الرئيسية/دروس علمية/فقه المعاملات المالية المعاصرة (1433هـ)/(7) فقه المعاملات المالية المعاصرة- عقود الاستصناع والتوريد
|categories

(7) فقه المعاملات المالية المعاصرة- عقود الاستصناع والتوريد

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا هو الدرس في فقه المعاملات المالية المعاصرة، قد ذكرنا جملة منها في دروس سابقة، وسوف نتحدث في هذا الدرس عن جملة من المعاملات المالية المعاصرة.

عقد الاستصناع والتوريد، نبدأ بالحديث عن هذا العقد، والاستصناع هو عقد قديم من العقود المعروفة من قديم الزمان، ولكن برزت الحاجة إليه في الوقت الحاضر، وأصبحت الحاجة إليه ماسة، فأصبحت تتعامل بهذا العقد كثير من المصارف والمؤسسات المالية، فما هو عقد الاستصناع؟

عقد الاستصناع

الاستصناع معناه في اللغة: طلب صناعة الشيء.

ومعناه اصطلاحًا: أن يطلب إنسان من آخر شيئًا لم يُصنع بعد، ليصنع له طبق مواصفات محددة، بمواد من عند الصانع، لاحظ هذا القيد: “بمواد من عند الصانع”، مقابل عوض محدد، ويقبل الصانع بذلك.

الفرق بين الاستصناع والإجارة

وهنا قلنا: بمواد من عند الصانع، يعني: أن العين والعمل كلهما من الصانع، أما إذا كانت العين ليست من الصانع، وإنما من المستصنع، فإن العقد لا يكون استصناعًا، وإنما يكون عقد إجارة.

نوضح هذا بمثال: رجل طلب من آخر أن يبني له بيتًا، وقال: المواد مواد البناء أنا أحضرها لك، أنت فقط تبني لي هذا البيت، هل هذا عقد استصناع؟

هذا ليس بعقد استصناع، هذا يعتبر إجارة، إجارة على عمل، أما لو اتفق مع المقاول على أن يبني له هذا البيت كما يقال: على المفتاح، المواد من عند المقاول، والعمل من عند المقاول، فهذا هو عقد الاستصناع هذا هو عقد الاستصناع.

الدليل على الاستصناع

وعقد الاستصناع.. نقول: إن النبي استصنع خاتمًا، وكان ذلك لما كتب عليه الصلاة والسلام، أو لما أراد أن يكتب إلى ملوك ورؤساء العالم يدعوهم للإسلام، فقيل له: إنهم لا يقبلون كتابًا إلا مختومًا، فأمر بأن يُصنع له خاتم من ذهب، وكُتب عليه: محمد رسول الله.

فلما رآه الناس تختموا بالذهب، قال عليه الصلاة والسلام: لم تختمتم بالذهب؟ قالوا: رأيناك تختمت بالذهب، ففعلنا مثل ما فعلت”، فتركه عليه الصلاة والسلام وأمر باصطناع خاتم من فضة، ونقش عليه: محمد رسول الله [1].

يقول أنس : محمد سطر، ورسول سطر، ولفظ الجلالة الله سطر [2].

وكان عليه الصلاة والسلام يجعل فص الخاتم من جهة باطن كفه [3]، لماذا؟ للإشارة إلى أنه لم يلبسه للزينة، وإنما للحاجة، فكان يختم به الكتب التي يبعثها إلى رؤساء وملوك العالم، يعني ختم من قديم الزمان، ومن الأمور المطلوبة.

وهذا يدلنا على أن التختم أنه ليس بسنة مطلقًا، أما لبس الذهب للرجال فإنه محرم، لكن لبس الخاتم من الفضة، أو من غير الذهب عمومًا، أو من الحديد، هل هو سنة؟

ليس بسنة، وإنما هو مباح، اللهم إلا في حق من يحتاج لذلك، كأن يكون قاضيًا وعليه ختمه مثلًا، ونحو هذا، فهذا يمكن أن يقال إنه سنة، أما لبسه لأجل الزينة، لبس الخاتم لأجل الزينة، فهذا مباح في حق الرجال ليس بسنة، أما في حق النساء فيعني النساء للتجمل، المرأة المطلوب منها مثلًا التجمل لزوجها بحسب ما تلبس له هذا الخاتم.

كلامنا بالنسبة للرجال، نقول: إنه مباح إلا أن يحتاج إلى هذا الخاتم فيكون سنة في حقه، فقالوا: فهذا يعني نوع من الاستصناع، كون النبي عليه الصلاة والسلام استصنع خاتمًا أولًا من ذهب، ثم من فضة، فهذا نوع استصناع.

حكم الاستصناع

اختلف العلماء في حكم الاستصناع على قولين:

فجمهور الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة يمنعون منه، إلا أن تتوفر فيه جميع شروط السلم، ومنها: تسليم رأس المال في مجلس العقد.

وذهب الحنفية إلى جوازه مطلقًا، وأنه عقد مستقل، ومتميز عن السلم بمسائله وأحكامه، والحقيقة أنا لو أخذنا بقول الجمهور، للحق الناس حرج كبير، لأننا نلزم الناس بتسليم ونقد رأس المال كاملًا. فمثلًا: عندما تريد أن تخيط ثوبًا عند الخياط، والمواد من الخياط يعني القماش من الخياط، فهذا نوع من الاستصناع، فعلى قول الجمهور لا بد أن تنقد ثمن الثوب مقدمًا، وإلا ما صح، وعلى قول الحنفية لا يلزم إن شئت قدمت، وإن شئت أخرت، وإن شئت قدمت بعضه وأخرت بعضه باعتبار أنه عقد مستقل.

والقول الراجح هو قول الحنفية في هذه المسألة، وهو الذي عليه عامة أهل العلم المعاصرين، بل يشبه أن يكون هذا إجماعًا عمليًّا من المسلمين على مر العصور على جواز الاستصناع.

فمن قديم الزمان والناس يفعلون هذا، وعلى هذا الاستصناع، ولا يقدمون رأس المال كاملًا في الاستصناع من غير نكير من أهل العلم، فلا يسع الناس في الوقت الحاضر إلا قول الحنفية في هذا، وهو أن عقد الاستصناع عقد مستقل عن السلم، متميز عنه، وبناء على هذا فنقول: الأمر واسع بالنسبة لقبض الثمن، يعني قبض رأس المال، إن شئت قدمته كله، إن شئت أخرته، إن شئت قدمت بعضه وأخرت بعضه.

