الرئيسية/دروس علمية/شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري/(2) كتاب التوحيد- من حديث “يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟”
|categories

(2) كتاب التوحيد- من حديث “يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟”

مشاهدة من الموقع

تتمة باب: ما جاء في دعاء النبي أُمته إلى توحيد الله

ثم ذكر الحديث الآخر، وهو حديث معاذٍ، لكن في موضوعٍ آخر، قال:

حدثنا محمد بن بشار: حدثنا غندر: حدثنا شعبة، عن أبي حصينٍ والأشعث بن سُليم، سمعا الأسود بن هلال، عن معاذ بن جبل قال: قال النبي : يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم.

هنا النبي يُنوع في طريقة التعليم: تارةً يُلقي الخطبة والموعظة، وتارةً يكون بأسلوب الحوار، وتارةً يُلقي السؤال ويطلب الجواب.

وطريقة التعليم بالسؤال والجواب من أرقى طرق التعليم، وكان النبي يسلكها في تعليمه الصحابة: أتدرون ما الغيبة؟ [1]، أتدرون ما المُفلس؟ [2].

هنا قال لمعاذٍ : أتدري ما حق الله على العباد؟؛ لأنه عند طرح السؤال المسؤول يُركز في الإجابة، ويتلقى المعلومة؛ لهذا من الأساليب التربوية العظيمة التي كان يسلكها النبي في تعليمه: السؤال.

قال: أتدري ما حق الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم.

كان الصحابة يقولون ذلك في حياته عليه الصلاة والسلام في الأمور الشرعية، وليس في الأمور الكونية، ففي الأمور الكونية: الله أعلم، والرسول عليه الصلاة والسلام لا يعلم الغيب، قال الله عنه: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65]، وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف:188].

فالمراد بـ”الله ورسوله أعلم” يعني: في الأمور الشرعية في حياة النبي .

حكم قول “الله ورسوله أعلم” بعد وفاة النبي

اختلف العلماء: هل يجوز أن يقول الإنسان بعد وفاة النبي : “الله ورسوله أعلم” في الأمور الشرعية؟

فمن أهل العلم مَن أجاز ذلك، والأظهر -والله أعلم- أنه غير مشروعٍ؛ لأن النبي بعد وفاته انتقل إلى ربه سبحانه، فلا يعلم شيئًا بعد وفاته؛ ولهذا يُقال لهم: عندما يأتي أناسٌ عند الحوض فيقول: أصحابي، أو أُصيحابي، فيُقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك [3]، فهو لا يدري عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك الأحسن أن يُقال: الله أعلم، ولا يُقال بعد وفاة النبي : الله ورسوله أعلم.

قال: أن يعبدوه، ولا يُشركوا به شيئًا.

تعريف العبادة

هذا حق الله على العباد، والعبادة أحسن ما قيل في تعريفها هو تعريف الإمام ابن تيمية رحمه الله، وهو: أن العبادة اسمٌ جامعٌ لكل ما يُحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.

هذا هو تعريف العبادة: اسمٌ جامعٌ لكل ما يُحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.

لاحظ أن دائرة العبادة واسعةٌ؛ فالصلاة عبادةٌ، والزكاة عبادةٌ، وصِلة الرحم عبادةٌ، ومساعدتك للآخرين عبادةٌ، وطلبك للعلم عبادةٌ، فهي اسمٌ جامعٌ لكل ما يُحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.

ولا يُشركوا به شيئًا، وهذه وإن كانت داخلةً في العبادة إلا أنه ذكرها من باب التأكيد؛ لأن الشرك يُحبط العمل، فمَن أشرك فقد حرَّم الله عليه الجنة، ومَن أشرك لا يقبل الله منه عملًا، ولا صَرْفًا، ولا عَدْلًا، فلا يقبل الله منه صيامًا، أو صلاةً، أو زكاةً، أو حجًّا، أو أي شيءٍ، فالشرك هو أعظم الذنوب، ويُحبط العمل.

قال: أتدري ما حقُّهم عليه.

يعني: حقّ العباد على الله، وهذا الحق ليس استحقاق عوضٍ وجزاءٍ، وإنما تفضلٌ وتكرمٌ من الرب ​​​​​​​، وإلا فما للعباد عليه حقٌّ واجبٌ، فهو تفضلٌ وتكرمٌ من الله .

