الرئيسية/برامج إذاعية/فقه المعاملات/(27) الرهن- أهميته وحقيقته وحكمه وشروط صحته
|categories

(27) الرهن- أهميته وحقيقته وحكمه وشروط صحته

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.

أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إنّ من محاسن الشريعة الإسلامية أن شرعت ما يحصل به توثقة الديون حفظًا لحقوق الدائنين، وتوسعة على المدينين، حتى لا ينسد باب البيع بالدين.

ومما يحصل به توثقة الدين الرهن، وهو المال الذي يُجعل وثيقةً للدين ليُستوفى من ثمنه إذا تعذّر استيفاؤه من ذمة الغريم، وسوف نتكلم في هذه الحلقة إن شاء الله عن حقيقة الرهن، وجملة من مسائله وأحكامه.

الرهن من أبرز الوسائل الشرعية لتوثيق الديون

وقبل ذلك نشير إلى أن الرهن هو من أبرز الوسائل الشرعية لتوثيق الديون، نقول هذا ونحن نرى توسّع كثير من الناس اليوم في البيع بالديون وبالتقسيط، ويحتاجون مع ذلك إلى توثقة ديونهم، ولكن نرى أن منهم من يعدل عن الوسائل الشرعية لتوثيق الديون كالرهن، إلى وسائل مستوردة من بيئات غير مسلمة، كالتأجير المنتهي بالتمليك مثلًا، والذي أقلُّ ما يقال فيه: إن فيه شبهة في كثير من صوره، فلماذا يعدل أولئك عن الرهن المشروع بالكتاب والسنة إلى تلك العقود المستوردة؟!

ثم إنّ الرهن يتحقق به العدل بين الدائن والمدين، بينما لا يتحقق العدل في التأجير المنتهي بالتمليك، فعلى سبيل المثال: من باع سيارة بالتقسيط، ورهن تلك السيارة بثمنها، فإذا لم يسدد المشتري بعض تلك الأقساط، فإن تلك السيارة تباع، ويُعطى الدائن ما له من أقساطٍ لم تسدد، ويُعطى الباقي للمدين مشتري السيارة.

بينما في التأجير المنتهي بالتمليك في أشهر صوره، إذا لم يسدد المدين بعض الأقساط، ولو كان القسط الأخير، فإن السيارة تُسحب منه، ويأخذها ذلك المؤجِّر، ولا يخفى ما في ذلك من الظلم، ولكن بعض الناس مفتونين بكل ما يأتي من الغرب فيتلقفونه من غير تمحيص، مع أن في الشريعة الإسلامية ما هو خيرٌ منه.

حقيقة الرهن

ونعود بعد ذلك للكلام عن حقيقة الرهن، فنقول: الرهن في لغة العرب معناه: الثبوت والدوام، يقال: ماءٌ راهن، أيْ راكد، ونعمة راهنة، أي دائمة.

ويُطلق الرهن على الحبس، ومنه قول الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38] أيْ محبوسة بكسبها وعملها.

والرهن معناه شرعًا: توثقة دينٍ بعين يمكن استيفاؤه منها، أو من ثمنها.

فقولنا: “توثقة دينٍ بعين” أيْ جعْل عينٍ مالية وثيقة بدين، ويمكن أن يُستوفى ذلك الدين، أو بعضه من تلك العين إن كانت من جنس الدين، أو من ثمنها إن كانت من غير جنس الدين.

فإذا استدان شخصٌ دينًا من آخر، ورهن له بهذا الدين عقارًا أو حيوانًا، أو سيارة، ونحو ذلك، فإن سدد المدين ذلك الدين وإلا استوفى الدائن حقه من ذلك الرهن، ويصح رهن المبيع بثمنه؛ لأن ثمنه دينٌ في الذمة، والمبيع ملكٌ للمشتري.

حكم الرهن

والرهن جائزٌ بالكتاب والسنة والإجماع، أما من الكتاب: فيقول الله ​​​​​​: وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283].