وبهذا أخذت المجامع الفقهية، أخذوا برأي مذهب الحنفية في أن عقد الاستصناع عقد مستقل بذاته.

الشرط الجزائي في عقد الاستصناع

ويجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطًا جزائيًّا على الصانع إذا لم ينفذ ما التزم به، مثال ذلك: اتفقتَ مع مقاول على أن يبني لك بيتًا على المفتاح كما يُقال؛ يعني المواد منه، وقلتَ له: أريد منك أن تنجز لي هذا البيت خلال سنة، وإذا تأخرت عن السنة أحسب عليك شرطًا جزائيًّا، أفرض عليك غرامة تأخير مثلًا: مائة ريال عن كل يوم، هذا لا بأس به.

الشرط الجزائي إذا لم يكن العقد فيه دينًا لا بأس به، إذا كان العقد من غير دين إن كان على عين أو منفعة أو عمل، فلا بأس به.

فيشترط في عقد الاستصناع بيان جزء المستصنَع وبيان نوعه، وقدره وأوصافه، وتحديد الأجل فيه، يمكن أن يستفاد من عقد الاستصناع في الوقت الحاضر في، على نطاق واسع، يعني مثلًا شخص يورد السيارات، أو يورد سلعًا تعطيه المبلغ مقدمًا، وتقول: على أن تورد لي سلعة مواصفاتها كذا وكذا وكذا.

حكم عقود التوريد

وهذا يقودنا إلى بيان حكم عقود التوريد، وعقود التوريد في الحقيقة إذا نظرنا إلى واقع الناس نجد أن فيها إشكالات كثيرة، عقود التوريد معناها أولًا، معنى التوريد: أن يتعهد شخص بتوريد سلع معلومة إلى آخر بصفة دورية، أو خلال فترة معينة بمبلغ مالي، كأن يورد سيارات، يورد بضائع، يورد سلعًا.

وإن اتفق صاحب المحل مع المورد، يعني عقد معه عقد بيع مباشرة، يكون المورد قد باع ما لا يملك، وهذا يا إخوان خطأ شائع عند كثير من المحلات، تجد أنه يتفق مع المورد، ويعقد معه عقد بيع، والمورد لا يملك السلعة، فيكون قد باع ما لا يملك، وهذا لا يجوز.

قد نهى النبي عن بيع ما لا يملك، إذن ما هو الحل؟ ما هو المخرج؟

المخرج إذا كانت السلعة مما يستصنع، فيمكن أن يعقد معه عقد استصناع يمكن أن يعقد معه عقد استصناع، إذا كانت السلعة تتطلب صناعة، فيعقد معه عقد استصناع، ونحن ذكرنا في عقد الاستصناع أنه لا يشترط على القول الراجح تسليم رأس الثمن في مجلس العقد.

إذا كان محل العقد سلعة لا تتطلب صناعة، يعني توريد سيارة مصنوعة، أو سلع مصنعة، فهنا نقول: إن أمكن أن يكون سلمًا، فهذه الصيغة جائزة، سلمًا يعني يكون العقد على سلعة موصوفة بالذمة، يقول مثلًا: أعطيك هذا المبلغ على أن تورد لي سيارات من نوع كذا، موديل كذا، مواصفاتها كذا، فيكون سلمًا ويجوز.

لكن انتبه السلم من شروط صحته: تسليم رأس المال في مجلس العقد، لا بد من أن ينقد له رأس المال كاملًا، والواقع أن الناس لا يرغبون في تسليم رأس المال لا يرغبون؛ يقول: كيف أنا أعطيه رأس المال كاملًا، وهو لم يورد السلعة بعد.

فنقول إذن: إذا كان بصيغة السلم فهو جائز، فهذا مخرج، طيب: إذا قال: أنا ما أريد أن أنقد رأس المال كاملًا، والسلعة لا تتطلب صناعة، فما هو الحل؟

إذا كانت تتطلب صناعة يعقد عقد استصناع، إذا كان لا تتطلب صناعة، نقول: اعقد معه عقد سلم، عقد السلم لا بد من نقد رأس المال كاملًا، قال: لا، أنا ما أريد أن أنقد رأس المال كاملًا، ما هو الحل، أو المخرج؟

نقول: المخرج أن يكون على سبيل الوعد غير الملزم، يعني يقول: ورد لي سيارات بمواصفات كذا، وأعدك أنك إن استوردتها سوف أشتريها منك، فهذا لا بأس به، أما أن يعقد معه مباشرة وقد باع ما لا يملك، فانتبهوا لهذه المسألة.

إذن نلخص الكلام مرة أخرى في عقود التوريد:

نقول: عقود التوريد لا يخلو: إما أن تتطلب السلعة صناعة أو لا، فإن كانت تتطلب صناعة يعني سوف تصنع، فيعقد معه مع المورد عقد استصناع، وهذا جائز، إن كانت لا تتطلب صناعة، فلا يجوز أن يعقد صاحب المحل مع المورد مباشرة عقد بيع؛ لأنه إن فعل ذلك يكون قد باع ما لا يملك.

إذن ما هو المخرج؟

المخرج إما أن يعقد معه عقد سلَم، وينقد له رأس المال كاملًا في مجلس العقد، أو أن يكون ذلك على سبيل الوعد غير الملزم، يعده إن ورد السلعة سوف يشتريها منه.

وأما أن يبيع مباشرة فهذا لا يجوز، طيب ما هي الصورة الشائعة الآن في الأسواق؟

الصورة الشائعة هي البيع بيع ما لا يملك الصورة الممنوعة، ولهذا فإن الناس يحتاجون إلى توعية، توعية بأن هذا العمل محرم وأنه لا يجوز، وأن المورد يكون قد باع ما لا يملك، فلا بد أن يسلك صيغة من الصيغ المباحة.

إما استصناع، إما سلم، إما وعد، أما أن يبيع وهو لا يملك السلعة، وإنما سوف يشتريها فإن هذا غير جائز، هذا فيما يتعلق بعقد الاستصناع، وكذلك عقود التوريد.

التأجير المنتهي بالتمليك

ننتقل بعد ذلك إلى صورة من الصور الموجودة في الأسواق خاصة عند المصارف، وهو التأجير المنتهي بالتمليك، كثيرًا ما ترد أسئلة عن حكم التأجير المنتهي بالتمليك، وهذا التأجير تمارسه المصارف وتمارسه شركات ومؤسسات، فما حكم التأجير المنتهي بالتمليك؟

التأجير المنتهي بالتمليك له عدة صور:

منها: ما هو جائز، ومنها: ما هو ممنوع.

