الرئيسية/دروس علمية/شرح كتاب الحج من دليل الطالب/(01) كتاب الحج- من قوله: “وهو واجب مع العمرة..”
|categories

(01) كتاب الحج- من قوله: “وهو واجب مع العمرة..”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

حياكم الله جميعًا في مستهل هذه الدورة العلمية التي تنظمها “الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي”، وذلك في أروقة المسجد الحرام، وتُبَث عن بعدٍ عبر منصات “الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي”.

وأشكر المسؤولين في الرئاسة، وأشكر الإخوة في التوجيه والإرشاد على ترتيب وتنظيم هذه الدورة العلمية.

وستكون مشاركتي في هذه الدورة في شرح كتاب الحج من “دليل الطالب”، من هذا المتن المبارك لمرعي الكرمي.

وسنقتصر في هذه الدورة على شرح كتاب الحج من هذا المتن، وقد شرحت هذا المتن كاملًا في كتاب “السلسبيل في شرح الدليل”، فمن أراد مزيدًا من التوسع فليرجع لهذا الكتاب.

“السلسبيل في شرح الدليل” يقع في ثمانية مجلداتٍ، وشرحت فيه دليل الطالب كاملًا.

كتاب الحج

نبتدئ في التعريفات في كتاب الحج، المؤلف رحمه الله قال:

كتاب الحج

وهو واجبٌ.

تعريف الحج

فنبدأ أولًا بتعريف الحج وتعريف العمرة:

الحج معناه لغةً: القصد.

وشرعًا: عُرِّف بعدة تعريفاتٍ؛ من أحسنها: التعبد لله تعالى بأداء النسك على ما جاءت به السنة، هذا التعريف أجود من تعريف بعض الفقهاء بأن الحج: قَصْد مكة لعملٍ مخصوصٍ في زمنٍ مخصوصٍ؛ لأنه غير مانعٍ؛ فمن يقصد مكة للتجارة في وقتٍ معينٍ يكون قد قصدها لعملٍ مخصوصٍ في زمنٍ مخصوصٍ؛ ولهذا فالتعريف الذي ذكرتُ، وهو: التعبد لله تعالى بأداء النسك على ما جاءت به السنة، هو الأقرب والله أعلم؛ لكونه تعريفًا جامعًا مانعًا.

تعريف العمرة

وأما العمرة فمعناها لغةً: الزيارة، وهذا المعنى اللغوي مهمٌّ، وأيضًا يفيد في تقرير بعض الأحكام، مثلًا مسألة المكي إذا أراد أن يأتي بعمرةٍ، لا بد أن يخرج إلى الحل خارج حدود الحرم؛ حتى يصدق عليه أنه قد زار الحرم؛ لأنه إذا كان داخل الحرم لا يصدق عليه الزيارة، فإذا كان مجاورًا للحرم لا يصدق عليه أنه زار، والعمرة هي الزيارة؛ ولذلك من كان في مكة لا بد من أن يخرج خارج حدود مكة، خارج حدود الحرم، من كان في الحرم لا بد أن يخرج خارج حدود الحرم إذا أراد أن يأتي بعمرة؛ كأن يذهب مثلًا إلى التنعيم فيحرم من مسجد عائشة مثلًا، أو يذهب إلى أي مكانٍ من الحِل فيحرم منه؛ لأن العمرة حقيقتها: الزيارة، وحتى يصدق عليه أنه قد زار لا بد أن يخرج خارج حدود الحرم.

وأما العمرة شرعًا، فهي زيارة البيت الحرام على وجهٍ مخصوصٍ.

فضل الحج والعمرة

والحج والعمرة عبادتان عظيمتان من أفضل الأعمال الصالحة، والحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام.

وظاهر الأدلة: أن الحج يكفر جميع الذنوب حتى الكبائر؛ كما في قول النبي : من حج فلم يرفث ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه [1]، وهذا الحديث رواه البخاري ومسلمٌ، والذي ولدته أمه ليس عليه ذنوبٌ، لا صغائر ولا كبائر، بينما بقية العبادات تقتصر في التكفير على الصغائر دون الكبائر؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفراتٌ لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر [2]، رواه مسلمٌ.

