عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
صلاة الجماعة
كنا قد وصلنا إلى صلاة الجماعة، وتكلمنا في المحاضرة السابقة عن الصلاة؛ من جهة تعريفها ومكانتها ومنزلتها وحكمها، وما يترتب على تركها، وبيَّنَّا عظيم منزلة الصلاة من وجوه متعددة، وذكرنا أنها أحب الأعمال إلى الله ؛ كما جاء ذلك في «الصحيحين»: أحب العمل إلى الله تعالى: الصلاة على وقتها [1].
وننتقل بعد ذلك إلى درس متصل بالدرس السابق، وهو: صلاة الجماعة.
إن الله تعالى لما فرض الصلاة، شرع الاجتماع لأدائها خمس مرات في اليوم والليلة، والاجتماع أمر مطلوب ومقصود في الشريعة لِمَا يترتب عليه من المصالح الكثيرة للفرد والمجتمع، ولهذا؛ شرع الله تعالى الاجتماع لهذه الأمة في أوقات معلومة؛ منها ما يتكرر خمس مرات في اليوم والليلة؛ كالصلوات الخمس، ومنها ما يكون في الأسبوع مرة واحدة، وهو صلاة الجمعة، ومنها ما يكون في السنة مرتين، وهو صلاة العيدين، ومنها ما يكون في السنة مرة واحدة، وهو الاجتماع للوقوف بعرفة، فهذه اجتماعات شرعت للمسلمين.
لاحِظِ التدرج فيها؛ فهناك اجتماع مصغر لأهل الحي، يجتمعون خمس مرات في اليوم والليلة، واجتماع أكبر منه للأحياء القريبة في صلاة الجمعة، واجتماع أكبر لصلاة العيدين، واجتماع أكبر لجميع الأمة، وهو الاجتماع في الوقوف بعرفة، فانظر إلى كيفية عناية الإسلام بتنظيم وترتيب هذه الاجتماعات؛ فإنه يترتب عليها مصالح عظيمة.
ومن هذه المصالح: ما يحصل بين المسلمين من الإحسان والعطف، والتَّوَادِّ والتحابب في القلوب، وذلك يُلحَظ من اجتماع المسلمين في المسجد خمس مرات في اليوم والليلة، فيعرف بعضهم بعضًا.
لعلنا نبدأ من البداية حتى يتابعنا الإخوة.
أقول: درسُنا في هذا اليوم عن صلاة الجماعة، وصلاة الجماعة شرعيتها من محاسن هذا الدين، والاجتماع مقصود لما يترتب عليه من المصالح العظيمة، وهذا الاجتماع قد شرعه الله تعالى على صور متعددة؛ منها ما يتكرر في اليوم والليلة، وهو الخمس صلوات، ومنها ما يكون في الأسبوع مرة واحدة، وهو صلاة الجمعة، ومنها ما يكون في السنة مرتين، وهو صلاة العيدين، ومنها ما يكون في العام مرة واحدة، وهو الاجتماع للوقوف بعرفة.
بعض المصالح المترتبة على اجتماعات الأمة
فهذه الاجتماعات شرعت لمصالح عظيمة، فمن هذه المصالح:
- أولًا: ما يحصل بين المسلمين عند الاجتماع؛ من الإحسان والعطف والرعاية والتَّوَادِّ والتحابب، ومعرفة بعضهم بعضًا، فيقومون بعيادة المريض، وتشييع المتوفى، وإغاثة الملهوف، ومساعدة المحتاج، ولولا هذا الاجتماع لَمَا حصلت هذه الأمور، أو لكانت على وجه محدود، ولهذا؛ تجد أن الإنسان عندما يسكن في الحي، إذا كان لا يصلي جماعة، لا يكاد يعرف بين أهل الحي، ولو مرض ما دَرَى أحد به، وربما لو توفي أيضا ما علم به أحد، أو ما علم به إلا القليل، لكن الذي يتواجد في المسجد خمس مرات في اليوم والليلة، يتعرف على جيرانه، ويتعرف على من حوله، وتقوى علاقته بجيرانه وبجماعة المسجد، ويحصل بينهم من التواد والتراحم والتحابب الشيء الكثير، ولذلك؛ إذا اعتاد جماعة المسجد منه أن يحافظ على الصلوات الخمس ثم فقدوه، فإنهم يسألون عنه؛ فإن كان مريضًا عادوه، وإن كان بحاجة للمساعدة ساعدوه،.. وهكذا.
