الرئيسية/دروس علمية/شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري/(8) إثبات المشيئة لله عز وجل- من حديث “كان نبي الله سليمان..”
|categories

(8) إثبات المشيئة لله عز وجل- من حديث “كان نبي الله سليمان..”

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهديه، واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا هو المجلس السابع في هذه الدورة في شرح كتاب “التوحيد”، أو في التعليق على كتاب “التوحيد” من “صحيح البخاري”، وكنا قد وصلنا إلى حديث أبي هريرة .

إثبات المشيئة لله

قال المصنف رحمه الله:

حدثنا معلى بن أسد: حدثنا وهيب، عن أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة : أن نبيَّ الله سليمان عليه السلام كان له ستون امرأةً، فقال: لأطوفَنَّ الليلة على نسائي، فَلَتَحْمِلَنَّ كل امرأةٍ، ولَتَلِدَنَّ فارسًا يُقاتل في سبيل الله. فطاف على نسائه، فما ولدتْ منهن إلا امرأةٌ، ولدتْ شقَّ غلامٍ، قال نبي الله : لو كان سليمان استثنى لحملتْ كل امرأةٍ منهن، فولدتْ فارسًا يُقاتل في سبيل الله [1].

هذا الحديث أورده البخاري بعدة ألفاظٍ، وأورده أيضًا مسلمٌ في “صحيحه”، والرواية الأصح: أنه قال: لأطوفَنَّ الليلة على تسعين امرأةً [2]، وهي الرواية التي اتَّفق عليها البخاري ومسلمٌ.

سليمان عليه الصلاة والسلام هو مثالٌ للغني الشاكر، فقد أعطاه الله ملكًا عظيمًا، لم يُعْطِه أحدًا قبله، ولا أحدًا بعده من البشر؛ سخر الله له الجنَّ والطير، وعلَّمه لغة الحيوان، وسخر له أيضًا من الإنس، وأعطاه قوةً عظيمةً، فكانت عنده نساء كُثُر، وقال: لأطوفَنَّ الليلة على تسعين امرأةً يعني: يُجامع تسعين امرأةً جماعًا كاملًا بالإنزال؛ ولهذا قال: تلد كل امرأةٍ منهن غلامًا يُقاتل في سبيل الله.

انظر إلى هذه القوة العظيمة التي أُعطي إياها، فلم يقل: “إن شاء الله”.

جاء في روايةٍ أخرى عند البخاري: لو قال: إن شاء الله؛ لم يَحْنَثْ، وكان دَرَكًا له في حاجته [3]، فلم تلد منهن إلا امرأةٌ واحدةٌ ولدتْ نصف إنسانٍ.

وهذا يدل على ما أعطاه الله من القوة الجسمانية العظيمة، بالإضافة للمُلك الذي أعطاه إياه؛ ولهذا قال الله تعالى: هَذَا عَطَاؤُنَا [ص:39]، هذا عطاء الله ، يليق بكرم الله وسعة فضله.

قال: لو قال: إن شاء الله؛ لم يَحْنَثْ، وكان دَرَكًا له في حاجته؛ لأنه حلف، قال: والله لأطوفنَّ الليلة على تسعين امرأةً.

وهذا يدل على أن مَن قرن اليمين بقوله: “إن شاء الله” لم يحنث، كما جاء في الحديث الآخر عند أصحاب السنن: أن النبي قال: مَن حلف على يمينٍ فقال: إن شاء الله، لم يحنثْ [4].

هذه خُذْها فائدةً: إذا أردتَ أن تحلف قل: إن شاء الله، ولا تحنث أبدًا، سواءٌ تحقق ما حلفتَ عليه، أو لم يتحقق، هذه فائدةٌ.

ولذلك نقول: إنه لا يحنث فقيهٌ؛ لماذا؟

الفقيه إذا أراد أن يحلف قرن الحلف بقول: إن شاء الله، وبالتالي لا يحنث.

أولًا: لا تحلف إلا عند الحاجة، لكن إذا احتجتَ اقرن الحلف بقول: إن شاء الله، فلا تحنث.

أورد المؤلف هذه القصة لقوله: لو قال: إن شاء الله، لم يحنث، ففيه إثبات المشيئة لله .

قصة الأعرابي المريض الذي دعا له النبي

قال:

حدثنا محمد: حدثنا عبدالوهاب الثقفي: حدثنا خالد الحذَّاء، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أن رسول الله دخل على أعرابيٍّ يعوده، فقال: لا بأس عليك، طهورٌ إن شاء الله، قال الأعرابي: طهورٌ! بل هي حُمَّى تفور على شيخٍ كبيرٍ، تُزِيرُه القبور. قال النبي : فنعم إذن [5].

هذه القصة قصةٌ عجيبةٌ، فالنبي لما دخل على هذا الأعرابي المريض دعا له فقال: لا بأس يعني: يزول البأس، وطهورٌ إن شاء الله يعني: على سبيل التفاؤل، وإلا فالدعاء لا يُقرن بالمشيئة.