قال: الله ورسوله أعلم. قال: ألا يُعذِّبهم [4].

معنى قوله: ألا يُعذِّب مَن لا يُشرك به شيئًا

جاء في روايةٍ أخرى: ألا يُعذب مَن لا يُشرك به شيئًا [5]، ولكن لا بد أن نفهم مثل هذه الأحاديث الفهم الصحيح؛ فهم أهل السنة والجماعة، فمعنى: ألا يُعذِّب مَن لا يُشرك به شيئًا يعني: ألا يُعذب مَن يعبده ولا يُشرك به شيئًا؛ لأن عدم الشرك مع عدم العبادة لا ينفع، فلو أن إنسانًا -مثلًا- لا يُشرك بالله شيئًا، لكنه لا يُصلي، تاركٌ للصلاة بالكلية، هذا يُعذَّب، فهذا كقول القائل: مَن توضأ صحَّتْ صلاته، أي: إذا توفرتْ بقية شروط الصلاة، فعندما أقول: مَن توضأ صحَّتْ صلاته، هل يعني هذا إلغاء بقية الشروط؟ لو أَخَلَّ بأي شرطٍ من الشروط الأخرى ما صحَّتْ صلاته.

هكذا أيضًا في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ألا يُعذِّب مَن لا يُشرك به شيئًا يعني: إذا عبدوا الله ولم يُشركوا به شيئًا، فنصوص الوعد لا بد أن تُفهم الفهم الصحيح.

وقد ضَلَّتْ طائفتان في نصوص الوعد والوعيد: طائفة المُرجئة، ويُقابلها طائفة الوعيدية من الخوارج والمعتزلة.

المُرجئة قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنبٌ. وأخذوا بظاهر هذه النصوص، فقالوا: إن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: إن الله لا يُعذب مَن لا يُشرك به شيئًا، فما يضر مع الإيمان ذنبٌ.

وطائفة الوعيدية تُقابل هؤلاء من الخوارج والمعتزلة؛ فالخوارج كفَّروا مُرتكب الكبيرة، قالوا: هو كافرٌ، فشارب الخمر كافرٌ، ما يقبل الله منه شيئًا.

والمعتزلة قالوا: في منزلةٍ بين المنزلتين.

واتَّفقوا على أنه في الآخرة يكون مُخلدًا في النار.

وأما أهل السنة والجماعة فهداهم الله تعالى للحق، فقالوا: إن مُرتكب الكبيرة مؤمنٌ بإيمانه في الدنيا، فاسقٌ بكبيرته، وفي الآخرة تحت مشيئة الله، لكنه لا يخلد في النار أبد الآباد.

فجمعوا بين نصوص الوعد والوعيد، فلا يأتي الإنسان ويأخذ بنصٍّ ويترك بقية النصوص، لا بد من الجمع بين النصوص، وطريقة أخذ نصٍّ وترك بقية النصوص هي طريقة أهل البدع وأهل الزيغ، أما أهل الحق فإنهم يجمعون بين النصوص، وينظرون للنصوص مُجتمعةً.

فضل سورة الإخلاص

قال:

حدثنا إسماعيل: حدثني مالك، عن عبدالرحمن بن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي صعصعة، عن أبيه، عن أبي سعيدٍ الخدري : أن رجلًا سمع رجلًا يقرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص] يُرددها، فلما أصبح جاء إلى النبي فذكر له ذلك، وكأن الرجل يتقالُّها، فقال رسول الله : والذي نفسي بيده، إنها لتعدل ثلث القرآن.

زاد إسماعيل بن جعفر، عن مالكٍ، عن عبدالرحمن، عن أبيه، عن أبي سعيدٍ: أخبرني أخي قتادة بن النعمان، عن النبي [6].

وجاء في رواية الدارقطني: إن لي جارًا يقوم بالليل، فما يقرأ إلا بـقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يعني: يصلي صلاة الليل ما يقرأ إلا قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.

فهذه القصة قصةٌ عظيمةٌ، فهذا رجلٌ له جارٌ يصلي، ولا يقرأ إلا قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يُكررها ويُرددها، فأتى جاره وأخبر النبي ، قال: فلانٌ ما يقرأ إلا قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، كأنه يتقالُّها، فقال النبي : والذي نفسي بيده، إنها لتعدل ثلث القرآن [7]، وهذا يدل على فضل هذه السورة.

