الرئيسية/برامج إذاعية/فقه العبادات/(30) أحكام إزالة النجاسة- حكم الدم والقيء
|categories

(30) أحكام إزالة النجاسة- حكم الدم والقيء

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بـهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

لا يزال حديثنا موصولًا عن أحكام إزالة النجاسة؛ ونتحدث معكم في هذه الحلقة عن حكم الدم والقيء والقيح والصديد، من حيث الطهارة والنجاسة.

حكم الدم

ونبدأ بالحديث عن الدم، فنقول:

إن دم الآدمي إذا كان كثيرًا فهو نجسٌ في قول عامة الفقهاء.

قال الإمام أحمد: “الدم لَـم يختلف الناس فيه” أي: في أنه نجس، وقال النووي: “الدلائل على نجاسة الدم متظاهرة، ولا أعلم خلافًا عن أحدٍ من المسلمين، إلا ما حكاه صاحب (الحاوي) عن بعض المتكلمين أنه قال: هو طاهر، ولكن المتكلمين لا يعتد بـهم في الإجماع”.

وقال القرطبي: “اتفق العلماء على أن الدم نجس، قال ابن حجر: الدم نجسٌ اتفاقًا”.

ويدل لنجاسة الدم، قول الله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الأنعام:145].

والرجس: هو النَّجِس، فدلَّت الآية على أن الدم المسفوح نجس.

والدم المسفوح: هو الدم المسال المهراق، وهو الكثير.

قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: “المسفوح وإن كان أصله الجاري في اللغة، فإن المعنى فيه في الشريعة الكثير؛ إذ القليل لا يكون جاريًا مسفوحًا، فإذا سقطت من الدم الجاري نقطةٌ في ثوبٍ أو بدنٍ، لـم يكن حكمها حكم الدم المسفوح الكثير، وكان حكمها حكم القليل، ولـم يُلتَفت إلى أصلها في اللغة”.

حكم يسير الدم إذا أصاب الثوب

والمأثور عن السلف أنه يُعفى عن يسير الدم، والمشهور من المذاهب الأربعة: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، ونسبه الموفق ابن قدامة لأكثر أهل العلم.

ومـما يدل لذلك من السنة: ما جاء في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: “ما كان لإحدانا إلا ثوبٌ واحدٌ تحيض فيه، فإذا أصابه شيءٌ من دمٍ، قالت بريقها، فقصعته بظفرها” [1].

وقولها: “قالت بريقها” أي: بلَّتْه بريقها، “فقصعته بظفرها” أي: حكَّتْه وفركته بظفرها.

ووجه دلالة هذا الحديث عن العفو عن يسير الدم: أن عائشة رضي الله عنها أخبرت أنه إذا أصاب ثوبـها شيءٌ من الدم بلَّتْه بريقها، ثم حكَّتْه بظفرها، وهذا يدل على أنه معفوٌ عنه؛ إذ أن الريق لا يُطهِّر الدم، وهو محمولٌ على الدم اليسير، وأما الدم الكثير، فصحَّ عنها أنـها كنت تغسله.

وقد وردت آثارٌ عن بعض الصحابة تدل على أنَّـهم يرون العفو عن يسير الدم، فقد جاء عن أبي هريرة ، أنه لـم يكن يرى بالقطرتين من الدم في الصلاة بأسًا، وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: “إذا كان الدم فاحشًا فعليه الإعادة، وإذا كان قليلًا فليس عليه إعادة” وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه عصر بثرةً في وجهه، فخرج شيءٌ من دم، فحَكَّه بين أصبعيه، ثم صلى ولـم يتوضأ.

وممن روي عنه العفو عن يسير الدم ابن مسعود، وجابر بن عبدالله، وابن أبي أوفى .

ثم إن يسير الدم يشق التحرُّز والتحفُّظ منه، وتعم به البلوى، وقد قال الله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، فيُعفى عنه كأثر الاستجمار.

وقد استثنى بعض العلماء من ذلك يسير دم الحيض والنفاس، والدم الخارج من السبيلين عمومًا، فقالوا: لا يعفى عنه ولو كان يسيرًا.