الأعرابي لما سمعه يقول: طهورٌ، قال: كيف طهور؟! “بل حُمَّى تفور على شيخٍ كبيرٍ، تُزِيره القبور”، تكلم بكلامٍ سيئٍ، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: فنعم إذن يعني: كما قلتَ. جاء في روايةٍ: أنه مات من تلك الليلة [6].

ولذلك فإن البلاء مُوكلٌ بالمنطق، يعني: لو أن هذا الأعرابي دعا بدعاءٍ طيبٍ، أو طلب من النبي أن يدعو له؛ لربما ما حصل له هذا، وهذا يدل على أن البلاء مُوكلٌ بالمنطق، فربما أن هذا الأعرابي مُتألمٌ من المرض أو كذا؛ فتكلم بهذا الكلام القبيح، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: فنعم إذن أي: كما قلتَ، فمات من تلك الليلة.

والشاهد قوله: طهورٌ إن شاء الله، فقوله: إن شاء الله فيه إثبات المشيئة لله تعالى.

حدثنا ابن سلام: أخبرنا هشيم، عن حصين، عن عبدالله بن أبي قتادة، عن أبيه حين ناموا عن الصلاة، قال النبي : إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردَّها حين شاء، فقضوا حوائجهم، وتوضؤوا إلى أن طلعت الشمس وابيضتْ، فقام فصلى [7].

هذا كان في أحد أسفار النبي : أمر بلالًا أن يرقب الفجر، وأن يُوقظهم، ما معهم ساعات، ولا معهم مُنبهٌ.

ثم إن بلالًا جعل يرقب الفجر، ثم نام، فما أيقظهم جميعًا إلا حرُّ الشمس، فقال عليه الصلاة والسلام: إن هذا مكانٌ قد حضره الشيطان، فارتحلوا عنه، فارتحلوا، ثم أمرهم فتوضؤوا وصلوا السنة الراتبة، ثم صلى بهم صلاة الفجر، وقال: إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردَّها حين شاء يعني: في المنام، يعني: في النوم.

الشاهد قوله: حين شاء ففيه إثبات المشيئة لله ، وفيه دليلٌ على أن الإنسان إذا غلبه النوم رغمًا عنه فلا إثم عليه، إذا غلبه النوم رغمًا عنه حتى خرج وقت الصلاة فلا إثم عليه.

الإنسان -مثلًا- وضع المُنبه ليستيقظ لصلاة الفجر، فلم يُنبهه المنبه مثلًا، أو أنه نبَّهه وما استيقظ إلا بعد طلوع الشمس؛ فلا إثم عليه، بشرط ألا يتعمد.

أما مَن يتعمد أن ينام، ولا يضع المُنبه، ثم لا يصلي إلا بعد طلوع الشمس فهذا آثمٌ؛ ولهذا تجد أنه في أمور الدنيا يتَّخذ الأسباب التي تُوقظه، أما إذا أتت الصلاة قال: والله نومي ثقيلٌ، ما أستطيع أن أُصلي في المسجد، ما نمتُ إلا مُتأخرًا.

هذه كلها أعذارٌ واهيةٌ غير مقبولةٍ، ارفع مستوى الاهتمام بالصلاة، وستجد من الوسائل ما يُعينك ويجعلك تُصلي مع الجماعة في المسجد، أما عندما يكون مستوى الاهتمام بالصلاة ضعيفًا سيجد الإنسان ثقلًا وكسلًا وترددًا: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45].

ولذلك تجد أن أمور الدنيا التي يحرص عليها الإنسان لا يتأخر عنها، فإذا كانت عنده مناسبةٌ مهمةٌ ما يتأخر عنها، أو عنده موعدٌ في المطار، أو عنده اختبارٌ ما يتأخر عنه، فالمسألة مسألة اهتمامٍ.

اهتمَّ بالصلاة ستجد من الوسائل ما يُعينك على أدائها في وقتها، لكن إذا عرض للإنسان عارضٌ: فعل الأسباب، وما استيقظ إلا بعدما طلعت الشمس؛ فإنه لا يأثم، وهذا قد حصل للنبي ولأصحابه كما في هذا الحديث.

أمر رسول الله  بعدم تفضيله على موسى

قال:

حدثنا يحيى بن قزعة: حدثنا إبراهيم، عن ابن شهابٍ، عن أبي سلمة والأعرج. ح، وحدثنا إسماعيل: حدثني أخي، عن سليمان، عن محمد بن أبي عتيق، عن ابن شهابٍ، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن وسعيد بن المسيب: أن أبا هريرة قال: استَبَّ رجلٌ من المسلمين ورجلٌ من اليهود، فقال المسلم: والذي اصطفى محمدًا على العالمين. في قسمٍ يُقسم به، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين. فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم اليهودي، فذهب اليهودي إلى رسول الله فأخبره بالذي كان من أمره وأمر المسلم، فقال النبي : لا تُخيروني على موسى، فإن الناس يُصعقون يوم القيامة، فأكون أول مَن يفيق، فإذا موسى باطشٌ بجانب العرش، فلا أدري: أكان فيمَن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله؟ [8].

