الرئيسية/محاضرات/{واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه}
|

{واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه}

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا مجلس من مجالس الذكر، نجتمع فيه لنتذاكر ما يهمنا في أمور ديننا: ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهل الله له به طريقًا إلى الجنة [1].

الغاية من خلق الجن والإنس

أيها الأخوة: خلق الله الجن والإنس لعبادته، كما قال سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ۝مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ [الذاريات:56-57] فالحكمة من خلق الجن والإنس هي تحقيق العبودية لله .

وقد أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب لأجل تحقيق هذه الغاية، فمن استجاب وأطاع ربه، فاز الفوز العظيم، وسعد السعادة الأبدية، ومن أعرض عن ذكر ربه: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124].

أيها الأخوة: يقول ربنا : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24].

فنادى الله عباده المؤمنين بوصف الإيمان، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قال ابن مسعود : “إذا سمعت الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فارع لها سمعك، فإنها خير تُؤمر به، أو شر تُنهى عنه” [2].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ أي: استجيبوا لطاعة الله، ولطاعة رسوله إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ من أمر الدين؛ لأنه سبب للحياة، والاستجابة لله ولرسوله، هذه من الأمور الواجبة على كل مؤمن ومؤمنة: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ فإذا أمرك الله بشيء فليس للمسلم خيار هل يستجيب أو لا يستجيب؟ وإذا أمر رسوله بشيء فليس للمسلم خيار، وهكذا إذا نهى الله عن أمر، فليس للمسلم خيار في أن ينتهي عنه أو لا ينتهي؟ وهكذا إذا نهى رسوله عن أمر فليس للمسلم خيار: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ

فعلى المسلم أن يكون معظمًا لأوامر الله، ولأوامر رسوله مستجيبًا لله ولرسوله، وإلا إذا لم يفعل فانظر ماذا يقول ربنا؟: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ إذا لم يستجب لله وللرسول فقد يحال بينه وبين قلبه جزاء وفاقًا، وَاعْلَمُوا عندما تأتي في القرآن كلمة وَاعْلَمُوا فهي تدل على الاهتمام بما تتضمنه هذه الجملة، ففيها حث للمخاطبين على الاهتمام، والتأمل فيها.

معنى يحول بين المرء وقلبه

وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ قال ابن عباس رضي الله عنهما عن تفسير الآية: “أي: يحول بين المؤمن والكفر، وبين الكافر والإيمان، وقيل: يحول بين المرء وعقله” [3].

وقال ابن جرير الطبري رحمه الله إمام المفسرين: “أولى الأقوال في تفسير الآية: أن ذلك خبر من الله تعالى في أنه أملك لقلوب عباده منهم، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء” [4].

فالحول بين الشيء والشيء هو الحجز بينهما، وعدم الاستجابة لله وللرسول قد تكون سببًا لتقليب القلوب، والحيلولة بين الإنسان وبين طريق الهداية، والحيلولة بين الإنسان وبين الاستقامة، فالإنسان إذا لم يستجب لله وللرسول، فهو على خطر في أن يقع في الضلالة، كما قال ربنا سبحانه: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ لماذا؟ لأنهم لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:110]؛ وفي هذا تحذير من الأعراض عن الحق، ويقول سبحانه: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5] فالذي يعرض عليه الحق، ويؤمر بأمر الله وأمر رسوله ويعرض عنه فهو على خطر في أن يحال بينه وبين قلبه، وأن يقع في طريق الضلالة.

أمور القلوب بين يدي الله

أيها الأخوة: تقلُّب القلوب من الأمور العجيبة، فإن القلوب أمرها ليس بيد العباد، وإنما بيد رب العباد، فهو الذي يقلبها، ويصرفها كما يشاء؛ ولهذا قال سبحانه في الآية السابقة: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24].

وجاء في صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي قال: إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كما يشاء [5] ونحن نؤمن بهذا، كما ورد، ولا نعلم كيفيته وحقيقته، فالله أعلم، لكن الذي أخبرنا بذلك رسول الله ، يقلب الله قلوب العباد كما يشاء.

ثم قال عليه الصلاة والسلام: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك [6] وجاء في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي كان يكثر من أن يقول: اللهم يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك فقيل: يا رسول الله، ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء، قال: إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء [7].

ولهذا من الأدعية العظيمة التي ينبغي أن يكثر منها المسلم، والتي ينبغي أن يدعو الله بها كل يوم، أن يقول: اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك اللهم يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك فإن الله هو الذي بيده القلوب، والله تعالى أملك بقلبك منك، يقلب قلبك كما يشاء، فادع الله تعالى بأن يثبتك قلبك على دينه، وأن يصرف قلبك على طاعته، وهذا الدعاء من الأدعية العظيمة التي يغفل عنها بعض الناس، فينبغي أن يلازم المسلم هذا الدعاء كل يوم، لا يمر عليك يوم إلا دعوت الله بهذا الدعاء: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» «يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك.

الله تعالى ذكر أن من دعاء الراسخين في العلم أنهم كانوا يقولون: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8].

