عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
الحث على تحري ليلة القدر
فأيها الإخوة: هذه الليلة هي ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان، وهذه الليلة هي أرجى ليالي العشر موافقة لليلة القدر، كان بعض الصحابة يجزم بأنها هي ليلة القدر؛ كما جاء في صحيح مسلم عن أبي بن كعب أنه كان يقول: “والله الذي لا إله إلا هو إني لأعلم أي ليلة هي ليلة القدر، هي الليلة التي أمرنا رسول الله بقيامها هي ليلة سبع وعشرين” [1].
وكان يستدل أُبي على ذلك بالعلامة التي ذكرها النبي ، وهي: أن الشمس تطلع صبيحتها لا شعاع لها، وأن أُبي راقب الشمس عدة سنوات صبيحة سبع وعشرين، فوجدها تطلع لا شعاع لها.
فلنجتهد أيها الإخوة في هذه الليلة، لنجتهد أكثر من الليالي الماضية، فإننا إذا وفقنا لليلة القدر، فقد وفقنا لخير عظيم: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3]، لنجتهد في أن نصلي، فإن خير الأعمال التي تعمل هذه الليلة الصلاة، وظاهر حال النبي أنه كان ينشغل في هذه الليالي المباركة بإحياء ليله بالصلاة.
ولما قام بالصحابة ثلاث ليال، قام بهم ليلة ثلاث وعشرين إلى ثُلث الليل، وليلة خمس وعشرين إلى منتصف الليل، وليلة سبع وعشرين معظم الليل، حتى إن الصحابة خشوا أن يفوتهم السحور، وهذا يدل على تأكد هذه الليلة، فاجتهدوا رحمكم الله، وأروا الله من أنفسكم خيرًا.
اجتهدوا فيها بالصلاة، واجتهدوا فيها بالدعاء، فإن الدعاء في هذه الليالي الفاضلة حري بالإجابة، خاصة في هذه الليلة.
أول شرك وقع في الأرض
أيها الإخوة: تحدثت في الدرس السابق عن مبتدأ خلق الإنسان، وأن الله أهبط أبانا آدم وأمنا حواء إلى هذه الأرض، وأهبط معهما الشيطان، وبقي آدم وحواء وتناسلا ذريتهما بعدهما، وبقي الناس على ذلك نحو عشر قرون على التوحيد.
ثم بعد ذلك وقع الشرك في بني آدم، وذلك أن أناسًا صالحين كان يحبهم أقوامهم، وكان يضرب بهم المثل في الصلاح والتقوى، ماتوا في أوقات متقاربة، فحزن عليهم قومهم حزنًا شديدًا، فأتى إليهم الشيطان، وقال: صوروا لهم صورًا، وضعوا لهم نصبًا وتماثيل، لعلكم إذا رأيتموهم تنشطوا في عبادة الله .
انظر إلى أسلوب الشيطان الخبيث الماكر، يعني أتاهم بهذا الطريق، قال: ضعوا نصبًا وتماثيل، حتى إذا رأيتموها تنشطوا في عبادة الله، فوضعوا هذه النصب والتماثيل، حتى إذا انقضى وانقرض ذلك الجيل، أتى الجيل الذي بعده، قالوا: إن آباءنا ما وضعوا هذه النصب والتماثيل إلا لعبادتها، فعبدوها من دون الله ، فوقع الشرك في بني آدم.
إرسال الله لنوح عليه السلام
فأرسل الله تعالى الرسل، وكان أول الرسل هو نوح عليه السلام، الذي مكث ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، وسلك مع قومه جميع أساليب الدعوة، قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا [نوح:5-9].
سلك معهم جميع الأساليب، ومع ذلك ما آمن معه إلا قليل، وأهلكهم الله ، أهلك قوم نوح بالغرق، ونجى الله تعالى نوحًا ومن آمن معه، وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود:40].
وقوع الأمم السابقة في الشرك
ثم أيضًا: امتد الشرك في بني آدم واقعًا في الأمم، وأرسل الله تعالى الرسل وأنزل الكتب، وأقام الحجة على العباد، فكان الشرك هو أعظم الذنوب، وأرسل الله تعالى الرسل لدعوة الناس إلى نبذ الشرك، وتحقيق التوحيد، وإخلاص الدين لله .
وهذا يدل أيها الإخوة على أهمية التوحيد، فإن هذه الأمم التي أرسل الله تعالى إليها الأنبياء والرسل كانوا يقرون بأن الله هو الخالق، وهو الرازق، وهو المدبر لهذا الكون، لكن اتخذوا لهم وسائط بينهم وبين الله .
فبعضهم اتخذ أصنامًا، وبعضهم اتخذ أشجارًا، وبعضهم جعلوا بينهم أناسًا صالحين، وبعضهم اتخذ قبورًا، يقولون: هذه نريد أن تكون واسطة بيننا وبين الله ، هذه أصنام أناس صالحين: وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23]، هذه كلها أسماء لأصنام أناس صالحين، وضعوا صنمًا لود، وصنمًا ليغوث، وصنمًا ليعوق، وصنمًا لنسر، فإذن يقولون: هذه أصنام لأناس صالحين نريد أن تشفع لنا عند الله؛ كما قال الله تعالى عن الكفار: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، يقولون: نحن لا نعبد هذه الأصنام، إلا رجاء أن هذه الأصنام تقربنا من الله زلفى، وإلا هم يعتقدون أن الله هو الخالق الرازق، المدبر لهذا الكون: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25].