مفهوم التأجير المنتهي بالتمليك

أولًا: التأجير المنتهي بالتمليك لم يكن معروفًا لدى المسلمين، وإنما المعروف لدى المسلمين إما بيع وإما إجارة، والبيع إما أن يكون بيعًا حالًا أو بيع مقسطًا، أما التأجير المنتهي بالتمليك لم يكن معروفًا لدى المسلمين.

وإنما انتقل للمسلمين من الغرب، ويقال: إنه أول ما ظهر هذا العقد ظهر في بريطانيا، ثم نقل بعد ذلك، انتشر في العالم، وانتقل إلى العالم الإسلامي بعلاته، ووجدت فيه كثير من الشركات والمؤسسات والمصارف، وجدت فيه مخرجًا؛ لأنها كانت في البيع بالتقسيط تنتقل الملكية للمشتري، أما في التأجير المنتهي بالتمليك لا تنتقل، وإنما تبقى الملكية باسم المؤجر إلى نهاية العقد؛ فالشركات والمصارف وجدت فيه مخرجًا، وفرحت بهذا العقد.

صور التأجير المنتهي بالتمليك

ولكن بعض صور هذا العقد غير جائزة، وبعضها جائز، التأجير المنتهي بالتمليك نحن نعرف أن عقد البيع له خصائصه، وعقد الإجارة لها خصائصها، وعقد الإجار له خصائصه أيضًا، عقد البيع ينتهي بتملك السلعة المباعة عندما يقول: بعتك، يقول: قبلتُ، أو نحو ذلك من العبارات، ويحصل تفرق من مكان العقد بالأبدان لزم البيع.

الإجارة هي بيع منفعة، وهي أيضًا عقد لازم، التأجير المنتهي بالتمليك هنا اجتمع عقدان، اجتمع تأجير وكذلك تمليك، نوقش هذا العقد التأجير المنتهي بالتمليك في مجلس هيئة كبار العلماء، وفي كذلك مجمع الفقه الإسلامي، وصدر فيه قرار من مجلس هيئة كبار العلماء بالمنع، والمقصود به صورة واحدة من صوره.

ودرسه مجمع الفقه الإسلامي الدولي، وذكر عدة صور: صور جائزة، وصور ممنوعة، وقرار المجمع الفقهي هو أشمل وأدق، فجاء في ضابط المنع:

أن يرد عقدان مختلفان في وقت واحد على عين واحدة في زمن واحد، يعني تأجير وبيع في الوقت نفسه، على عين واحدة في نفس الوقت، هذه الصورة الممنوعة.

وضابط الجواز: وجود عقدين منفصلين يستقل كل منهما عن الآخر زمانًا، بحيث يكون إبرام عقد البيع بعد عقد الإجارة، أو وجود وعد بالتمليك في نهاية مدة الإجارة.

يعني مثلًا: يعقد معه عقد إجارة حقيقي، ويقول: أؤجرك هذه السيارة على أن تدفع كل شهر مثلًا ألفًا وخمسمائة ريال، وإذا استأجرت هذه السيارة ثلاث سنوات، سوف أبيع عليك هذه السيارة، هذا لا بأس به.

أو إذا استأجرت هذه السيارة ثلاث سنوات، ورأيتك منتظمًا في سداد الأجرة، أعدك بأنني سوف أهب لك هذه السيارة، فهذا لا بأس به، فالصورة الجائزة لا بد أن تكون الإجارة فيها حقيقية ليست صورية، وإنما تكون الإجارة حقيقية، بحيث يترتب عليها ما يترتب على الإجارة من مسائل وأحكام.

وأيضًا تترتب آثار الإجارة على ذلك العقد، بحيث يكون ضمان العين المؤجرة على المؤجر الذي هو مالك السلعة، لا على المستأجر، وإذا اشتمل على تأمين، والتأمين يجب أن يكون تأمينًا تعاونيًّا، فهذا يتحملها أيضًا المالك الذي هو المؤجر، وليس المستأجر.

فإذا كان عقد الإجارة بهذه الطريقة، فهذا لا بأس به، يعني إجارة مع وعد بالتمليك، سواء كان بطريق البيع، أو بطريق الهبة.

إذا نظرنا إلى الواقع نجد أن معظم عقود التأجير المنتهي بالتمليك هي من الصور الجائزة، ولذلك بعض العقود يكتب عليها تأجير مع الوعد بالتمليك، وكثير منها يكتب عليها عقود تأجير فقط، ويكون تأجيرًا حقيقيًّا، ويكون من ضمن البنود: أن هذه الشركة، أو المؤسسة تلتزم مثلًا بأن المستأجر إذا سدد جميع الأقساط أن تبيعه هذه السلعة بمبلغ وقدره كذا.

وبعضهم يسميها الدفعة الأخيرة، الدفعة الأخيرة التي هي ثمن السلعة، وفي بعض الصيغ أن تهب الشركة السلعة للمستأجر، وعلى كلا الصيغتين يكون جائزًا.

من محاذير عقود التأجير المنتهي بالتمليك

من المحاذير الموجودة في عقود التأجير المنتهي بالتمليك: فرض غرامة تأخير، غرامة عند التأخر عن سداد بعض الأقساط، فيقولون: إذا تأخر المستأجر عن سداد قسط من الأقساط، فيفرض عليه غرامة تأخير، عن كل يوم تأخير مثلًا مبلغ وقدره كذا، وهذا لا يجوز، هذا هو نظير ربا الجاهلية.

فإن ربا الجاهلية إذا حل الدين على المدين، أتى الدائن للمدين وقال له: إما أن تقضي، وإما أن تُربي، وهذا لا يجوز، وإن كانت تلك الشركات تزعم بأنها تضع ما تأخذه من غرامة التأخير تضعه في وجوه البر، لكن حتى لو كانت تضعه في وجوه البر يبقى ربا، يبقى أن هذا ربا.

كيف تأخذ الربا من الناس، ثم تضعه في وجوه البر؟ فهذا الشرط شرط غير جائز، فإذا تضمن العقد هذا الشرط، فإنه يكون غير جائز، هذا هو أبرز الإشكالات الشرعية الموجودة في عقود التأجير المنتهية بالتمليك.

إذن لا بد أن تكون إذن الصيغة صيغة جائزة، يكون تأجيرًا حقيقيًّا، مع وعد بالتمليك، ولا بد من خلوه من الشروط المحرمة، مثل هذا الشرط الربوي، وينبغي للمصارف والشركات، والمؤسسات التي تتعامل بالتأجير المنتهي بالتمليك أن تعرض عقودها على العلماء، وعلى المتخصصين الشرعيين، حتى ينظروا في هذه العقود، ومدى مراعاتها للضوابط الشرعية.