جاء في حديث المقداد بن الأسود  أن النبي قال: لقلب ابن آدم أسرع تقلبًا من القِدر إذا اجتمعت غليانًا [8] أخرجه أحمد والحاكم بسند صحيح، ثم قال المقداد بعدما روى الحديث: “ألا إن السعيد من جُنِّب الفتن” قالها ثلاث مرات.

فالقلوب سريعة التقلب، وهي أسرع تقلبًا من القِدر إذا اجتمعت غليانًا، وكثيرًا ما نسمع عن إنسان كان صالحًا ثم انحرف، كان مستقيمًا ثم انتكس، سمعنا وسمعتم جميعًا عن أناس كثير كان فلان بن فلان من الصالحين، كان من العباد، كان من المحافظين على الصلوات الخمس مع الجماعة في المسجد، وإذا به تتغير أحواله، وإذا به ترق الديانة عنده شيئًا فشيئًا، ويظهر ذلك عليه في سمته، وفي عبادته، وفي سلوكياته، في تساؤل الناس، ما الذي جرى لفلان؟ كنا نعده من أهل الخير والصلاح، كنا نعده من العبَّاد، ما الذي حصل له؟ ما الذي غيره؟ نقول: إنّ قلب الإنسان ليس بيده، هذا الذي حصل لهذا الإنسان قد يحصل لأي واحد منا؛ لأن القلب سريع التقلب، وقلوب العباد بيد الرحمن يُقلّبها كما يشاء.

فعلى المسلم أن يتضرع إلى الله سبحانه في أن يثبته على طريق الهداية، وأن يثبت قلبه على دينه، وأن يصرف قلبه على طاعته؛ ولهذا في كل ركعة نصليها من كل صلاة فرضًا كانت أو نافلة ندعو الله بالدعاء العظيم: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، دعاء بالهداية بأن الله تعالى يهدينا الصراط المستقيم، طريق الهداية، طريق الحق صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] وهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، وحسن أولئك طريقًا، غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] ليس صراط المغضوب عليهم، ولا صراط الضالين، وإنما صراط الذين أنعم الله عليهم.

من أسباب تقلب القلوب

أيها الأخوة: ومن أسباب تقلب القلوب ما أشار إليه المقداد في الحديث السابق، قال: “ألا إن السعيد من جُنِّب الفتن” قالها ثلاث مرات، وهو يشير بهذا إلى أن ورود الفتن على القلوب من أسباب تقلب القلوب، ورود الفتن، وهذا المعنى وردت الإشارة إليه في الآية التي بعد هذه الآية: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24] ثم قال ربنا سبحانه: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25] لماذا ذكر الله تعالى الفتنة بعد تقلب القلوب؟ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ثم قال: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً إشارة إلى أن من أسباب تقلب القلوب ورود الفتن على القلوب، يقول النبي كما في حديث حذيفة في صحيح مسلم: تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودًا عودًا، فأيما قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء [9].

وهذه الفتن التي تُعرض على القلوب هي واردة في كل مكان وزمان، ولكنها تكثر قبيل قيام الساعة، فكثرتها من أشراط الساعة، وقد أخبر النبي : أن من أشراط الساعة أن تكثر الفتن [10] ونحن في هذا الزمان الذي نعيش فيه الآن قد كثرت فيه الفتن، في هذا الزمن الذي انفتح العالم فيه بعضه على بعض، وأصبح العالم كما يقال: كالقرية الصغيرة، وهذا الانفتاح جلب معه فتنًا كثيرة، فتن شبهات، وفتن شهوات، فعلى المسلم أن يتقي هذه الفتن، وأن يبتعد عنها: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25] فتن الشبهات وما أكثرها! في هذا الزمان، يعرض على الإنسان شبهات كثيرة في أمور دينه وعقيدته ومنهجه والمسلمات التي عنده، فيأتي من يطرح عليه شبه، ويشككه في دينه، وربما هذه الشبه تؤثر على من كان عنده ضعف في الإيمان، وربما تُؤثر على بعض الشباب الصغار، وأصبحت هذه الشبه ترد بكثرة وبسرعة عبر وسائل التقنية الحديثة، وعلى رأسها: الانترنت بجميع صوره وأشكاله.

وأيضًا فتن الشهوات وما أكثرها! أيضًا في هذا الزمان الذي نعيشه، فتعرض للإنسان فتن عظيمة من الشهوات تصده عن دين الله ؛ ولهذا فعلى المسلم أن يتقي هذه الفتن بأنواعها، فتن الشبهات، وفتن الشهوات، ويتقيها أولًا: بأن يتضرع إلى الله سبحانه بأن يجنبه مضلات الفتن، وكذلك بالاستقامة على طاعة الله بأن يكون صادقًا مع الله، صادقًا في تدينه، فإن من كان صادقًا في تدينه يحفظ الله عليه دينه، يقول النبي : احفظ الله يحفظك [11]، احفظ الله بأي شيء؟ احفظ الله تعالى بالاستقامة على شرعه وعلى دينه، يحفظك الله تعالى.