لكن كان عندهم انحراف في العقيدة، جعلوا بينهم وبين الله وسائط بزعمهم أنها تقربهم من الله زلفى، فهذا هو الشرك، هذا هو الشرك في بني آدم.
يعني بعض الناس يعتقد أن الشرك.. أن هؤلاء الأمم التي أرسل الله تعالى لها الرسل، وأنزل الكتب، أنها كانت تعتقد أن هذه الأصنام هي التي تخلق وترزق، وتدبر الكون هذا غير صحيح، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25].
وقوع الشرك في أمة محمد
لكن هم عندهم انحراف في العقيدة، يقولون: نريد هذه الأصنام تكون واسطة، وتشفع لنا عند الله ، طيب ما الفرق بين هذا الشرك -شرك الأمم السابقة- وبين شرك أناس الآن يأتون للقبور، ويطوفون بها، ويقولون: نحن نريد من أصحاب هذه القبور أن تشفع لنا عند الله، يقولون: هذا القبر قبر إنسان صالح، فندعو صاحب القبر بأن يشفع لنا عند الله ، يشفع لنا عند الله تعالى بأن الله تعالى يغفر لنا، بأن الله تعالى يرزقنا.
تأتي إليه المرأة تريد ولدًا، يأتي إليه الإنسان يريد رزقًا، يأتي المريض يريد شفاء، يقولون: هذا قبر إنسان صالح نريد أن يشفع لنا عند الله، هل هناك فرق بين هذا الشرك، وبين شرك الأمم السابقة؟
الجواب: لا فرق، لا فرق هذا هو الشرك الأكبر، فالذين يطوفون بالقبور، ويسألون أصحاب القبور المدد، ويسألون أصحاب القبور قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، هذا هو الشرك الأكبر، هذا هو الشرك الأكبر الذي من وقع فيه، فقد حرم الله عليه الجنة، إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا [النساء:116]، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48]، إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [المائدة:72].
فهؤلاء الذين يدعون أصحاب القبور، ويستغيثون بأصحاب القبور، ويطلبون منها كشف الحاجات، ويطلبون منها قضاء الحاجات، وكشف الكربات، هؤلاء وقعوا في الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله ، والذي من وقع فيه ولم يتب، فإن الله تعالى قد حرم عليه الجنة.
من كان على التوحيد، ولم يقع في الشرك، حتى وإن وقع في ذنوب وفي معاصٍ، فإنه وإن دخل النار، إلا أنه لا يخلد فيها، معتقد أهل السنة والجماعة أن أهل التوحيد الذين يقعون في الكبائر أنهم تحت مشيئة الله تعالى ، إن شاء الله تعالى عذبهم، وإن شاء عفا عنهم.
لكنهم إذا دخلوا النار لا يخلدون فيها، بل يخرجون من النار برحمة أرحم الراحمين، ويدخلون الجنة، فمن كان على التوحيد، ومات على التوحيد، فهو على خير، وإلى خير؛ لأنه حتى وإن عُذب في النار لا يخلد فيها، بل يخرج منها ويدخل الجنة، حتى وإن وقع منه ذنوب، وإن وقع منه معاصٍ، المهم أنه ما وقع في الشرك.
المصيبة عندما يقع الإنسان في الشرك، هذا هو الذي حرم الله عليه الجنة، ويكون في النار مخلدًا فيها أبد الآباد، نسأل الله السلامة والعافية، فأعظم ذنب عُصي الله به هو الشرك.
فعلى المسلم الحذر من الشرك ومن وسائله، ومن شياطين الجن والإنس الذين يزينون لبني آدم الوقوع في الشرك، ولا يقول الإنسان: نحن الآن في هذا العصر عصر التقنية، وعصر التكنولوجيا، وعصر كذا، نحن بعيدون عن الشرك، لا.
النبي عليه الصلاة والسلام أخبر بأن الساعة لن تقوم، حتى يعود الناس لعبادة الأصنام، وحتى تُعبد اللات والعزى، فالناس سيعودون لعبادة الأصنام، ولذلك على المسلم أن يكون على حذر.
إبراهيم الخليل عليه السلام يقول في دعائه: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ [إبراهيم:35]، يسأل الله تعالى أن يجنبه، مع أنه نبي ورسول يجنبه وبنيه: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ [إبراهيم:35-36].
فأسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى من الأقوال والأعمال، وأن يجنّبنا الشرك، وأن يجنبنا المعاصي ما ظهر منها وما بطن، وأن يستعملنا جميعًا في طاعته.
اللهم إنا نسألك أن تستعملنا في طاعتك، وأن تعيننا على ذكرك، وعلى شكرك، وعلى حسن عبادتك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحاشية السفلية
^1 | رواه مسلم: 762. |
---|