الرئيسية/محاضرات/موقف الفرد المسلم من الفتن
|categories

موقف الفرد المسلم من الفتن

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

حديث حذيفة في التحذير من الفتن

قد جاء في “الصحيحين” عن حذيفة بن اليمان ، أنه سأل رسول الله ، يقول حذيفة: كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهليةٍ وشرٍّ فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شرٍّ؟ قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خيرٍ؟ قال: نعم، وفيه دَخَنٌ، قلت: وما دخنه؟ قال: قومٌ يستنُّون بغير سُنَّتي، ويهتدون بغير هديي، تَعرف منهم وتُنكر، قلت: يا رسول الله، فهل بعد ذلك الخير من شرٍّ؟ قال: نعم، دعاةٌ على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله، صفهم لنا؟ قال: هم من بني جِلْدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزمُ جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعةٌ ولا إمامٌ، قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تَعَضَّ بأصل شجرةٍ حتى يدركك الموت وأنت على ذلك [1].

هذا الحديث العظيم -أيها الإخوة- يرسم للمسلم المنهج الصحيح لموقفه من الفتن، حذيفة بن اليمان  تخصص في أحاديث الفتن، ولهذا يقول: “كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ مخافة أن يدركني”.

ومخافة الشر مهمة للمسلم؛ لكيلا يقع فيه، فينبغي للمسلم أن يعرف الطرق التي توصل للشر فيجتنبها، كما أنه مطلوبٌ منه أن يعرف الطرق التي توصل للخير فيعملها، ولكن عندما يقتصر المسلم على معرفة الطرق التي توصل للخير، ويجهل الطرق التي قد توصله للشر، فقد يقع في الشر وهو لا يشعر، ثم يقع في الفتنه وهو لا يشعر، ولهذا قال عمر : “إنما تُنقض عُرى الإسلام عروةً عروةً إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية”.

فلا بد -أيها الإخوة- أن نكون حذرين، وأن نحذر الشر وأهله، وأن نحذر هؤلاء الدعاة الذين ذكرهم النبي : دعاةٌ على أبواب جهنم، من أجابهم قذفوه فيها، وهم من بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا [2]، ومن هنا تظهر أهمية هذا الموضوع، وأهمية معرفة المسلم لأسباب الوقوع في الفتن، ومعرفة المسلم لأسباب تجنب الوقوع في الفتن.

في هذا الحديث العظيم لما سأل حذيفة النبي قال: “يا رسول الله إنا كنا في جاهليةٍ وشرٍّ”، كانوا في الجاهلية يعبدون الأصنام، وكانوا متفرقين لا قيمة لهم، ولهذا؛ لما أتى كتاب النبي إلى هرقل ملك الروم، وكان رجلًا عاقلًا، قال: “ائتوني بمن كان هنا من العرب”، فوافق أن كان موجودًا أبو سفيان، فسأل هرقلُ ملك الروم أبا سفيان عشرة أسئلةٍ، وقال أبو سفيان: “لولا أن يَأثُروا عني كذبًا لكذبت”، لكنه التزم الصدق خشية أن تتشوه سمعته بالكذب”، فقال هرقل بعد ذلك لأبي سفيان: “لإن كان ما تقول حقًّا ليملكن محمدٌ موضع قدميَّ هاتين، ولوددت أني أذهب فأقبِّل قدميه، وقد كنت أسمع أنه سيظهر نبيٌّ، وما كنت أظن أنه سيخرج منكم”؛ لأنهم كانوا يحتقرون العرب، كانت أمةً ذليلةً، ليس لها قيمةٌ عند الأمم، هرقل عرف الحق، لكنه لم يؤمن، منعه من ذلك تمسكه بملكه؛ لأنه لو تبع النبي لمَا استمر في ملكه، وقال أبو سفيان: “إن محمدًا ليعظمه ملك بني الأصفر”، وبعد ذلك أصبح ميل أبو سفيان للإسلام حتى أسلم .

الشاهد: أن العرب لم يكن لهم قدرٌ ولا قيمةٌ قبل الإسلام، فأكرمهم الله بهذا الدين العظيم: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف:44]، ولهذا قال: “كنا في جاهليةٍ وشرٍّ، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شرٍّ؟”.

والخير الذي كانوا فيه هو تمسكهم بهذا الدين، ولهذا شهد لهم النبي بأنهم خير القرون، وخير الأمة: خيركم قَرْنِي، ثم الذين يَلونهم، ثم الذين يَلونهم [3]، فأخبر النبي بأنه نَعَم سيكون بعد هذا الخير شرٌّ، وقد وقعت فتنٌ وأمورٌ عظيمةٌ.

قال: قلت: وهل بعد هذا الشر من خيرٍ؟ قال: نعم، وفيه دَخَنٌ قلت: وما دخَنُهُ؟ قال: قومٌ يستنُّون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي، تَعرف منهم وتُنكر أي: عندهم حقٌّ وباطلٌ، قال: فهل بعد ذلك الخير من شرٍّ؟ قال: نعم؛ دعاةٌ على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها.

