الرئيسية/فتاوى/مدة الإقامة التي يترخص فيها المسافر برخص السفر
|categories

مدة الإقامة التي يترخص فيها المسافر برخص السفر

مشاهدة من الموقع

السؤال

المسافر إذا أقام كم مدة الإقامة التي يترخَّص فيها برخص السفر؟

الجواب

هذه المسألة من أشكل مسائل الفقه؛ لأن الأدلة فيها غير واضحة، ولا يـمكن ربطها بالعرف؛ لأن العرف فيها مضطرب وغير منضبط، وأيضًا الآثار المروية فيها مختلفة، فهي من المسائل الشائكة؛ ولذلك إذا قرأت فيها في كتب الفقه، تجد أن الكلام فيها متشعِّب، وأن الأقوال فيها كثيرة جدًّا.

لكن نلخِّص الكلام فيها، ونحرص على ضبط هذه المسألة المهمة التي يكثر السؤال عنها، فنقول: المسافر إذا أقام ببلدٍ فلا يَـخلو من حالين: 

  • الحالة الأولى: أن يكون له حاجة لا يدري متى تنقضي، بل يقول: اليوم أرجع، غدًا أرجع، ففي هذه الحال يقصر ولو طالت المدة، يقصر ويترخص برخص السفر ولو أقام سنين، وقد نقل الترمذي الإجماع على ذلك، قال: “أجمع أهل العلم على أن للمسافر أن يقصر ما لـم يُـجمِع إقامةً، وإن أتى عليه سُنون” [1].
    وهذا هو الذي أشار إليه المؤلف بقوله: [ويقصر إن أقام لحاجةٍ بلا نية الإقامة فوق أربعةٍ، ولا يدري متى تنقضي].
    والنبي لـمَّا أقام بتبوك تسعة عشر يومًا قصر الصلاة؛ لأنه كان في تبوك في حال حرب، ولا يدري متى يرجع؛ ولذلك كان يقصر الصلاة، ووردت أيضًا آثارٌ عن بعض الصحابة، كابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة، حبسه الثلج ولـم يدر متى يزول، وأنس قال: “إن أصحاب النبي أقاموا بـ (رامهرمز) تسعة أشهر يقصرون الصلاة”.
    فإذًا: إذا كان للإنسان حاجةٌ لا يدري متى تنقضي، فإنه يترخَّص برخص السفر وإن طالت المدة.
  • الحال الثانية: أن ينوي إقامةً معينة، وهذا هو ما أشار إليه المؤلف بقوله: [وأقام لحاجةٍ، وظنَّ ألا تنقضي إلا بعد الأربع، كأن ينوي الإقامة في بلدٍ عشرة أيامٍ أو شهرًا أو شهرين، أو نحو ذلك] هل له الترخص برخص السفر أم لا؟ إنسان ذهب مثلًا مقيم في الرياض وذهب إلى مكة يريد أن يقيم في مكة أسبوعين، هل له الترخُّص برخص السفر؟ 

اختلف العلماء في هذه المسألة اختلافًا كثيرًا على أكثر من عشرين قولًا:

  • فمن أهل العلم من ذهب لعدم التحديد، وأن الإنسان إذا سافر مسافة سفرٍ، ثم أقام إقامةً مؤقَّتةً ولـم يُـجمِع الإقامة الدائمة؛ فله الترخُّص برخص السفر، وإن طالت المدة، وعلى هذا القول: يجوز القصر للمبتعثين، وكذلك العمال، ونحوهم، وممن قال بـهذا القول الشيخ محمد بن عثيمين رحمه اللّـه، هو أبرز من قال بـهذا القول، لكن يشكل على هذا القول ما ذكر من الإجماع على تحديد المدة التي يقصر فيها المسافر، كما حكى ذلك ابن المنذر، ثم إن هذا القول يترتَّب عليه لوازم خطيرة، يعني: القول بأن المسافر إذا لـم يُـجمِع الإقامة فله الترخُّص، يترتب عليه أمور كبيرة وخطيرة، منها مثلًا: أن جميع المبتعثين يقصرون ويجمعون، ويفطرون في نـهار رمضان، ومنها أيضًا العمال كلهم، كل المقيمين جميع المقيمين يترخَّصون برخص السفر من القصر والجمع، والفطر في نـهار رمضان.
    يعني: عندنا مثلًا في المملكة أثناء تأليف الكتاب ذُكِر ما يقارب عشرة ملايين، والآن اثنا عشر مليونًا، اثنا عشر مليون الآن هل يقال: إن هؤلاء يفطرون في نـهار رمضان بحجة أنَّـهم مسافرون؟! هذا بعيد، يفطرون في نهار رمضان ويقصرون ويجمعون اثنا عشر مليونًا، بل في بعض الدول تصل نسبة المقيمين غير المواطنين تصل 80% أو أكثر، فهل يقصرون ويفطرون في نهار رمضان ويجمعون يعني: مثل هذا لا ترد به الشريعة، ولا يتفق مع الأصول والقواعد الشرعية.
  • بعض العلماء قال: المرجع في ذلك للعرف: إذا أقام المسافر إقامةً يدل العرف على أنه مسافر، فيترخَّص برخص السفر وإلا فلا، لكن العرف في هذه المسائل غير منضبط.
  • وذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى التحديد بأربعة أيام، قالوا: فمن عزم على الإقامة أكثر من أربعة أيام لـم يترخَّص، وإن عزم الإقامة أربعة أيامٍ فأقل فيترخَّص، واستدلوا بفعل النبي في حجَّة الوداع، فإنه أقام بـمكة أربعة أيام يقصر الصلاة، ولكن يرد على هذا الاستدلال إشكالات:
    • الإشكال الأول: هل إقامة النبي عليه الصلاة والسلام بـمكة يقصر الصلاة في حجة الوداع أربعة أيام، أم عشرة أيام؟ الواقع أنـها عشرة أيام وليست أربعة؛ ولهذا قال أنس : “أقام النبي بـمكة عشرة أيامٍ يقصر الصلاة” ولـمَّا سُئل: كم أقمتم بـمكة؟ قال: “أقمنا عشرًا” [2]؛ لأنه وصل مكة في الرابع من ذي الحجة، ورجع من مكة إلى المدينة في الرابع عشر من ذي الحجة.
      لكن مراد الجمهور أنه أقام أربعة أيام بالأبطح يقصر الصلاة، ثم خرج بعد ذلك إلى مِنَـى في الثامن من ذي الحجة، فلم يعتبر خروجه إلى مِنَـى أنه خارج هذه المدة، ولكن هذا محل نظر، لا فرق، النبي عليه الصلاة والسلام في الأبطح وفي مِنَـى وفي عرفات وفي مزدلفة كان يقصر الصلاة، فلا وجه للتفريق بينها.
      فإقامة النبي عليه الصلاة والسلام في مكة ليست أربعة أيام، وإنـما هي عشرة أيام، كما قال أنس، بدليل أنه عليه الصلاة والسلام في الأبطح كان يقصر، وفي مِنَـى كان يقصر.
    • أيضًا: هذا حصل اتفاقًا، لو أن النبي عليه الصلاة والسلام قدم لمكة في الثالث من ذي الحجة، فسيقصر الصلاة، لو قدم في الخامس من ذي الحجة فسيقصر الصلاة، فهذا حصل اتفاقًا، ولـم يرد ما يدل على هذا التحديد، وما يحصل اتفاقًا لا يستدل به على التحديد.
    • ثم أيضًا التحديد بأربعة أيام لـم ينقل عن أحدٍ من الصحابة لا بسندٍ صحيح، ولا ضعيف، فالظاهر أنه قولٌ حدث بعد الصحابة.

هذه المسألة أنا ذكرت في (السلسبيل) أنـها أشكلت عليَّ كثيرًا، حقيقةً هي من أشكل المسائل التي مرت عليَّ، وراجعتها مدةً طويلةً، وتباحثت فيها مع بعض طلبة العلم، ومن أبرز من تباحثت معهم هذه المسألة صديقنا الشيخ الأستاذ الدكتور عبداللّـه بن عبدالعزيز الجبرين رحمه اللّـه تعالى، المتوفى سنة 1439 للهجرة، والذي عكف على بحث هذه المسألة ما يقارب ستة أشهر، جمعًا للنصوص والآثار الواردة فيها.