وهذا يدل على فضل الحج، وهو ظاهر القرآن، أعني: تكفير الحج لجميع الذنوب، هو ظاهر القرآن؛ كما في قول الله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203]، أي: أنه يرجع من ذنوبه ولا إثم عليه، قد حطت عنه جميع الآثام، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203]، كذلك، سواءٌ تعجل أو تأخر، يرجع وقد حُطت عنه جميع الآثام، لمن اتقى الله تعالى في حجه؛ ولذلك قال: لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203].

جاء في “صحيح مسلمٍ” في قصة عمرو بن العاص ، أنه لما أراد أن يسلم قال للنبي : ابسط يدك أبايعك، فبسط النبي يده، فقبض عمرٌو يده، فقال له النبي : لم فعلت هذا يا عمرو؟ قال: أردت أن أشترط، قال: تشترط ماذا؟ قال: أشترط أن يغفر لي، فقال له النبي : أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله [3]، فالحج المبرور يهدم ما كان قبله من الذنوب والمعاصي، وهذا يدل على فضل الحج.

فإن قال قائل: هل مغفرة الحج لجميع الذنوب تشمل ما كان متعلقًا بحقوق الآدميين؟

الجواب: لا، لا تشمل ما كان متعلقًا بحقوق الآدميين، ما كان متعلقًا بحقوق الآدميين هذه لا يكفرها شيءٌ، تبقى لأصحابها يوم القيامة؛ ولذلك فحقوق العباد أمرها عظيمٌ جدًّا عند الله ​​​​​​​، حتى الشهيد الذي باع نفسه لله ​​.

ما كان متعلقًا بحقوق العباد يبقى لأصحابه؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: إلا الدَّين، لما أخبر بأن الشهيد تُحَط عنه جميع ذنوبه، قال: إلا الدَّين؛ فإن جبريل أخبرني بذلك آنفًا [4].

فكذلك أيضًا الحج، لا يكفر ما كان متعلقًا بحقوق العباد، يقول ابن تيمية رحمه الله: حقوق العباد؛ من المظالم وغيرها، لا تسقط بالحج باتفاق الأئمة، والحديث الذي يُروى في سقوط المظالم وغيرها في ذلك في حديث عباس بن مرداسٍ حديث ضعيفٌ.

خصائص الحج

الحج يتميز عن بقية العبادات بعدة مميزاتٍ وخصائص:

  • أولًا: الحج يقع مكفِّرًا لجميع الذنوب، كما سبق، بينما بقية العبادات تختص بتكفير الصغائر دون الكبائر.
  • ثانيًا: الحج يصح من الصبي غير المميِّز، فالطفل لو كان عمره سنةً أو أقل أو أكثر، يصح من الصبي غير المميِّز، بينما بقية العبادات لا تصح من غير المميز، ما عدا الزكاة، هذه يزكَّى ماله وإن كان غير مميزٍ.
  • أيضًا: النية، فإن الإنسان لو حج عن غيره، ولم يحج عن نفسه؛ انقلب الحج عن نفسه مباشرةً، وكذلك لو حج وأطلق النية؛ فإنه يصرفه لما أراد من أنواع النسك.
  • وأيضًا: من شرع في الحج وجب عليه إتمامه، بخلاف بقية العبادات، فمن شرع في الصوم لم يجب عليه إتمامه، إذا كان صوم تطوعٍ لم يجب عليه إتمامه، بينما من شرع في الحج وجب عليه إتمامه، فرضًا كان أو نفلًا، فهذه خصائص يختص بها الحج عن غيره.

حكم الحج

قال المصنف رحمه الله:

وهو واجبٌ مع العمرة في العمر مرةً.

أما وجوب الحج: فهذا مجمَعٌ عليه، وهو أحد أركان الإسلام الخمسة، والله تعالى يقول: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97].

قال عليه الصلاة والسلام: بني الإسلام على خمسٍ.. [5]، وذكر منها حج بيت الله الحرام.