فهذه إذَنْ، مترتبة على اجتماع المسلمين في المسجد.
- أيضًا من المصالح المترتبة على هذه الاجتماعات: إظهار قوة المسلمين وتلاحمهم، فيغيظون بذلك أعداءهم من الكفار والمنافقين، وذلك؛ أن المسلمين خاصة عندما يجتمعون في الجُمَع والأعياد، وأَبْلَغُ من هذا: الاجتماع في الوقوف بعرفة؛ يظهر لأعداء الإسلام قوة المسلمين، وتبرز عظمة هذا الدين، أقول هذا خاصة في وقتنا الحاضر؛ مع وجود القنوات الفضائية، ونقل هذه الشعائر عبر التليفزيونات، فعندما مثلا يرى غير المسلمين من اليهود والنصارى والهندوس والوثنيين والبوذيين وغيرهم، يرون هذه الاجتماعات للمسلمين، لا توجد عند غير المسلمين مثل هذه الاجتماعات على هذا النحو المنظم.
هل يوجد مثل اجتماع المسلمين في عرفة؟
لا يوجد، لاحظ، يعني أكثر من مليوني شخص في مكان واحد، ولباس واحد، لا فرق بينهم، قد زالت الفوارق بينهم تمامًا، لهدف واحد جاؤوا مختارين، بل متلهفين مشتاقين، يتزاحمون ويتدافعون لأجل الوصول لهذا المكان، هذا أمر ملفت للنظر، هل هذا نجده عند غير المسلمين؟ ما نجده، هل يوجد مثل هذا الاجتماع عند النصارى، عند الهندوس، عند اليهود؟
أبدا ما يوجد، ولذلك؛ فإن غير المسلمين عندما يرون هذا الاجتماع يتساءلون ماذا يريد هؤلاء؟ من جميع شعوب الأرض، لاحِظْ، من جميع شعوب الأرض؛ من أقصى الشرق، ومن أقصى الغرب، ومن أقصى الشمال، ومن أقصى الجنوب، من جميع دول العالم، أتوا بطوعهم واختيارهم، ثم بهذا التنظيم وبهذا الترتيب، قد لبسوا لباسًا واحدًا، وهدفهم واحد، وعبادتهم واحدة، يلبون تلبية واحدة، ينصرفون في وقت واحد، لم يختلفوا في الزمان، اجتمعوا في وقت واحد، لا شك أن هذا فيه إظهار لهذا الدين العظيم، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة: 33]، ولهذا؛ لو وجد للأمة الإسلامية إعلام إسلامي قوي، وأبرز هذه المظاهر؛ لكان لذلك أثر عظيم في نفوس غير المسلمين، فهذه الصورة حقيقةً مشرقةٌ ومؤثرةٌ في الوقت نفسه، عندما يُرَى هؤلاء تهافتوا للوصول لهذا المكان من جميع أقطار الأرض، ثم لمَّا وصلوا لهذا المكان زالت بينهم الفوارق، فما الذي جمعهم، ولماذا أتوا، وماذا يريدون؟
هذا بحد ذاته لو أن المسلمين وظَّفوا هذا الحدث واستثمروه لكان من أعظم الأسباب لدخول غير المسلمين في دين الإسلام، فهذه أيضًا مصلحة عظيمة من هذا الاجتماع.
ثم أيضًا: فيه إغاظة لأعداء المسلمين، كما أن فيه أيضًا إظهارًا للإسلام وصورته المشرقة، فيه أيضًا إغاظة لأعداء المسلمين؛ فإن أعداء المسلمين يقولون: انظروا إلى هؤلاء المسلمين الذين تقولون: إنهم ضعاف. انظروا إليهم كيف اجتمعوا، وهؤلاء المسلمون لو تمسكوا بهذا الدين لكانوا قوة لا يقاومها أي قوة على وجه الأرض؛ كما حصل في عهد النبي ، وعهد الصحابة والتابعين، والخلافة الراشدة، فقد بلغ الإسلام أكثر أنحاء الكرة الأرضية، فهذا الدين دين عظيم، ففي هذه الاجتماعات تظهر قوة المسلمين، وتظهر عزة الإسلام والمسلمين، ويكون في ذلك أيضًا إغاظة لأعداء الإسلام.