وأما من السنة فقد جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: “أن رسول الله اشترى من يهودي طعامًا، ورهنه درعه” [1].

قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “وأجمع المسلمون على جواز الرهن في الجملة”.

والرهن لازمٌ في حق الراهن، جائزٌ في حق المرتهن.

والراهن هو مالك العين المدين، فالرهن في حقه لازمٌ، أيْ أنه لا يملك فسخه؛ لأن الحظ فيه لغيره، فلزم من جهته.

وأما المرتهن فهو صاحب الدين الذي يرهن العين، ويحبسها نظير دينه، فالرهن في حقه جائزٌ، وليس لازمًا، أي أن له فسخه متى ما شاء؛ لأن الحظ فيه له وحده فله أن يتنازل عن حقه، وأن يفسخ الرهن متى ما أراد.

شروط صحة الرهن

ويُشترط لصحة الرهن: معرفة قدره وجنسه وصفته، وأن يكون الراهن جائز التصرُّف، مالكًا للمرهون، أو مأذونًا له فيه.

ويُشترط في العين المرهونة: أن تكون مما يصح بيعه؛ ليتمكن المرتهن من استيفاء دينه من ذلك الرهن.

وبناءً على ذلك فما لا يصح بيعه لا يصح رهنه.

حكم رهن الوثائق الرسمية

وبهذا يُعلم خطأ أولئك الذين يرهنون الوثائق الرسمية -كبطاقة الأحوال المدنية، أو دفتر العائلة، أو جواز السفر-، ويظهر خطأهم من وجهين:

  • الوجه الأول: أن ذلك لا يصح أن يكون رهنًا؛ لأن من شروط صحة الرهن -كما سبق- أن تكون العين المرهونة مما يصح بيعه، ومعلومٌ أن هذه الوثائق الرسمية لا يمكن بيعها عند تعذّر استيفاء الدين.
  • الوجه الثاني: أن في ذلك مخالفة لولي الأمر، وولي الأمر تجب طاعته بالمعروف؛ فإن تعليمات ولي الأمر تنصُّ على منع رهن الوثائق الرسمية.

أمثلة لما لا يصح رهنه

ومن فروع قولنا: “ما لا يجوز بيعه لا يصح رهنه”: أنه لا يصح رهن الوقف؛ لأنه لا يجوز بيعه، ولا يصح رهن العين المرهونة، ولا رهن المجهول؛ لأن المجهول لا يصح بيعه فلم يصح رهنه.

واستثنى بعض الفقهاء من هذه القاعدة: رهن الثمرة قبل بدو صلاحها من غير شرط القطع.

قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “لأن الغرر يقل فيه، فإن الثمرة متى تلفت عاد إلى حقه في ذمة الراهن”.

ولا يُشترط أن يكون الرهن في صلب العقد، بل يصح أن يكون بعد العقد؛ لقول الله تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283] فجعله الله تعالى بدلًا من الكتابة، والكتابة إنما تكون بعد وجوب الحق.

حكم الرهن على القرض

ويجوز أن يؤخذ على القرض رهنٌ بشرط ألا ينتفع المقرض بذلك الرهن، حتى ولو أذن له الراهن بذلك.

مثال ذلك: طلب رجل من آخر أن يقرضه مائة ألف ريال قرضًا، فوافق على أن يقرضه، ولكنه -أيْ المقرض- اشترط أن يوثّق هذا القرض برهن سيارة المقترض، فما حكم هذا؟

نقول: يجوز ذلك، لكن بشرط ألا ينتفع المقرض بهذه السيارة بأي وجهٍ من وجوه الانتفاع؛ لأنه إذا انتفع بها كان هذا من قبيل القرض الذي جرّ نفعًا، والقاعدة المشهورة عند الفقهاء هي: أن كل قرضٍ جرَّ نفعًا فهو ربا.

نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، ونستكمل الكلام عن بقية أحكام ومسائل الرهن في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 2068، ومسلم: 1603.
مواد ذات صلة