ومن أنكر وجوب الحج فإنه يكون كافرًا كفرًا أكبر مخرجًا عن ملة الإسلام؛ لأنه مكذبٌ لله ولرسوله، وهو إنما يجب في العمر مرةً واحدةً بإجماع العلماء.

حكم العمرة

وأما العمرة: فإنها مشروعةٌ، واختلف العلماء: هل هي واجبةٌ، أو مستحبةٌ؟ على قولين:

  • القول الأول: أنها واجبةٌ، وهذا هو مذهب الشافعية والحنابلة.
  • والقول الثاني: أنها مستحبةٌ، وهذا مذهب الحنفية والمالكية.

القائلون بالوجوب، وهم الشافعية والحنابلة، استدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها، قالت: قلت: يا رسول الله، هل على النساء من جهادٍ؟ قال: نعم، عليهن جهادٌ لا قتال فيه، الحج والعمرة [6]، رواه أحمد، وابن ماجه، وهو حديثٌ صحيحٌ، وأصله في “البخاري”، لكن بلفظٍ آخر.

وجه الدلالة: قوله: عليهن؛ فإن هذا ظاهرٌ في الوجوب؛ لأن “على” من صيغ الوجوب، كما هو مقررٌ عند الأصوليين، وإذا كان ذلك في حق النساء، ففي حق الرجال من باب أولى.

وأيضًا: استدلوا بحديث أبي رَزِينٍ العُقَيلي: أنه قال: يا رسول الله، إن أبي شيخٌ كبيرٌ لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظَّعْن، يعني: الركوب على الراحلة، فقال له النبي : حُجَّ عن أبيك واعتمر [7] أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وهو حديثٌ ثابتٌ بمجموع طرقه، وقال عنه الترمذي: حسنٌ صحيحٌ.

فهنا قال عليه الصلاة والسلام: حج عن أبيك واعتمر، أمره بالعمرة، والأمر يقتضي الوجوب، وقَرَن ذلك بالحج.

وقد اختار هذا القول -أعني: القول بوجوب العمرة- البخاري في “صحيحه”، وبوَّب عليه بقوله: باب وجوب العمرة وفضلها، ثم قال: وقال ابن عمر رضي الله عنهما: ليس أحدٌ إلا وعليه حِجةٌ وعمرةٌ، وقال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: وإنها -يعني العمرة- لقرينتها -يعني: قرينة فريضة الحج- في كتاب الله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196].

ثم ساق البخاري بسنده عن أبي هريرة ، أن النبي قال: العمرة إلى العمرة كفارةٌ لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة [8].

أما القائلون بأن العمرة مستحبةٌ وليست واجبةً، وهم الحنفية والمالكية، قالوا: لم يرد في الأدلة دليلٌ صحيحٌ صريحٌ يدل على الوجوب، وإنما وردت أدلةٌ صحيحةٌ غير صريحةٍ، أو صريحةٌ غير صحيحةٍ.

والقول الراجح والله أعلم: هو القول الأول، وهو أن العمرة واجبةٌ؛ لقوة أدلته، ولأن العمرة قرينة الحج -كما قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما- فلا يُذكَر الحج إلا ويذكر معه العمرة، كما أن الزكاة قرينة الصلاة.

فالقول الراجح إذنْ: هو القول بوجوب العمرة، وإن كان وجوبها أدنى من وجوب الحج؛ فالحج أحد أركان الإسلام الخمسة، بينما العمرة واجبةٌ، ووجوبها أدنى من وجوب الحج.

وقد اعتمر النبي بعد الهجرة أربع عُمَرٍ:

  • العمرة الأولى: عمرته في السنة السادسة، في الحديبية التي صُدَّ عنها.
  • والعمرة الثانية: عمرة القَضِيَّة، فإنه قضاها في السنة السابعة.
  • والعمرة الثالثة: عمرة الجِعِرَّانة في السنة الثامنة.
  • والعمرة الرابعة: عمرته مع حجة الوداع.

