الرئيسية/برامج إذاعية/فقه المعاملات/(47) أحكام الشركة- شركة المضاربة
|categories

(47) أحكام الشركة- شركة المضاربة

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.

أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كنا قد تكلمنا في الحلقة السابقة عن جُملة من أحكام ومسائل الشركة، وكنا قد بدأن بالكلام مفصّلًا عن أنواع شركة العقود، فتكلمنا عن شركة العِنان وما يتعلق بها من مسائل وأحكام.

تتمة أنواع شركة العقود

ونستكمل الحديث عن بقية أنواع شركة العقود، فنقول: النوع الثاني من أنواع شركة العقود: شركة المضاربة.

شركة المضاربة

سُمّيت بذلك أخذًا من الضرب في الأرض، وهو السفر للتجارة، قال الله تعالى: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [المزمل:20]، أيْ: يطلبون رزق الله في المتاجر والمكاسب.

وتُسمى قِراضًا أخذًا من قرض الشيء أي: قطعه، كأن ربّ المال قد اقتطع للعامل قطعة من ماله، وتسمى كذلك شركة المعاملة أخذًا من العمل الذي يُقصد به هنا الاتجار بالمال لأجل الربح.

معنى المضاربة في اصطلاح الفقهاء

معنى المضاربة في اصطلاح الفقهاء: دفع مالٍ معلوم لمن يتّجر به ببعض ربحه، وقد سبق القول في الحلقة السابقة بأنه لا بد أن يكون هذا الربح جزءًا معلومًا مشاعًا -أيْ معلومًا بالنسبة كالنصف أو الثلث أو الربع ونحو ذلك-، وأنه لا يصح أن يكون الربح دراهم معلومة، فلا يصح أن يقول مثلًا: خذ هذا المال مضاربة، واستثمره في كذا على أن تعطيني كل شهرٍ ألف ريال مثلًا، هذا لا يجوز؛ لأن المضارِب قد يربح الألف ريال وقد لا يربح، وقد يربح أضعاف أضعافه، ثم إن تحديد مبلغٍّ معيَّنٍ من الربح يجعل هذه المعاملة في الحقيقة قرضًا بفائدة، وليست مضاربة.

حكم شركة المضاربة

شركة المضاربة جائزة بالإجماع، وقد كانت موجودة في عهد النبي وأقرّها عليه الصلاة والسلام، وروي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ولم يُعرَف لهم مخالفٌ من الصحابة.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: “المضارِب أمينٌ وأجيرٌ ووكيلٌ وشريك، فأمينٌ إذا قبض المال، ووكيلٌ إذا تصرف فيه، وأجيرٌ فيما يباشره بنفسه من العمل، وشريكٌ إذا ظهر فيه الربح”.

وتعيين مقدار نصيب العامل أي: المضارِب من الربح يرجع إليهما -أيْ إلى الشريكين-، فلو قال ربُّ المال للعامل: اتّجر به، والربح بيننا صار لكلٍ منهما نصف الربح؛ لأنه أضاف إليهما إضافة واحدة لا مُرجِّح لأحدهما على الآخر فيها، فاقتضى ذلك التسوية في الاستحقاق.

ولو قال ربُّ المال للعامل: اتّجر به ولي ثلاثة أرباع ربحه أو ثلثه، أو قال: اتّجر به ولك ثلاثة أرباع ربحه صحّ ذلك؛ لأنه متى عُلِم نصيب أحدهما أخذه، والباقي للآخر؛ هذا بالنسبة للربح.

على من تكون الخسارة في المضاربة؟

وأما الخسارة فإنها تكون على ربِّ المال في ماله، ولا يُسأل عنها المضارِب، إلا إذا تعدَّى على المال، أو قصّر في حفظه، وبناءً على ذلك من أعطى غيره مالًا ليضارب به فخسر المضارِب؛ فإن المضارِب لا يتحمّل شيئًا من الخسارة، وإنما يتحملها ربُّ المال، إلا إذا حصل من المضارب تعدٍ أو تفريط.

وهذا الحكم قد قرره مجمع الفقه الإسلامي المنبثق من رابطة العالم الإسلامي، وأنقل فيما يأتي نص قرار المجلس في هذا:

“إن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورتها الرابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة قد نظر في هذا الموضوع وأصدر القرار التالي:

الخسارة في مال المضاربة على رب المال في ماله، ولا يسأل عنها المضارِب إلا إذا تعدى على المال أو قصّر في حفظه؛ لأن مال المضاربة مملوك لصاحبه، والمضارِبُ أمينٌ عليه ما دام في يده، ووكيلٌ في التصرُّف فيه، والوكيل والأمين لا يضمنان إلاّ في حالة التعدي والتقصير.