ينبغي الحقيقة بل يتعين على المتعاملين بالتجارة من الشركات والمؤسسات والمصارف الاهتمام بالنواحي الشرعية، نجد أن بعض المصارف أو بعض الشركات لا تأبه بالجانب الشرعي، لا تهتم به، ولهذا تجد بعض الشركات المطروحة للاكتتاب عندما تقرأ نشرة الإصدار تعجب، تجد فيها مستشارًا قانونيًّا، مستشارًا إداريًّا، مستشارًا للتسويق.. يعني تجد يعني عشرة مستشارين، لكن لا تجد فيها مستشارًا شرعيًّا.

وهذا يدل على قلة الاهتمام بالنواحي الشرعية، ينبغي أن تكون الأمور الشرعية هي أول اهتماماتنا، لمن يتعامل بالتجارة لا بد من العناية بالجوانب الشرعية، إذا كان يريد أن يبيع مثلًا بالتقسيط، أو يؤجر تأجيرًا منتهيًا بالتمليك على الأقل يستشير أهل العلم في العقود التي يبرمها مع الآخرين، حتى يطمئن ويطمئن الناس إلى ذلك.

ولكن الواقع أن كثيرًا من الشركات والمؤسسات والمصارف لا تهتم كثيرًا بهذه الجوانب، وإنما يهمها الجانب التجاري، والنواحي المالية فقط، ولا تهتم بالجوانب الشرعية.

بطاقات الائتمان

ننتقل بعد ذلك إلى موضوع آخر من موضوعات المعاملات المالية المعاصرة، وهو بطاقات الائتمان، وبطاقات الائتمان في الحقيقة، يعني هذا الموضوع من الموضوعات المهمة، وربما أن كُل أو جُل الحاضرين معهم، مع كل واحد منهم بطاقة ائتمانية واحدة على الأقل.

بطاقة مثلًا الصراف الآلي، بطاقة الفيزا؛ فأصبح معظم الناس يحملونها، يحتاج إلى أن نقف مع أبرز أحكامها الشرعية.

معنى بطاقات الائتمان

البطاقات جمع بطاقة، وهي بمعنى الورقة، والبطاقة كلمة عربية فصيحة، وقد جاء ذكرها في السنة في قول النبي في الحديث المشهور الذي يسمى حديث البطاقة: فتخرج له بطاقة مكتوب فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، أو محمدًا عبده ورسوله [4]، وهذا الحديث أخرجه ابن ماجه وغيره بسندٍ لا بأس به.

بطاقات الائتمان، الائتمان هو لم يرد هذا اللفظ في اصطلاحات المتقدمين، وإنما ورد في اصطلاح الفقهاء المعاصرين، فتوصف هذه البطاقات بالائتمان، الائتمان ترجمة للمصطلح الإنجليزي Credit، فهذه البطاقات هي بطاقات ائتمان.

بعض الباحثين المعاصرين اعترض على هذا المصطلح، وقال: إن الأولى أن تسمى بطاقات إقراض، وليست بطاقات ائتمان، وأن العدول عن الإقراض إلى الائتمان يراد به صرف الأنظار عن الإقراض وأحكامه الشرعية، وما قد يترتب عليه من عمولات.

ولكن هذا محل نظر، إذ أن حقيقة الائتمان عند الاقتصاديين: هو منح دائن للمدين مهلة من الوقت يلتزم المدين عند انتهائها بدفع قيمة الدين، فهو التزام من المصرف بمنح عميله دينًا، نظرًا للثقة التي يشعر بها نحوه.

فالائتمان أقرب للدين منه للقرض، ولهذا نقول: إن هذا المصطلح لا بأس به، مصطلح الائتمان لا بأس به.

بطاقات الائتمان هي أداة دفع وسحب نقدي، يصدرها مصرف تجاري، أو مؤسسة مالية تمكّن حاملها من الشراء بأجل على ذمة مصدرها، وتمكنه أيضًا من الحصول على النقد اقتراضًا من مصدرها، أو من غيره بضمان، وتمكنه من الحصول على ضمانات خاصة.

أقسام بطاقات الائتمان

بطاقات الائتمان تنقسم إلى: بطاقات ائتمان مغطاة، وبطاقات ائتمان غير مغطاة، ما معنى مغطاة؟ الغطاء هو الرصيد، يعني تكون مغطاة بالرصيد، عندك من الرصيد ما يغطيها، غير المغطاة يعني تكون بدون رصيد.

بطاقات الائتمان المغطاة من أبرزها يعني بطاقات الصراف الآلي، فأنت تسحب بها عن طريق الصراف من حسابك، وهناك بطاقات الفيزا، وماستركارد، ونحوها، إذا كان لك رصيد تدخل في بطاقات الائتمان المغطاة.

وهذه بطاقات الائتمان المغطاة لا إشكال في جوازها؛ لأن المستخدم لها إنما يسحب في الحقيقة من رصيده، وحينئذ لا حرج في استخدامها باتفاق العلماء المعاصرين.

حكم الشراء بالبطاقة الائتمانية

وهذه البطاقات هي في الحقيقة تقوم مقام المصارفة يدًا بيد، ولهذا هل يجوز أن يُشترى الذهب والفضة عن طريق هذه البطاقات، يعني عندما تريد أن تشتري ذهبًا، ذهبت مثلًا لمحل الذهب، اشتريت ذهبًا بعشرة آلاف ريال، أعطيته بطاقة الصراف الآلي، لكي يخصم قيمة الذهب من حسابك، هل هذا يجوز؟ هل هذا في حكم التقابض؟

نقول: نعم، هو في حكم المصارفة يدًا بيد، وفي حكم التقابض، ولذلك نجد أن البائع مطمئن تمامًا على حصوله على حقه، يعني لو كان يشك في حصوله على حقه، ولو واحد بالمائة ربما لا يسمح، لكن هو مطمئن تمامًا، وأنت مطمئن، فينصرفان البائع والمشتري، وليس بينهما شيء، ينصرفان وقد تصارفا وتخالصا وليس بينهما شيء.

فإذن هذه البطاقات بطاقات الصراف الآلي تقوم مقام المصارفة يدًا بيد، وبهذا أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله.