وكل هذه العُمَر الأربع إنما وقعت في شهر ذي القعدة، وجاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: اعتمر النبي أربع عُمَرٍ، إحداها في رجبٍ، كما في “الصحيحين”، ولكن استدركت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على ابن عمر، فقالت: يرحم الله أبا عبدالرحمن! -يعني ابن عمر- ما اعتمر رسول الله إلا وهو معه، وما اعتمر في رجبٍ قط [9]، وهذا هو المرجح عند كثيرٍ من المحققين أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يعتمر في رجبٍ، إنما العمر الأربع كلها كانت في شهر ذي القعدة.

أيهما أفضل: العمرة في رمضان، أو في أشهر الحج؟

هنا مسألةٌ: أيهما أفضل: العمرة في رمضان، أو في أشهر الحج؟

قولان لأهل العلم:

  • فمن أهل العلم من قال: إن العمرة في أشهر الحج أفضل؛ لأنها فِعل النبي ؛ فإن عُمَرَه كلها إنما كانت في أشهر الحج.
  • والقول الثاني: أن العمرة في رمضان أفضل؛ لقول النبي : العمرة في رمضان تعدل حجةً، أو حجةً معي [10].

والأقرب -والله أعلم- هو القول الثاني: وهو أن العمرة في رمضان أفضل من العمرة في أشهر الحج؛ وذلك لقوة دليله؛ فإن حديث: عمرةٌ في رمضان تعدل حجةً، حديثٌ صحيحٌ، وهو في “الصحيحين”، في البخاري ومسلمٍ، وأيضًا صريحٌ في فضل العمرة في رمضان، بينما القائلون بأن العمرة في أشهر الحج أفضل، غاية ما استدلوا به: أن عُمَرَ النبي إنما وقعت في أشهر الحج.

ولو افترضنا التعارض لوجدنا أن دلالة القول أقوى من دلالة الفعل، كما هو مقررٌ عند الأصوليين، فـعمرةٌ في رمضان تعدل حجةً، هذا من قول النبي عليه الصلاة والسلام، وكونه عليه الصلاة والسلام اعتمر في شهر ذي القعدة فهذا من فعله، ودلالة القول أقوى وأصرح من دلالة الفعل.

وإنما اعتمر النبي عليه الصلاة والسلام في شهر ذي القعدة ولم يعتمر في رمضان؛ لعل الحكمة -والله أعلم- أنه أراد أن يبطل اعتقادًا كان موجودًا لدى الصحابة ورثوه مما كان في الجاهلية؛ فإن قريشًا في الجاهلية كانت ترى العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، فأراد عليه الصلاة والسلام أن يُبطل هذا المعتقد؛ ولذلك اعتمر في شهر ذي القعدة وأمر الصحابة بالعمرة، ولمَّا ترددوا أمَرَهم أمرًا لازمًا، وقال: افعلوا ما آمركم به [11].

فالأقرب والله أعلم: أن العمرة في رمضان أفضل.

شروط وجوب الحج

ثم انتقل المؤلف بعد ذلك للكلام عن شروط وجوب الحج:

قال المؤلف رحمه الله:

وشرط الوجوب خمسة أشياء:

يعني: خمسة شروطٍ، يُقسِّم بعض الفقهاء شروط الحج إلى ثلاثة أقسامٍ:

  • القسم الأول: شروط الوجوب والصحة.
  • والقسم الثاني: شروط الوجوب والإجزاء.
  • والقسم الثالث: شرط الوجوب فقط.

إذنْ عندنا: شروط وجوب الصحة، وشروط وجوبٍ وإجزاءٍ، وشرط الوجوب فقط.

أما شروط الوجوب والصحة، فهما شرطان فقط، وهما: الإسلام، والعقل.

ومعنى كونهما شروط وجوبٍ وصحةٍ: أنه لا يجب الحج على من تخلف فيه هذا الشرط، ولا يصح منه ولو حج، فغير المسلم لا يجب عليه الحج، ولو حج غير المسلم لم يصح منه، كذلك المجنون، لا يجب عليه الحج، ولو حج المجنون لم يصح منه.