هذه من فوائد هذه الاجتماعات.
كذلك حتى الاجتماعات التي هي أقل من هذا، اجتماع المسلمين في الأعياد، اجتماع المسلمين في الجمعة، اجتماع المسلمين في صلاة التراويح، عندما تُنقَل هذه الأعداد الهائلة، التي تَفِدُ إلى الحرمين، للعالم الخارجي لا يوجد لهذا نظير في الأديان الأخرى، لا يوجد لهذا نظير في الملل الأخرى، عندما ترى هذه المظاهر لا شك أن لها أثرًا كبيرًا في نفوس غير المسلمين؛ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة: 33]، ولذلك؛ فإن دين الإسلام -ولله الحمد- هو أظهر الأديان الآن على وجه الأرض، وانتشاره هو أسرع الأديان انتشارًا على وجه الأرض، فهذه كلها من فوائد الاجتماعات التي شرعها الإسلام، ولا غَرْوَ في ذلك؛ فإن هذه الشريعة من لَدُنْ حكيم عليم جلا وعلا.
- أيضًا من فوائد صلاة الجماعة: تعليم الجاهل؛ فإن الإنسان قد يكون عنده جهل ببعض أحكام الصلاة؛ مثلًا: سجود السهو، بعض العامة الذين لا يقرؤون ولا يكتبون، لولا صلاة الجماعة ربما ما عرفوا سجود السهو، الطمأنينة في الصلاة، بعض الأحكام أيضًا المهمة التي يحتاج لها المسلم في دينه ربما يستفيدها إما من إمام المسجد، أو ممن حوله؛ فلا شك أنه يحصل التعليم للجاهل من صلاة الجماعة.
- أيضًا: مضاعفة الأجر والثواب؛ فإن صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة.
- أيضًا: النشاط على العمل الصالح، وهذا تجده من نفسك لو صليت التراويح مع الناس فإنك تنشط، لكن لو صليت وحدك ربما تَكْسَل، وهذا أيضًا ربما تجده المرأة، وإن كانت صلاة المرأة في بيتها أفضل حتى في صلاة التراويح، لكن ربما أنها إذا صلت مع الناس في المسجد يكون ذلك أنشط لها، فحينئذ تصلي لأجل هذا، فلا شك أن الإنسان إذا عمل العبادة مع الناس يكون ذلك أنشط له في الغالب.
وفوائد صلاة الجماعة كثيرة جدًّا، والمصالح المترتبة عليها عظيمة، ولهذا؛ شرعت هذه الجماعة؛ سواء كانت الجماعة التي تتكرر في اليوم والليلة خمس مرات، أو الجماعة التي أكبر منها، وهي الجماعة لصلاة الجمعة، أو لصلاة العيدين، أو في الاجتماع الأكبر للأمة، وهو الاجتماع في الوقوف بعرفة.
حكم صلاة الجماعة
صلاة الجماعة على الرجال: هي فرض على الرجال في الحضر والسفر، وفي حال الأمن وفي حال الخوف، فهي واجبة على الرجال، والدليل على ذلك: الكتاب والسنة، وعمل المسلمين قرنًا بعد قرن، خلفًا عن سلف، ومن أجل ذلك عُمِرت المساجد، ورُتِّب لها الأئمة والمؤذنون، وشرع الأذان: حي على الصلاة، حي على الفلاح، ويدل لذلك من القرآن: قول الله تعالى: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ إلى آخر الآية [النساء: 102]، فلم يرخِّص الله تعالى للمسلمين بترك الجماعة حتى في حال الحرب، حتى في حال الخوف، ولو كانت الجماعة غير واجبة لكان أولى الأعذار بسقوطها عذر الخوف؛ فإن الجماعة في صلاة الخوف يترك لها بعض واجبات الصلاة، ولولا تأكد وجوبها لم يترك من أجلها تلك الواجبات، وصلاة الجماعة في الخوف لها عدة صور، ذكر العلماء لها أكثر من ست صور، وفي كثير من هذه الصور، أو في أكثرها تترك بعض الواجبات، ومع ذلك لا بد من إقامتها جماعة.