هل الحفظ المقصود به في الدين أو في الدنيا؟

الجواب: في الدين والدنيا جميعًا، ولكن حفظ الدين أشرف من حفظ الدنيا، فمن كان صادقًا مع الله في تدينه حفظ الله عليه دينه، فما أن تعرض له فتنة شبهة إلا ويقيض الله تعالى له ما يزيلها، من عالم يعرضها عليه، من كتاب نافع، من دعوة صالحة يدعو بها، فيكشف الله عنه هذه الفتنة، ويزيلها، يكشف الله عنه هذه الشبهة ويزيل عنه هذه الفتنة، وهكذا لو عرضت له فتنة شهوة، إذا كان صادقًا مع الله عصمه الله تعالى من هذه الفتنة، هذا يوسف نبي الله عليه السلام عرضت عليه فتنة شهوة، وقد اجتمعت جميع عوامل الإغراء والإثارة والوقوع في الفاحشة، شاب في منتهى الشباب، وأعزب؛ والأعزب الداعي لوقوعه في الفتنة أشد، وغريب؛ والغريب لا يتحرج مما يتحرج منه غير الغريب، وأيضًا كان رقيقًا، كان وقتها رقيق، والذي دعاه للوقوع في الفاحشة امرأة، المرأة هي التي دعته، وهذا أقوى في الإغراء، ثم الذي دعاه امرأة ليست عادية امرأة ذات منصب وجمال، أعطيت قدرًا عظيمًا من الجمال، كما قال بعض أهل العلم، ثم مع ذلك تزينت له، وتهيأت له، ثم غلقت الأبواب: وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ [يوسف:23]، فاجتمعت جميع عوامل الإغراء والإثارة والفتنة أمام نبي الله يوسف وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ لماذا؟ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]، فصرف الله عنه هذه الفتنة العظيمة، وصرف الله عنه السوء والفحشاء لماذا؟ بين الله السبب إِنَّهُ أي: لأنه مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ وفي قراءة سبعية: المخلِصين، جزاء لإخلاصه، جزاء لصدقه مع ربه، لصدقه في استقامته، في حفظه لربه، صرف الله عنه السوء والفحشاء، وهكذا من كان صادقًا مع الله، حفظ الله عليه دينه، وصرف عنه فتن الشبهات والشهوات، وإلا فالإنسان ضعيف، قد تعرض له الفتنة، ويقع فيها، ولكنه إذا كان صادقًا مع الله صرف الله عنه هذه الفتن، كما حصل مع نبي الله يوسف، الذي صرف الله عنه السوء والفحشاء جزاء لإخلاصه وصدقه مع ربه .

من أبرز أسباب ثبات القلوب

أيها الأخوة: وصلاح القلوب وثباتها، وعدم تقلبها، من أبرز أسبابه أن يبتعد الإنسان عن أصول الشرور، وعقبات الشيطان التي يتعرض بها لبني آدم، وأبرزها:

أولًا: الشرك والكفر، هذه أبرز العقبات، وإذا أوقع الشيطان الإنسان فيها استراح منه؛ لأن الكافر لا يقبل منه صرفًا ولا عدلًا وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا [الفرقان:23]، فإن عجز الشيطان عنه نقله للعقبة الثانية.

وهي: البدعة، والبدعة أحب للشيطان من الكبيرة؛ لأن صاحب البدعة يرى أنه على صواب، والغالب أنه لا يتوب، بينما صاحب الكبيرة يعرف أنه على خطأ، وهو قد يتوب الذي يعتقد أنه مخطئ ومقصر، وواقع في الذنب ترجى له التوبة، لكن المصيبة الذي زين له سوء عمله فرآه حسنًا كيف يتوب؟ فصاحب البدعة في الغالب أنه لا يتوب، بخلاف صاحب المعصية، فالبدعة أحب للشيطان من الكبيرة؛ لذلك قال عليه الصلاة والسلام: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد [12]، من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد [13].

فإن عجز عنه نقله للمعاصي: وابتدأ بالكبيرة، نقله لفعل الكبائر، والكبيرة من الذنوب: هي كل معصية ورد فيها حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة من لعنة أو غضب أو سخط أو نار أو نفي إيمان، فإن عجز نقله الشيطان إلى الصغائر، والصغائر إذا اجتمعت على الإنسان أهلكته.

فإن عجز الشيطان عن الإنسان أشغله بكثرة المباحات، حتى يتعلق قلبه بالدنيا، وإذا تعلق قلبه بالدنيا أعرض عن الآخرة؛ لأن من أحب الدنيا وتعلّق بها ضعف تعلقه بالآخرة، والدنيا والآخرة كما يقال: كالمرأتين الضرتين من أحب إحداهما أضر بالأخرى، الدنيا عندما تكون في يد الإنسان ليست محل ذم، كان بعض الصحابة من الأغنياء والأثرياء، وبعض الصالحين من الأغنياء والأثرياء، ولم تصدهم عن دينهم، لكن الدنيا كانت في أيديهم، وليست في قلوبهم، وإنما تصد الدنيا الإنسان عن طريق الطاعة عندما تكون في قلبه، وليست في يده، فعندما تكون الدنيا في قلب الإنسان هنا تُؤثر على أمور الطاعة، وتصده عن كثير من أمور الخير، فإن عجز عنه الشيطان نقله للمفضول عن الفاضل، يعني: إذا كان هناك عمل مفضول، وعمل فاضل، زين له المفضول، حتى يفعله، ولا يفعل الفاضل، هذه العقبات الست عقبات للشيطان على ابن آدم.