وأما كون الحج لا يجب على الكافر؛ فلأن الكافر لا تصح منه عبادةٌ؛ لقول الله : وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ [التوبة:54]، وإذا لم تقبل منهم نفقاتهم لم يقبل منهم حجهم ولا صيامهم ولا صلاتهم، وإن كان أيضًا الكافر معاقَبًا على ترك الحج؛ لأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؛ كما قال الله تعالى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ۝قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ إلى قوله: وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر:42-46]، وحوسبوا على ترك الصلاة، وإذا حوسبوا على ترك الصلاة أيضًا يحاسبون على ترك الحج وترك سائر الواجبات الشرعية.

وأما شرط العقل؛ فلأن المجنون مرفوعٌ عنه القلم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: رفع القلم عن ثلاثةٍ وذكر منهم: وعن المجنون حتى يُفيق [12].

إذنْ هذا هو القسم الأول من شروط الوجوب والصحة، وهما شرطان: الإسلام، والعقل.

القسم الثاني: شروط الوجوب والإجزاء دون الصحة، وهما شرطان: البلوغ، وكمال الحرية.

ومعنى كونهما شروطًا للوجوب والإجزاء: أي أنه لا يجب الحج على من تخلَّف فيه هذا الشرط، ولكن لو حج صح ولم يجزئه عن حجة الإسلام.

فالبلوغ هو شرط وجوبٍ وإجزاءٍ، فلو حج الصبي فالصبي لا يجب عليه الحج، ولو حج لم يجزئه عن حجة الإسلام، أما كونه لا يجب عليه الحج؛ فلأنه غير مكلفٍ، مرفوعٌ عنه القلم، وأما كونه لا يجزئه عن حجة الإسلام لو حج؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: أيُّما صبيٍّ حج ثم بلغ، فعليه حجةٌ أخرى [13]، وهذا الحديث له طرقٌ وشواهد متعددةٌ يقوى بمجموعها إلى درجة الحَسَن.

وأما بالنسبة للرقيق: لا يجب عليه الحج؛ لأنه لا مال له، وماله لسيده، والحج إنما يجب على المستطيع، لكنه أيضًا لو حج صح، ولم يجزئه عن حجة الإسلام للحديث السابق، وفيه: وأيما عبدٍ حج ثم أعتق، فعليه حجةٌ أخرى [14].

ولكن مع قولنا بأن الحج يصح من الصبي ولا يجب عليه، ولا يجزئه عن حجة الإسلام، إلا أننا ننصح في الوقت الحاضر بعدم حج الصبي؛ وذلك لأن تحجيج الصبي يُلحِق الحرج بالصبي وبوليه، وأعداد الحجاج الآن كثيرةٌ، وأعداد المسلمين كثيرةٌ، عدد المسلمين ما يقارب مليارًا ونصفًا، والحجاج الذين يحجون أقل من (1%)، يعني (1%) من مليارٍ ونصفٍ تقريبًا خمسة عشر مليونًا الذين يحجون الآن، يعني ما يقارب مليونين في الظروف المعتادة، فأقل من (1%)، يعني مليونين أقل حتى من ربع (1%)، فينبغي أن تتاح الفرصة لهؤلاء الكبار، وأما الصبيان فالأولى عدم تحجيجهم؛ أولًا: من باب إتاحة الفرصة لغيرهم، ثانيًا: لأن الصبي يَلحَقه الحرج في الحج، ويلحق الحرج كذلك بِوَلِيِّه، فالذي ننصح به عدم تحجيج الصبي.

حكم حج الصغير والرقيق

ثم ذكر المؤلف تفريعاتٍ على هذا القسم:

لكن يصحان من الصغير، والرقيق، ولا يجزئان عن حجة الإسلام وعمرته.

وقد بينا هذا، ثم قال:

فإن بلغ الصغير، أو عَتق الرقيق قبل الوقوف، أو بعده إن عاد فوقف في وقته، أجزأه عن حجة الإسلام.