حكم السحب ببطاقة الائتمان من جهاز بنك آخر

أما حكم السحب بهذه البطاقة من جهاز مصدرها لا بأس به، يعني مثلًا الراجحي تسحب بها من صراف الراجحي لا بأس به، لكن ما حكم السحب من جهاز آخر، يعني لبنك آخر، مثلًا يكون حسابك لدى الراجحي، وتريد أن تسحب بهذه البطاقة من صرّاف من البنك الأهلي مثلًا، هل هذا جائز، أم لا؟

هذه من المسائل التي اختلف فيها العلماء المعاصرون:

فمنهم من منع، وقالوا: لأن المصرف مصدر البطاقة يؤخذ منه على كل عملية سحب أربعمائة وستين ريال تذهب منها ستون هللة لمؤسسة النقد، وتبقى أربعة ريالات للبنك، وحينئذ إذا سحب حامل البطاقة من صراف غير مصدر البطاقة، سيؤخذ من المصرف مصدر البطاقة أربعة ريالات، فيجتمع قرض وحوالة.

ولكن هذا يعني محل نظر، ولذلك فالذي عليه أكثر أهل العلم هو الجواز، وأن الإنسان يسحب، له أن يسحب من أي جهاز صراف؛ لأنه في الحقيقة من يسحب إنما يسحب من رصيده، يعني هل أنت عندما تسحب الآن بهذه البطاقة أنت تسحب من رصيدك، ولو كان عن طريق جهاز، ولو كان جهاز الصراف لبنك آخر.

فأنت تسحب من رصيدك في الحقيقة عبر هذا الجهاز، ولهذا يعني فالقول الصحيح والذي عليه أكثر أهل العلم أنه لا بأس بذلك، وأن لك أن تسحب من أي جهاز صراف؛ لأنك إنما تسحب من رصيدك في الحقيقة.

ولذلك لو كنت عند الفرع الذي حسابك فيه، وسحبت بهذه البطاقة من جهاز صراف لبنك آخر، نفترض أن ما في رصيدك إلا ألف ريال، سحبت هذه الألف عن طريق صراف لبنك آخر، لو ذهبت بعد دقيقتين للفرع، وتريد تقول: أعطوني ألف ريال، قالوا: ما في رصيدك شيء، فهذا دليل على أنك إنما سحبت من حسابك في الحقيقة، فأنت إنما تسحب من حسابك، وليس من حساب البنك الآخر، فلا يرد الإشكال الذي ذكره المانعون، لا يرد هذا الإشكال.

ولهذا أقول: لا بأس بأن تسحب من أي جهاز صراف، وأما ما يؤخذ من عمولة فهذا بين البنوك، هذا أمر رتبته مثلًا مؤسسة النقد هنا في المملكة بين المصارف، وبسبب استخدام جهاز ذلك البنك، فهذا البنك يأخذ على هذا عمولة، وهذا يأخذ على هذا عمولة، فهو عملية مرتبة بين البنوك، وهي أيضًا رسوم خدمة، ولذلك المبلغ فيها يكون مقطوعًا، هذا فيما يتعلق ببطاقات الائتمان المغطاة.

بطاقات الائتمان غير المغطاة

أما بطاقات الائتمان غير المغطاة، أولًا ما معنى غير المغطاة؟

بطاقات الائتمان غير المغطاة يعني التي كما قلنا: بدون رصيد، الغطاء معناه الرصيد، يعني بطاقات بدون رصيد، مثل الفيزا مثلًا وماستركارد ونحوها.

وعرفها المجمع الفقهي بأنها مستند يعطيه مصدره لشخص طبيعي أو اعتباري، بناء على عقد بينهما يمكنه من شراء السلع أو الخدمات ممن يعتمد المستند وهو التاجر دون دفع الثمن حالًا، لتضمنه التزام المصدر بالدفع، ويكون الدفع من حساب المصدر، ثم يعود على حاملها في مواعيد دورية.

بطاقات الائتمان غير المغطاة يعني يكون مثلًا عندك بطاقة فيزا، وما يكون في رصيدك شيء، البنك يعطيك قرضًا مثلًا عشرة آلاف ريال على أن تسدد هذا المبلغ خلال مدة معينة، إلى الآن ما في إشكال، يعني يعتبر هذا قرض حسن، عشرة آلاف ريال تردها عشرة آلاف ريال.

لكن إن تأخرت عن السداد، فبعض البنوك تفرض غرامة تأخير، يحسبونها يعني يتيحون لك فرصة، أو مهلة سماح مجانية تتراوح ما بين أربعين إلى خمسة وخمسين يومًا، يعني في هذا الحدود، ثم بعد ذلك تحسب غرامة تأخير.

وهذه الغرامة هنا هي محل الإشكال، هي موضع الإشكال، معنى ذلك أنك الآن اقترضت من هذا البنك عشرة آلاف ريال، فلما حل موعد السداد، كأن البنك بلسان الحال يقول لك: إما أن تقضي، وإما أن تُربي.

أعطاك مهلة سماح مجانية تسدد فيها، ما سددت طيب إما أن تقضي، وإما أن تُربي، هذا هو نظير ربا الجاهلية، وقد كان إذا حل الدين أتى الدائن للمدين، وقال له: إما أن تقضي، وإما أن تربي، فإن قضاه وإلا قال: أنظرك مقابل زيادة الدين.

هذه البطاقات بهذا الشرط محرمة ولا تجوز، المصارف الإسلامية لا تشترط هذا الشرط، يعطونك يعني قرضًا يعطونك فترة سنة مجانية، بعدها لا يحسبون عليك لا يفرضون عليك غرامة، لا يفرضون عليك فوائد ربوية، لكن يعني هذه البنوك لها آليتها.

يعني مثلًا من يتأخر في السداد يوضع في القائمة السوداء، يعني لهم طريقة في معاقبة ذلك المتأخر من غير فرض غرامة تأخير، الإشكال هو في فرض غرامة التأخير هذه، هذه هي موضع الإشكال.

فإن قال قائل: أنا سأقترض من البنك وألتزم بسداد القرض، وبالتالي لن أدفع غرامة تأخير، فنقول: هذا العمل فيه إشكالان:

  • الإشكال الأول: أنك عندما توقع على قبول هذه البطاقة تكون قد قبلت بالربا، وقعت على قبول الربا، وهذا بحد ذاته لا يجوز.
  • الإشكال الثاني: أن الإنسان لا يدري ما يعرض له، فقد تكون عازمًا على أن تسدد خلال فترة السماح المجانية، ثم يعرض لك عارض، فلا تتمكن من السداد.

