الرئيسية/برامج إذاعية/فقه العبادات/(92) مكروهات الصلاة- الالتفات وأقسامه
|categories

(92) مكروهات الصلاة- الالتفات وأقسامه

مشاهدة من الموقع

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

حديثنا في هذه الحلقة عن مكروهات الصلاة.

المكروه: هو ما يُثَاب تاركه، ولا يعاقب فاعله.

والمصلي حال الصلاة في مقام المناجاة لربه تبارك وتعالى، ويكره له أن يأتي بـما ينافي هذه الهيئة، ومن هذه المكروهات:

1- الالتفات في الصلاة

الالتفات في الصلاة لغير حاجة

فقد جاء في (صحيح البخاري) عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله عن الالتفات في الصلاة، فقال: هو اختلاسٌ يختلسه الشيطان من صلاة العبد [1].

والاختلاس: افتعالٌ من الخِلْسَة.

قال الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله: “المختلس: هو الذي يخطِف من غيره غلبةً ويهرب، ولو مع معاينة المالك له، وأما الناهب: فهو الذي يأخذ بقوةٍ، والسارق: يأخذ في خُفْيَة، فلـمَّا كان الشيطان قد يشغل المصلي عن صلاته بالالتفات إلى شيءٍ ما، أشبه المختَلِس”.

وقال الطيبي: “سُـمِّي اختلاسًا تصويرًا لقُبح تلك الفعلة بالمختلس؛ لأن المصلي يُقبِل عليه الرَّب ، والشيطان مرتصدٌ له ينتظر فوات ذلك عليه، فإذا التفت اغتنم الشيطان الفرصة، فسلبه تلك الحالة”.

والالتفات في الصلاة لغير حاجةٍ حركةٌ لا مبرر لها، والأصل كراهة الحركات في الصلاة، وهذا الالتفات غاية ما يقال فيه: أنه مكروهٌ لا تبطل به الصلاة.

قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “لا تبطل الصلاة بالالتفات إلا أن يستدير عن القبلة بجملتِه أو يستدبرها”.

الالتفات في الصلاة لحاجة

قال ابن عبد البر: “جمهور الفقهاء على أن الالتفات لا يفسد الصلاة إذا كان يسيرًا، وهذا كله إذا كان الالتفات لغير حاجة، أما إذا كان الالتفات لحاجةٍ فلا يُكره.

ويدل لذلك: أن النبي أرسل يوم حنين عينًا تترقَّب العدو، وكان عليه الصلاة والسلام يصلي ويلتفت نحو الشِّعْب الذي يأتي منه هذا العين، ففي (سنن أبي داود) بسندٍ صحيحٍ عن سهل الحنْظَليَّة  قال: “ثُوِّبَ بالصلاة -أي: أقيمت- فجعل رسول الله يصلي وهو يلتفت إلى الشِّعْب” [2].

وفي (صحيح مسلمٍ) عن عثمان بن أبي العاص : أنه أتى النبي فقال: “يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي، يلبسها عليَّ -أي: يَخلِطها ويُشكِّكني فيها- فقال رسول الله : ذاك شيطانٌ يُقال له: خِنْزَبْ، فإذا أحسسته فتعوَّذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثًا قال: ففعلت ذلك، فأذهبه الله عنِّـي” [3].

وهذا الذي قد اشتكى منه عثمان بن أبي العاص ، من تسلُّط الشيطان عليه أثناء الصلاة بالوساوس والتلبيس، يشتكي منه كثيرٌ من الناس، وقد أرشد النبي  إلى العلاج، الذي يحكي عثمان  بأنه قد جرَّبه؛ فزالت عنه تلك الوساوس، وأذهبها الله تعالى عنه، وهذا العلاج هو ما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام: فإذا أحسسته، فتَعوَّذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثًا.

فيقول المصلي الذي أحسَّ بتسلُّط الشيطان عليه بالوساوس: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ويتفل عن يساره ثلاثًا، وهو عندما يتفل عن يساره سوف يلتفت، وهذا الالتفات لا بأس به؛ إذ أنه كما سبق: التفاتٌ لحاجة، سواءٌ كان في القيام، أو في الركوع، أو في الجلوس، أو في أي موضعٍ من مواضع صلاته.

ولكن: إذا كان الإنسان يصلي في جماعة، فربَّـما إذا التفت عن يساره وتفل يُسَاء به الظن، وحينئذٍ قد يُقال: أنه يكتفي بالاستعاذة في هذه الحالة.

ومن الالتفات لحاجة: أن تصلي المرأة وعندها صبيها، وتخشى عليه، فلا بأس أن تلتفت عليه أثناء صلاتـها لملاحظته.

وإذا كان التفات البصر لغير حاجةٍ منهيًا عنه في الصلاة، فإن هناك التفاتٌ من نوعٍ آخر: وهو التفات القلب عن الله .

أقسام الالتفات المنهي عنه في الصلاة

قال ابن القيم رحمه الله: “الالتفات المنهي عنه في الصلاة قسمان:

  • أحدهما: التفات القلب عن الله  إلى غير الله تعالى.
  • الثاني: التفات البصر.

