الرئيسية/دروس علمية/شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري/(1) كتاب التوحيد- من حديث “إنك تقدم على قومٍ من أهل الكتاب”
|

(1) كتاب التوحيد- من حديث “إنك تقدم على قومٍ من أهل الكتاب”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهديه، واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فضل مجالس العلم

أحمد الله وأشكره على أن يسَّر إقامة هذه الدورة وهذه المجالس -مجالس العلم ومجالس الذكر-، والتي قد أخبر النبي بأن مجالس الذكر تَحُفُّها الملائكة، وأن لله تعالى ملائكةً سيَّارةً تلتمس مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلس ذكرٍ قالوا: هَلُمُّوا إلى حاجتكم.

ثم إن الله تعالى يسألهم -وهو أعلم بهم-: ما يقول عبادي؟ … فيقولون: يسألونك الجنة، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا …، يقول: فكيف لو أنهم رأوها؟ فيقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشدَّ عليها حرصًا، وأشدَّ لها طلبًا.

وفي آخر الحديث يقول الله تعالى: أُشهدكم أني قد غفرتُ لهم، فيقول ملكٌ من الملائكة: فيهم فلانٌ ليس منهم، إنما جاء لحاجةٍ، فيقول: هم القوم لا يَشْقَى بهم جليسهم [1]، هذا الحديث في الصحيحين، وهو يدل على فضل حضور مجالس الذكر لو لم يكن منها إلا هذا الأجر وهذا الفضل وهذه المغفرة.

ثم إن الإنسان إذا وجد من نفسه حرصًا وإقبالًا على مجالس العلم، فهذه علامةٌ وأمارةٌ على أنه أُريد به الخير -إن شاء الله-؛ والدليل لهذا قول النبي : مَن يُرد اللهُ به خيرًا يُفقهه في الدين [2] متفقٌ عليه.

تأملوا -يا إخواني- هذا الحديث العظيم: مَن يُرد اللهُ به خيرًا يُفقهه في الدين، ومفهومه: أن مَن لم يُرد به الخير لا يُوفق للفقه في الدين.

الإنسان -يا إخوان- مهما كان على جانبٍ من القوة في العبادة -مهما كان قويًّا في العبادة- لا يمكن أن يعبد الله كما يُحب الله إلا عن طريق العلم؛ ولذلك ففرقٌ بين العالِم والعابد، ودرجاتٌ كبيرةٌ بينهما.

فاحرص -يا أخي- على حضور مجالس العلم، وحِلَق العلم، ودروس العلم.

حرص السلف على العلم

كان سلفنا الصالح -رحمهم الله- يرتحلون في سبيل طلب العلم، وعندما نقرأ السير والتراجم لعلمائنا وأسلافنا نجد أن معظم هؤلاء العلماء ارتحلوا إلى بلاد كذا، وإلى بلاد كذا، وإلى بلاد كذا.

ولم تكن الرحلة آنذاك مثل الرحلة في وقتنا الحاضر، فكان الإنسان إذا ارتحل انقطع عن أهله تمامًا، فلا يدري عنهم، وكانوا يرتحلون على الإبل، وأحيانًا مُشاةً على أرجلهم، ويبقى الواحد منهم في بلد الغُربة سنين طويلةً؛ فينقطع عن أهله، وعن أطفاله، وعن زوجته، وعن كل ذلك في سبيل طلب العلم.

جابر بن عبدالله الأنصاري -صحابيٌّ جليلٌ- بلغه أن عند عبدالله بن أُنيس حديثًا سمعه من النبي ؛ فارتحل إليه، وكان جابرٌ في المدينة، وعبدالله بن أُنيس في الشام، وركب جابرٌ بعيره، وقطع الهضاب والوِهاد والصحاري وحده على بعيره، ومكث في هذه الرحلة شهرًا كاملًا حتى وصل إلى عبدالله بن أُنيس، فاعتنقه، وقال: “يا ابن عبدالله، ما الذي جاء بك؟ قال: بلغني أنك سمعتَ من النبي حديثًا، فخشيتُ أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه” [3]، فذكر له عبدالله بن أُنيس الحديث، ثم رجع مرةً أخرى، ومكث في العودة شهرًا كاملًا، يعني: شهرين كاملين من أجل سماع حديثٍ واحدٍ فقط.