ولهذا؛ ينبغي أن نحذر من هؤلاء الدعاة الذين على أبواب جهنم، والذين يُزينون للإنسان بزخرف القول حتى يوقعوه في الشر، ويوقعوه في الفتنة، وحتى يكون الإنسان عدوًّا لأهله، وللمجتمع ولأمته.

نعم، إن الإنسان إذا وقع في الفتنة، واستجاب لهؤلاء الدعاة الذين هم على أبواب جهنم، يصبح عدوًّا لأقرب الناس إليه، ورأيتم ورأينا من نَحَر أمه يتقرب بذلك إلى الله، ومن يُفَجِّر في المسجد يتقرب بذلك إلى الله تعالى، أليس هؤلاء ممن أجاب هؤلاء الدعاة الذين على أبواب جهنم؟ هل هذا من الإسلام في شيءٍ؟

الإسلام الذي هو دين الرحمة: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].

قال حذيفة: “فما تأمرني -يا رسول الله- إن أدركني ذلك؟” انظر وصية النبي له، قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، كن مع الجماعة، كن مع إمام المسلمين، لا تشِذ عنهم بفكرٍ ولا برأيٍ ولا تصرفاتٍ، الْزم سبيل الجماعة.

قال: “فإن لم يكن لهم جماعةٌ ولا إمامٌ؟” يعني: كانت الأمور مختلطةً، قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تَعَضَّ بأصل شجرةٍ حتى يدركك الموت وأنت على ذلك.

ضعف الإنسان أمام الفتن

أيها الإخوة، نحن الآن نعيش في هذا العالم الذي انفتح بعضه على بعضٍ، فأصبح -كما يقال- كالقرية الصغيرة، وانفتح على الناس أبوابٌ عظيمةٌ من الفتن؛ فتن شبهاتٍ وفتن شهواتٍ، وأصبحت هذه الفتن تدخل على الإنسان في بيته، تأتيه من كل مكانٍ فتدخل عليه في بيته عبر وسائل التقنية الحديثة، وقد قال النبي : وإن أمتكم هذه جُعلت عافيتها في أولها، وإن آخرهم يصيبهم بلاءٌ وأمور تنكرونها، ثم تجئ فتنٌ يُرَقِّق بعضها بعضًا، يقول المؤمن هذه مُهلكتي ثم تنكشف، ثم تجئ فتنةٌ فيقول المؤمن: هذه مُهلكتي ثم تنكشف [4].

والإنسان -أيها الأخوة- ضعيفٌ، مهما كان عليه من الثقافة، مهما كان عليه من العلم، مهما كان عليه من التربية، مهما كان عليه من العقل، وقل ما شئت من هذه الأوصاف، إلا أنه يبقى بشرًا، ويبقى إنسانًا، ويبقى ضعيفًا: وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:28]، يعتريه ما يعتري البشر من الضعف، والله تعالى يقول: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24]، وقد كان من أكثر دعاء النبي : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك [5]، يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك [6]، وقال: إن قلوب العباد بين إِصْبِعَين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء [7].

وقد أثنى الله على أولي الألباب الذين يدعونه فيقولون: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8].

الإنسان يبقى ضعيفًا وبشرًا، والقلوب ضعيفةٌ، والشُّبه خطَّافةٌ، كم من إنسانٍ رأيناه صالحًا مستقيمًا، ثم إذا به فجأةً انحرف ووقع في الفتنة؛ إما فتنة شبهةٍ أو فتنة شهوةٍ، فانحرف عن الجادة وعن الصراط المستقيم، وما أكثر المتساقطين عن الصراط المستقيم!

أيها الإخوة، وأبرز الفتن نوعان: فتن شبهاتٍ، وفتن شهواتٍ، وهناك أنواعٌ أخرى من الفتن، لكن أبرزها هذان النوعان.

أما فتن الشبهات فهي فتنٌ عظيمةٌ؛ لأنها قد تُوقع الإنسان في الكفر والعياذ بالله، وقد توقع الإنسان في البدعة من حيث لا يشعر، فتن الشبهات، تقع الشبهة للإنسان فيستحسنها، ثم تملك قلبه حتى يقع في هذه الفتن، وينحرف عن الصراط المستقيم.

أبرز أسباب الفتن

وهذه الفتن لها أسبابٌ، من أبرز أسباب هذه الفتن: ما ذكره النبي في قوله: ستكون فتنٌ القاعد فيها خيرٌ من القائم، والقائم فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي، من تَشَرَّف لها تستشرفه، ومن وجد منها ملجأً أو معاذًا فليَعذ به [8]، متفقٌ عليه.