أيها الأخوة: ومع تقلب القلوب، وزيغ القلوب، يحتاج إلى أن نتعرف على أسباب ثبات القلوب:

  • فمن أعظم الأسباب، ما أشار إليه ربنا في الآية السابقة لقوله: وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ۝رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:7-8] الضراعة إلى الله تعالى بالدعاء والثبات، وألا يزيغ قلب الإنسان، هذا الدعاء من الأدعية العظيمة، إذًا ينبغي لك أن تكثر من هذا الدعاء تقول: ربي لا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب، يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك، اللهم احفظني بالإسلام قائمًا وقاعدًا، وعلى جنبي، فتدعو الله تعالى بهذه الأدعية، تدعو الله بالثبات. جاء في حديث شداد بن أوس  عند الترمذي وأحمد، وهو حديث صحيح: أن النبي كان يقول: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلبًا سليمًا، ولسانًا صادقًا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، إنك أنت علام الغيوب [14]، هذا دعاء عظيم ابتدأه النبي بسؤال الله الثبات اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، فمن أعظم أسباب الثبات الدعاء.
  • ومنها: الاستجابة لله وللرسول، كما أشرنا في مقدمة المحاضرة، إذا دعاك الله ورسوله لأمر فحذاري ثم حذاري أن تعرض عنه، فإن هذا الإعراض قد يكون سببًا لزيغ القلب وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:110].
  • ومنها: تقوية شجرة الإيمان في القلب، فإن الإيمان لا يكون على وتيرة واحدة، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وإذا تعاهد الإنسان شجرة الإيمان فإنها تنمو وتزيد، وإذا لم يتعاهدها فإنها تضعف، هكذا الإيمان أيها الإخوة؛ ولذلك يجد الإنسان أثر مثل هذه المجالس وهي مجالس الذكر أثرها على زيادة إيمانه، فهذه المجالس هي من أعظم أسباب زيادة الإيمان.
  • ومنها: تدبر القرآن تلاوة واستماعًا، كما قال ربنا سبحانه: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2] فدل هذا على أن من أسباب زيادة الإيمان: الاستماع للقرآن.
  • كذلك أيضًا من أسباب زيادة الإيمان: الإكثار من ذكر الله سبحانه؛ لأن الإنسان إذا أكثر من ذكر الله تعلق قلبه بالله، وضعف تعلق قلبه بالدنيا، جاء رجل إلى الحسن البصري وقال: يا أبا سعيد: إني أجد قسوة في قلبي فما العلاج؟ فقال له الحسن: “أذِب قسوة قلبك بكثرة ذكر الله [15]، إذا أكثرت من ذكر الله زالت القسوة وذهبت وذابت، وقوي الإيمان، وقوي التعلق بالله سبحانه وبالدار الآخرة، لكن عندما يكون الإنسان غافلًا لاهيًا منشغلًا بمشاغل الدنيا التي لا تنقضي يقسو قلبه، ويضعف إيمانه، ويؤدي العبادات، وكأنها عادات، لا يشعر بطعم ولذة العبادة، لا يشعر بحلاوة الإيمان؛ لأنه مشغول حتى وإن أتى بالعبادة، حتى وإن صلى، يصليها بدون خشوع، بدون حضور قلب، فمن أسباب زيادة الإيمان، وتحقيق الخشوع، وحضور القلب الإكثار من ذكر الله، كما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا۝وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب:41-42].
  • ومن أسباب ثبات القلوب: الصحبة الصالحة، والإنسان يتأثر بالصحبة، ويتأثر بمن يجالسه، وهذا أمر مشهود لا ينكره عاقل، وإذا تقدم رجل لخطبة امرأة تجد أن المرأة وأهلها يحكمون عليه من جلسائه، إذا كان يجالس أهل الخير والتقوى والصلاح زكوه، وكانت هذه المجالسة تزكية له، وإذا كان يجالس أهل الشر والفساد كانت تلك المجالسة تهمة له، فعلى الإنسان أن يختار الجلساء الذين يشعر معهم بزيادة الإيمان، يشعر معهم بأنه منتفع ومستفيد، كما قال عليه الصلاة والسلام: مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة حامل المسك أنت رابح منه بكل حال، إما أن تشتري منه، وإما أن يهدي لك، وإما على الأقل أن تجد منه ريحا طيبة ومثل جليس السوء كنافخ الكير الذي ينفخ في الكير في الحديد إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة [16] فأنت خاسر بمجالسته بكل حال، فعلى الإنسان أن يحرص على أن ينتقي من يجالسه، ويقال: إن الإنسان يتأثر بأكثر خمسة أشخاص يجالسهم في الحياة، أكثر خمسة أشخاص تجلس معهم تتأثر بهم شئت أم أبيت، فاختر الجلساء الذين تتأثر بهم في الخير، وينفعونك في أمور الدين والدنيا.
  • ومن أسباب ثبات القلوب: طلب العلم؛ لأن الإنسان بالعلم يتقي فتن الشبهات، وأيضًا يتقي فتن الشهوات؛ لأن الإنسان مهما كان عليه من القوة في العبادة لا يمكن أن يعبد الله كما يحب الله إلا عن طريق العلم؛ ولذلك العلماء هم الذين يخشون الله، وكلما كان الإنسان بالله أعلم كان أشد خشية لله، كما قال سبحانه: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] قال الشافعي رحمه الله: “إذا لم يكن العلماء أولياء لله فما لله ولي” [17]؛ يشير إلى أنه أولى بوصف الولاية من غيرهم، فالإنسان ينبغي أن يحرص على طلب العلم، وأن يسلك طريق العلم.
    والحمد لله في وقتنا الحاضر أصبح العلم الشرعي متيسرًا ومبذولًا، خاصة عندنا هنا في المملكة العربية السعودية، دروس العلم منتشرة ومتيسرة، وأيضًا مع وسائل التقنية في الوقت الحاضر أصبح بإمكان الإنسان أن يطلب العلم عبر هذه الوسائل، حتى وهو في بيته، بإمكانه الآن أن يتابع درس أي شيخ من المشايخ يريد متابعة دروسه وهو في البيت، عبر وسائل التقنية الحديثة، يستطيع أن يتابع درس أي عالم من العلماء، حتى يستطيع أن يستمع لهذا الدرس مرة ثانية وثالثة، فتبث مباشرة وتسجل، وأيضًا الكتب متيسرة وقريبة، فالعلم أصبح الآن مبذولًا، ومتيسرًا، ولكن المهم أن توجد الهمة لدى المسلم في طلب العلم، ومن كان عنده حرص وهمة على طلب العلم فهذه علامة على أنه أريد به الخير إن شاء الله، والدليل لهذا قول النبي : من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين [18] متفق عليه، تأملوا يا إخواني هذا الحديث: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين من علامة إرادة الله بالإنسان الخير أن يرزقه الفقه في دين الله سبحانه، فعلى الإنسان أن يحرص على التفقه في دينه، وأن يحرص على طلب العلم، إذا وجد حلقة علم يحرص عليها، ينتفع ويستفيد من خطب الجمعة، ومن الدروس، ومن حلق العلم، ومن المحاضرات، فهذه من أسباب الثبات على طريق الخير، وطريق الهداية والاستقامة.