أبو أيوب الأنصاري  ارتحل من المدينة إلى مصر من أجل سماع حديثٍ واحدٍ فقط.

وقد صنَّف العلماء في الرحلة في طلب العلم مُصنفاتٍ، فإذا كان العلماء السابقون يرتحلون في سبيل طلب العلم، مع ما يكتنف رحلاتهم من صعوباتٍ ومشقاتٍ وغُربةٍ، فكيف بوقتنا الحاضر الذي تيسر فيه سبيل طلب العلم، وأصبح العلم مُتيسرًا ومُهيأً ومبذولًا؟ ما على الإنسان إلا أن يرفع مستوى الهمة والإرادة والصبر فقط.

والعلم -أيها الإخوة- لا يحصل للإنسان دفعةً واحدةً، وإنما يأتي شيئًا فشيئًا؛ ولذلك لا بد من الصبر، ولا بد من التحمل، كما قال يحيى بن أبي كثيرٍ: “لا يُستطاع العلم براحة الجسد”.

فينبغي لك أخي المسلم أن تحرص على حضور حِلَق العلم، وأن تحرص على أن تستفيد منها، وأن تتبصَّر في أمور دينك.

أهمية العناية بالتوحيد

أشرف العلوم ما كان مُتعلقًا بالله وبأسمائه وصفاته وتوحيده، ثم ما كان مُتعلقًا بما يهمّ المسلم: بأحكام الحلال والحرام، وأمور عباداته وتعاملاته، وعلى هذا فعلم العقيدة والتوحيد هو أهم العلوم، فينبغي الحرص عليه، والعناية به.

وعندما نتأمل في أحوال الأمم السابقة نجد أن أكثر الأمم السابقة قد حصل منها ما حصل من التكذيب بالأنبياء والرسل، وقد ذكر الله تعالى لنا شيئًا من قصصهم في القرآن، لكن هل كانت هذه الأمم السابقة من قوم نوح وعاد وثمود، وبقية الأمم، هل كانت هذه الأمم لا تعرف الله؟ هل كانوا يُنكرون وجود الله؟

الجواب: لا، ما كانوا يُنكرون وجود الله، فكل الأمم تعرف الله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25].

قوم نوحٍ يعرفون الله، وقوم هود، وقوم صالح، وقريش الذين كذَّبوا نبينا محمدًا يعرفون الله .

إذن ما المشكلة عندهم؟

المشكلة أن عندهم انحرافًا في العقيدة، هذه مشكلتهم؛ عندهم خللٌ في التوحيد، فأرسل الله الرسل، وأنزل الكتب لدعوة الناس إلى تحقيق التوحيد وإخلاص الدين لله ، كما قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].

فهذه الأمم جعلتْ بينها وبين الله وسائط، وقالوا: هذه الوسائط إما أنها أصنامٌ لأناسٍ صالحين -تماثيل لأناسٍ صالحين- ونريد من هذه التماثيل وهذه الأصنام أن تشفع لنا عند الله، وتكون واسطةً عند الله ، كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].

فأرسل الله الرسل، وبيَّنوا لهؤلاء أنه لا يجوز اتخاذ هؤلاء الوسائط، وطلبوا منهم أن يعبدوا الله مباشرةً، فالله ليس بينه وبين عباده وسائط، فلماذا تعبدون هذه الأصنام حتى تُوصلكم إلى الله؟! اعبدوا الله مباشرةً.

فأنكر عليهم الأنبياء والرسل اتخاذ هذه الوسائط، وهذه التوسلات، وأمروهم بإخلاص الدين لله وحده.

وبهذا نعرف أهمية العناية بالتوحيد، وأن الله أرسل الرسل لأجل دعوة الناس إلى تحقيق التوحيد وإخلاص الدين لله ، وأن الله لم يُرسل الرسل لتعريف الناس بوجود الله، فالناس تعرف أن الله موجودٌ، لكن كان عندهم انحرافٌ في العبادة، وفي تحقيق التوحيد، وفي إخلاص الدين لله .