لماذا سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن؟

إنما قال: تعدل ثلث القرآن، قيل: هي ثلثٌ باعتبار معاني القرآن، فإن معاني القرآن تنقسم إلى ثلاثة أقسامٍ:

  • القسم الأول: الأحكام.
  • والقسم الثاني: الأخبار.
  • والقسم الثالث: التوحيد.

وهذه السورة اشتملتْ على القسم الثالث.

هذا معنى كونها تعدل ثلث القرآن.

إذن معاني القرآن تنقسم إلى أحكامٍ وأخبارٍ وتوحيدٍ، وهي تشمل القسم الثالث: التوحيد، فهي بهذا الاعتبار تعدل ثلث القرآن، وهذا يدل على أن هذه السورة مَن قرأها كأنه قرأ ثلث القرآن.

وسُئل الإمام ابن تيمية رحمه الله عمَّن يقرأ من القرآن، ويقرأ سورة الإخلاص ثلاث مراتٍ، فقال: “إذا قرأ القرآن كله ينبغي أن يقرأها كما في المصحف مرةً واحدةً”، لا يُكررها ثلاثًا، “وأما إذا قرأها وحدها، أو مع بعض القرآن، فإنه إذا قرأها ثلاث مراتٍ عدلت القرآن”، ولكن ينبغي أن نفهم أنها تعدل ثلث القرآن في الثواب، لكنها لا تقوم مقام الفاتحة؛ ولهذا لو أن شخصًا كررها ثلاث مراتٍ لم تَكْفِ عن الفاتحة، فلو كرر إنسانٌ الإخلاص ثلاث مراتٍ يقرؤها في الصلاة لم تَكْفِ عن الفاتحة، فهي تعدل ثلث القرآن في الثواب، فالشيء قد يكون مُعادلًا للشيء، لكنه لا يُجزئ عنه.

فمثلًا: قول النبي : مَن قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قديرٌ، عشر مرارٍ؛ كان كمَن أعتق أربعة أنفسٍ من ولد إسماعيل [8].

طيب، لو قالها إنسانٌ عشر مراتٍ، واكتفى بهذا عن عتق الرقبة في كفارة القتل، أو كفارة الظِّهار، هل هذا يُجزئ؟

لا يُجزئ، هذا فقط في الثواب، وليس في الإجزاء.

أيهما أفضل: قراءة القرآن كاملًا، أم سورة الإخلاص ثلاث مراتٍ؟

طيب، أيهما أفضل: أن يقرأ الإنسان القرآن كاملًا، أو يقول: أنا أقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثلاث مراتٍ ويكفي؟

ألستم تقولون: إن قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تعدل ثلث القرآن في الثواب؟ إذن لا داعي لختم القرآن، أقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثلاث مراتٍ.

نقول: لا؛ قراءة القرآن كاملًا أفضل، وقد ذكر هذا ابن تيمية رحمه الله، وقال: إن ثواب قراءة القرآن كاملًا أعظم من الثواب الحاصل بقراءة الإخلاص ثلاث مراتٍ؛ لأنه يحصل بقراءة القرآن كاملًا ما لا يحصل بقراءة سورة الإخلاص ثلاث مراتٍ، فيكون مَن قرأ القرآن كله أفضل ممن قرأ الإخلاص ثلاث مراتٍ؛ لتنوع الثواب.

ويُمثِّل رحمه الله لهذا بمثالٍ فيقول: كمَن معه ثلاثمئة دينارٍ، وآخر معه طعامٌ ولباسٌ يُقدر بثلاثمئة دينارٍ، فالأول مُحتاجٌ للثاني، وإن كان معه ما يعدل ما مع هذا.

إذن هذه السورة سورةٌ عظيمةٌ، لكنها لا تعدل قراءة القرآن كاملًا في الثواب.

وهذه السورة قد وردت السنة بأنها تُقرأ دُبر كل صلاةٍ مع سورة الفلق والناس، وتُكرر بعد صلاة الفجر وبعد صلاة المغرب ثلاث مراتٍ.