ثم بعد مباحثة ومناقشةٍ مستفيضة خلصنا إلى ترجيح القول بتحديد المدة بتسعة عشر يومًا، وأنه أقرب الآراء في المسألة؛ وذلك لقول ابن عباس رضي اللّـه عنهما: “أقام النبي تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر يومًا قصرنا، وإن زدنا أتـممنا” [3]

هذا الأثر أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن عباس، وأيضًا هو اختيار البخاري، بتحديد المدة تسعة عشر يومًا، ورجحه إسحاق بن راهويه، ورجحه أيضًا الشوكاني، ثم أيضًا تسعة عشر يومًا مقاربة للعرف تقريبًا، هي المدة المقاربة للعرف إذا أقام مثلًا شهرًا أو شهرين تعتبر مدة طويلة، إذا أقام عشرة أيام أو أسبوعين قصيرة، فهي مقاربة للعرف.

فالأقرب -واللّـه أعلم- هو التحديد: بتسعة عشر يومًا؛ لقول ابن عباس: “فنحن -يقصد نفسه ومن معه من الصحابة- إذا سافرنا تسعة عشر يومًا قصرنا، وإن زدنا أتـممنا” ولذلك قال الشوكاني معلِّقًا على حديث ابن عباس هذا: “للّـه در ابن عباس! ما أفقهه وأفهمه للمقاصد الشرعية، فإنه قال فيما رواه البخاري وغيره لـمَّا فتح النبي مكة أقام فيها تسع عشرة ليلةً يصلي ركعتين، قال: فنحن إذا سافرنا فأقمنا تسع عشرة قصرنا، وإن زدنا أتـممنا” وأقول -والقائل هو الشوكاني-: “هذا هو الفقه الدقيق، والنظر المبني على أبلغ تحقيق، وفي المسألة مذاهب هذا أرجحها لديَّ” [4].

وابن المنذر رحمه اللّـه ذكر بأن علماء الأمصار أجمعوا على توقيتٍ وقَّتوه فيما بينهم، فكان مـمَّا أجمعوا على توقيته أقل من عشرين ليلة [5]، فتكون أيضًا هذه المدة مُـجمع عليها، فمراد ابن المنذر الرد على من أطلق المدة بأن هذا الإطلاق مخالفٌ للإجماع على التوقيت، وإن اختلفوا في تقديرها، لكنهم متفقون ومُـجمعون على أنـها أقل من عشرين ليلة، هذا مراد ابن المنذر بـهذا الإجماع.

فإذًا نقول: الأقرب -واللّـه أعلم- في هذه المسألة: 

  • إن من سافر وأقام، إن كان لـم يحدد زمن إقامته، له حاجةٌ لا يدري متى تنقضي، بل يقول: اليوم أرجع، غدًا أرجع، فله الترخُّص برخص السفر، وإن طالت المدة، وإن بقي شهورًا أو حتى سنين، وقد حكي الإجماع على ذلك، حكاه الترمذي [6]، وغيره [7].
  • الحالة الثانية: إذا أقام المسافر إقامةً حدد معها المدة، فإن كانت إقامته تسعة عشر يومًا فأقل، فله الترخص برخص السفر، أما إذا كانت إقامته أكثر من تسعة عشر يومًا، فليس له الترخُّص برخص السفر.

هذا هو القول الراجح، وهو قول ابن إسحاق والبخاري، وأيضًا رجحه الشوكاني، وهو الأقرب في هذه المسألة واللّـه تعالى أعلم.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1, ^6 سنن الترمذي: 2/ 431، ح 548.
^2 رواه أحمد: 14001.
^3 رواه البخاري: 1080.
^4 الدراري المضية شرح الدرر البهية للشوكاني: 1/ 124.
^5 الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف لابن المنذر: 4/ 361.
^7 قال ابن عبدالبر: “لا أعلم خلافًا فيمَن سافر سفرًا يقصر فيه الصلاة، لا يلزمه أن يُتمَّ في سفره إلَّا أن ينويَ الإقامةَ في مكان من سفره ويَجمَع نيَّتَه على ذلك”. الاستذكار: 2/ 242.
مواد ذات صلة