  • وأيضًا من أسباب ثبات القلوب: الارتباط بالقرآن العظيم، فإن هذا القرآن هو كلام الله تعالى، جعله الله تعالى الآية لنبينا محمدًا ، فإن الله بحكمته لما أرسل الرسل إلى البشر، أعطى كل نبي آية وهي ما يسميها بعض المعاصرين معجزة، والأحسن أن نسميها آية؛ لأن هذا هو المصطلح الوارد في القرآن والسنة، أما معجزة قد تقع الخوارق حتى من غير الأنبياء، قد تقع الكرامات للصالحين، قد تقع أيضًا بعض الأمور على يد السحرة والمشعوذين، الأحسن نسميها آية، فجعل الله لكل نبي آية، حتى يعرف البشر بأنه مرسل من عند الله، فمثلًا آية موسى العصا، وآية عيسى يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيى الموتى بإذن الله، وآية صالح الناقة، وكل نبي له آية، طيب ما آية نبينا محمد ؟ الجواب هو القرآن العظيم: ما من نبي إلا أعطي من الآيات ما على مثله آمن البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي [19] يعني: القرآن، وهذا من حكمة الله سبحانه هو أحكم الحاكمين جعل آية محمد هو هذا القرآن؛ لأنه آخر الأنبياء، وخاتم الأنبياء، حتى تبقى هذه الآية تراها جميع الأجيال، تراها جميع الأمة.
    ثم إن الله سبحانه بحكمته تكفل بحفظه، قال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] هل تغير في القرآن حرف واحد منذ أن أنزله الله على محمد بن عبدالله إلى وقتنا هذا؟ لا والله، حرف واحد ما تغير، نقرأ القرآن غضًّا طريًّا كما كان يقرؤه نبينا محمد ، وكما كان يقرؤه أصحابه ، فهذا القرآن العظيم هو آية نبينا محمد ، وقد جعله الله مباركًا في كل شيء، في تلاوته، في حفظه، في العمل به، في التحاكم إليه، وفي الاستشفاء به.
    هذا القرآن ينبغي -أيها الإخوة- أن نجعل له نصيبًا من أوقاتنا، ومن حياتنا، ينبغي ألا يمر يوم على المسلم ولم يقرأ فيه شيئًا من كتاب الله ، لا يليق بالمسلم أن يمر عليه يوم ما قرأ فيه شيء من القرآن، ينبغي أن يكون لكل مسلم ورد أو حزب، كان السلف يسمونه حزبًا، ليس حزبًا بالمعنى الاصطلاحي عند أهل التجويد، ولكن المقصود به قدر معين يحافظ عليه، لا ينقص عنه، وقد يزيد عليه، وإذا قدر أنه عرض له عارض يقضيه، كما قال عليه الصلاة والسلام: من نام عن حزبه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب كأنما قرأه من الليل [20]، رواه مسلم، يعيش مع القرآن، يقرأ القرآن، يتدبر آياته.
    هذا القرآن العظيم فيه نبأ ما قبلنا، وخبر ما بعدنا، فيه حكم وأحكام، فيه ذكر للموت وللدار الآخرة، وما يكون فيها، فيه وصف للجنة، ووصف للنار، فيه أخبار للأمم السابقة، وأحوال الأنبياء مع أممهم، فيه قصص وعبر ومواعظ، يعيش الإنسان مع القرآن، ويتدبر هذا القرآن العظيم.
    هذا يا إخواني من أعظم أسباب الثبات، ولكن عندما نرى واقع بعض المسلمين، وربما لست مبالغًا إن قلت: واقع كثير من المسلمين نجد واقعًا مؤسفًا، بعض الناس ما يقرأ القرآن إلا في رمضان، وبعضهم يمر عليه الشهر والشهران، وما قرأ فيه شيئًا من كتاب الله ، هذا لا يليق بالمسلم، لا تجعل قراءة القرآن على الهامش، إن جاء معك وقت قرأت، إن أتيت للمسجد مبكرًا قرأت، وإلا ما قرأت، لا، اجعل هذا جزء أساسيًّا في حياتك، كل يوم لا تنام إلا وقد قرأت هذا الورد أو الحزب، اجعل هذا شيئًا أساسيًّا في حياتك، أليس عندك في الحياة أساسيات، أمور لا بد أن تفعلها كل يوم؟ اجعل هذا من الأساسيات، كما أنك تحافظ على الصلوات الخمس، أيضًا اجعل هذا الورد من القرآن تحافظ عليه كل يوم، هذا فيه الخير، وفيه البركة، وفيه الأجر العظيم أيضًا، من قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنة، يقول عليه الصلاة والسلام: من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف [21]، أخرجه الترمذي بسند صحيح، حسبه بعض أهل العلم، مع أن الحسبة في هذا الباب يعني غير محبذة، لكن في هذه المسألة بخصوصها ورد الحساب فيها في هذا الحديث، فأخذ بعض أهل العلم من هذا الحديث: من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها ضرب عشرة في عدد حروف القرآن، تدرون كم النتيجة؟ أكثر من ثلاثة ملايين حسنة، إذا ختمت القرآن، فضل عظيم، وهناك أناس موفقون، أعرف أناس أحياء يختمون القرآن كل ثلاثة أيام، كل ثلاثة أيام، وفي المواسم الفاضلة، مثل: رمضان يختمون القرآن كل يوم، بل بعضهم يختمه في اليوم مرتين، وهؤلاء هم الذين ينبغي ألا يغبط إلا هم، وكذا الموفقون لإنفاق المال في سبل الخير، كما قال عليه الصلاة والسلام: لا حسد يعني: لا غبطة إلا في اثنتين: رجل أتاه الله القرآن وهو يقوم به يعني: يقرؤه ويتلوه آناء الليل يعني: ساعات الليل وآناء النهار يعني: ساعات النهار، هذا الذي ينبغي أن يغبط ورجل آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته يعني: إنفاقه في الحق [22]، يعني: في سبل الخير، فهذان الاثنان من أفضل الناس، وهما اللذان ينبغي أن يغبطا، ولا يغبط إلا هما، لا حسد يعني: لا غبطة إلا لهذين الرجلين، المال بعض الناس يقول: ما عندي أموال أتصدق بها، وأنفق منها في سبل الخير، تلاوة القرآن مستطاعه، أي واحد منا يستطيع أن يحقق الوصف الآخر في هذا الحديث، فاحرص يا أخي على ارتباطك بالقرآن،