وأيضًا وردت السنة بأنها تُقرأ قبل النوم ثلاث مراتٍ مع سورة الفلق والناس، تُقرأ ثلاث مراتٍ مع النَّفْث، يعني: تقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثلاث مراتٍ وتَنْفُث، وتمسح وجهك ورأسك وما استطعتَ من بدنك، وسورة الفلق، وسورة الناس.

جاء في “صحيح البخاري” في روايةٍ أخرى: عن أبي سعيدٍ : أن النبي قال يومًا لأصحابه: أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلةٍ؟ فشقَّ ذلك عليهم، وقالوا: أيُّنا يُطيق ذلك يا رسول الله؟! فقال: الله الواحد الصمد ثلث القرآن [9].

وجاء في رواية مسلمٍ: أن النبي قال: احشدوا؛ فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن فاجتمعوا، فقرأ سورة الإخلاص [10]، وهذا يدل على فضل هذه السورة.

فينبغي لك أخي المسلم أن تحرص على قراءتها، فتقرأها دُبر كل صلاةٍ، وتُكرر ذلك بعد الفجر وبعد المغرب، وتقرأها قبل النوم ثلاث مراتٍ، وتقرأ في بقية أوقات اليوم، يعني: يمكن -مثلًا- في السيارة، وفي مكان الانتظار اقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وكررها ثلاث مراتٍ، كأنك قرأت القرآن كاملًا، فهي تعدل ثلث القرآن في الأجر والثواب، فهذا فضلٌ عظيمٌ، والعمل يسيرٌ.

حكم قراءة سورة الإخلاص بعد كل سورةٍ في الصلاة

قال:

حدثنا أحمد بن صالح: حدثنا ابن وهبٍ: حدثنا عمرو، عن ابن أبي هلال: أن أبا الرجال محمد بن عبدالرحمن حدَّثه عن أمه عمرة بنت عبدالرحمن -وكانت في حجر عائشة زوج النبي – عن عائشة: أن النبي بعث رجلًا على سريةٍ، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي ، فقال: سَلُوه لأي شيءٍ يصنع ذلك؟ فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أُحب أن أقرأ بها. فقال النبي : أخبروه أن الله يُحبه [11].

هذا الرجل بعثه النبي وأمَّره على هذه السرية، فكان يصلي بأصحابه، وإذا قرأ أي سورةٍ قرأ بعدها: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، يختم بـقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فذكروا ذلك للنبي ، فقال: سَلُوه لأي شيءٍ يصنع ذلك؟ قال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أُحب أن أقرأ بها. قال: أخبروه أن الله يُحبه.

وهذا يدل على فضل هذه السورة، وهي تعدل -كما ذكرنا- ثلث القرآن، ويدل على جواز مثل هذا العمل، فلو أن إمام مسجدٍ قال: أنا كلما قرأتُ سورةً سأقرأ بعدها: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. نقول: لا بأس، هذا فعله هذا الرجل، فأقرَّه النبي عليه.

وهذا يدل على جواز تخصيص بعض القرآن بميل النفس إليه، والاستكثار من تلاوته، ولا يُعدّ هذا هُجرانًا لغيره، فلو أن إمام مسجدٍ قال: والله أنا دائمًا أُحب أن أقرأ بهذه السورة. لا بأس، فهذا الرجل كان يُحب أن يقرأ بسورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فأقرَّه النبي على ذلك.

فكون الإنسان يُحب بعض السور أكثر من بعضٍ لا بأس بهذا، ولا يُعتبر هذا هُجْرانًا أو تقليلًا من السور الأخرى، لكن جاء في روايةٍ للبخاري في كتاب “الصلاة”: “باب: الجمع بين السورتين في الركعة”، ثم ساق بسنده عن أنسٍ : أنه كان رجلٌ من الأنصار يؤمّهم في مسجد قباء، وكان كلما افتتح سورةً افتتح بــقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ حتى يفرغ منها، ثم يقرأ سورةً أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعةٍ، فلما أتاهم النبي أخبروه الخبر، فقال: يا فلان، ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك؟ وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعةٍ؟ فقال: إني أُحبها. فقال: حُبُّك إياها أدخلك الجنة [12].