وأذكر أن رجلًا اتصل بي، وقال: إنه أخذ قرضًا عن طريق بطاقة الفيزا من أحد البنوك، يقول: وكنت قد رتبت أموري وأوضاعي المالية على أن أسدد خلال فترة السماح المجانية، يقول: حصلت لي ظروف وضائقة مالية، ولم أتمكن من السداد.

فقلت: أنت الذي أوقعت نفسك في هذا الحرج، كان ينبغي ألا تأخذ هذا النوع من البطاقات أصلًا، خاصة مع وجود البديل، فعندنا في المملكة يوجد البديل المصارف الإسلامية تعطي بطاقات فيزا من غير اشتراط هذا الشرط.

لكن قد يُقال في حالات ضيقة في البلدان التي لا يوجد فيها مصارف إسلامية، ويحتاج الإنسان إلى هذا النوع من البطاقات، فقد يقال بالجواز بشرط أن يلتزم بالسداد خلال فترة السماح المجانية، يعني في أحوال ضيقة.

كما في حال بعض مثلًا المبتعثين في الخارج يعني كثير من الأمور إنما تكون عن طريق البطاقات بطاقات الائتمان، وقد لا يوجد مصرف إسلامي يمنح هذا النوع من البطاقات، فإذا احتاج إلى أن يستخدم هذا النوع من البطاقات، فنقول: لا بأس في هذه الحدود الضيقة بشرط أن يلتزم بالسداد خلال فترة السماح المجانية، بحيث يرتب أموره على ذلك، ففي حدود ضيقة قد يقال بالجواز في مثل هذا.

رسوم إصدار بطاقات الائتمان

بطاقات الائتمان هذه تتضمن رسوم إصدار، رسوم الإصدار هذه لا بأس بها؛ لأن إصدار هذا النوع من البطاقات، سواء كان بطاقات فيزا أو ماستركارد، حتى بطاقات الصراف، مع أن الواقع أن بطاقة الصراف تُعطى مجانًا، لكن لو افترضنا أن بعض البنوك أرادت أن تأخذ رسومًا عليها، أو رسومًا على مثلًا بطاقات الفيزا، وماستركارد الأصل في هذه الرسوم الجواز؛ لأن إصدارها له كلفة تتطلب وقتًا وجهدًا وموظفين ومالًا، ولا نستطيع أن نقول للبنوك: اخدموا الناس مجانًا، لا نستطيع أن نلزم البنوك بأن تخدم الناس مجانًا، من أراد أن يُخدم لا بد أن يبذل مالًا، كما يقال في المثل: لا يُخدم بخيل، من أراد أن يُخدم يدفع المال.

فلا نستطيع أن نقول للبنوك: اخدموا الناس مجانًا، فما كان مقابل خدمة ورسوم إدارية ومصارف فعلية حقيقية لا بأس بها، فهذا فيما يتعلق برسوم الإصدار نقول: إنه لا بأس به.

السحب النقدي من حامل البطاقة

من أحكام هذه البطاقات: أن السحب النقدي من حامل البطاقة هو في الحقيقة اقتراض من مصدرها، وهذا لا بأس به ما لم يترتب عليه زيادة ربوية، أما الرسوم التي تؤخذ على مجرد السحب، يعني بعض البنوك تفرض رسومًا.

إن كان السحب يدويًا بحيث يذهب صاحب البطاقة ويسحب منه ما أراد من نقد، فإنه لا يجوز أخذ رسوم على هذه السحب مطلقًا؛ لأن الرسوم في هذه الحالة من الربا الصريح؛ لأنه ليس له كلفة غير معتادة.

أما إذا كان السحب عن طريق أجهزة الصراف، فيجوز أخذ رسوم مقطوعة مقابل ما يقوم به البنك من خدمات ومصاريف فعلية حقيقية، ولا تجوز الزيادة على ذلك، لا تجوز الزيادة على ذلك.

حكم شراء الذهب والفضة ببطاقات الفيزا

أيضًا من أحكام هذه البطاقات: أنه لا يجوز شراء الذهب والفضة والعملات النقدية ببطاقات الفيزا وماستركارد ونحوها؛ وذلك لأن فيها تأجيلًا، وعند شراء الذهب والفضة لا بد من التقابض؛ لقول النبي : الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، يدًا بيد، سواء بسواء، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، فإذا اختلفت الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد [5].

عند بيع الذهب بالأوراق النقدية، قلنا: لا بد من التقابض، نحن قلنا: إذا كان شراء الذهب والفضة عن طريق بطاقة الصراف الآلي فهو جائز؛ لأنك في الحقيقة تسحب من رصيدك وينتقل مباشرة لرصيد البائع.

لكن إذا كان الشراء عن طريق بطاقات الفيزا وماستركارد ونحوها، فالواقع أن فيها تأجيلًا، يعني لا ينتقل المبلغ من رصيدك إلى رصيد البائع مباشرة، وإنما يكون هناك تأجيل، وهذا التأجيل قد يطول، قد يصل أحيانًا ثلاثة أيام، قد يصل أكثر من ثلاثة أيام، معنى ذلك أن فيه تأجيل.

ولهذا قرر المجمع الفقهي الدولي أنه لا يجوز، لا يجوز بيع وشراء الذهب والفضة عن طريق هذا النوع من البطاقات بطاقات الفيزا ونحوها أنه لا يجوز، لأن فيها تأجيلًا.

وذهب بعض العلماء المعاصرين إلى الجواز، قالوا: لأنه وإن كان فيها تأجيل، إلا أنها في قوة المصارفة يدًا بيد، والبائع عن طريقها مطمئن إلى وصول حقه تمامًا بسبب الضمانات الكبيرة المحيطة بها، وهذا قول متجه قول قوي، والأحوط هو القول الأول؛ لأن التأجيل قد يكون كبيرًا، قد يصل إلى أيام، ومع هذا التأجيل يصعب القول بأنه قد تحقق التقابض، فيعني يصعب هذا القول، حتى وإن كان محاط بضمانات كبيرة.

أرأيت لو أن رجلًا ثقة اشترى من آخر ذهبًا، وقال: آتي لك بالمبلغ غدًا، وأعطاه ضمانات، أعطاه ضمانات على أنه سيعطيه المبلغ غدًا، أعطاه رهنًا وكفيلًا، هل يجوز؟

لا يجوز، لا بد من التقابض يدًا بيد، هكذا أيضًا بالنسبة لهذا النوع من البطاقات، لا بد فيه من التقابض.

إذن خلاصة الكلام بالنسبة لشراء الذهب والفضة عن طريق هذا النوع من البطاقات، نقول: إنه يجوز إذا كان عن طريق بطاقات الصراف الآلي، ولا يجوز إذا كان عن طريق بطاقات الفيزا ونحوها.