لو كانت صلاة الجماعة غير واجبة؛ لما أمر الله تعالى بإقامتها في حال الحرب وحال المعركة وحال الخوف.
أيضًا من الأدلة الدالة على وجوب صلاة الجماعة: حديث أبي هريرة أن النبي قال: أثقل الصلاة على المنافقين: صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حَبْوًا، ولقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب، ثم آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلًا فيؤم الناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حِزَم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأُحَرِّقَ عليهم بيوتهم بالنار [2]. وهذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم، يعني لا إشكال في صحته.
التحريق بالنار عقوبة شديدة، أليس كذلك؟ التحريق بالنار عقوبة شديدة، قتل لكن على صفة غليظة فضيعة.
التحريق بالنار لا يكون إلا على معصية كبيرة، معصية عظيمة، فلا يكون على معصية يسيرة، لا يكون على صغيرة من الصغائر، فكون النبي عليه الصلاة والسلام يخبر بأنه قد همَّ بأن يُحَرِّق على قوم بيوتهم بالنار، لماذا؟ لأنهم يتخلفون عن صلاة الجماعة، فهذا دليل على تأكُّد صلاة الجماعة، مع أنهم قد يُصَلون في بيوتهم، فأولًا وَصَفَ المتخلفين عن صلاة الجماعة بالنفاق، والمتخلف عن المستحب والسُّنة لا يعد منافقًا؛ فدل على أنهم تخلفوا عن واجب، ثم إنه عليه الصلاة والسلام أخبر بأنه قد همَّ -وهو الصادق المصدوق- بعقوبتهم على التخلف عنه، والعقوبة إنما تكون على ترك أمر واجب، مع أنهم قد يكونون أيضًا جماعة، لكنهم يصلون في بيتهم، هذا أيضًا مما يستدل به على وجوب صلاة الجماعة في المسجد، فلو لم يَرِد في صلاة الجماعة إلا هذا الحديث لكفى، التحريق بالنار لا يكون إلا على معصية كبيرة.
ما الذي منع النبي من أن ينفذ ما همَّ به؟
الطالب: النساء والأطفال.
الشيخ: نعم، وجاء في رواية لأحمد: لولا ما في البيوت من النساء والذرية [3] يعني: الذين لا تجب عليهم صلاة الجماعة، وهذا أحد أقوال العلماء، لكن هذه الرواية ضعيفة.
ولهذا؛ فإن الأقرب والله أعلم: أن النبي لم ينفذ ما همَّ به لأنه لا يعذب بالنار إلا رب النار، فإنه نهي عن ذلك، فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار.
والقول الأول قال به جمع من أهل العلم.
يكفينا أن النبي عليه الصلاة والسلام همَّ بهذه العقوبة، لكنه لم ينفذ؛ إما لوجود ما في البيوت من النساء والذرية، وإما لأنه لا يعذب بالنار إلا رب النار، المهم أنه عليه الصلاة والسلام همَّ بإنفاذ هذه العقوبة، وهذه العقوبة لا تكون إلا على معصية كبيرة.
أيضًا جاء في “صحيح مسلم”: أن رجلًا أعمى أتى النبي ، وهذا الرجل هو عبدالله ابن أم مكتوم وقال: يا رسول الله، ليس لي قائد يقودني إلى المسجد؟ فسأله أن يُرخص له أن يُصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه، قال: هل تسمع النداء؟. قال: نعم. قال: فأجب [4]. جاء في بعض الروايات: فإني لا أجد لك رخصةً [5]، فأمره النبي بالحضور إلى المسجد لصلاة الجماعة وإجابة النداء مع ما يلاقيه من المشقة، وهو عليه الصلاة والسلام الرحيم والرفيق بأمته، وما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وهذا رجل أعمى وليس له قائد يقوده إلى المسجد، يعني ليس له قائد يلائمه، وأيضا جاء في بعض الروايات: أنه بينه وبين المسجد وادٍ، والمدينة كثيرة الهَوَامِّ والسباع، ومع ذلك لم يرخص له النبي قال: لا أجد لك رخصة. لا يجد رخصة لهذا الرجل فما بالك بغيره؟! وهو عليه الصلاة والسلام -كما ذكرنا- الرفيق، وهو الرحيم بأمته، ومع ذلك لا يجد رخصة لهذا الرجل الأعمى الذي ليس له قائد يقوده للمسجد، وذلك من أظهر الأدلة الدالة على تأكد صلاة الجماعة وعلى وجوبها، وأنها فرض عين على الرجال؛ إذ لو لم تكن واجبة لرخص النبي عليه الصلاة والسلام لهذا الرجل.