الأمم السابقة كلها تُقِرُّ بوجود الخالق، الرازق، المُدبر للكون جلَّ وعلا؛ لأن قضية الخلق قضيةٌ ظاهرةٌ ومُشتهرةٌ وواضحةٌ، فهذا الكون الذي نعيش فيه أولًا: ابدأ بنفسك، هل أنت خلقتَ نفسك؟ لا، لو خلقتَ نفسك لاخترتَ لك وجهًا غير هذا الوجه، واخترتَ لك عينين غير هاتين العينين، واخترتَ لك أنفًا غير هذا الأنف.

إذن أنت لم تخلق نفسك.

طيب، مَن الذي خلقك؟

تلتفت يمينًا ويسارًا فتجد أناسًا مثلك ما خلقوا أنفسهم، فكيف يخلقون غيرهم؟!

تلتفت فتجد جبالًا، وأشجارًا، وجماداتٍ لا عقل لها، فكيف يمنح العقلَ ما لا عقل له؟!

إذن لا بد أن يكون هناك خالقٌ، وهذا الخالق لا بد أن يُخبر عن نفسه.

الآن على مستوى البشر -مثلًا- مُخترعٌ، مَن اخترع شيئًا تجد أنه يُعلن عن نفسه: أنا اخترعتُ كذا. ويُسوِّق لنفسه، ويُظهر نفسه: اخترعتُ كذا. مع أنه -في الحقيقة- اكتشف سُنة الله ​​​​​​​ في هذا الشيء، ولم يُوجده من عدمٍ.

خالق هذا الكون بأرضه، وشمسه، ونجومه، وكواكبه، وسمائه، وما فيه من دوابٍّ؛ لا بد أن يُخبر خلقه بأنه هو الخالق.

هل هناك أحدٌ غير الله قال: أنا الخالق؟

لا يوجد.

لو ادَّعى أحدٌ أنه الخالق لهذا الكون فإننا نقول له: اخلق لنا الآن.

لا يوجد أحدٌ ادَّعى الخلقَ غير الله ، فالله هو الذي أخبرنا بأنه الخالق، ولم يدَّعِ أحدٌ غيره أنه الخالق، فتعين إذن أن لا إله إلا الله، وهذا يعني أن معرفة الله مركوزةٌ في الفِطَر، فإن الله تعالى أخبرنا بأنه أخذ بني آدم من ظهورهم وأشهدهم على أنفسهم: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172]، نحن جميعًا شهدنا هذا الإشهاد.

فإن قال قائلٌ: أنا لا أتذكر هذا.

فالجواب: هل تذكر وقت ولادتك؟

إذا كنت لا تذكر وقت ولادتك، فكيف تريد أن تتذكر هذا الإشهاد؟!

هذا الإشهاد يظهر في الفطرة، خاصةً عند الشدائد، فعند الشدائد تظهر حاجة الإنسان إلى الخالق؛ إلى ربه .

فنحن جميعًا لما كنا في الذَّرِّ أشهدنا الله تعالى وقال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ، فنحن جميعًا شهدنا هذا الإشهاد من الرب .

إذن -أيها الإخوة- التوحيد أهم المهمات، فتنبغي العناية به، وينبغي الحرص على تحقيقه.

ونحن نرى الآن الشرك يضرب أطناب بعض بلدان العالم الإسلامي؛ فنجد هناك مَن يطوف بالقبور، ويسأل أصحابها المَدَدَ، وقضاء الحاجات، وتفريج الكُربات! فيأتون ويطوفون بالقبر ويقولون: هذا قبر إنسانٍ صالحٍ، ونريد أن يكون واسطةً بيننا وبين الله!

ما الفرق بينه وبين مَن يأتي لصنمٍ ويقول: هذا صنم إنسانٍ صالحٍ، وأريد أن يكون واسطةً بيني وبين الله؟ هل هناك فرقٌ؟

لا فرق، فهذا هو الشرك الأكبر، والشرك الأكبر هو أعظم ذنبٍ عُصِيَ الله به: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [المائدة:72]، إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48].