والمسؤول عما يحدث في البنوك والمؤسسات المالية ذات الشخصية الاعتبارية هو مجلس الإدارة؛ لأنه هو الوكيل عن المساهمين في إدارة الشركة، والممثِّل للشخصية الاعتبارية، والحالات التي يسأل فيها مجلس الإدارة عن الخسارة التي تحدث في مال المضاربة، هي نفس الحالات التي يُسأل فيها المضارب -الشخص الطبيعي- فيكون مجلس الإدارة مسؤولًا أمام أرباب الأموال عن كل ما يحدث في مال المضاربة من خسارة بتعدٍّ أو تقصير منه، أو من موظفي المؤسسة.

وضمان مجلس الإدارة يكون من أموال المساهمين، ثم إذا كان التعدي أو التقصير من أحد الموظفين، فعلى مجلس الإدارة محاسبته، أما إذا كان التعدي أو التقصير من مجلس الإدارة نفسه، فمن حقِّ المساهمين أن يحاسبوه”.

حكم أخذ المضارب مضاربة أخرى من شخص آخر

ومن أحكام المضاربة: أنه إذا أخذ رجلٌ من آخر مضاربة، ثم أراد أخذ مضاربة من آخر بإذن الأول جاز ذلك، وكذلك إن لم يأذن ولم يكن عليه ضررٌ، فيجوز ذلك، قال صاحب المغني: “بغير خلافٍ علمناه”.

أما إذا كان فيه ضررٌ على الأول ولم يأذن، مثل أن يكون المال الثاني كثيرًا يستوعب زمانه فيُشغله عن التجارة في الأول، أو يكون المال الأول كثيرًا متى اشتغل عنه بغيره انقطع عن بعض تصرفاته، لم يجز ذلك في قول بعض الفقهاء، وهو المشهور من مذهب الحنابلة.

ولكن لو فعل ذلك أيْ ضارب العامل لآخر مع ضرر الأول بدون إذنه، نوضح هذا بالمثال:

أعطيت رجلًا مالًا ليضارب به، ثم إنك تفاجأت بأن هذا الشخص قد أخذ مالًا من غيرك ليضارب به بغير إذنك، ويلحقك الضرر لأجل اشتغال هذا المضارِب بالمال الثاني عن مالك، فما الحكم في هذه الحال؟

قال بعض الفقهاء وهو المشهور عند الحنابلة: إنّ العامل يرد حصّته من ربحه في مضاربته مع الثاني، يردها إلى شركته مع المضارِب الأول، فيدفع لربِّ المضاربة الثانية نصيبه من الربح، ويؤخذ نصيب العامل -أيْ المضارب- ويضمُّ لربح المضاربة الأولى، أي أن ربح هذا المضارِب من المال الثاني يضاف لربح المال الأول؛ وذلك لأن منفعة العامل -أي المضارِب- المبذولة في المضاربة الثانية قد استُحقت في المضاربة الأولى.

وقال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “والنظر يقتضي ألا يستحق ربُّ المضاربة الأولى من ربح المضاربة شيئًا، لأنه إنما يُستحق بمالٍ أو عمل ولم يوجد واحد منهما، وتعدي المضارب إنما هو بترك العمل واشتغاله عن المال الأول؛ وذلك لا يوجب عوضًا كما لو اشتغل بالعمل في مال نفسه، أو آجر نفسه، أو ترك التجارة للعبٍ أو غير ذلك”.

وهذا القول الذي رجّحه ابن قدامة هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تعالى على الجميع.

حكم المضارب إذا ادعى الخسارة

ومن أحكام المضاربة: أن المضارِب أمين، والقول قوله فيما يدّعيه من هلاكٍ أو خسران؛ لأنه متصرفٌ في مال غيره بإذنه، فالقول قوله في نفي ما يُدّعى عليه من خيانة أو تفريط، وبناءً على ذلك لو أعطى رجلٌ مالًا لآخر ليضارب له به، ثم إن هذا المضارِب ادّعى الخسارة، ادّعى هذا المضارب أنه تاجر بهذا المال وخسر فيه من غير تعدٍ منه ولا تفريط.

فإن كان لربّ المال بيّنةٌ تُثبت تعدي هذا المضارب أو تفريطه فالقول قوله، وإن لم يكن له عليه بيّنة فالقول قول المضارِب لأنه أمينٌ.

وهكذا لو اتّهم ربُّ المال هذا المضارب بالخيانة، فإنه لا يُقبل قوله إلا ببيّنة تثبت دعواه، وإلا فالقول قول المضارِب؛ لأنه أمين، وهكذا لو اختلف ربُّ المال والمضارب في قدر رأس المال، فإن لم يوجد بيّنةٌ فالقول قول المضارب، وقد حكاه ابن المنذر إجماعًا؛ لأنه يُدّعى عليه قبض شيءٍ وهو ينكره، فكان القول قوله.

نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، ونستكمل الحديث عن بقية أحكام ومسائل الشركات في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

فإلى ذلك الحين أستودعكم الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مواد ذات صلة