والعجب من بعض أهل العلم الذين قالوا: بأن صلاة الجماعة مستحبة، وليست واجبة؛ أين هم من هذه النصوص؟
ولذلك؛ الخلاف في هذه المسألة حقيقةً خلاف ضعيف، لو كانت صلاة الجماعة مستحبة لرخص النبي عليه الصلاة والسلام لهذا الرجل الأعمى، ولما همَّ بالتحريق بالنار على أولئك الذين يتخلفون عن صلاة الجماعة.
وهذه الأحاديث صحيحة، حديث التحريق بالنار في «الصحيحين»، وحديث الرجل الأعمى في «صحيح مسلم»، لا إشكال في إسنادها، ولذلك؛ الخلاف في هذه المسألة خلاف ضعيف، هناك من يحاول أن يبرز الخلاف في هذه المسألة، ويقول: إن هناك خلافًا في حكم صلاة الجماعة، لكن ما كل خلاف معتبر ما لم يكن له حظ من النظر، الخلاف في هذه المسألة خلاف ضعيف، والصواب هو: أن صلاة الجماعة فرض عين على الرجال في المساجد.
وقد كان وجوب صلاة الجماعة مستقرًّا عند المؤمنين من صدر هذه الأمة، ويحكي هذا عبدالله بن مسعود ، يقول، كما في صحيح مسلم: “إن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنها -يعني صلاة الجماعة- من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم -قال- ولقد رأيتُنا -يعني الصحابة- وما يتخلف عنها -يعني عن صلاة الجماعة- إلا منافق معلوم النفاق”.
فهذا فيه دلالة على أن التخلف عن صلاة الجماعة أمارة نفاق، ودلالة على النفاق -والعياذ بالله- “وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يُهادى بين الرجلين” [6]، ما معنى يُهادى بين الرجلين؟ يعني يعضد له عن يمين وعن يسار، يعضد له رجلان مع أنه مريض، ومع ذلك يؤتى به يُهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف.
وهذا يدل على استقرار وجوب صلاة الجماعة عند صحابة رسول الله ، ولم يعلموا ذلك إلا من جهة النبي ، ومعلوم أن كل أمر لا يتخلف عنه إلا منافق يكون واجبًا على الأعيان، ولهذا؛ قال الإمام ابن القيم رحمه الله: من تأمل السُّنة حق التأمل تبين له أن فعلها -يعني صلاة الجماعة- في المساجد فرض على الأعيان، إلا لعارض يجوز معه ترك الجماعة، وترك حضور المساجد لغير عذر كترك أصل الجماعة لغير عذر، وبهذا تتفق الأحاديث وجميع الآثار.
مراد ابن القيم رحمه الله: أنه أيضًا مع قولنا بأن صلاة الجماعة واجبة، أيضًا يجب إقامتها في المسجد، ولذلك؛ لو أن مجموعة في البيت؛ أبًا مع أولاده مثلًا، قال: أنا أريد أن أصلي جماعة مع أولادي في البيت، نقول: ليس لك ذلك، أيضًا لو كان هناك مثلًا مجموعة في استراحة، وقالوا: نريد أن نصلي جماعة في الاستراحة والمسجد بجوارهم، فليس لهم ذلك، وإلا لو قيل بهذا لتعطلت المساجد؛ لأن معظم بيوتات المسلمين لا تخلو من جماعة فتتعطل بهذا المساجد، ولهذا؛ جاء في «سنن أبي داود» بسند صحيح، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي قال: من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر [7]، وانظر إلى حال الصحابة كيف أن الرجل يكون مريضًا ومع ذلك يؤتى به يُهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف.