  • أيضًا الاستماع للقرآن هذا جانب يغفل عنه بعض الناس، الاستماع، وليس السماع، الاستماع؛ لأن الذي يُؤجر عليه الإنسان، ويثاب عليه هو الاستماع، ما الفرق بين السماع والاستماع؟
    السماع: أنك تسمع القرآن، لكن لا تقصد الإنصات، ولا الاستماع.
    أما الاستماع: فتنصت، وتقصد الاستماع.
    ولذلك الفقهاء يقولون: يشرع سجود التلاوة للمستمع دون السامع، المستمع هو: المنصت، قاصد الاستماع، هذا إذا سجد القارئ يسجد المستمع معه دون السامع، السامع لا يسجد؛ لأنه ما قصد الإنصات.
    استماع للقرآن من أسباب زيادة الإيمان: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2] اجعل مثلًا معك في السيارة شريطًا مثلًا تستمع فيه آيات الله، تستمع لها بإنصات، وتدبر، أو مثلًا: تستمع إذاعة القرآن مثلًا، أو تستمع قارئًا يقرأ، لكن تستمع وتنصت وتتدبر، هذا من أسباب زيادة الإيمان، ويُؤجر عليه الإنسان، فينبغي لنا جميعًا -أيها الأخوة- أن نجعل لهذا القرآن العظيم نصيبًا من أوقاتنا ومن حياتنا.
  • أيضًا من الأسباب -ولعلي أختم بها-: سبب عظيم إذا حافظ عليه الإنسان فإنه بإذن الله تعالى يوقى من الفتن، ويأمن من النفاق، ويزيد إيمانه، وهو دأب الصالحين، هو قيام الليل: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ۝نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ۝أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [المزمل:2-4]، إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:6] ناشئة الليل: هي قيام الليل بعد النوم، الصلاة بعد القيام من نوم الليل هذه هي ناشئة الليل، هي أشد وطئًا: يعني مواطأة، واتفاق من القلب واللسان، وأقوم قيلًا: أي: أصوب قراءة، وأكثر تدبرًا للقرآن، اجعل لك نصيبًا من قيام الليل، وانظر لأثره على حياتك تجد العجب، تجد أن له أثرًا في ثباتك، وفي صلاحك، وفي استقامتك، وأيضًا تجد حلاوة الإيمان، الإنسان في النهار قد يكون مشغولًا إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا [المزمل:7] مشغول بكسب لقمة العيش، مشغول بأمور أخرى، لكن عندما يقوم من الليل، يخلو بربه، يناجي ربه، هنا يجد لذة المناجاة، وحلاوة الإيمان، وهذا أيضًا أمان من النفاق؛ لأنه كما قال السلف: “ما قام الليل منافق” [23].
    المنافق ما يمكن أن يقوم الليل أبدًا؛ لأن المنافق يرائي الناس يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:142] من يقوم الليل لا أحد يراه، وهذه شهادة له بأنه بعيد عن النفاق، وأمان من النفاق، وأيضًا قيام الليل في الثلث الأخير خاصة الذي هو وقت النزول الإلهي، إذا كان قيام الليل في الثلث الليل فإنه يوافق وقت النزول الإلهي، يقول النبي : ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ وذلك كل ليلة [24]، رواه مسلم، كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر نادى الرب عباده بهذا النداء، هل من داعٍ؟ هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ فإذا وافق ذلك وأنت ساجد في الثلث الأخير من الليل أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد [25]؛ حينما تضع أشرف أعضائك جبهتك وأنفك على الأرض تكون قريبًا جدًّا من الرب ، فكيف إذا وافق ذلك في الثلث الأخير من الليل؟ الدعاء حري بالإجابة.
    فهذا يا إخواني هو زاد المتقين، ودأب الصالحين، احرص أنك قبل الفجر تقوم قبل الفجر وتصلي ما كتب الله لك، ثم توتر، ثم تأتي لصلاة الفجر منشرحًا طيب النفس، يقول عليه الصلاة والسلام: إذا نام الإنسان عقد عليه الشيطان ثلاث عقد: عليك ليل طويل فارقد، فإن هو قام فذكر الله انحلت عقدة، وإن قام وتوضأ انحلت عقدة، وإن صلى ركعتين انحلت عقدة، فقام نشيطًا طيب النفس، وإلا قام خبيث النفس كسلان [26]، متفق عليه، يعقد الشيطان هذا العقد اختلف فيه العلماء هل عقد حسي أو عقد معنوي؟ لكن هذه العقد سواء قلنا: هو عقد حسي أو معنوي تزول بهذه الأمور الثلاثة التي ذكرها النبي ، فقام فذكر الله انحلت العقدة الأولى، توضأ انحلت العقدة الثانية، من صلى انحلت العقدة الثالثة، فقام نشيطًا، طيب النفس، وإلا قام خبيث النفس كسلان.
    فليجعل المسلم أيضًا لنفسه حظًا من هذا، بعد المحافظة على الفرائض، فيحافظ أولًا: على الفرائض محافظة شديدة، ويحرص على النوافل، وأن يكون له نصيب من النوافل يداوم عليها، يحافظ عليها، كما قال عليه الصلاة والسلام:
    أحب العمل إلى الله أدومه وإن قلَّ [27]، القليل مع القليل مع مرور الوقت يكون كثيرًا، لكن المهم المحافظة والمداومة، لو افترضنا مثلًا أنك قررت قلت: الآن سأصلي صلاة الضحى كل يوم، كل يوم سأصلي صلاة الضحى ركعتين، خلال سنة واحدة، تكون كم صليت من ركعة؟ تكون قد صليت أكثر من سبعمائة ركعة، سبعمائة ركعة تكون كثير، لكن لو حافظت على ركعتي الضحى تكون في السنة صليت أكثر من سبعمائة ركعة، وهكذا بالنسبة للأعمال الصالحة، ثم كما ترون الآن يا إخوان سرعة مرور الوقت، إذا كان عندك أعمال صالحة تحافظ عليها، فإنك تسر وتفرح، بحيث تكون مع سرعة مرور الوقت مضى هذا العام؛ لكني -ولله الحمد- محافظ على أعمال كذا وكذا، هذا مما يدخل عليك الأُنس والفرح، بخلاف الإنسان الذي ليس له أعمال صالحة يحافظ عليها.
    ثم هناك فائدة أخرى للمداومة على الأعمال الصالحة، وهي: أن الإنسان إذا عرض له عارض من مرض أو سفر كتب الله له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا [28]، كما أخبر بذلك النبي ؛ مثال ذلك: كنت مثلًا من عادتك أن تقوم الليل، لكن في تلك الليلة مرضت أو سافرت أو انشغلت مثلًا بمريض، أو نحو ذلك، ولم تقم تلك الليلة يكتب لك كأنك قمت الليلة، أجرك تام، بينما الذي لا يحافظ على العمل الصالح يعني مثلًا من عادته يقوم الليل، ما يكتب له هذا؛ لهذا ينبغي أن يحرص المسلم على أن يكون له نوافل يداوم عليها بعد المحافظة على الفرائض.