ومَن مات على التوحيد فهو على خيرٍ، حتى وإن كانت عنده معاصٍ، بل حتى وإن كانت عنده كبائر، مآله للجنة؛ لأنه حتى وإن دخل النار، فإن عقيدة أهل السنة والجماعة: أن مَن مات على التوحيد لا يخلد في النار؛ ولذلك نقول: عقيدة أهل السنة والجماعة في مُرتكب الكبيرة أنه في الدنيا مؤمنٌ بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته، وفي الآخرة تحت مشيئة الله: إن شاء عذَّبه، وإن شاء عفا عنه، لكنه لا يخلد في النار.

وهذا يدل على فضل التوحيد: مَن مات على التوحيد فمآله للجنة، حتى وإن دخل النار، وعُذِّب في النار، لكن مآله في الأخير للجنة، لكن المُصيبة فيمَن مات على الشرك، فهذا هو الذي حرَّم الله عليه الجنة.

كتاب التوحيد

أيها الإخوة، في هذه الدورة سنقف مع كتاب “التوحيد” من “صحيح البخاري”.

و”صحيح البخاري” كتابٌ مُباركٌ وعظيمٌ، وهو أصحُّ كتابٍ بعد كتاب الله تعالى.

وكان الإمام البخاري مُحَدِّثًا، وكان في حلقة شيخه إسحاق بن راهُويَه، فقال إسحاق: “لو أن أحدًا منكم جمع الصحيح من أحاديث النبي “، فهي كلمةٌ من شيخٍ لطلابه، فقال البخاري: “فوقعتْ هذه الكلمة في نفسي”.

سبحان الله! كلمةٌ من هذا العالِم تسبَّبتْ في أن يُؤلف البخاري هذا “الصحيح”، قال: “فوقعتْ هذه الكلمة في نفسي”، فبدأ يجمع كتاب “الصحيح”.

ولم يكن أبو عبدالله البخاري عربيًّا، فهو من بلاد بُخارى -سبحان الله!- واسمه: محمد بن إسماعيل، وكان رجلًا مُحدِّثًا، وعقيدته عقيدة أهل السنة والجماعة، فهو من كبار علماء السنة الذين ردُّوا على أهل البدع، وله كتابٌ اسمه: “خلق أفعال العباد”، فيه ردٌّ على الجهمية والقدرية، وكان عالِمًا، مُحدِّثًا، عابدًا، ورعًا.

كان يقول: “أرجو أن ألقى الله ولا يُحاسبني أني اغتبتُ أحدًا أبدًا”.

سبحان الله!

تأملوا هذه الكلمة: “أرجو أن ألقى الله ولا يُحاسبني أني اغتبتُ أحدًا أبدًا”.

يُعلق الذهبي على هذه الكلمة فيقول: “صدق رحمه الله، ومَن نظر في كلامه في الجرح والتعديل علم ورعه في الكلام في الناس، وإنصافه فيمَن يُضعفه، فإنه أكثر ما يقول: مُنكر الحديث، سكتوا عنه، فيه نظرٌ، ونحو هذا”.

وكان إذا أراد أن يكتب حديثًا في كتابه “الصحيح” صلى ركعتين واستخار الله: هل يكتب أو لا يكتب؟

وتوفي سنة مئتين وستٍّ وخمسين للهجرة.

سنقف مع كتاب “التوحيد” من “صحيح البخاري”، وهو الكتاب الذي ختم به البخاري “صحيحه”، وقد ردَّ فيه البخاري على الجهمية والمعتزلة ومَن سلك طريقهم.

ومنهجه فيه: أنه يسوق النصوص من الكتاب والسنة، فكأنه يقول: هذا كتاب ربنا، وهذه سُنة نبينا في بيان الحق.