المستثنى من صلاة الجماعة
لكن يستثنى من ذلك ما إذا وجد مصلحة راجحة في إقامتها جماعة في غير المسجد؛ كالدوائر الحكومية مثلًا، والطلاب في المدارس، فالأقرب والله أعلم: أنهم يصلون جماعة؛ الموظفون في دوائرهم، والطلاب في مدارسهم، الأقرب أنهم يصلون جماعة؛ لأنه يترتب على خروجهم للمسجد تفويت بعض المصالح؛ فإن الموظفين ربما يتغيبون، ويتفلتون من وظائفهم، وكذلك الطلاب يصعب جمعهم مرة أخرى، ولذلك فالأقرب: أن هؤلاء يرخَّص لهم في أن يصلوا جماعة في أماكنهم.
وهكذا أيضًا إذا كان لا يسمع النداء، إذا كان الإنسان لا يسمع النداء، يعني لو أذَّن المؤذن -لكن من غير مكبر الصوت- لما سمعه، كأن يكون بيته بعيدًا عن المسجد، فهنا لا تجب عليه صلاة الجماعة.
مر معنا قبل قليل دليل يدل لهذا.
…
حديث الأعمى لمَّا قال له عليه الصلاة والسلام: هل تسمع النداء بالصلاة؟. فإذَنْ: الضابط في وجوب صلاة الجماعة هو سماع النداء، إذا كان يسمع النداء طبعًا من غير مكبر الصوت، لو أذن المؤذن جهوري الصوت لسمعه فيجب عليه أن يصلي الجماعة في المسجد.
إذا كان بيته بعيدًا؛ بحيث لو أذن المؤذن لما سمعه، فإن صلاة الجماعة في حقه غير واجبة؛ لأن النبي جعل العلة هي سماع النداء، قال: هل تسمع النداء بالصلاة؟. قال: نعم [8]. مفهومه: أنه لو لم يسمع النداء لرخص له، فإن من كان بيته بعيدًا عن المسجد بحيث أنه لا يسمع النداء فإنه لا تجب عليه صلاة الجماعة.
أيضًا: النساء لا تجب عليهن صلاة الجماعة، وهذا باتفاق العلماء؛ لأن النساء لسن من أهل الجمع والجماعات، ولهذا؛ قال عليه الصلاة والسلام: وبيوتهن خير لهن [9].
ولكن هل الجماعة في حق النساء مستحبة أو مباحة؟
قولان لأهل العلم، من أهل العلم من قال: إنها مستحبة، واستدل بأن النبي أمر أم ورقة رضي الله عنها أن تؤمَّ أهل دارها، والأقرب والله أعلم أنها مباحة؛ لأنها لو كانت مستحبة لحرص أمهات المؤمنين عليها، ولاجتمعن جماعة؛ لأنهن حريصات على الخير، والمعروف أن كل امرأة في عهد النبي تصلي في بيتها، ولم يكنَّ يجتمعن لأداء صلاة الجماعة، وهي صلاة تتكرر في اليوم والليلة خمس مرات، وبيوت النبي متقاربة، ولو اجتمعن لصلاة الجماعة لنقل ذلك واشتهر، فالأقرب -والله أعلم- في حق المرأة: أن الجماعة مباحة، هذا هو الأقرب؛ لأن النساء لسن من أهل الجمع والجماعات.
هنا وقفة أيضًا مع فضل صلاة الجماعة: ينبغي للإنسان أن يحرص على أداء صلاة الجماعة في المسجد، لو قدر أنه فاتته الجماعة لأي سبب من الأسباب، فهنا ينبغي له أن يبحث عن جماعة أخرى، فإن لم يجد يطلب من أحد المصلين أن يصلي معه، وتكون في حقه نافلة، وفي حق هذا فريضة، ويدل لذلك: أن رجلًا دخل المسجد في عهد النبي ، فقال عليه الصلاة والسلام: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه؟. فقام أحد الناس، وصلى معه [10]. الحديث إسناده صحيح.
فينبغي للإنسان أن يكون حريصًا على صلاة الجماعة، حتى لو لم يجد أحدًا يطلب من أحد الناس أن يتصدق عليه بالصلاة معه؛ لأنه إذا صلى جماعة حاز سبعا وعشرين درجة.