ويا إخواني حياة الإنسان فرصة واحدة غير قابلة للتعويض، فرصة واحدة، هو الآن يعيش في اختبار في هذه الدنيا، فإن نجح الإنسان في هذا الاختبار العظيم سعد السعادة الأبدية، وإن فشل خسر الخسارة العظيمة، اختبارات، أمور الدنيا قد يخفق الإنسان فيها ويعوض، الطالب قد يرسب في المدرسة ويعوض، التاجر قد يخسر صفقة تجارية يعوض، قد يخسر الإنسان مثلًا في أمر من الأمور يعوض، أمور الدنيا كلها قابلة للتعويض، لكن حياتك أيها الإنسان فرصة واحدة، غير قابلة للتعويض، إن نجحت في هذا الاختبار العظيم الذي نحن فيه الآن فقد فزت الفوز العظيم، وإن فشلت فيه فقد خسرت الخسارة العظيمة، إن نجحت فزت الفوز العظيم مهما حصل لك من تعثرات في الحياة، حتى وإن كنت فقيرًا، حتى وإن كنت فاشلًا في أمور دنياك، لكن إذا نجحت في علاقتك مع ربك، فالنجاح العظيم والفوز العظيم، بينما إذا فشل الإنسان في علاقته مع ربه سبحانه مهما حصل له من نجاحات في الدنيا، ومن ثراء، ومن أموال، ومن.. قُل ما شئت، يبقى في النهاية أنه فاشل، فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۝وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم [المؤمنون:102-103] خسروا كل شيء حتى أنفسهم.