وكلاهما منهيٌ عنه، ولا يزال الله مقبلًا على عبده ما دام العبد مقبلًا على صلاته، فإذا التفت بقلبه أو بصره؛ أعرض الله تعالى عنه، ومثل من يلتفت في صلاته ببصره أو بقلبه، كمثل رجلٍ قد استدعاه السلطان، فأوقفه بين يديه، وأقبل يناديه ويخاطبه، وهو في خلال ذلك يلتفت عن السلطان يـمينًا وشمالًا، وقد انصرف قلبه عن السلطان، فلا يفهم ما يخاطبه به؛ لأن قلبه ليس حاضرًا معه، فما ظنُّ هذا الرجل أن يفعل به السلطان؟! أفليس أقل المراتب في حقه أن ينصرف من بين يديه مـمقوتًا مُبعدًا، قد سقط من عينيه؟!

فهذا المصلي لا يستوي والحاضر القلب، المقبل على الله تعالى في صلاته، الذي قد أشعر قلبه عظمة من هو واقفٌ بين يديه، فامتلأ قلبه من هيبته، وذلَّت عنقُه له، واستحيا من ربِّه أن يقبل على غيره، أو يلتفت عنه.

وبين صلاتيهما -كما قال حسَّان بن عطيَّة-: إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة، وإن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض؛ وذلك أن أحدهما مقبلٌ على الله ، والآخر ساهٍ غافلٍ.

والعبد إذا أقبل على مخلوقٍ مثله، وبينه وبينه حجابٌ، لـم يكن إقبالًا ولا تقريبًا، فما الظن بالخالق ؟! فإذا أقبل على الخالق ، وبينه وبينه حجاب الشهوات والوساوس، والنفس مشغوفةٌ بـها، ملأى منها، فكيف يكون ذلك إقبالًا، وقد ألهته الوساوس والأفكار، وذهبت به كل مذهب؟!”.

قال ابن القيم رحمه الله: “والعبد إذا قام في الصلاة غار الشيطان منه، فإنه قد قام في أعظم مقامٍ، وأقربه، وأغيظه للشيطان، وأشده عليه، فهو يحرص ويجتهد ألا يقيمه فيه، بل لا يزال به يعده ويُـمنِّيه، ويُنَسِّيه، ويجلب عليه بخيله ورجله، حتى يُهوِّن عليه شأن الصلاة، فيتهاون بـها فيتركها.

فإن عجز عن ذلك منه، وعصاه العبد، وقام في ذلك المقام، أقبل عدو الله تعالى حتى يخطر بينه وبين نفسه، ويحول بينه وبين قلبه، فيُذكِّره في الصلاة ما لـم يكن يذكر قبل دخوله فيها، حتى ربَّـما كان نسي الشيء والحاجة، وأيس منها، فيُذكِّره إياها في الصلاة؛ ليشغل قلبه بـها، ويأخذه عن الله ​، فيقوم فيها بلا قلب، فلا ينال من إقبال الله تعالى وكرامته وقربه ما يناله المقبل على ربه ​​​​​​​، الحاضر بقلبه في صلاته، فينصرف من صلاته مثلما دخل فيها، بخطاياه وذنوبه وأثقاله، لـم تخف عنه بالصلاة.

فإن الصلاة إنـما تُكفِّر سيئات من أدى حقها، وأكمل خشوعها، ووقف بين يدي الله تعالى بقلبه، فهذا إذا انصرف منها، وجد خِفَّةً، وأحس بأثقالٍ قد وضعت عنه، فوجد نشاطًا وراحةً وروحًا، فهو يستريح بالصلاة لا منها، كما كان النبي يقول: قم يا بلال، فأرحنا بالصلاة [4]، ولـم يقل: أرحنا منها، وكان يقول: وجُعِلَ قُرَّة عيني في الصلاة [5].

قال ابن القيم رحمه الله: “فعلى العبد أن يُفرِّغ قلبه لله تعالى في الصلاة، وأن يستفرغ جهده في إقباله فيها على الله، وجمع قلبه عليها، وإيقاعها على أحسن الوجوه وأكملها، ظاهرًا وباطنًا، فإن الصلاة لها ظاهرٌ وباطن، فظاهرها الأفعال المشاهدة، والأقوال المسموعة، وباطنها الخشوع والمراقبة، وتفريغ القلب لله، والإقبال على الله تعالى فيها، بحيث لا يلتفت قلبه عنه إلى غيره، فهذا بـمنزلة الروح لها، والأفعال بـمنزلة البدن، فإذا خلت من الروح؛ كانت كبدنٍ لا روح فيه؛ أفلا يستحي العبد أن يواجه سيِّده بـمثل ذلك؟!”

أسأل الله تعالى أن يوفقنا لإقامة الصلاة كما يحب ويرضى، وأن يرزقنا الخشوع فيها، وأن يجعلنا مـمَّن قال فيهم: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ۝الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2].

وإلى الملتقى في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 751.
^2 رواه أبو داود: 916.
^3 رواه مسلم: 2203.
^4 رواه أبو داود: 4986.
^5 رواه النسائي: 3939، وأحمد: 12293.
مواد ذات صلة