الرئيسية/برامج إذاعية/فقه العبادات/(167) أحكام الجنائز- حكم الصلاة على القبر وعلى الغائب
|categories

(167) أحكام الجنائز- حكم الصلاة على القبر وعلى الغائب

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

لا يزال الحديث موصولًا عن أحكامِ الجنائز، وأتحدث معكم في هذه الحلقة عن جملة من المسائل المتعلقة بالصلاة على الميت، فأقول وبالله التوفيق:

حكم صلاة الجنازة على القبر

تُشرع الصلاة على القبر لمن فاتته الصلاة على الجنازة، ويدل لذلك ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة : “أن امرأة سوداء كانت تقمُّ المسجد، ففقدها رسول الله فسأل عنها، فقالوا: ماتت، فقال: أفلا كنتم آذنتموني؟! -أيْ أعلمتموني-، فكأنهم صغّروا أمرها، فقال النبي : دلّوني على قبرها، فدلّوه؛ فصلى عليها ثم قال: إن هذه القبور مملوءةٌ ظلمة، وإن الله ​​​​​​​ ينوّرها لهم بصلاتي عليهم [1].

قال الإمام أحمد: “ومن يشك في الصلاة على القبر، يروى عن النبي من ستة وجوهٍ كلها حِسان”.

وحدّ بعض العلماء الصلاة على القبر بشهرٍ فلا يصلى عليه بعده، وقال بعضهم: يُصلى عليه أبدًا، وقال آخرون: يصلى عليه ما لم يبلى جسده.

قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “قال أحمد: أكثر ما سمعت أَنَّ النبي صلى على أم سعد بن عبادة بعد شهر؛ ولأنها مدةٌ يغلب على الظن بقاء الميّت فيها، وتجويز الصلاة عليه مطلقًا باطلٌ بأن قبر النبي لا يصلى عليه الآن إجماعًا، وكذلك التحديد بِبلى الميت لكونه عليه الصلاة والسلام لا يبلى”.

حكم الصلاة على الغائب

وقد اختلف العلماء في حكم الصلاة على الغائب:

  • فذهب بعض العلماء إلى أنه تُشرع الصلاة على كل غائب، ويصلى عليه كالصلاة على الحاضر، وهذا هو مذهب الشافعية والحنابلة، واستدلوا بما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة : “أنَّ النبي نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، خرج بهم إلى المصلى، فصفّ بهم، وكبّر أربعًا” [2]، ولأن الصلاة على الميت دعاءٌ له فتُشرع على كل غائب.
  • وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا تشرع الصلاة على الغائب مطلقًا، وهذا هو مذهب الحنفية والمالكية، وهو رواية عند الحنابلة، وعلّلوا لذلك بأن من شرط الصلاة على الجنازة حضورها، وهذا غير متحقق في الصلاة على الغائب.
  • وذهب بعض العلماء إلى أنه تُشرع الصلاة على الغائب إذا كان فيه نفْعٌ ظاهرٌ للإسلام والمسلمين، كعالمٍ نفع الناس بعلمه، أو أميرٍ صالحٍ أو غنيٍ نفع الناس بماله ونحو ذلك؛ واستدلوا بصلاة النبي على النجاشي، قالوا: إنما صلى عليه ولم يصلِّ على غيره من الغائبين؛ لأن نفعه للإسلام والمسلمين ظاهر، فقد آوى المهاجرين وأحسن إليهم وأكرمهم، ومنع قريشًا من الوصول إليهم.
  • وذهب بعض العلماء إلى أنه تُشرع الصلاة على الغائب إن مات ببلدٍ لم يصلِّ عليه فيه أحد، وذلك لأن النبي إنما صلى على النجاشي لكونه قد أسلم وأخفى إسلامه، فلما مات لم يصلِّ عليه أحدٌ في بلده التي هي الحبشة، فصلى عليه النبي .

هذه هي أقوال العلماء في حكم الصلاة على الغائب، وأرجحها والله تعالى أعلم هو القول الأخير، وهو أن الصلاة على الغائب إنما تُشرع على من مات في بلدٍ لم يصلِّ عليه فيه أحد؛ وذلك لأن النبي إنما صلى على النجاشي لكونه مات في الحبشة ولم يصلِّ عليه أحد، ولم يصل النبي على غيره من الصحابة الذين ماتوا وهم غُيَّب، وكذا الصحابة لم يفعلوا ذلك، وقد مات الخلفاء الراشدون ولا يخفى عظيم فضلهم وقدرهم ونفعهم للإسلام والمسلمين، ولم يُنقل عن الصحابة المقيمين خارج البلدان التي مات فيها الخلفاء الراشدون لم يُنقل عنهم أنهم صلوا عليهم صلاة الغائب، ولو كان هذا مشروعًا لفعلوه، وقد اختار هذا القول جمعٌ من المحققين من أهل العلم ومن أبرزهم شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى.

