فضيلة الشيخ، نبدأ هذه الحلقة بحديثٍ عن النبي يقول: لا عدوى ولا طِيَرة ولا هامَة ولا صَفَر ولا نَوْء ولا غُول [1].
^1 | رواه البخاري: 5757، ومسلم: 2220. |
---|
مشاهدة من الموقع
السؤال
الجواب
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا الحديث: لا عدوى ولا طِيَرة ولا هامَة ولا صَفَر، أخرجه البخاري في "صحيحه" عن النبي أنه قال: لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، ومعنى قوله : لا عدوى، أي: لا عدوى معدية بنفسها، وإنما بتقدير الله لها، وكانوا في الجاهلية يعتقدون أن العدوى تُعدي بنفسها، فأبطل النبي هذا المعتقد، وإن كان مطلوبًا من الإنسان أن يبذل الأسباب لاتقاء العدوى؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: فِرَّ من المجذوم فرارك من الأسد [1].
ولكن ينبغي أن يعلم أنه حتى وإن فر من المجذوم؛ فإن هذا من باب فعل السبب، وإلا فقد يخالط المجذومَ -يعني الذي به جذامٌ، وهو مرضٌ مُعدٍ- وقد لا يصيبه شيءٌ؛ فالأمور كلها بيد الله ، فهو الذي بحكمته البالغة يقدر انتقال العدوى أو عدم انتقالها، فيكون المعنى: لا عدوى معدية بذاتها، وإنما بتقدير الله لها.
وقوله : ولا طيرة، الطيرة: هي التشاؤم إما بالأزمان، أو بالأماكن، أو بالطيور، أو بالأسماء، أو بالبقاع، أو بالأشخاص، أو بغير ذلك، وقد كان التشاؤم موجودًا وشائعًا عند الجاهلية، فكان العرب في الجاهلية إذا خرج لسفرٍ وقابله رجلٌ أعور؛ ألغى السفرة، وإذا خرج من بيته ورأى طائرًا إن طار جهة اليمين؛ مضى في أمره، وإن طار جهة الشمال؛ تشاءم ورجع، فأبطل الإسلام هذه الاعتقادات وهذه الخرافات، وكان هذا التطير موجودًا وشائعًا لدى الأمم السابقة، فذكر الله عن قوم صالحٍ أنهم تشاءموا منه وقالوا: اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ [النمل:47]، وذكر الله تعالى عن آل فرعون أنهم تشاءموا بموسى ومن معه؛ كما قال الله تعالى عنهم: فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ [الأعراف:131]، وذكر الله في سورة (يس) عن أصحاب القرية أنهم تشاءموا بالمرسلين: قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ [يس:18]، وكفار مكة أيضًا تشاءموا بدعوة النبي ، وكانوا ينسبون إليه ما يصيبهم من الشرور؛ كما قال الله عنهم: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ [النساء:78].
فأبطل الإسلام هذه المعتقدات الجاهلية وهذه الخرافات، وأن هذا التطير لا وجه له، وأن التشاؤم بزمانٍ أو مكانٍ أو صوتٍ أو طيرٍ أو اسمٍ أو شخصٍ أو بقعةٍ، كل هذا لا أصل له، وأن الأمور تجري بقضاء الله تعالى وقدره، ولا علاقة لها بهذه الأمور.
ولكن -مع الأسف!- نجد أن التشاؤم شائعٌ لدى بعض الناس، خاصةً في المجتمعات التي يقل فيها نور الوحي والنبوة، وتجد أن بعض هذه المجتمعات قد بلغت مبلغًا كبيرًا في الحضارة وفي الصناعة وفي التكنولوجيا، ولكن عندهم هذه الاعتقادات شائعةٌ، فيتشاءمون بأزمنةٍ معينةٍ، وبعضهم يتشاءم بيوم الثلاثاء مثلًا، ويتشاءمون بأرقامٍ، حتى إن بعض الطائرات عندما تُرَقِّم الكراسي؛ يتجاوزون الرقم (13)، يضعون رقم (12)، ثم الرقم (14)، بل حتى في المصاعد يجعلون الأرقام متسلسلةً، لكنهم يتجاوزون الرقم (13)؛ تشاءمًا به، ويتشاءمون بأمورٍ كثيرةٍ، وهذا منتشرٌ في تلك المجتمعات، ولكن العجب: أن يحصل هذا من المسلم الذي يعلم موقف الإسلام من التشاؤم ومن التطير! وأن النبي قال: لا طيرة، وأن هذه اعتقاداتٌ وخرافاتٌ لا أصل له، ولا علاقة لها بقضاء الله تعالى وقدره، فالعجب من المسلمين الذين يتبنون هذه الاعتقادات!
وقوله عليه الصلاة والسلام: ولا هامَة، هي البومة، كانوا يتشاءمون بها، وكان بعضهم في الجاهلية إذا رأوا البومة على بيت أحد الناس؛ قالوا: إنها تنعى أحد أهل البيت، وأنه سيموت قريبًا، وهذه خرافةٌ لا أصل لها، لكنه معتقدٌ جاهليٌّ أبطله الإسلام.
وقوله : ولا صَفَر، المقصود به: شهر صفرٍ؛ فقد كان الناس في الجاهلية يتشاءمون بشهر صفرٍ، ولا يعقدون فيه النكاح، ولا يعقدون فيه الصفقات التجارية، وبعضهم لا يسافر فيه، فيتشاءمون به، فأبطل الإسلام هذا المعتقد، فقال عليه الصلاة والسلام: ولا صفر، لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر.
فعلى المسلم أن يبتعد عن هذه المعتقدات وهذه الخرافات، وأن يعلق قلبه بالله سبحانه، وأن يتوكل على الله ، فهو الذي بيده النفع والضر، والله تعالى لمَّا ذكر السحر والسحرة قال: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102]، فهذا التشاؤم الذي يحصل من بعض الناس بأي أمرٍ من الأمور، هذا من خصال الجاهلية، فعلى المسلم أن يبتعد عن هذا التشاؤم، وهذه الاعتقادات والخرافات التي لا أصل لها، ولا علاقة لها بقضاء الله تعالى وقدره.
^1 | رواه البخاري: 5707. |
---|