إذا بلغ الصغير قبل الوقوف بعرفة، أو في أثناء الوقوف بعرفة، أجزأه عن حجة الإسلام، وهكذا أيضًا إذا عتق الرقيق، وهكذا إذا كان ذلك بعد الوقوف بعرفة، لكنه عاد إلى عرفة قبل طلوع الفجر، فإنه يجزئه عن حجة الإسلام.

مثال ذلك: الصبي يُعرف بلوغه بإحدى ثلاث علاماتٍ: إما بخروج المني يقظةً أو منامًا، أو بنبات الشعر الخشن حول الفرج، أو ببلوغ تمام خمس عشرة سنةً، وتزيد الأنثى العلامة الرابعة: وهي نزول دم الحيض.

لو أن واحدًا من هذه العلامات خرجت من هذا الصبي قبل الوقوف بعرفة، أو بين أثناء الوقوف بعرفة، أجزأه ذلك الحج عن حجة الإسلام.

طيب لو كان في مزدلفة، في مزدلفة مثلًا فتاة أتتها الدورة الشهرية وهي بمزدلفة، فهنا إذا رجع هذا الصبي إلى عرفة قبل طلوع الفجر، فيجزئه ذلك عن حجة الإسلام، وهكذا يقال أيضًا بالنسبة للرقيق.

ما لم يكن أحرم مفرِدًا أو قارنًا، وسعى بعد طواف القدوم.

أي: فلا يجزئه عن حجة الإسلام حتى لو وقف بعرفة؛ وعللوا لذلك بأن السعي لا يُشرَع مجاوزةُ عَددِه، ولا تكراره، بخلاف الوقوف، ولكن هذا القول قولٌ ضعيفٌ، والصواب في المسألة: أنه يجزئه، حتى لو كان قد سعى بعد طواف القدوم، وعلى هذا فإنه يعيد السعي، ويجزئه ذلك الحج عن حجة الإسلام.

وكذا تجزئه العمرة إن بلغ، أو عتق قبل طوافها.

الطواف بالنسبة للعمرة كالوقوف بعرفة بالنسبة للحج، فإذا بلغ الصبي أو عتق الرقيق قبل طواف العمرة، فتجزئه تلك العمرة عن عمرة الإسلام، وعلى هذا: يطوف ويسعى بعد البلوغ وبعد العتق.

القسم الثالث من أقسام شروط الحج: شرط الوجوب فقط: وهو الاستطاعة، وأشار إليه المؤلف بقوله:

الخامس: الاستطاعة.

وهذا الشرط قد ورد منصوصًا عليه في القرآن الكريم في قول الله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، مع أن الاستطاعة شرطٌ لوجوب جميع العبادات، وإنما خص ذكر ذلك بالنسبة للحج في الآية الكريمة؛ لأنه يلحق الحاج مشقةٌ كبيرةٌ، ونفقاتٌ وتعبٌ، فنبه على هذا الشرط، وأن غير المستطيع لا يجب عليه الحج، فهذا من باب التأكيد والتوضيح أن الوجوب إنما يكون على المستطيع.

ما المراد بالاستطاعة في الحج؟

ثم فسَّر المؤلف الاستطاعة بقوله:

وهي ملك زادٍ وراحلةٍ تصلح لمثله، أو ملك ما يقدر به على تحصيل ذلك.

فسَّر كثيرٌ من الفقهاء الاستطاعة بملك الزاد والراحلة، وقد رُوي ذلك في حديثٍ، لكنه لا يصح مرفوعًا إلى النبي ؛ وإنما هو مأثورٌ عن بعض الصحابة.

والزاد الذي تُشترط القدرة عليه: ما يحتاج إليه في ذهابه ورجوعه من مأكولٍ ومشروبٍ وكسوةٍ.

وأما الراحلة: فيشترط أن تكون صالحة لمثله؛ إما بشراءٍ أو باستئجارٍ في ذهابه ورجوعه.