الشراء عن طريق هذا النوع من البطاقات

بقيت مسألة مهمة متعلقة بالبطاقات وهو الشراء، الشراء عن طريق هذا النوع من البطاقات، عند الشراء عن طريق مثلًا بطاقات الصراف الآلي، أو الفيزا ونحوها، هناك علاقة بين البنك وبين التاجر والعميل.

عندنا الآن ثلاثة أطراف، فالبنك يجوز له أن يأخذ من التاجر عمولة على مشتريات العميل؛ وذلك لأن البنك كأنه أتى له بهذا العميل، كأنه يأخذ ذلك مقابل السمسرة، هناك اتفاقية بين التاجر والبنك يقول: أنا آتي لك بزبائن من العملاء عندي، لكن تعطيني عمولة على كل عملية بيع، فما بين التاجر والبنك يجوز للبنك أن يأخذ رسومًا على التاجر.

لكن الإشكال الذي يقع هو أن بعض التجار وبعض المحلات يقولون: لا نبيع بالبطاقة، إلا بشرط أن تعطينا عمولة، يقولونه للمشتري، وهذا لا يجوز؛ لأن العلاقة ما بين البنك والعميل هي علاقة قرض، فالتكييف الفقهي للحساب الجاري أنه قرض، فإذا كان سيؤخذ من العميل مبلغ نقدي، يعني سيأخذه التاجر، والبنك سيأخذه من التاجر، فكأن البنك في الحقيقة أخذ عمولة، كأن البنك أخذ فائدة على هذا العميل، فلا يجوز إذن أن يأخذ رسمًا، لا يجوز للتاجر والمحلات التجارية أن تأخذ رسمًا مقابل الشراء بهذه البطاقات لا يجوز ذلك، وذلك لأنها تؤول للقرض بفائدة، فكأن الآن العميل أقرض البنك هذا المبلغ، وعندما يؤخذ مبلغ من العميل يأخذه التاجر، ويأخذه البنك من التاجر، فكأن المسألة تكون عملية قرض بفائدة، وهذا لا يجوز.

لكن ما يكون ما بين التجار والبنك هذا لا بأس به، هذا فيما يتعلق ببطاقات الائتمان، وهذه خلاصة كلام أهل العلم فيها.

التأمين

ننتقل بعد ذلك إلى موضوع لعلنا نختم به هذا الدرس، وهو التأمين.

معنى التأمين وأقسامه

والتأمين يعني قد أصبح شائعًا ومنتشرًا في جميع بلدان العالم، وهو نظام تعاقدي يقوم على أساس المعاوضة، أو التبرع، أو مختلط بينهما، وينقسم إلى تأمين تجاري، وتأمين تعاوني، وتأمين اجتماعي.

ولم يكن هذا معروفًا لدى الناس من قبل، وإنما انتشر في الوقت الحاضر، وإن كان ابن عابدين قد أشار إلى بعض أنواعه في حاشيته.

حكم التأمين

والتأمين اختلف العلماء المعاصرون في حكمه: فمنهم من ذهب إلى الجواز مطلقًا، سواء كان تجاريًّا، أو تعاونيًّا أو اجتماعيًّا، يعني بجميع أنواعه، ومن أبرز من ذهب إلى هذا الرأي: الشيخ مصطفى الزرقا رحمه الله.

ومنهم من ذهب إلى منع التأمين بجميع أنواعه، ولكنهم قلة من العلماء.

والقول الثالث وهو الذي عليه أكثر العلماء: تحريم التأمين التجاري، وجواز التأمين التعاوني والاجتماعي.

نعم، تحريم التأمين التجاري، وجواز التأمين التعاوني والاجتماعي، الاجتماعي داخل في التعاوني، الاجتماعي مثل مثلًا التقاعد نظام التقاعد والتأمينات الاجتماعية ونحوه، هذا هو التأمين الاجتماعي، وهذا القول القول بالتفصيل هو الذي عليه أكثر العلماء، وهو الذي أقرته المجامع الفقهية: مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي، ومجمع الفقه الإسلامي الدولي.

أدلة تحريم التأمين التجاري

واستدلوا لتحريم التأمين التجاري بأدلة منها: من أبرز ما فيه أن فيه غررًا، فالغرر فيه ظاهر، وذلك أنك عندما تؤمن سيارتك مثلًا لدى شركة، فقد يحصل حادث، وقد لا يحصل، ربما يحصل الحادث فتأخذ أكثر من حقك، وربما لا يقع حادث، فتأخذ الشركة أكثر من حقها، ففيه غرر ظاهر، فيه جهالة وغرر، ربما يبقى الإنسان عشر سنين ما وقع له حادث، وربما في شهر واحد يقع حادث كبير، ويأخذ مبلغًا كبيرًا.

وهناك علل أخرى قيلت، لكنها غير ظاهرة أبرز ما فيه هو أن فيه غررًا، وأما من جوز التأمين التجاري، فقالوا: إن هذا الغرر غرر يسير وغرر محتمل، وقاسوه على العاقلة، وعلى الأشعريين فإن الأشعريين أثنى عليهم النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قلّ طعام عيالهم في المدينة، جمعوا ما عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم [6]، وهذا رواه البخاري.

فالأشعريون إذا حصل عندهم مجاعة، أو حصل عندهم فقر يجمعون الطعام كله في ثوب واحد، ثم يقتسمونه بينهم بالسوية، يقولون: هذا نوع من التأمين.

ولكن هذا في الحقيقة يصلح أن يكون دليلًا للتأمين التعاوني وليس للتجاري، القول الراجح: هو أنه يجوز التأمين التعاوني، ولا يجوز التأمين التجاري.

والشريعة الإسلامية في الحقيقة فرقت بين ما كان مبناه على المعاوضة، وما كان مبناه على الإرفاق، فما كان مبناه على المعاوضة لا يجوز فيه الغرر، وقد نهى النبي عن الغرر، ولذلك قال العلماء: لا يجوز بيع السمك في الماء، ولا الطير في الهواء، ولا الجمل الشارد، ولا العبد الآبق، ولا كل ما فيه غرر، فإن الشريعة تمنعه إذا كان على سبيل المعاوضة.

أما ما كان على سبيل التبرع فإن الشريعة الإسلامية تتسامح فيه، ولهذا فإن صورة القرض هي في الأساس، لو نظرت للقرض صورته في الأساس صورة ربوية، دفع مال لمن ينتفع به، ويرد بدله، يعني أعطيك عشرة آلاف تردها عليَّ بعد سنة عشرة آلاف، ما في تقابض، لكن الشريعة استثنت هذه الصورة من باب التشجيع للناس على الإرفاق وعلى الإحسان، وعلى التكافل.