إذا أتى الإنسان وقد وجد الإمام قد رفع من الركوع من الركعة الأخيرة، يعني وجده مثلًا في التشهد الأخير، ووجد جماعة جديدة داخلين المسجد، هل الأفضل أن يدخل مع الإمام أو ينتظر حتى يسلم الإمام ويدخل مع الجماعة الجديدة؟
…
ينتظر حتى يسلم الإمام ويدخل مع الجماعة الجديدة، لماذا؟ لأنه لو دخل مع الإمام فاته سبع وعشرون درجة؛ لأن الجماعة إنما تدرك بإدراك ركعة، الجمعة والجماعة تدرك بإدراك ركعة، ولهذا لو أتيت يوم الجمعة وقد رفع الإمام من الركوع من الركعة الثانية تقضي كم ركعة؟ أربع ركعات.
فإذا لم تدرك ركعة مع الإمام معنى ذلك فاتتك الجماعة، ولهذا؛ فالأفضل إنك تنتظر وتدخل مع الجماعة الجديدة.
بل، حتى لو لم تجد جماعة ودخلت مع الإمام ووجدت الإمام مثلًا في التشهد الأخير ودخلت معه ثم بعد ذلك أتت جماعة جديدة وسمعتهم يصلون فالأفضل في حقك أن تقلب الفريضة هنا إلى نافلة تتمها ركعتين خفيفتين، وتدخل مع الجماعة الجديدة.
كل ذلك لأجل تحصيل أجر الجماعة، فيعني ينبغي للإنسان ألا يفوته هذا الفضل، ولذلك أحد الناس يقول: إنه عمره كله ما صلى وحده، يقول: حتى لو جاء والناس قد صلوا يبحث عمن يصلي معه، عمره كله ما صلى وحده أبدًا، فتحصيل الخير متيسر؛ إما بجماعة جديدة، أو على الأقل يطلب من أحد الناس أن يصلي معه، المهم يوجد عنده حرص على تحصيل هذا الفضل.
أقل ما تنعقد به صلاة الجماعة
أيضًا من الأحكام المتعلقة بصلاة الجماعة: أن أقل ما تنعقد به صلاة الجماعة اثنان؛ لأن الجماعة مأخوذة من الاجتماع، والاثنان أقل ما يتحقق به الجمع، ويدل لهذا حديث: من يتصدق على هذا فيصلي معه؟. فقام رجل من الناس فصلى معه [11]. وجاء في بعض الروايات: أن النبي قال: هذان جماعة [12]. رواه أحمد وغيره؛ ولقوله عليه الصلاة والسلام لمالك بن الحويرث : وليؤمكما أكبركما [13]، وقد حُكي الإجماع على أن أقلَّ الجماعة اثنان.
حكم حضور المرأة صلاة الجماعة
لو أرادت المرأة أن تحضر صلاة الجماعة، لو أرادت أن تصلي في المسجد مثلًا صلاة الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء أو الفجر فلا بأس، لكن بإذن زوجها، وتخرج أيضًا غير متطيبة، وغير متبرجة بزينة، ومع التستر التام، والابتعاد عن مخالطة الرجال، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في «صحيح مسلم»: أيما امرأة أصابت بخورًا فلا تشهدن معنا صلاة العشاء الآخرة [14]. مع أنه بخور فما بالك بغيره من الأطياب؟! ومع أنها أيضًا ذاهبة للمسجد، فما بالك بمن تتطيب وتذهب للأسواق وغيرها؟!
ولهذا نقول: لو أرادت المرأة أن تخرج إلى المسجد فينبغي لزوجها أن يأذن لها، لكن بهذه الضوابط، لهذا؛ قال عليه الصلاة والسلام: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن [15]. لكن بعض النساء مثلًا قد يرغبن في الصلاة في المسجد لأجل الاستفادة، خاصة إذا كان هناك محاضرة، أو لأجل مثلًا حضور صلاة الجمعة والاستماع للخطبة، أو لأجل صلاة التراويح والقيام والتهجد؛ لأنه أنشط لهن، فلا بأس بهذا، لكن بهذه الضوابط، يعني تخرج غير متبرجةٍ بزينةٍ، وغير متطيبةٍ، ومتسترةً، فلا بأس بذلك، وزوجها ينبغي له أن يأذن لها، ولا يمنعها من المسجد: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن.
قبل أن ننتقل إلى من يعذر بترك الجماعة، المحاضرة الأولى انتهت، الآن نتيح فرصة للأسئلة قبل أن ندخل في الموضوع الآخر.