الاستشراف للفتنة

والشاهد من هذا الحديث: قوله: من تَشَرَّف لها تستشرفه، ما معنى: من تشرف لها تستشرفه؟

نرجع لكلام شراح الحديث، ومن أبرزهم النووي رحمه الله، يقول في معنى هذه الجملة: تَشَرَّف من الإشراف للشيء، وهو الانتصاب، والتطلع إليه، والتعرض له، ومعنى: تستشرفه تَقْلِبه وتصرعه، أي أن من تطلع لهذه الفتن يقع فيها وتصرعه هذه الفتن.

فإذنْ من أبرز أسباب الوقوع في الفتن: الاستشراف لها.

عندما تقع فتنةٌ يبدأ الإنسان يتطلع لها، ويَستشرف لها، ويتحدث فيها، ويهتم بها، وتكون هي شغله الشاغل، حتى يقع في هذه الفتنة من حيث لا يشعر، ويُصدر فيها آراءً وأحكامًا، وينظر فيها فيقع في هذه الفتنة.

والمطلوب من المسلم أن ينأى بنفسه عن الفتن، وألا يتطلع لها ويستشرف لها.

ولهذا؛ لما ذكر النبي فتنة الدجال التي هي أعظم فتنةٍ منذ خلق الله آدم إلى قيام الساعة، قال: من سمع بالدجال فلْيَنْأَ عنه [9]، أخرجه مسلمٌ في “صحيحه”.

ما معنى فلينأ عنه؟ يعني: فليبتعد عنه، لا يقل: عندي قوة إيمانٍ، وعندي علمٌ، وعندي فهمٌ، وسأذهب وأرى المسيح الدجال.

تبقى ضعيفًا فابتعد عنه، وهكذا أيضًا سائر الفتن ابتعد عنها، لا تستشرف لها، لا تتطلع إليها، وارجع إلى رأي أولي الأمر وأهل العلم؛ فإن عندهم من الفهم للشريعة، وعندهم من الأصول والقواعد ما يعصمهم من الوقوع في هذه الفتن، وما يجعلهم يرشدونك إلى الموقف الصحيح في التعامل معها، أما أن الإنسان يَسْتَشْرِف ويتطلع لهذه الفتن، ويبدأ يتقبلها شيئًا فشيئًا، وتصبح هي شغله الشاغل، يقع في هذه الفتن.

اتباع الهوى

ومن أسباب الوقوع في فتن الشبهات: اتباع الهوى، أرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ [الفرقان:43]، اتباع الهوى قد يصل بالإنسان إلى درجة أن يجعل إلهه هواه، يجعل إلهه ومعبوده هواه، كلما هوت نفسه شيئًا طاوعها عليه فلا يكون صادقًا مع الله ​​​​​​​، وإنما يتبع الهوى، ويتبع شهواته وحظوظه، يؤتى له بالنصوص من الكتاب والسنة، ويؤتى له بكلام الراسخين من أهل العلم فلا يقبل؛ لأنه صاحب هوًى، ولهذا قال الحافظ ابن رجبٍ رحمه الله: “جميع المعاصي تنشأ من تقديم هوى النفس على محبة الله ورسوله، وأهل البدع يسميهم السلف بأهل الأهواء”.

ضعف التقوى

ومن الأسباب أيضًا: ضعف التقوى؛ فإن التقوى تعصم صاحبها -بإذن الله ​​​​​​​– من الوقوع في الفتن؛ فتن الشبهات وفتن الشهوات، والدليل لهذا: قول النبي : احفظ الله يحفظك [10].

ما معنى: احفظ الله يحفظك؟ أي: احفظ الله تعالى بتقواه، واتباع أوامره واجتاب نواهيه، يحفظك.

هل المعنى: يحفظك في أمور دينك، أو في أمور دنياك؟

الجواب: في أمور دينك وفي أمور دنياك، لكن حفظ الدين أشرف من حفظ الدنيا، فإذا صدق الإنسان مع ربه فإن الله يحفظ عليه دينه، ويعصمه من الوقوع في فتن الشبهات، وفي فتن الشهوات، ومن الفتن عمومًا، ولذلك؛ تجد أن من يقع في الفتنة عنده ضعفٌ في تدينه، لو كان صادقًا في تدينه، وكان قويًّا في إيمانه لعصمه الله ولحفظ الله عليه دينه: احفظ الله يحفظك.

انظر لهؤلاء الذين وقعوا في الفتن تجد أن عندهم خللًا في التدين، لا تجد إنسانًا صادقًا في تدينه يقع في الفتنة؛ لأنه لو كان صادقا لحفظ الله عليه دينه، ولعصمه من الوقوع في الفتنة.