وقد ذكر عدة أحاديث، يعني: هذه الأحاديث أحاديث كثيرةٌ، وسنحرص -إن شاء الله تعالى- على التعليق عليها، وربما يحتاج شرحها شرحًا واسعًا -يعني: شرح كل كلمةٍ فيها- إلى وقتٍ طويلٍ، لكن منهجنا في هذه الدورة هو التعليق على هذه الأحاديث، وبيان أبرز ما فيها من المسائل والأحكام، وبخاصةٍ ما يتعلق بالتبويب الذي بوَّبه الإمام البخاري رحمه الله تعالى.

وبما أن الإخوة المُنظمين للدورة قد وزَّعوا هذا الكتاب على الجميع، فلا حاجة لأن يُقرأ؛ لأن الكتاب موجودٌ بين أيديكم جميعًا، وسنبدأ مباشرةً؛ لكسب الوقت.

ابتدأ البخاري كتاب “التوحيد” بقوله:

باب ما جاء في دعاء النبي أُمَّته إلى توحيد الله تبارك وتعالى.

“باب ما جاء في دعاء” يعني: في دعوة، دعاء بمعنى: دعوة.

“دعاء النبي أُمَّته” والمراد بالأمة أي: أمة الدعوة، وهي الأُمة المُطلقة؛ لأن الأُمة تنقسم إلى قسمين: أمة دعوةٍ، وأمة إجابةٍ.

أمة الدعوة تشمل البشر جميعًا: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158].

وأما أُمة الإجابة فهم مَن استجاب لدعوة النبي .

بعث معاذٍ إلى اليمن

قال المؤلف:

حدثنا أبو عاصم: حدثنا زكريا بن إسحاق، عن يحيى بن محمد بن عبدالله بن صيفي، عن أبي معبدٍ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أن النبي بعث معاذًا إلى اليمن [4].

وكان بعث معاذٍ إلى اليمن في السنة العاشرة من الهجرة قبل حجة الوداع، قاله الحافظ ابن حجر.

وقيل: إن بعث معاذٍ إلى اليمن سنة تسعٍ.

والصواب: أنه سنة عشرٍ -كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى-، وذلك أنه بعد فتح مكة دانت العربُ للنبي ، وأقبلتْ وفود العرب إلى المدينة تُعلن إسلامها، ومن هذه الوفود ما أتى من أهل اليمن، فكانوا بحاجةٍ لدعاةٍ يُعلمونهم الإسلام، ويُفقهونهم، ويقضون بينهم، فكان ممن بعثهم النبي دُعاةً إلى اليمن: معاذ بن جبل .

وأخذ العلماء من هذا فائدةً هي: أن من مسؤولية ولي الأمر بعث الدُّعاة إلى الله ​​​​​​​ إلى الأقطار والأمصار، وقد كان عليه الصلاة والسلام يبعث الدُّعاة إلى الله تعالى إلى الأمصار، ومن بعده خلفاؤه الراشدون.

ثم ساق المؤلف هذا الحديث بلفظٍ أوسع فقال:

وحدثني عبدالله بن أبي الأسود: حدثنا الفضل بن العلاء: حدثنا إسماعيل بن أُمية، عن يحيى بن محمد بن عبدالله بن صيفي: أنه سمع أبا معبدٍ -مولى ابن عباسٍ- يقول: سمعتُ ابن عباسٍ يقول: لما بعث النبي معاذًا إلى نحو أهل اليمن قال له: إنك تقدم على قومٍ من أهل الكتاب.

قوله: إنك تقدم على قومٍ من أهل الكتاب المراد بهم اليهود، وقد كان اليهود في اليمن، والنبي -عليه الصلاة والسلام- بعث معاذًا إلى أهل اليمن، وكان فيهم اليهود، وقال هذا لمعاذٍ كالتوطئة والوصية له؛ ليستجمع همَّته؛ لأن أهل الكتاب أهل علمٍ في الجملة، فلا تكون مُخاطبتهم كمُخاطبة أهل الجهل وعبدة الأوثان، فكأنه يقول: استعد يا معاذ، ستأتي أناسًا عندهم علمٌ، ومَن يدعو أناسًا عندهم علمٌ ليس كمَن يدعو أناسًا جهالًا، فهناك فرقٌ بين دعوة هؤلاء ودعوة هؤلاء.