طيب، هذه قصةٌ أخرى، ما الفرق بين القصتين؟

القصة التي ساقها المؤلف هنا: أن هذا الرجل كلما قرأ سورةً قرأ بعدها: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، والقصة الثانية في حديث أنسٍ : أن هذا الرجل يقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ أولًا، ثم يقرأ سورةً بعدها، والروايتان صحيحتان، فكلاهما في البخاري.

الحافظ ابن حجر رحمه الله صاحب “فتح الباري” استشكل هذا، ثم رجَّح أنهما قصتان، وأن الذي يَؤُمُّ في مسجد قباء غير أمير السرية؛ لأن سياق هذه القصة يختلف عن سياق تلك القصة، وهذا هو الظاهر: أنهما قصتان مختلفتان، لكن هذا يدل على فضل هذه السورة؛ سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.

واستدلَّ بعض أهل العلم بهذه الأحاديث على استحباب قراءة الآيات التي تشتمل على صفات الله ​​​​​​​؛ لقوله: “إنها صفة الرحمن، وأُحب أن أقرأ بها”، فلو أن الإمام اختار -مثلًا- آياتٍ فيها صفات الرحمن، أو أسماء الله الحسنى مثل: آخر سورة الحشر، ونحو ذلك، فهذا من الأمور الحسنة.

بابٌ: قول الله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ…

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

بابٌ: قول الله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء:110].

صفة الرحمة لله سبحانه

الغرض من هذا الباب: إثبات صفة الرحمة لله سبحانه.

وأهل السنة والجماعة من عقيدتهم: إثبات صفة الرحمة لله ​​​​​​​ على الوصف اللائق به، وليست كرحمة المخلوقين.

وقد أنكرتْ طوائف من أهل البدع هذه الصفة، وبعض أهل البدع أوَّلوها فقالوا: إن المقصود برحمة الله: ثوابه وجزاؤه.

قالوا: لأن الرحمة رقةٌ في القلب، وهذا لا يليق بالله ​​​​​​​.

وكلامهم هذا باطلٌ؛ لأننا لا نقول: هي رحمةٌ مثل رحمة المخلوقين، إنما هي رحمةٌ على الوصف اللائق بالله ​​​​​​​، فتحريفهم للرحمة بأنها ثوابٌ وجزاءٌ هذا تأويلٌ وتحريفٌ باطلٌ، والصواب ما عليه أهل السنة والجماعة في إثبات صفة الرحمة لله ​​​​​​​.

الغرض من هذا الباب هو: إثبات صفة الرحمة، وهذا هو مُعتقد أهل السنة والجماعة: إثبات صفة الرحمة لله ​​​​​​​ على الوصف اللائق به، وليست كرحمة المخلوقين، ومما يدل لذلك:

أولًا: الآية التي ذكرها المؤلف: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ، فالرحمن صفةٌ لله .

وأيضًا قول الله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس:58]، فعطف الرحمة على الفضل، والفضل معناه: الثواب والجزاء، وهذا العطف يقتضي المُغايرة، ولو كانت الرحمة بمعنى: الثواب والجزاء لم يكن لهذا العطف معنًى.

وأما قول أصحاب هذه الفرق: إنَّ الرحمة رقةٌ في القلب لا تليق بالله، فحملهم على هذا أنهم جعلوا رحمة الله مثل رحمة المخلوق، وهذا قولٌ باطلٌ.

نحن نقول: رحمة الله ليست كرحمة المخلوق، فرحمة الله على الوصف اللائق به، وليست كرحمة المخلوقين.

فالصواب إذن إثبات صفة الرحمة لله ​​​​​​​ على الوصف اللائق به سبحانه.

وعندما تجد شروح الأحاديث هنا -سبحان الله!- تجد -مثلًا- “فتح الباري”، النووي، ابن بطال، يعني: هؤلاء كلهم عندهم أشعريةٌ يُفسرون الرحمة بإرادة الثواب وإرادة الجزاء، مع أنهم مُحدِّثون، لكنهم نشؤوا في بيئاتٍ لم يكن منهج السلف فيها السائد، فالإنسان يتأثر ببيئته، ولكن مع ذلك نستفيد مما عندهم من العلم الصحيح، ومن الحق، فالحكمة ضالَّة المؤمن.