هذا يوسف نبي الله عرضت له فتنة من أعظم الفتن، شابٌّ أعزب وغريبٌ، والغريب لا يتحرج مما يتحرج منه غير الغريب، وأتت سيدته وغلقت عليه الأبواب، وكانت من أجمل النساء، وتزينت فوق ذلك: وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ [يوسف:23]، فاجتمعت له جميع أسباب الإغراء والفتنة، لكن الله عصمه منها، لماذا؟ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]، أي: لأنه {من عبادنا المخلَصين}، فصرف الله عنه السوء والفحشاء، فإذا كان الإنسان مخلِصًا لربه صادقًا مع الله، متقيًا لربه، فإن الله يعصمه من الوقوع في الفتن.

فتنة التكفير

أيها الإخوة، ومن أبرز أنواع فتن الشبهات: فتنة التكفير، وما يتبعها من التفجير والترويع وقتل الأنفس، ونحو ذلك.

وهذه فتنةٌ قديمةٌ وقعت من زمن صدر الإسلام، وأول ما وقعت هذه الفتنة بعد مقتل عثمان ، وكانت شرارتها التحريض على الخليفة، التحريض على عثمان ، قام عبدالله بن سبأٍ ومن معه يحرضون العامة على عثمان، وأنه فعل كذا وفعل كذا، حتى ملأوا قلوب هؤلاء على الخليفة، ثم أتوا وأحاطوا بدار الخلافة حتى قتلوا عثمان باسم الدين، وكان هناك كبار علماء الصحابة، كانوا موجودين، لكن لم يسمعوا منهم. انظر إلى الفتنة! نسأل الله العافية، كبار علماء الصحابة كانوا موجودين، لكن لم يسمعوا منهم، واتهموهم بالمداهنة مع الخليفة عثمان .

ثم بعد ذلك في عهد عليٍّ استمرت هذه الفتنة، والذي قتل عليًّا كان يقول: “هذا أرجى عملٍ أتقرب به إلى الله”، نسأل الله السلامة والعافية، الذي قتل عليًّا ليس رجلًا من الفساق، بل هو رجلٌ من العبَّاد، يقولون في ترجمته كان يُرى في جبهته أثر السجود من كثرة الصلاة، ومع ذلك يقول: “هذا أرجى عمل أتقرب به إلى الله”، يقتل أمير المؤمنين، وأول من أسلم من الصبيان، وأحد الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، ومع ذلك يقول: “هذا أرجى عملٍ أتقرب به إلى الله”، نسأل الله السلامة والعافية، انظر كيف تفعل الفتنة بصاحبها؟! كيف وقع هذا الرجل في الفتنة؟! يتقرب إلى الله بقتل هذا الصحابي الجليل! فتنةٌ عظيمةٌ.

ثم استمرت هذه الفتنة على مر العصور، لكنها تارةً تخبو، وتارةً تنهض.

وفي وقتنا الحاضر -كما ترون الآن- هذه الفتنة قامت وظهرت، وأصبح القائمون عليها يتخطفون أبناء المسلمين، ويجعلونهم أداة للإضرار بالإسلام والمسلمين، وتشويه سمعة المسلمين، جعلوهم أداةً للنيل من الإسلام وأهله، فلبسوا عليهم حتى أوقعوهم في هذه الفتنة، فتنة التكفير، ثم لما اعتقدوا أن هؤلاء كفارٌ بدأوا يقاتلونهم، ويفجرون ويقتلون على أنهم كفارٌ، فرأيتم من يأتي ويقتل أمه بدعوى أن هذا جهادٌ في سبيل الله! ينحر أمه على أنه يتقرب بهذا إلى الله! والذي يقتل ابن عمه يتقرب بذلك إلى الله، والذي يأتي المسجد الذي فيه الركع السجود ويُفجِّر فيه، ويقتل نفسه ويقتل المسلمين معه، يتقرب بهذا إلى الله، نسأل الله السلامة والعافية، هذا من أعظم ما يكون من الفتنة.

تحصين الشباب من فتنة التكفير

ولهذا؛ ينبغي أن نسعى لتحصين شبابنا من هذا البلاء، ومن هذه الفتنة العظيمة، ففتنة التكفير هي من أبرز أنواع فتن الشبهات، ينبغي للأب أن يستحضر مسؤوليته مع أولاده، وأن يبين لهم خطر هذه الفتن، وخطر اتباع الجماعات الضالة المنحرفة عن منهج أهل السنة والجماعة وسلف هذه الأمة، ينبغي أن يربي الأب أولاده على تقوى الله ، وعلى الرجوع لأهل العلم الراسخين المعروفين، ومحبة ولاة الأمر، ومحبة مجتمعهم، وأن يبتعدوا عن هذه المصائب، وهذه البلايا.

وينبغي كذلك للأب مع أولاده أن يسأل الله لهم الهداية والتوفيق، فإن الهداية -أيها الإخوة- على قسمين:

أولها: هداية دلالةٍ وإرشادٍ، هذه يملكها الأنبياء وأتباع الأنبياء، ويملكها الأب مع أولاده، وهي مجرد دلالةٍ وإرشادٍ للخير، وهي مذكورة في قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الشورى:52].