وهذا يدل على أن الداعية ينبغي أن يكون على معرفةٍ بحال المدعو، وهذا من الأمور المهمة جدًّا في الدعوة: أن يعرف مستوى المدعو؛ مستواه العلمي، ومستوى فهمه، فمثلًا: مَن يأتي أناسًا أُميين ليس كمَن يأتي أناسًا مُتعلمين، أو ثقافتهم عالية، فدعوة هؤلاء غير دعوة هؤلاء.

قال:

فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يُوحدوا الله تعالى.

هنا ابتدأ بالتوحيد، وهذا موضع الشاهد، وهو الذي لأجله ساق البخاري هذا الحديث لهذا الباب، فأمره -عليه الصلاة والسلام- بأن يبدأ بدعوة الناس إلى التوحيد؛ لأنهم إذا لم يُحققوا التوحيد لا تنفعهم صلاتهم، ولا صيامهم، ولا زكاتهم، ولا سائر أعمالهم، مَن وقع في الشرك فكما قال الله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23].

إذن أولًا: يُدْعَى هؤلاء إلى التوحيد، فلو أن داعيةً ذهب إلى أناسٍ عندهم الشرك، وعندهم مُنكراتٌ أخرى، فهنا يبدأ بدعوتهم إلى ترك الشرك وتحقيق التوحيد، ولا يُنكر عليهم المُنكرات الأخرى ويترك إنكار الشرك والبدع.

قال:

فإذا عرفوا ذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلواتٍ في يومهم وليلتهم.

هذه الصلوات الخمس هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي أحبُّ عبادةٍ إلى الله.

جاء في الصحيحين عن ابن مسعودٍ قال: سألتُ النبي : أي العمل أحبُّ إلى الله؟ -هذا سؤالٌ عظيمٌ من هذا الصحابي الجليل- فقال له النبي : الصلاة على وقتها [5].

مكانة الصلاة وأهميتها

مما يدل على أن الله يُحب هذا النوع من التَّعبد: أنها فُرضتْ على صفةٍ خاصةٍ:

أولًا: أُسري بنبينا محمدٍ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وصلى بأرواح الأنبياء إمامًا في بيت المقدس، ثم عُرج به إلى السماء حتى جاوز السماء السابعة، فوصل إلى سِدْرَة المُنْتَهى، إلى أعلى مكانٍ وصله بشرٌ، حتى إنه سمع صوت صرير الأقلام -كتابة القدر-، وكلَّمه الله مباشرةً من غير واسطةٍ، لكنه لم يَرَ ربه كما سيأتي؛ لأن الإنسان بتكوينه البشري لا يتحمل رؤية الرب العظيم في الدنيا، لكن في الآخرة يُمَكِّن اللهُ المؤمنين من رؤيته.

وفرض الله عليه وعلى أُمته هذه العبادة، فرضها أول ما فرضها خمسين صلاةً في اليوم والليلة.

تصوروا يا إخوان: خمسين صلاةً في أربعٍ وعشرين ساعةً، يعني: لو أنها لم تُخفف لكنا نُصلي كل نصف ساعةٍ تقريبًا صلاةً.

ثم إن الله من رحمته أن قيَّض موسى ، فسأل نبينا محمدًا : ما فرض ربُّك على أُمتك؟ قال: خمسين صلاةً في اليوم والليلة، قال: إني جَرَّبْتُ الناس قبلك، وعالجتُ بني إسرائيل أشدَّ المعالجة، وإن أُمتك لا تُطيق ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التَّخفيف، فحَطَّ عنه عشرًا، ثم عشرًا، ثم عشرًا، ثم عشرًا، ثم خمسًا، ثم قال موسى : ارجع إلى ربك فاسأله التَّخفيف يعني: حتى من الخمس، قال: إني قد استحييتُ من ربي، فأذَّن مُؤذنٌ: أن أمضيتُ فريضتي، وخفَّفتُ عن عبادي، هي خمسٌ في الفعل، خمسون في الميزان [6].