وفي وقتنا الحاضر تفسر الاستطاعة بالقدرة على تحصيل أجرة الحج، مع حملة حجٍّ، أو شركة حجٍّ، أو مؤسسةٍ، فإذا استطاع أن يجد أجرة حملة الحج فإنه يكون قادرًا على الحج؛ فمثلًا إذا كانت أجرة الحج مع حملة الحج هذه قدرها عشرة آلاف ريالٍ، واستطاع أن يُحصِّل هذا المبلغ، فيكون مستطيعًا للحج في هذه الحال.

لكن هذا الوجوب مقيد بما ذكره المؤلف، قال:

بشرط كونه فاضلًا عما يحتاجه.

يعني: لا بد أن يكون مِلك الزاد والراحلة، وفي وقتنا الحاضر تحصيل أجرة الحج مع حملةٍ، أن يكون زائدًا عما يحتاجه.

من كتبٍ.

هذا إذا كان طالب علمٍ؛ لأن الكتب لطالب العلم تعتبر من الحوائج الأساسية لا يَستغني عنها.

ومسكنٍ.

لو كان عنده مسكنٌ لا يلزمه أن يبيع مسكنه لأجل أن يحج.

وخادمٍ.

إذا كان يُخدم مثله، لا بد أن يكون هذا الفاضل فاضلًا حتى عن أجرة الخادم إذا كان مثله يُخدم، أما إذا كان مثله لا يُخدم فلا يعتبر ذلك من الحوائج الأصلية.

وأن يكون فاضلًا عن مؤونته ومؤونة عياله.

أيضًا يكون فاضلًا عما يحتاج إليه من نفقةٍ، ونفقة زوجته وأولاده ومن تلزمه نفقتهم.

على الدوام.

أي: أنه يكون فاضلًا عن هذه الأمور على الدوام، وقال بعض أهل العلم: إنه لا يشترط أن يكون فاضلًا عما ذكره المؤلف على الدوام، وإنما يشترط ذلك إلى أن يعود، وليس على الدوام.

وما ذكره المؤلف: بشرط كونه فاضلًا عما يحتاجه من كتبٍ ومسكنٍ وخادمٍ، وعن مؤونته ومؤونة عياله إلى أن يعود، هذا هو الأقرب والله أعلم، وليس على الدوام.

من عليه دين هل يجب عليه الحج؟

إذا كان على الإنسان دينٌ، هل يجب عليه الحج؟

نقول: إذا كان هذا الدين حالًّا، فيجب عليه أن يسدده، ولا يجب عليه الحج في هذه الحال، فقضاء الدين مقدمٌ على وجوب الحج؛ لأن المدين ليس له أن يتصرف فيما فَضَل عن حوائجه الأصلية في هذه الأموال؛ لأنها في الحقيقة مِلكٌ للدائن.

فمثلًا: هذا إنسانٌ عنده عشرة آلاف ريالٍ زائدةٌ عن حوائجه الأصلية، ويطلبه زيدٌ من الناس بعشرة آلاف رياٍل، فنقول: ليس لك أن تذهب وتحج بهذه العشرة الآلاف، هذه سَدِّد بها هذا الدائن، إلا إذا ذهبت إلى هذا الدائن واستأذنته فأذن؛ لأن هذه العشرة الآلاف هي في الحقيقة مِلكٌ للدائن، ليست ملكًا لك، مستحَقَّةٌ لهذا الدائن، هي مستحقةٌ له، وواجبٌ عليك شرعًا أن تعطي الدائن هذا المبلغ؛ ولذلك تجد أن الدائن إذا علم بأن فلانًا قد حج وهو لم يسدد دينه، يجد في نفسه عليه، يقول: كيف يحج وأنا أطلبه دينًا، لكن لو أن هذا المدين ذهب واستأذن هذا الدائن فأذن له فلا بأس.

أما إذا كان الدين مؤجلًا أو مقسَّطًا، ويغلب على الظن سداد هذا الدين إذا حل الأجل؛ كأن يكون له مصدر دخلٍ مثلًا، يكون له راتبٌ شهريٌّ، ودخلٌ شهريٌّ، فهذا لا يمنع من وجوب الحج عليه؛ لأن كثيرًا من الناس لا تخلو أحوالهم من ديونٍ ومن أقساطٍ، فهذه الأقساط وهذه الديون لا تمنع من وجوب الحج، إنما الذي يمنع من وجوب الحج هو الدين الحال، الذي لو حج لما استطاع أن يسدد هذا الدين، فنقول: قدم سداد الدين على الحج.