وهذا يدل -يا إخواني- على أنه ينبغي أن نستشعر نعمة الله علينا بأن الله وفَّقنا للحق، ومنهج السلف، وأهل السنة والجماعة، فهذه نعمةٌ من الله عندما ترى بعض هؤلاء العلماء الكبار وقعوا فيما وقعوا فيه من التحريف والتأويل في صفات الله ​​​​​​​، ونحن هدانا الله للحق في هذه المسائل.

لا نقول هذا تعصبًا أو تقليدًا، وإنما نقول ذلك بالبرهان والأدلة، فعندما تجد شروح البخاري معظمها فيها هذا التأويل، فلو قرأتَ كلام الحافظ ابن حجر، أو النووي، أو ابن بطال، كلهم يُؤولون الرحمة بإرادة الإحسان، أو إرادة الثواب أو الجزاء.

العجيب أن الذين شرحوا كتاب البخاري هو يردُّ عليهم، يعني: ما وضع هذا الباب إلا للردِّ عليهم.

جزاء مَن يرحم

قال:

حدثنا محمد بن سلام: أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن زيد بن وهب وأبي ظبيان، عن جرير بن عبدالله قال: قال رسول الله : لا يرحم الله مَن لا يرحم الناس [13].

هذا قاله عليه الصلاة والسلام لما أتاه رجلٌ، ووجد النبيَّ يُقبل بعض الصبيان، قال: أتُقبلون صبيانكم؟! والله إن عندي عشرةً من الولد ما قبَّلتُ منهم أحدًا. فقال النبي : أَوَأَمْلِك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟! لا يرحم الله مَن لا يرحم الناس [14].

فرحمة الضعفاء، ورحمة الصبيان، ورحمة المساكين، هذه من الأمور المطلوبة، وهذه الرحمة تُورث الإحسان لهم.

جاء في “صحيح مسلم” عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني مسكينةٌ تحمل ابنتين لها، فأطعمتُها ثلاث تمراتٍ، فأعطتْ كل واحدةٍ منهما تمرةً، ورفعتْ إلى فيها تمرةً لتأكلها، فاستَطْعَمَتْها ابنتاها، فشَقَّت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرتُ الذي صنعتْ لرسول الله .

أتدرون ماذا قال؟

قال: إن الله قد أوجب لها بها الجنة [15].

سبحان الله!

أوجب الله لها الجنة من أجل تمرةٍ قسمتها بين ابنتيها.

سبحان الله!

هذا يدل -يا إخواني- على عظيم أجر الإحسان، وعظيم ثوابه ومنزلته عند الله .

ما الذي حمل هذه المرأة على أن تفعل ذلك؟

الرحمة، رحمتْ ابنتيها في جوعٍ وفقرٍ، فابنتاها كل واحدةٍ منهما أكلتْ تمرةً، ثم استطعمتاها التمرة الثالثة، فأخذتها وشقَّتها بين ابنتيها، فقال: إن الله قد أوجب لها بها الجنة، فالإحسان للضعفاء، وللفقراء، وللمساكين، وللصبيان، وللأرامل، هذا من المقامات العلية الرفيعة، والله يُحب المُحسنين.

قال:

حدثنا أبو النعمان: حدثنا حماد بن زيد، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النَّهْدي، عن أسامة بن زيد قال: كنا عند النبي إذ جاءه رسول إحدى بناته.

وهي زينب بنت النبي كما في الرواية الأخرى.

يدعوه إلى ابنها في الموت.

يعني: أن ابنها يحتضر.

فقال النبي : ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيءٍ عنده بأجلٍ مُسَمًّى، فَمُرْها فَلْتَصْبِرْ ولتَحْتَسِبْ.

يعني: هذا قضاء الله وقدره، فلتَصْبِرْ.

فأعادت الرسول: أنها قد أقسمتْ لتأتينها.

تريد من النبي أن يحضر ويدعو لهذا الطفل، لهذا الصبي، ويدعو لها، فأقسمتْ على النبي .

فقام النبي ، وقام معه سعد بن عُبادة ومعاذ بن جبل، فدُفِعَ الصبي إليه، ونفسه تَقَعْقَعُ كأنها في شَنٍّ.

تَقَعْقَع من القَعْقَعَة وهي: صوت الشيء اليابس الجاف إذا حُرِّك.