القسم الثاني: هداية إلهامٍ وتوفيقٍ، هذه لا يملكها ملكٌ مقربٌ، ولا نبيٌّ مرسلٌ، لا يملكها إلا الله وحده.

وقد بذل نبينا محمدٌ جهودًا عظيمةً مع عمه أبي طالبٍ كي يُسلم إلى آخر لحظةٍ من حياته، قال: يا عم، قل كلمةً أُحاجُّ لك بها عند الله [11]، لكن الله لم يُرد هدايته، ومات على الكفر.

فالمطلوب من الأب أن يبذل أسباب هداية الدلالة والإرشاد لأولاده، ويسأل الله تعالى لهم هداية الإلهام والتوفيق، وأن يثبتهم الله ويجنبهم مضلات الفتن.

وبعض الناس يغفل عن هذا المعنى، تجد أنه يبذل أسباب هداية الدلالة والإرشاد، لكنه يغفل عن الدعاء، عن سؤال الله لهم هداية الإلهام والتوفيق، ولهذا يقول: أنا عجزت عن أولادي، وهو صادقٌ أنه عجز عنهم، بذل لهم أسباب الهداية والإرشاد، لكنه غفل عن دعاء الله لهم، وسؤال الله لهم هداية التوفيق والإلهام.

سبل الوقاية من الفتن

أيها الإخوة، ينبغي للمسلم لكي يتجنب هذه الفتن أمورٌ:

الضراعة إلى الله تعالى

الأمر الأول: الضراعة إلى الله تعالى في أن يجنبه الفتن، يدعو الله تعالى في أن يجنبه مضلات الفتن، احرص كل يومٍ على أن تسأل الله أن يجنبك مضلات الفتن، وأن تدعو بدعاء أولي الألباب: رب لا تُزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمةً إنك أنت الوهاب، يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك.

فينبغي الإكثار من هذه الأدعية، وأن الله يثبت قلب المؤمن المسلم الثابت، ولا يُزيغ قلبه.

التأني والرفق والحلم

أيضًا من أسباب اجتناب الفتن: التأني والرفق والحلم، وعدم الاستشراف للفتن، إذا وقعت فتنةٌ لا يستشرف الإنسان لها ولا يتطلع لها، بل يتأنى ويرجع للراسخين من أهل العلم ويَصدر عن رأيهم، وهو لن يُسأل في قبره لماذا لم تتكلم في هذا الموضوع.

بعض الناس أي حدثٍ يقع يبدي رأيه ويتكلم فيه ويخوض فيه، ليس مطلوبًا منك أن تتكلم في أي شيءٍ، فبعض الأمور تتطلب منك الصمت، وأن ترجع لرأي أهل العلم والراسخين في العلم لكي يبينوا لك الموقف الصحيح من هذه الأحداث.

أيضًا مما يعين على العصمة من الفتن: التثبت، وعدم العجلة، والأناة، والأناة هي من الأخلاق العظيمة التي يحبها الله تعالى، يقول النبي لأشج بن عبد القيس: إن فيك خَصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة [12].
الحلم هو سيد الأخلاق كما يقال، والأناة يعني: عدم العجلة، الثبت والتأني وعدم الاستعجال، وتقليب الأمر على جميع وجوهه؛ كما قال الله تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، فكثيرٌ ممن يقع في الفتنة من أسباب ذلك الاستعجال، عندهم عجلةٌ وعدم تأنٍّ.

الأخذ باليقين

أيضًا مما يعين على العصمة من الوقوع في الفتن: الأخذ باليقين، فيترك الأمر غير المتيقَّن؛ كي لا يقع في الفتنة، فإذا كان هذا الأمر يَحتمل أن يكون صحيحًا أو غير صحيحٍ، اتركه وخذ بالأمر المتيقن، خذ بالشيء الذي سوف تُسأل عنه في قبرك، والذي سوف يسألك الله عنه يوم القيامة؛ فبعض الأمور لو تركتها لن يسألك الله عنها، فاترك هذه الأمور المشكوك فيها، وخذ بالأمر المتيقن، وكن مع جماعة المسلمين وإمامهم، ولهذا يقول -كما في حديث حذيفة السابق- لما سأله حذيفة رضي الله عنه قال: “يا رسول الله، فإن لم يكن لهم جماعةٌ ولا إمامٌ؟” يعني أنهم في حالٍ لا يوجد فيها يقينٌ، والأمور فيها مضطربةٌ، قال : فاعتزل تلك الفرق كلها، يعني خذ باليقين وهو اعتزال تلك الفرق كلها.

فإذنْ: المطلوب من المسلم أن يأخذ باليقين؛ فإن كان للمسلمين إمامٌ وجماعةٌ، فالزم جماعة المسلمين وإمامهم، هذا هو اليقين، فإن لم يكن لهم جماعةٌ ولا إمامٌ فاعتزل تلك الفرق كلها، فهذا هو اليقين.