فهذا يدل على أن الشريعة تشجع ما كان مبناه على التعاون والتكافل والإرفاق، فالتأمين التعاوني مبناه على الإرفاق، وعلى التكافل والتعاون، فلهذا نقول: التأمين التعاوني جائز، والتأمين التجاري محرم، هذا هو القول الأظهر والله أعلم في هذه المسألة.

ولذلك يمكن للشركات التي تمارس التأمين أن تجعل تأمينها تعاونيًّا، وحينئذ تكون أقساط التأمين التي تدفع تأخذ الشركة عليها مقابل إدارتها لها واستثمارها، ولا تأخذها لأجل يعني تتربح منها، وإنما لمقابل الإدارة فقط لمقابل الإدارة فقط، ممكن تتربح من الإدارة، لكن أقصد أن الفرق بين التأمين التجاري والتأمين التعاوني:

أن التأمين التجاري يعني يقع على سبيل المعاوضة، فالشركة عندما تدفع لها أنت المبلغ، يعني تأخذ هذا المبلغ مباشرة، وتريد أن تنتفع به، أما التأمين التعاوني فيفترض أن الشركة تدير أموال المؤمِّنين، وتأخذ عوضًا على هذه الإدارة، أو على هذا العمل، فبينهما فرق ظاهر.

وقد وجد في الوقت الحاضر بعض الشركات التي تمارس التأمين التعاوني، وهي وإن كانت قليلة، إلا أنه ينبغي أن تشجع من المجتمع، حتى تنجح ويقوم سوقها، وتقتدي بها بقية الشركات التي تمارس التأمين التجاري.

التأمين الاجتماعي كما ذكرنا لا بأس به، وهو نوع من التأمين التعاوني، بعضهم يجعله نوعًا من التأمين التعاوني، وبعضهم لا يجعله نوعًا، وإنما يعتبره قسمًا مستقلًا، ويعني في التقاعد يقتطع جزء من راتب الموظف كل شهر، ثم إذا بلغ مثلًا الستين، أو بلغ سنًا معينة يُعطى راتبًا تقاعديًّا، ويعطى مما اقتطع منه، وربما يُعطى شيئًا زائدًا على ذلك من الدولة، فهذا لا بأس به، وهذا في الحقيقة نوع من التأمين التعاوني، ويسميه بعضهم التأمين الاجتماعي.

ومثل ذلك أيضًا: التأمين لدى التأمينات الاجتماعية وهو من أنواع التأمين الاجتماعي فهو لا بأس به في مثل هذا.

إذن نخلص من هذا إلى أن التأمين إذا كان تأمينًا تجاريًّا فهو محل خلاف بين المعاصرين، فمنهم من أجازه، ومنهم من منعه، والأقرب فيه المنع، وأبرز علل منعه: هو وجود الجهالة والغرر، وأما إذا كان التأمين تعاونيًّا، فنقول: هو جائز، وذلك لأنه لا يقوم على المعاوضة، وإنما يقوم على الإرفاق والتعاون والتكافل، وذكرنا صورة وقعت في عهد النبي وهي قصة الأشعريين، فهي صورة من صور التأمين التعاوني يعني أو تشبه التأمين التعاوني من بعض الوجوه.

أيضًا العاقلة في الدية، فإذن نقول في العاقلة إذا كان على الإنسان دية، والدية مبلغها كبير تصل مائة من الإبل، وهذا قد لا يقوم به الفرد الواحد، فتلزم عاقلة الإنسان بدفع الدية، فهي تشبه التأمين التعاوني من بعض الوجوه، فالتأمين التعاوني بهذا يكون جائزًا.

أما التأمين الاجتماعي فهو أيضًا هو من صور التأمين التعاوني، فهو لا بأس به، طيب إذا كان الإنسان مجبرًا على التأمين، ولم يجد إلا تأمينًا تجاريًّا، فإنه لا حرج عليه في هذه الحال؛ لأنه كما ذكرنا المسألة محل خلاف بين أهل العلم، فإذا أجبر على ذلك أخذ برأي بعض أهل العلم، وأجبر على التأمين التجاري لا بأس بأن يؤمن تأمينًا تجاريًّا بحكم الإلزام، كما مثلًا في التأمين على السيارات ونحوها.

حكم الأخذ من التأمين أكثر مما بذل

إذا وقع حادث ودفع له مبلغ تأمين أكثر مما بذل، أكثر مما دفع، فما الحكم؟

هذه أيضًا مما اختلف فيها العلماء المعاصرون: فبعضهم قال: إنه ليس له إلا أن يأخذ بقدر ما دفع، والقول الثاني في المسألة: أن له أن يأخذ ولو أكثر مما دفع؛ لأنه إذا جاز الدفع جاز الأخذ، فكيف نجيز.. إذا لم يقع حادث كيف نجيز للشركة أن تأخذ أكثر مما يعني مما تدفع.

وأما هذا الإنسان المسكين فإذا حصل حادث نقول: لا تأخذ إلا بقدر ما دفعت، ثم أيضًا: إذا قلنا: أنك لا تأخذ إلا بقدر ما دفعت، فهذا المال يتركه لمن؟ يعني إذا لم يأخذه، فأين تذهب أموال شركات التأمين التجاري.

في الحقيقة جميع شركات التأمين تقوم بإعادة التأمين لدى شركات كبرى، ومن شركة إلى شركة، حتى ربما تصل إلى شركات كبرى، وكثير من ملاكها من اليهود، فهي في الحقيقة شركات التأمين تقوم بإعادة التأمين مرة أخرى.

فلهذا أقول: إن من أمن تأمينًا تجاريًّا بحكم أنه ملزم مثلًا بالنسبة للسيارات، ثم وقع حادث، فله أن يأخذ ما تدفعه له الشركة، حتى وإن كان أكثر مما أخذ في أظهر قولي أهل العلم في هذه المسألة.

هذه خلاصة حول هذا الموضوع، نكتفي بهذا القدر، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 بنحوه رواه البخاري: 5876.
^2 رواه البخاري: 5878.
^3 رواه البخاري: 5876.
^4 رواه الترمذي: 2639، وابن ماجه: 4300.
^5 رواه البخاري: 2175، ومسلم: 1590.
^6 رواه البخاري: 2486، ومسلم: 2500.
مواد ذات صلة