فمن كَمَلَت له هذه الشروط.

وبقي شرطٌ آخر، وهو وجود المحرم للمرأة، هذا سنتكلم عنه -إن شاء الله- في الدرس القادم.

هل الحج على الفور؟

فمن كَمَلَت له هذه الشروط لزمه السعي فورًا، إن كان في الطريق أمنٌ.

أشار المؤلف إلى مسألةٍ، وهي: هل الحج واجبٌ على الفور، أو التراخي؟

وهذه المسألة ترجع إلى مسألةٍ أصوليةٍ، وهي: هل الأصل في الأمر أنه يقتضي الفورية، أو أنه على التراخي؟

جمهور الأصوليين على أن الأمر يقتضي الفورية، وذهب الشافعية إلى أن الأمر على التراخي.

والأقرب والله أعلم: ما عليه الجمهور، وعلى ذلك فيكون الحج واجبًا على الفور.

قال: “إن كان في الطريق أمن”، يعني: إذا كان الطريق آمنًا، وقد كان في بعض العصور الماضية تكون الطرق أحيانًا غير آمنةٍ، يكون فيها قطاع طريقٍ، يكون فيها سُرَّاقٌ يعتدون على الحجيج.

بقي أن يقال: كيف يكون الحج واجبًا على الفور، والنبي عليه الصلاة والسلام أخَّر الحج ولم يحج إلا في السنة العاشرة من الهجرة؟

نقول: إن الحج لم يفرض أصلًا إلا في السنة التاسعة على القول الراجح، لم يفرض إلا في السنة التاسعة؛ لأن مكة قبل ذلك لم تكن دار إسلامٍ، حتى فتحها النبي عليه الصلاة والسلام في السنة الثامنة، ثم جاءت فرضية الحج في السنة التاسعة، ولم يحج النبي عليه الصلاة والسلام تلك السنة، وإنما أمر أبا بكرٍ  على الحج؛ لأنه أراد عليه الصلاة والسلام أن تَطهُر من الشرك والمشركين، فقد كان المشركون يطوفون بالبيت عراةً، فأرسل أبا بكرٍ ، ونادى في الناس: ألا يحج بعد العام مشركٌ، ولا يطوف بالبيت عريانٌ [15].

وكان أيضًا في تلك السنة عليه الصلاة والسلام منشغلًا باستقبال الوفود التي تفد عليه من أنحاء الجزيرة العربية لإعلان إسلامها، فاقتضت الحكمة أنه عليه الصلاة والسلام لا يحج تلك السنة، وهي السنة التاسعة، وإنما حج في السنة العاشرة.

ثم تكلم المؤلف رحمه الله تعالى عمن عجز عن السعي، نفتتح به الدرس القادم إن شاء الله تعالى، وأكتفي بهذا القدر في هذا الدرس، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 1521، ومسلم: 1350.
^2 رواه مسلم: 233.
^3 رواه مسلم: 121.
^4 رواه مسلم: 1885.
^5 رواه البخاري: 8، ومسلم: 16.
^6 رواه ابن ماجه: 2901، وأحمد: 25322، وأصله في البخاري: 1520.
^7 رواه أبو داود: 1810، والترمذي: 930، وابن ماجه: 2906، والنسائي: 2621، وأحمد: 16184.
^8 رواه البخاري: 1773، ومسلم: 1349.
^9 رواه البخاري: 1776، ومسلم: 1255.
^10 رواه مسلم: 1256، بنحوه.
^11 رواه مسلم: 1216.
^12 رواه أبو داود: 4403، والترمذي: 1423، بنحوه، وقال: حديث حسن غريب.
^13 رواه ابن خزيمة: 3050، والحاكم في المستدرك: 1769، بنحوه.
^14 سبق تخريجه.
^15 رواه البخاري: 369، ومسلم: 1347.