فإذنْ من قواعد التعامل مع الفتن هو: الأخذ باليقين.

اجتناب مجالسة أهل البدع، والاستماعِ إليهم

أيضًا من أسباب العصمة من الفتن: اجتناب مجالسة أهل البدع والاستماعِ إليهم.
وأيضًا نقول في وقتنا الحاضر: اجتناب الدخول إلى مواقع أهل البدع على الإنترنت، وذلك؛ لأن الشبهة إذا دخلت في القلب يصعب خلاص القلب منها، وربما يدخل الإنسان هذه المواقع، أو يجالس أهل البدع بدافع الفضول، يقول: أريد أن أعرف ما عندهم، وأنا -إن شاء الله- عندي من العلم، وعندي من التقوى ما يمنعني من أن أقع في الفتنة، فتقع الشبهة في القلب، وتتمكن منه شيئًا فشيئًا حتى يقع في الفتنة، ولهذا؛ كثيرٌ ممن وقع في فتنة التكفير كانت بداية أمرهم إما مجالسةً، أو دخولًا لهذه المواقع، ويكون ذلك بدافع الفضول، ثم تبدأ تنمو معه شيئًا فشيئًا.

ولهذا؛ كان السلف الصالح يحذِّرون من مجالسة أهل البدع؛ لأنهم يثيرون الشبه على الإنسان، فابتعد عن مواقع الشبه، ابتعد عن مجالس أهل الأهواء والبدع، ابتعد عن الدخول إلى المواقع المشبوهة، ولا تقل: أدخلها بدافع الفضول؛ لأن الشبه خطَّافةٌ.

فإذا أراد المسلم العصمة لدينه، والبعد عن الفتن، فليجتنب هذه الأمور كلها، اجتنب أهل البدع، عرفت أن هذا الإنسان صاحب بدعةٍ ابتعد عنه، عرفت أن هذا الموقع يثير بدعًا، يثير شبهاتٍ، ابتعد عنه: من سمع بالدجال فلْيَنْأَ عنه، فهذا بإذن الله يجعل المسلم في حصانةٍ وعصمةٍ عن الوقوع في الفتن.

أيها الإخوة، وهذا النوع هو فتن الشبهات وهناك النوع الآخر وهو فتن الشهوات، وهو لا يقل خطورةً عن فتن الشبهات.

فتن الشهوات

وفتن الشهوات أيضًا -في وقتنا الحاضر- قد كثرت وأصبحت تدخل على الناس في بيوتهم، ولها صورٌ متعددةٌ؛ منها مثلًا: فتنة الشهوة، وهذه قد ذكرها الله تعالى، وبين أنها قد تتحول إلى مرضٍ؛ كما قال سبحانه: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]، أي: مرض الشهوة؛ فإن الإنسان إذا وقع في هذه الفتنة، فتنة الشهوة، فمع مرور الوقت تتحول إلى مرضٍ فيصبح هذا الإنسان مريضًا، ولهذا؛ تجد أن بعض من يعاكس من الشباب أو من الشابات: أن المعاكسة ليس سببها قوة الشهوة هذه؛ وإنما سببها المرض الذي هو فيه، فهو مريضٌ يذهب للمعاكسة بسبب مرض الشهوة، وقد تكون فتنة الشهوة، فتنة المال، يقدس المال، والمال عنده كل شيءٍ، ويضحي بأي شيءٍ في سبيل الحصول على المال، وربما أنه يبخل في إخراج الزكاة، وما أوجب الله عليه لأجل المال، فهذا مفتونٌ بالمال، وهذه من أنواع الفتن.

وقد تكون الفتنة فتنة الزوجة، فيفتن بها وتتسبب في انحرافه عن دينه، وقد تكون الفتنة فتنة الولد، بأن يتعلق بأولاده، ويتنازل عن أمور دينه في سبيل إرضاء أولاده، أو في سبيل أن يأتي بالمال إلى أولاده، والله تعالى يقول: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ [المنافقون:9].

العناية بالأهل والأولاد مطلوبةٌ، لكن ليس إلى درجة أن يقع الإنسان في الفتنة، ويكون ذلك على حساب دينه.

وفتن الشهوات لها صورٌ متعددةٌ، وكلما انصرف الإنسان عن أمر دينه فهو يدخل في باب الفتنة.

وكما ترون -أيها الإخوة- كثرة الفتن في هذا الزمن الذي نعيشه الآن؛ فتنٌ عظيمةٌ، فتنٌ كثيرةٌ، فتنٌ متنوعةٌ، فتن شبهاتٍ، وفتن شهواتٍ.

فعلى المسلم أن يضرع إلى الله في أن يعصمه من جميع الفتن؛ فتن الشبهات، وفتن الشهوات، وأن يوفقه للحق، وأن يريه الحق حقًّا، ويرزقه اتباعه، ويريه الباطل باطلًا، ويرزقه اجتنابه.