ما معنى هذا الكلام؟

يعني: هذه الصلوات الخمس التي نصليها أجرها أجر خمسين صلاةً، ثم يأتي بعد ذلك التضعيف: الحسنة بعشر أمثالها، وهذا من رحمة الله بعباده، ومن فضل الله على هذه الأمة: أن التخفيف فقط للفعل، وأما الأجر والثواب فلم يُخفف، فأجرها أجر خمسين صلاةً.

فرض الصلاة بهذه الطريقة يدل على محبة الله لهذا التَّعبد:

  • أولًا: فرضها مباشرةً، بينما بقية العبادات تُفرض بواسطة جبريل .
  • ثانيًا: فرضها في أعلى مكانٍ وصله البشر عند سِدْرَة المُنْتَهى، بينما بقية العبادات تُفرض في الأرض بواسطة جبريل ، يعني: يُرسل الله جبريل  إلى نبينا محمدٍ ويُخبره بالواجبات الأخرى.
  • ثالثًا: فرضها الله خمسين صلاةً في اليوم والليلة، وهذا يدل على محبة الله لهذه العبادة.
  • رابعًا: أن التخفيف إنما كان في الفعل، ولم يكن في الأجر والثواب، فهي أحبُّ عبادةٍ إلى الله، فإن استطعتَ أن تشغل وقتك -في غير أوقات النهي- بالصلاة فافعل.
    وقد ذُكر في ترجمة الإمام أحمد بن حنبل -إمام أهل السنة في زمنه رحمه الله- أنه كان يصلي لله تعالى في اليوم والليلة ثلاثمئة ركعةٍ.
    وكان الحافظ عبدالغني المقدسي صاحب “عمدة الأحكام” يقتدي بالإمام أحمد في هذا، فيصلي ثلاثمئة ركعةٍ.
    لكن لما حصلتْ للإمام أحمد المحنة وضُرب -كان يُضرب ضربًا شديدًا إلى أن يُغمى عليه من شدة الضرب- ضعف بدنه؛ فأصبح يصلي في اليوم والليلة تطوعًا من غير فريضةٍ مئةً وخمسين ركعةً.
    لماذا حرص هؤلاء الأئمة على كثرة الصلاة؟
    لعلمهم بأنها أحب عبادةٍ إلى الله.

واعلم أنك لا تسجد لله سجدةً إلا رفعك الله بها درجةً، وحطَّ عنك بها خطيئةً [7]؛ ولذلك إذا أتيت إلى المسجد الجامع يوم الجمعة، ما أفضل شيءٍ تشتغل به؟

أفضل شيءٍ تشتغل به الصلاة: صلِّ ركعتين، ركعتين، ركعتين إلى قبيل الزوال -وهي سبع دقائق تقريبًا- إلى وقت النهي.

بعض الناس يشتغل بتلاوة القرآن، لكن ما أجمل أن تجعل تلاوة القرآن داخل الصلاة! ولو أن تأخذ المصحف وتقرأ.

كان الأوزاعي رحمه الله يدخل المسجد الجامع، وينشغل بالصلاة إلى وقت النهي، حتى إن أحد تلامذته يقول: “أحصيتُ له ستًّا وثلاثين ركعةً”.

فأفضل عملٍ تشتغل به هو الصلاة، فاحرص على هذه العبادة العظيمة.

وقوله: خمس صلواتٍ في يومهم وليلتهم استدلَّ به الجمهور على أنه لا يجب على العبد من الصلاة إلا هذه الخمس الصلوات؛ لأنه لم يذكر إلا هي، فلا تجب صلاة العيد، ولا تجب صلاة الكسوف، ولا غير هذه الصلوات الخمس، لكن صلاة العيد فرض كفايةٍ، وصلاة الكسوف سنةٌ مُؤكدةٌ، والواجب على الإنسان من الصلوات هذه الخمس الصلوات.

وفيه ردٌّ على الحنفية الذين أوجبوا صلاة الوتر، والصواب قول الجمهور: إنها سنةٌ مُؤكدةٌ، فإن النبي لم يذكر إلا خمس صلواتٍ.

