عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حياكم الله تعالى في هذه الحلقة الجديدة من هذا البرنامج.
كنا -أيها الإخوة- قد تكلمنا في الحلقة السابقة عن حقيقة الرهن، وجُملة من مسائله وأحكامه، ووعدنا باستكمال الحديث عن بقية تلك الأحكام والمسائل في هذه الحلقة.
حكم فسخ الرهن
فنقول: الرهن لازمٌ في حق الراهن، وهو الذي عليه الدين، أي: أنه لا يملك فسخه؛ لأن الحظ فيه لغيره، وجائزٌ في حق المرتهن وهو الدائن فله فسخه في أي وقتٍ شاء.
هل يشترط للزوم الرهن القبض؟
ولكن هل يُشترط للزوم الرهن في حق الراهن القبض، أو أنه يلزم بمجرد العقد قبل القبض؟
اختلف الفقهاء في ذلك، فذهب الجمهور منهم إلى أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، وهذا هو المشهور من مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة، واستدلوا لذلك بقول الله : فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283].
قالوا: فوصف الله تعالى الرهان بأنها مقبوضة، وهذا يدل على اشتراط القبض للزوم الرهن؛ ولأن الرهن عقد إرفاق يفتقر إلى القبول، فافتقر لزومه إلى القبض كالقرض، وبناءً على هذا القول فإن الرهن قبل القبض صحيح، ولكنه ليس بلازم.
ويترتب على هذا القول كذلك بأن الراهن إذا تصرف في الرهن قبل القبض بهبة، أو بيع، أو نحو ذلك بطل الرهن؛ لأنه بهذا التصرف أخرجه عن إمكان استيفاء الدين من ثمنه.
وذهب بعض الفقهاء إلى أن الرهن يلزم بمجرد العقد قبل القبض، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية؛ لأن الرهن عقدٌ، وقد قال الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1] وقياسًا على البيع، فكما أن البيع يلزم بمجرد العقد والتفرُّق من المجلس، ولو لم يُقبض المبيع فكذلك الرهن يلزم بمجرد العقد، ولو لم تُقبض السلعة المرهونة.
وأما استدلال الجمهور بقول الله : فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283] فليست الآية بصريحة الدلالة في اشتراط القبض للزوم الرهن؛ لأن الله تعالى أرشد في هذه الآية إلى توثيق الديون، وأرشد إلى كمال التوثيق؛ ولهذا أرشد إلى شهادة رجلين فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ [البقرة:282] فكذلك هنا في الرهن أرشد إلى أن كمال فائدة الرهن إنما تتحقق بقبض المرهون.
بل إن الآية يمكن الاستدلال بها على أن القبض ليس شرطًا للزوم الرهن، ووجه ذلك: أن الله تعالى جعل القبض وصفًا للرهن، فقال: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283] فعُلِم أن ماهيّة الرهن قد تحققت بدون القبض.
ولعل هذا القول الأخير وهو أن الرهن يلزم بمجرد العقد ولو لم يُقبض المرهون، لعله هو القول الراجح في هذه المسألة، وفيه توسعة على الناس وتيسيرًا لهم؛ إذ الغالب أن الراهن محتاجٌ للعين المرهونة، وفي القول بلزوم الرهن من غير اشتراط القبض تحقيقٌ للفائدة من الرهن، وهي توثيق الدين مع انتفاع الراهن بالعين المرهونة، والله تعالى أعلم.
حكم الرهن إذا تَلِف بعضُه
ومن أحكام الرهن: أنه إذا تلف بعض الرهن وبقي بعضه فالباقي رهنٌ بجميع الدين؛ لأن الدين كله متعلقٌ بجميع أجزاء الرهن، وإذا تلف البعض بقي البعض الآخر رهنًا بجميع الدين.
وإذا وفّى المدين بعض الدين لم ينفكَّ شيءٌ من الرهن حتى يسدده كله، وحتى يؤدي جميع الدين، وبناءً على هذا من باع سيارة بالتقسيط ورهن مقابل ذلك رهنًا، ولم يسدد المدين -الذي هو المشتري- قسطًا من الأقساط، فللمرتهن -أيْ بائع السيارة- أن يبيع ذلك الرهن، وأن يستوفي ما بقي من الدين، حتى ولو كان ما بقي من الدين هو القسط الأخير من السيارة.