الشهوات تسوق إلى الإلحاد

بلغت الفتنة ببعض شباب المسلمين إلى أن أوصلته إلى الإلحاد، نسأل الله العافية، فهناك موجة إلحادٍ الآن بين بعض شباب المسلمين، وبعضُ طلبة العلم الذين حاوروا بعض هؤلاء الشباب الملحدين يقولون في النهاية: اكتشفنا أنهم اختاروا طريق الإلحاد لكي يتحرروا، ويبتعدوا عن تأنيب الضمير، فيأخذوا حريتهم في الشهوات، يقولون: حاورناهم فوجدنا في الأخير أن هذا هو السبب الرئيس، فهو غير مقتنعٍ بإلحاده، وهو في قرارة نفسه مقرٌّ بوجود الخالق، لكن يريد أن يتحرر للشهوات، فيفعل ما يريد مما تشتهيه نفسه، هذا قد وقع في هذه الفتنة، فتنة الشهوات، وإلا، فإن معرفة الله مركوزةٌ في الفطرة، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يبعثهم الله لتعريف الناس بوجود الله؛ لأن الأمم السابقة ما كانت تنكر وجود الله، هل قوم نوحٍ كانوا ينكرون وجود الله، أو قوم عادٍ، أو قوم ثمود والأمم السابقة؟ ما كانوا ينكرون وجود الله، كانوا يعبدون الله تعالى، ويعتقدون أن الله هو الخالق الرازق المدبر، لكن كان عندهم انحرافٌ في هذه العبادة، عندهم انحرافٌ في العقيدة، فاتخذوا أصنامًا، وقالوا هذه أصنام أناسٍ صالحين نريد أن تقربنا إلى الله، فتكون واسطةً بيننا وبين الله: والَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ [الزمر:3]، فأرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، وحذروا هؤلاء وبينوا لهم أن هذا هو الشرك الأكبر، وأن الإنسان ليس بينه وبين الله واسطة، ويعبدون الله مباشرةً.

فالشاهد: أن الأمم السابقة ما كانوا ينكرون وجود الله، فهؤلاء الذين وقعوا في هذا الإلحاد هم في حقيقة أمرهم وقرارة نفوسهم مقرون بوجود الله ، لكنهم أرادوا التحرر من أي قيودٍ؛ لكي يأتوا من الشهوات ما أرادوا، فهم وقعوا في هذه الفتنة، فتنة الشهوات.

الوسطية والاعتدال

أيها الإخوة، المطلوب من المسلم أن يتبع الصراط المستقيم والوسط، وعندما نقول: الوسط، والوسطية، فليس المعنى -كما يفهمه بعض الناس- أن الإنسان يتنازل عن بعض أمور دينه، ولا يتمسك بأمور الدين؛ لأن المقصود بالوسطية هو الاعتدال: وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]، يعني: خيارًا عدولًا.

فبعض العامة يعتقد أن الوسط بمعنى: أن الإنسان يكون غير متمسكٍ بدينه، ولهذا؛ تجد أن بعض العامة إذا أرادوا أن يُعَيروا أحدًا بخفة الدين يقولون: فلانٌ دينه وَسَطٌ، يقصدون أنه غير متمسكٍ بدينه، وهذا الفهم غير صحيحٍ، وهذا غير المراد، فالمقصود بالوسط والوسطية يعني: التمسك بالدين باعتدالٍ من غير إفراطٍ ولا تفريطٍ، من غير غلوٍّ ولا تحللٍ، هذا هو المقصود بالوسط والوسيطة.

فالمطلوب إذنْ: أن نسلك جميعًا هذا المسلك، مسلك الوسط والوسطية، أن نتمسك بديننا، ولا نتنازل عن شيءٍ من أمور ديننا، لكن من غير غلوٍّ وإفراطٍ، ومن غير تفريطٍ، فالغلو والإفراط هذا يوقع في الفتنة، وكذلك أيضًا التفريط والتحلل يوقع في الفتنة، فمن وقع في الغلو والإفراط فهذا يقول عنه النبي : إيَّاكم والغُلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغُلو في الدين [13]، يكون من أسباب الهلاك.

وكذلك أيضًا: التفريط في أمور الدين، وترك الواجبات، والوقوع في المحرمات أيضًا هذا خطأٌ، والمطلوب هو الاعتدال.

وتجد أن كثيرًا من الأمور الفاضلة وسطٌ بين طرفين، تجد حتى في الأخلاق، لو أخذت مثلًا بعض الأخلاق الكريمة؛ كالشجاعة، الشجاعة خلقٌ بين الجبن والتهور، الكرم خلقٌ كريمٌ بين البخل والإسراف، وهكذا تجد أن الأمور الفاضلة وسطٌ بين طرفين.