“كأنها في شَنٍّ” وهي القِرْبَة الخَلِقَة اليابسة، يعني: أنها نُزعت الروح، وقت نزع الروح.

ففاضَتْ عيناه.

يعني: عيني النبي .

فقال له سعدٌ: يا رسول الله، ما هذا؟

يعني: كيف تبكي؟! كأنه استنكر البكاء.

فقال النبي : هذه رحمةٌ جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرُّحماء [16].

قال النووي رحمه الله: إن قوله عليه الصلاة والسلام: أخبرها أن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيءٍ عنده بأجلٍ مُسَمًّى أحسن ما يُعزَّى به المُصاب.

إذا أردتَ أن تُعزي إنسانًا مات له قريبٌ، ما أفضل صيغةٍ للتعزية؟

أفضل صيغةٍ للتعزية هي المذكورة في هذا الحديث، أن تقول له: إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيءٍ عنده بأجلٍ مُسَمًّى، فاصْبِرْ واحْتَسِبْ.

هذه أفضل صيغة تعزيةٍ، ولا بأس أن تزيد: أحسن الله عزاءك، جَبَر الله مُصابك، لا بأس، لكن أفضل صيغة تعزيةٍ هي هذه المذكورة في الحديث، تقول له: إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيءٍ عنده بأجلٍ مُسَمًّى، فاصْبِرْ واحْتَسِبْ.

قوله: وإنما يرحم الله من عباده الرُّحماء يعني: المقصود بذلك الرحمة الخاصة بالعباد، وليست رحمة الله تعالى.

هذا يدل على أن العباد -البشر- لهم رحمةٌ، والله تعالى له رحمةٌ، ورحمة الله غير رحمة العباد.

هنا النبي بكى، وفاضتْ عيناه.

الفضيل بن عياض رحمه الله لما مات ابنه، وذهب يُشيعه إلى المقبرة قام يضحك، قالوا: كيف تضحك وابنك الآن يُدْفَن؟!

قال: ضحكتُ رضًا بقضاء الله وقدره.

يعني: أنا أُبين أني راضٍ بقضاء الله وقدره.

طيب، أيهما أفضل: مقام الفضيل بن عياض الذي قام يضحك لما مات ابنه، أو مقام النبي الذي بكى وفاضتْ عيناه لما مات ابن ابنته؟

قال أهل العلم: إن مقام النبي أفضل؛ لماذا؟

لأنه جمع بين الرحمة والصبر والرضا، بينما الفضيل بن عياض ما استطاع الجمع، فقدَّم الرضا، وترك الرحمة، فمقام النبي -كما قال ابن تيمية وغيره- أعظم؛ لأنه جمع بين الصبر والرضا والرحمة، والفضيل بن عياض فقط حقق الرضا، والجمع بين الصبر والرضا والرحمة أعظم مقامًا من الاقتصار على الرضا.

ولذلك لا بأس بالبكاء عند موت العزيز الغالي على الإنسان، لكن من غير رفع الصوت، فالبكاء مع خفض الصوت والدمع لا بأس به، كما قال عليه الصلاة والسلام: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربُّنا، وإنا بفُراقك يا إبراهيم لمحزونون [17]، إنما الممنوع هو رفع الصوت بالبكاء.

ونكتفي بهذا القدر، ونقف عند باب: قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:58].

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه مسلم: 2589.
^2 رواه مسلم: 2581.
^3 رواه البخاري: 4625، 6526، ومسلم: 2860.
^4 رواه البخاري: 7373.
^5 رواه البخاري: 2856.
^6 رواه البخاري: 7374.
^7 ذكره الحافظ ابن حجر في “فتح الباري”: 9/ 60 نقلًا عن الدارقطني، ولم نجده في كتب الدارقطني التي بين أيدينا.
^8 رواه مسلم: 2693.
^9 رواه البخاري: 5015.
^10 رواه مسلم: 812.
^11 رواه البخاري: 7375.
^12 رواه البخاري مُعلقًا: 1/ 155.
^13 رواه البخاري: 7376.
^14 رواه البخاري: 5997، 5998، ومسلم: 2317، 2318.
^15 رواه مسلم: 2630.
^16 رواه البخاري: 7377.
^17 رواه البخاري: 1303، ومسلم: 2315.