حكم الرهن إذا كان حيوانًا
ومن أحكام الرهن كذلك: أنه إذا كان حيوانًا يحتاج إلى نفقة وكان في قبضة المرتهن، فقد رخّص له الشارع في أن يركبه وأن ينفق عليه إن كان يصلح للركوب، وأن يحلبه وينفق عليه إن كان يصلح للحلب، يقول النبي : الظهر يُركب بنفقته إذا كان مرهونًا، ولبن الدر يُشرب بنفقته إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة [1].
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “دلّ الحديث وقواعد الشريعة وأصولها على أن الحيوان المرهون محترمٌ في نفسه لحق الله تعالى، وللمالك فيه حق الملك، وللمرتهن فيه حق الوثيقة، فإذا كان بيده فلم يحلبه ذهب نفعه باطلًا، فكان مقتضى العدل والقياس ومصلحة الراهن والمرتهن والحيوان أن يستوفي المرتهن منفعة الركوب والحلب، ويعوّض عنهما بالنفقة، فإذا استوفى المرتهن منفعته، وعوّض عنها نفقة كان في هذا جمعٌ بين المصلحتين وبين الحقين”.
حكم انتفاع المرتهن بالرهن
أما إذا كان الرهن يحتاج إلى مؤونة، لكنه ليس بمركوب ولا محلوب كالعبد وكالأمة، ومثل ذلك في الوقت الحاضر السيارة، فإنها تحتاج للسير بها إلى الزيت والبنزين، ونحو ذلك، فهذا النوع من الرهن لا يجوز للمرتهن أن ينتفع به إلا بإذن مالكه، فإن أذن مالكه في أن ينفق عليه، وأن ينتفع به في مقابلة ذلك جاز وإلا فلا.
وأما ما لا يحتاج إلى مؤونة كالدار والمتاع، ونحو ذلك، فلا يجوز كذلك للمرتهن أن ينتفع به إلا بإذن الراهن، إلا إذا كان الرهن بدين قرض، فإنها لا يجوز للمقرض أن ينتفع بذلك الرهن، حتى ولو أذن له الراهن بذلك؛ لئلا يكون هذا من قبيل القرض الذي جرّ نفعًا فيكون من الربا، وقد سبق بيان هذه المسألة في الحلقة السابقة.
حكم الراهن إذا امتنع عن سداد الدين
ومن أحكام الرهن: أنه متى حلّ الأجل لزم الراهن الوفاء ولزمه سداد ما عليه من الدين، فإن امتنع من وفائه صار مماطلًا، وحينئذٍ يجبره القاضي على وفاء الدين، أو بيع الرهن، فإن امتنع فإن الحاكم يبيع الرهن، ويوفّي الدين منه، وإن فضُل من ثمنه شيءٌ عن الدين فهو لمالكه يُردُّ عليه؛ لأنه ماله في الحقيقة، ولا يجوز أن يؤخذ جميع الرهن في هذه الحال.
وقد كان من عادة العرب في الجاهلية أن الراهن إذا عجز عن أداء ما عليه من دين استولى المرتهنٌ على الرهن كله، فأخذه ولو كان الرهن أكثر من الدين، فأبطل الإسلام ذلك كما جاء في حديث أبي هريرة : أن النبي قال: لا يُغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه [2]، أخرجه الدارقطني والحاكم.
وأما إن بقي من الدين شيءٌ لم يستوفه ثمن الرهن، فهو دينٌ باقٍ في ذمة الراهن يجب عليه تسديده كسائر الديون.
حكم الرهن إذا تَلِف في يد المرتهن
ومن أحكام الرهن: أن الرهن أمانة في يد المرتهن، فإن تلف منه بغير تعدٍ ولا تفريط فلا شيء عليه، ولا يسقط بهلاكه شيءٌ من دينه.
أما إن تلِف الرهن في يد المرتهن بتعدٍ أو تفريطٍ منه لزمه ضمانه؛ لأنه أمانة في يده، فلزمه ضمانه إذا تلف بتعديه أو تفريطه كالوديعة.
حكم رهن المشاع
ومن أحكام الرهن: أنه يصح رهن المشاع، فلو كان له نصف دارٍ، أو نصف أرضٍ، فرهنه في دين صح ذلك.
ومثل ذلك في الوقت الحاضر: رهن الأسهم، فمن كان له أسهمٌ في شركة، أو في مؤسسة فله أن يرهن تلك الأسهم؛ لأن القاعدة في هذا الباب هي: أن كل ما صح بيعه صح رهنه، والمشاع وكذا الأسهم يصح بيعها فصح رهنها.
ونكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، وإلى حلقة قادمة إن شاء الله.
نستودعكم الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.