فإذنْ: المطلوب هو أن يسلك المسلم الطريق الوسط، أي يتمسك بدينه لكن من غير إفراطٍ ولا تفريطٍ، وهذا معنى الطريق الوسط، وهذا هو معنى الصراط المستقيم الذي طلب من المسلم أن يسأل الله في كل ركعةٍ يصليها أن يهديه الصراط المستقيم: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]، هذا الصراط المستقيم هو الطريق الوسط، وهو الوسطية التي نقصدها عندما نقول إن المسلم ينبغي أن يسلك الوسط، الطريق الوسط، فهو الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله تعالى عليهم.

محاسبة النفس ومعالجتها

أيها الإخوة، على المسلم أن يتفقد نفسه ويحاسب نفسه، فإذا وجد من نفسه جنوحًا إلى فتنةٍ من الفتن، فعليه أن يسعى إلى معالجة نفسه؛ لأن هذه الفتنة قد تتحول إلى مرضٍ وهو لا يشعر، ولا ينتبه إلا عندما تحين ساعة النُّقلة، ساعة الاحتضار، ينكشف له الغطاء: فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22]، فيعلم حينئذٍ أنه وقع في هذه الفتنة من حيث لا يشعر.

أضرب لكم مثالًا: حدثني مديرٌ لأحد فروع البنوك يقول: إن حسابًا بنكيًّا فقدنا صاحبه مدةً طويلةً، وفيه مبلغٌ كبيرٌ، فاتصلت على أهله، قلت: أين فلانٌ؟ قالوا: فلانٌ توفي منذ مدةٍ طويلةٍ، قلت: نادوا أكبر أولاده، فكلمني، فقلت: لعلك تراجعني في البنك، فلما أتى إليَّ عزيته في والده وأخبرته أن لوالده لديهم رصيدًا بمبلغٍ ماليٍّ كبيرٍ، قال: كم؟ قلت: كذا مليون، مبلغٌ كبيرٌ، يقول: فانهار الولد، وأصبح يدعو على أبيه، قال: فجعلت أهدئ من روعه فما قَبِل، جعل يدعو على أبيه بعدم الرحمة ويبكي، يقول: إنه عاش طيلة عمره فقيرًا، وأعاشنا معه فقراء، وكيف يملك هذه الثروة العظيمة، ونعيش معه بهذه الحياة من البؤس والفقر!

إذنْ ماذا استفاد هذا الرجل من ماله؟ هذا الرجل كان مفتونًا بماله وهو لا يشعر، فُتن بالمال وهو لا يشعر، واستمر على هذه الفتنة إلى أن مات، وقد عاش مفتونًا، متى عَرَف أنه مفتونٌ؟ عندما مات، عندما أتته ساعة الاحتضار عرف أنه مفتونٌ، وندم، ولكن لا ينفعه الندم، وترك هذه الثروة التي تعب في جمعها وفي تحصيلها، تركها لمن لا يحمده عليها، بل يدعو عليه، إذنْ ماذا استفاد؟!

فقد يكون الإنسان واقعًا -يا أخوان- في الفتن وهو لا يشعر، فليتفقد الإنسان نفسه، يحاسب نفسه؛ ربما يكون له وقوعٌ في فتنةٍ من الفتن؛ فتنة مالٍ، فتنة شهوةٍ، فتنةٍ من فتن الشبهات، فليتفقد الإنسان نفسه، وليسأل أهل العلم عما أشكل عليه، وليحرص على سلامة دينه؛ فإن التمسك بهذا الدين والاستقامة عليه، هو طريق السعادة في الدنيا والآخرة؛ كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ۝ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].

أسأل الله أن يستعملنا جميعًا في طاعته، وأن يجنبنا مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.

رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8].

يا مقلِّب القلوب، ثبت قلوبنا على دينك، ويا مصرِّف القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك، اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجل وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 3606، ومسلم: 1847.
^2 سبق تخريجه.
^3 رواه البخاري: 2651، ومسلم: 2535.
^4 رواه مسلم: 1844.
^5 رواه الترمذي: 2140.
^6 رواه أحمد: 9421.
^7 رواه مسلم: 2654.
^8 رواه البخاري: 3601، ومسلم: 2886.
^9 رواه أبو داود: 4319.
^10 رواه الترمذي: 2516.
^11 رواه البخاري: 3884.
^12 رواه مسلم: 17.
^13 رواه النسائي: 3057، وابن ماجه: 3029.
مواد ذات صلة
  • عناصر المادةجزاء محبة الله للعبدمعنى محبة الله ومنزلتهاصفات من يحبهم الله كما في القرآن الكريمصفة الإحسانفيم يكون الإحسان؟صفة الصبرحقيقة الصبرصفة…

  • عناصر المادةطرق الناس في البحث عن السعادةأسباب السعادة الحقيقيةالإيمان والعمل الصالحالتوحيدالرضا والقناعةالصبرما معنى الصبر؟عَلَامَ يكون الصبر؟النظرة السوية للحياة الدنياضرر النظرة…