أسأل الله تعالى أن يستعملنا جميعًا في طاعته، وأن يثبتنا على دينه، يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، ويا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك.

اللهم ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب.

اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، ونسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، ونسألك قلوبًا سليمة، وألسنة صادقة، ونسألك من خير ما تعلم، ونعوذ بك من شر ما تعلم.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا.

اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.

اللهم اهد قلوبنا، اللهم أصلح قلوبنا، اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا، نسألك اللهم قلوبًا سليمة صالحة مخبتة إليك.

اللهم إنا نسألك قلوبًا سليمة، اللهم إنا نسألك قلوبًا مخبتة إليك، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

نسألك اللهم من الخير كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك اللهم من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
1 رواه مسلم: 2699.
2 تفسير الماوردي: 5/ 510.
3 زاد المسير في علم التفسير: 2/ 200.
4 جامع البيان: 13/ 471-472.
5, 6 رواه مسلم: 2654.
7 رواه أحمد: 26133.
8 رواه أحمد: 23816، والحاكم في المستدرك: 3142.
9 رواه مسلم: 144.
10 بنحوه رواه أحمد: 10724.
11 رواه الترمذي: 2516.
12 رواه البخاري: 2697، ومسلم: 1718.
13 رواه مسلم: 1718.
14 رواه أحمد: 17114.
15 بنحوه في ذم الهوى: ص 69.
16 رواه البخاري: 2101، ومسلم: 2628.
17 بنحوه في الإعلام بحرمة أهل العلم والإسلام: ص 175، والفقيه والمتفقه: 1/ 36.
18 رواه البخاري: 71، ومسلم: 1037.
19 رواه البخاري: 7274.
20 رواه مسلم: 747.
21 رواه الترمذي: 2910.
22 رواه البخاري: 1409، ومسلم: 816.
23 سير أعلام النبلاء: 9/ 330، والحلية: 2/ 338.
24 بنحوه رواه مسلم: 757.
25 رواه مسلم: 482.
26 رواه البخاري: 1142، ومسلم: 776.
27 رواه مسلم: 782.
28 رواه البخاري: 2996.

مواد ذات صلة