قال ابن القيم: “لم يكن من هدي النبي الصلاة على كل ميت غائب، فقد مات خلقٌ كثير من المسلمين وهم غُيّب فلم يصلِّ عليهم”.

ثم نقل عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه قال: “الصواب أن الغائب إن مات ببلد لم يصلِّ عليه فيه أحد صُلِّيَ عليه صلاة الغائب، كما صلى النبي على النجاشي؛ لأنه مات بين الكفار ولم يصلَّ عليه، وإن صُلِّيَ عليه حيث مات لم يصلَّ عليه صلاة الغائب؛ لأن الفرض قد سقط بصلاة المسلمين عليه، والنبي صلى على الغائب وترَكَه، وفعْلُه وترْكُهُ سنة، وهذا له موضع، وهذا له موضع، والله تعالى أعلم”.

حكم صلاة الجنازة في أوقات النهي

ومن أحكام الصلاة على الجنازة: أنه لا تُشرع الصلاة على الجنازة في أوقات النهي الثلاثة: وهي وقت طلوع الشمس، ووقت غروبها، وحين يقوم قائم الظهيرة؛ لما جاء في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر قال: “ثلاث ساعات كان رسول الله ينهانا أن نصلي فيهنَّ أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيّف الشمس للغروب حتى تغرب” [3]، والنهي في هذا الحديث حمله بعض العلماء على الكراهة، وحمله آخرون على التحريم وهذا هو الأقرب؛ لأن الأصل في النهي أنه يقتضي التحريم.

والنهي عن الصلاة على الميت ودفنه إنما ورد في هذه الأوقات الثلاثة، فلا يشمل ذلك ما بعد صلاة الفجر وما بعد صلاة العصر، والله تعالى أعلم.

حكم الصلاة على أهل الكبائر

ومن أحكام الصلاة على الميّت أنه تُشرع الصلاة على كل من كان مسلمًا حتى وإن كان من أهل الكبائر، أو مقتولًا في حدٍّ أو قصاص أو مرجومًا في الزنا، ويدل لذلك ما جاء في صحيح مسلم: “أَنَّ النبي صلى على المرأة التي رُجمت في الزنا، فقال له عمر: ترجمها وتصلي عليها؟ فقال النبي : لقد تابت توبةً لو قُسّمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم [4].

ولأن معتقد أهل السنة والجماعة أن أهل الكبائر أنهم مؤمنون بإيمانهم فاسقون بكبيرتهم، فلا يخرجون من دائرة الإسلام، ولهذا فإنه تُشرع الصلاة عليهم.

ومشروعية الصلاة على أهل الكبائر تدل على عظمة دين الإسلام، وعظيم رعايته لحقوق الإنسان؛ فإن أهل الكبائر ومن قُتِل في حدٍ أو قصاص وإن وقع منهم تقصيرٌ إلا أنهم يبقون مسلمين، ووقوعهم في معصية لا يسلبهم حقوقهم من التغسيل والتكفين والصلاة عليهم ودفنهم في مقابر المسلمين.

ولكن قال كثير من أهل العلم: إنه ينبغي للإمام ألا يصلي على الغالِّ أو قاتل نفسه، ويصلي عليهما سائر الناس. والغالُّ: هو من كتم شيئًا من الغنيمة ليأخذها لنفسه ويختص بها، ويدل لذلك حديث زيد بن خالد قال: “توفي رجلٌ من جهينة يوم خيبر، فذُكِر ذلك لرسول الله ، فقال: صلوا على صاحبكم، فتغيّرت وجوه القوم، فلما رأى ما بهم، قال: إن صاحبكم قد غلّ من الغنيمة أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، واحتج به أحمد.

وكذا قاتل نفسه، وهو ما يسمى بالمنتحر، لا يصلي عليه الإمام، ويصلي عليه سائر الناس، ويدل لذلك ما جاء في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة : “أنَّ النبي أُتي برجلٍ قد قتل نفسه بمشاقص فلم يصلِّ عليه” [5]، وإنما ترك النبي الصلاة على الغال وقاتل نفسه نكالًا لمن يأتي بعدهما، وردعًا للناس عن هذه الأفعال المنكرة، فإن الغلول من كبائر الذنوب، وكذا قاتل النفس، وهو ما يسمى بالانتحار، كبيرة من كبار الذنوب.

وهذا الحكم وهو ترك الصلاة على الغالّ وقاتل نفسه ليس خاصًّا بالإمام، بل يشمل الأمير والقاضي والمفتي وأهل الفضل، فيُشرع لهم ترك الصلاة على الغال وقاتل نفسه، ويصلي عليهما سائر الناس.

أسأل الله تعالى أن يرزقنا العلم النافع والفقه في الدين، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى.

وإلى الملتقى في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 458، ومسلم: 956.
^2 رواه البخاري: 1245، ومسلم: 951.
^3 رواه مسلم: 831.
^4 رواه مسلم: 1696.
^5 رواه مسلم: 978.
مواد ذات صلة