواه مسلم: 681. |
^12 | سبق تخريجه. |
^13, ^14 | رواه مسلم: 1094. |
^15 | رواه أبو داود: 2348، والترمذي: 705، وقال: حديث حسن غريب. |
^16 | رواه البخاري: 1916، ومسلم: 1090. |