ولكن القول الصحيح الذي عليه كثيرٌ من المـحققين من أهل العلم هو العفو عن يسير الدم مطلقًا، سواء كان الدم خارجًا من السبيلين أو من غيرهما؛ لدلالة حديث عائشة رضي الله عنها السابق ذكره: “ما كان لإحدانا إلا ثوبٌ واحدٌ تحيض فيه، فإذا أصابه شيءٌ من دمٍ، قالت بريقها، فقصعته بظفرها” [2]، وهو ظاهر الدلالة في العفو عن يسير دم الحيض.

ولهذا: فقد جزم الموفق ابن قدامة رحمه الله في كتابه “المغني” بالقول بالعفو عن يسير دم الحيض، ولـم يذكر في ذلك خلافًا، قال رحمه الله: “فصلٌ: ويُعفى عن يسير دم الحيض؛ لِمَا ذكرنا من حديث عائشة رضي الله عنها”.

ضابط اليسير من الدم

وضابط اليسير: هو ما لا يفحش عند أوساط الناس، فلا عبرة بالموسوسين، ولا بالمتساهلين.

وألحق بعض الفقهاء القيح والصديد بالدم، فقالوا: هو نجسٌ، إلا أنه يعفى عن يسيره، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “لا يجب غسل الثوب ولا الجسد من القيح والصديد، ولـم يقم دليلٌ على نجاسته”.

 أي: أنه يرى أن القيح والصديد طاهرٌ وليس بنجسٍ، وهو الأقرب، والله تعالى أعلم.

والحاصل: أن الأصل في الدم أنه نجسٌ، ويُعفى عن يسيره.

حكم دم السمك والذباب والبعوض ونحوه

واستثنى الفقهاء أنواعًا من الدم حكموا بطهارتـها، وهي: دم السمك، ودم الذباب، والبعوض، ونحوه، والدم الباقي من الحيوان بعد تذكيته.

أما دم السمك فهو طاهر؛ لحديث: أحلت لكم ميتتان ودمان، فأما الميتتان: فالحوت والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال [3]؛ ولأنه إذا كانت ميتته طاهرة، كان ذلك دليلًا على طهارة دمه، فإن تحريم الميتة من أجل بقاء الدم.

وأما دم الذباب والبعوض ونحوهما من الحشرات فهو طاهر؛ لأن ميتته طاهرة، كما دل لذلك حديث أبي هريرة : أن النبي قال: إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه، ثم لينزعه، فإن في إحدى جناحيه داء، والأخرى شفاء [4]، أخرجه البخاري في صحيحه.

ويلزم من غمسه الموت، خاصةً إذا كان الشراب حارًا، فدل ذلك على أن ميتته ليست بنجسة؛ إذ لو كانت نجسةً؛ لَمَا أمر النبي  بغمسه في الشراب، وإذا كانت ميتته طاهرة، كان ذلك دليلًا على طهارة دمه.

حكم الدم الباقي في الحيوان بعد التذكية

وأما الدم الباقي في الحيوان بعد تذكيته: فهو طاهر؛ وذلك كالدم الذي يكون في العروق والقلب والطحال والكبد، سواءً كان الدم كثيرًا أو قليلًا؛ ولأنه كسائر أجزاء البهيمة، وأجزاؤها حلالٌ طاهرةٌ بالتذكية الشرعية، فكذلك الدم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “لا أعلم خلافًا في العفو عن دم عروق المأكول، وأنه لا يُنجِّس المرَقَ، بل يؤكل معها”.

حكم القيء

وأما القيء: فقد اختلف في طهارته، فمن الفقهاء من قال بطهارته، ومنهم من قال بأنه نجس، والأقرب -والله تعالى أعلم- أنه طاهر؛ إذ أن الأصل هو الطهارة، وليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل على نجاسة القيء، ولو كان القيء نجسًا؛ لبيَّـن ذلك النبي ؛ إذ إن هذا مـمَّا تبتلى به الأمهات، ويكثر من الأطفال، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، والله تعالى أعلم.

هذا ما تيسَّر عرضه في هذه الحلقة، ونلتقي بكم على خيرٍ في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 312.
^2 سبق تخريجه.
^3 رواه ابن ماجه: 3314، وأحمد: 5723.
^4 رواه البخاري: 3320.
مواد ذات صلة