قال:

فإذا صلوا فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاةً في أموالهم، تُؤخذ من غنيهم، فتُردّ على فقيرهم.

يلي الصلاة في الآكدية الزكاة، فالزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام، وتُؤخذ من الأغنياء، وتُعطى الفقراء.

واستدلَّ بعض أهل العلم بهذا الحديث على أنه لا يجوز نقل الزكاة إلى بلدٍ آخر إلا عندما لا يوجد فقراء في ذلك البلد، ولكن هذا قولٌ مرجوحٌ، والصواب ما عليه كثيرٌ من أهل العلم: أنه يجوز نقل الزكاة إلى بلدٍ آخر للمصلحة أو للحاجة، فإذا نقلتَ زكاة مالك إلى بلدٍ آخر؛ لأجل أن البلد الآخر فيه فقراء أشد فقرًا، أو لأن لك فيه أقارب محتاجين فلا بأس بذلك.

معنى قوله: تُؤخذ من غنيهم، فتُردّ على فقيرهم

أما قوله عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: تُؤخذ من غنيهم، فتُردّ على فقيرهم، فالمقصود: أغنياء المسلمين، فتُردّ على فقراء المسلمين.

وقيل: إن النبي كان يعلم بفقر أهل اليمن، فهذا خاصٌّ بأهل اليمن؛ لأنه كان يعلم بأن فيهم فقراء، فهي تُؤخذ من أغنياء أهل اليمن، فتُردّ على فُقرائها.

قال:

فإذا أقرُّوا بذلك.

يعني: أقرُّوا بالتوحيد، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة.

فَخُذْ منهم.

يعني: الزكوات؛ لأن الإمام وولي الأمر مطلوبٌ منه أن يُرسل مَن يجبي الزكوات من أرباب الأموال؛ ولذلك قال:

وتَوَقَّ كرائم أموال الناس [8].

يعني: عندما تأخذ منهم الزكوات لا تأخذ الكرائم، وهو أحسن المال، وإنما خُذْ من الوسط، فالواجب في الزكاة وسط المال، ولا يجوز إخراج الرديء، والأفضل أن يُخرج من كريم المال.

فالمال عندنا ثلاث درجاتٍ: كريم المال، ووسط المال، ورديء المال.

الواجب في الزكاة وسط المال، والكريم لا يجب، إنما يُستحبُّ، ولا يجوز للجابي للزكاة أن يُجبر الناس على دفع كرائم أموالهم؛ ولذلك قال: وتَوَقَّ كرائم أموال الناس، وفي روايةٍ أخرى: اتَّقِ دعوة المظلوم؛ فإنها ليس بينها وبين الله حجابٌ [9] يعني: إذا أجبرتَ هؤلاء على دفع كرائم أموالهم فقد ظلمتهم، وقد يدعون عليك.

الرديء من المال لا يجوز إخراجه في الزكاة، ولا في الصدقة؛ لقول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [البقرة:267]، وَلَا تَيَمَّمُوا يعني: تقصدوا الْخَبِيثَ يعني: الرديء من المال، تُنْفِقُونَ يعني: تُنفقون هذا الرديء وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ يعني: لو كانت المسألة بالعكس؛ لو أن أحدًا تصدق عليكم بهذا الرديء من المال لم تقبلوه إلا على سبيل المُجاملة، على سبيل الإغماض، يعني: مُجاملةً.

إذن لا يجوز إخراج الرديء من المال، الواجب هو الوسط، والكريم من المال مُستحبٌّ، والذي يجبي الأموال من الناس يأخذ الوسط، ويتوقَّى كرائم الأموال إلا بطيبةٍ من أنفس أرباب الأموال.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
1 رواه البخاري: 6408، ومسلم: 2689.
2 رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037.
3 رواه أحمد: 16042، والطبراني في “المعجم الكبير”: 331.
4 رواه البخاري: 7371.
5 رواه البخاري: 527، ومسلم: 85.
6 رواه البخاري: 3887، ومسلم: 162.
7 رواه مسلم: 488.
8 رواه البخاري: 7372.
9 رواه البخاري: 2448، ومسلم: 19.