الأسئلة والأجوبة:
من صلى منفردًا وأدركه مصلٍّ آخر قبل السلام هل لهما أجر الجماعة؟
السؤال: أحسن الله إليك! إمام صلى في المسجد، وأتى أحد المصلين في التشهد الأخير فللإمام هذا أجر جماعة؟ والسؤال الثاني:…
الشيخ: إمام صلى؟
السائل: صلى وحده منفردًا، وأتى..
الشيخ: إذن ليس إمامًا ما دام منفردًا ليس إمامًا، رجل صلى؟
السائل: رجل صلى هل يدرك الجماعة..
الشيخ: يعني رجل صلى وحده منفردًا.
السائل: وأتى أحد المصلين ولحقه في التشهد الأخير، يعني لحق معه في التشهد الأخير هل يدرك المنفرد، الرجل الأول، هل يدرك الجماعة؟
الجواب: لا، ما يدرك الجماعة، الجماعة إنما تُدرك بإدراك ركعة، إذا ما لحقه إلا في التشهد الأخير لا يدرك كل منهما الجماعة، فالجماعة إنما تدرك بإدراك ركعة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة [16]، فالجمعة والجماعة لا بد فيهما من إدراك ركعة، وذلك إذا وجده في التشهد الأخير لا يحصل أجر الجماعة، ينبغي له أن يبحث عن جماعة أخرى.
هل يصلي المؤذن وحده إذا لم يوجد جماعة؟
السؤال: الآن هناك أحد المؤذنين في أحد الأحياء في الرياض، أذن لصلاة الفجر ولكن لم يأته أحد، لا إمام ولا حتى من جماعة المسجد؛ لأن المسجد كان ما بين استراحات وهناك بيوت ولكنها قليلة، ولم يأته أحد، ففي الحالة هذه هل يغلق المسجد ويروح يبحث عن جماعة، أو ينتظر حتى يقرب خروج الوقت ربما يأتيه أحد من أصحاب البيوت أو الاستراحات؟
الجواب: الأولى أن يصلي في المسجد؛ يعني إعمار المسجد، والأذان في المسجد، حتى لو صلى وحده هو معذور، ويرجى أن يكون له أجر الجماعة، لكن أيضًا ينبغي له أن يحث من حوله من الناس أن يصلوا، يحثهم بجميع الوسائل الممكنة، لكن بكل حال، كونه يصلي في المسجد، ويفتح المسجد ويؤذن، ويعمر المسجد؛ هذا لا شك أنه هو الأوْلى.
ما الأفضل لمن تصدَّق على المصلي؛ أن يكون إمامًا أو مأمومًا؟
السؤال: يا شيخ إذا رغبت أن أتصدق على المصلي، الأفضل أن أكون إمامًا أو مأمومًا؟
الجواب: الأفضل على القول الصحيح الأفضل هو الأقرأ: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله [17]، فالأقرأ منهما هو الذي يكون إمامًا، لكن بعض أهل العلم يرى أن المتنفل لا يكون إمامًا للمفترض، ولذلك لو أن المفترض هو الذي كان إمامًا خروجًا من الخلاف أيضًا فهذا حسن.
السؤال: إذا كنت أتسنّن ودخل معي، قدموني بزعم أني إمام، فما العمل هل أحسبها سُنة أصلي سنة أم..؟
الشيخ: نعم، هذا أخ يقول إنه يتسنن السنة الراتبة ثم أتاه إنسان وصلى معه.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 527، ومسلم: 85. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 657، ومسلم: 651. |
^3 | رواه أحمد: 8796. |
^4 | رواه مسلم: 653. |
^5 | رواه أبو داود: 552، وابن ماجه: 792، وأحمد: 15490. |
^6 | رواه مسلم: 654. |
^7 | رواه أبو داود: 551 بنحوه. |
^8 | سبق تخريجه. |
^9 | رواه أبو داود: 567. |
^10, ^11 | رواه أبو داود: 574، وأحمد: 11613. |
^12 | رواه أحمد: 22189. |
^13 | رواه مسلم: 674. |
^14 | رواه مسلم: 444. |
^15 | رواه البخاري: 900، ومسلم: 442، دون الشطر الثاني، وقد سبق تخريجه. |
^16 | رواه البخاري: 580، ومسلم: 607. |
^17 | رواه مسلم: 673. |