في هذه القصة استَبَّ هذان الرجلان: مسلمٌ ويهوديٌّ، المسلم يقول: والذي اصطفى محمدًا على العالمين. واليهودي يقول: والذي اصطفى موسى. فهذا المسلم غضب ولطم اليهودي؛ فاشتكاه إلى النبي ، فقال: لا تُخيروني على موسى، وفي لفظٍ: لا تُفضلوني على موسى يعني: إذا كان على سبيل المُفاخرة، وإلا فالنبي هو أفضل الأنبياء والرسل، وهو سيد الأولين والآخرين، لكن على سبيل المُفاخرة، تقول لليهود: إن محمدًا أفضل من موسى، على سبيل المُفاخرة، فهذا نهى عنه النبي .

ثم ذكر منقبةً لموسى ؛ بأنه عندما يفيق بعد نفخة الصعق -وهو أول مَن يفيق- يجد موسى  مُتعلقًا بقائمةٍ من قوائم العرش، فيقول: فلا أدري: أكان فيمَن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله؟ في قوله: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68].

والشاهد قوله: ممن استثنى يعني: مَن شاء الله، ففيه إثبات المشيئة لله ​​​​​​​.

فتنة المسيح الدجال

حدثنا إسحاق بن أبي عيسى: أخبرنا يزيد بن هارون: أخبرنا شعبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك  قال: قال رسول الله : المدينة يأتيها الدجال فيجد الملائكة يحرسونها، فلا يقربها الدجال، ولا الطاعون، إن شاء الله [9].

فتنة المسيح الدجال هذه أعظم فتنةٍ ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة، وما من نبيٍّ إلا حذَّر أُمَّته فتنة المسيح الدجال، حتى نوح، وحذَّر النبي الصحابة، قالوا: حتى ظننا أنه في نخل المدينة. من شدة تحذيره عليه الصلاة والسلام؛ لأنها فتنةٌ عظيمةٌ، ويُعطى خوارق؛ يقول للسماء: أمطري؛ فتُمطر، ويقول للأرض: أخرجي كنوزك؛ فتُخرج كنوزها، ويقتل الرجل، ثم يقول: قُمْ؛ فيقوم، فتنةٌ عظيمةٌ جدًّا؛ ولذلك أمر النبي بالاستعاذة من فتنته.

ويطوف الأرض كلها بسرعةٍ كبيرةٍ، بأية وسيلةٍ؟

الله أعلم: بطائرةٍ، بصاروخٍ، بوسيلةٍ أخرى، الله أعلم، إلا مكة والمدينة؛ فعليهما حرسٌ يحرسونهما، فلا يستطيع أن يدخل مكة والمدينة.

والشاهد قوله: إن شاء الله أنه لا يقربها الدجال، ولا الطاعون، إن شاء الله.

حدثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيب، عن الزهري: حدثني أبو سلمة بن عبدالرحمن: أن أبا هريرة قال: قال رسول الله : لكل نبيٍّ دعوةٌ، فأريد -إن شاء الله- أن أختبئ دعوتي شفاعةً لأُمَّتي يوم القيامة [10].

يعني: أعطى الله لكل نبيٍّ دعوةً، فخبَّأ النبي دعوته إلى يوم القيامة؛ لتكون شفاعةً لأُمته.

انظروا إلى كمال شفقته ورحمته بأُمته عليه الصلاة والسلام.

والشاهد قوله: إن شاء الله، فأثبت المشيئة لله تعالى.

حدثنا يَسَرَة بن صفوان بن جميل اللخمي: حدثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : بينا أنا نائمٌ رأيتني على قليبٍ.

يعني: على بئرٍ.

فنزعتُ ما شاء الله أن أنزع، ثم أخذها ابن أبي قُحافة.

يعني: أبا بكرٍ الصديق.

فنزع ذَنُوبًا أو ذَنُوبين.

يعني: دلوًا أو دلوين.

وفي نزعه ضعفٌ، والله يغفر له، ثم أخذها عمر، فاستحالتْ غَرْبًا.

يعني: دلوًا عظيمةً مُمتلئةً بالماء.

فلم أرَ عَبْقَريًّا.

العَبْقَري هو: الكامل من كل شيءٍ.

فلم أرَ عَبْقَريًّا من الناس يَفْرِي فَرِيَّه.

يعني: يعمل عمله.

حتى ضرب الناس حوله بِعَطَنٍ [11].

جاء في لفظٍ آخر عند البخاري: حتى تولَّى الناس والحوض مَلْآن [12].

هذه رؤيا رآها النبي ، وتأويلها كما قال أهل العلم -يعني-: أن الفتوحات في عهد النبي تكون ما شاء الله أن تكون، أما في عهد أبي بكرٍ الصديق فإن الفتوحات تكون ضعيفةً؛ لانشغاله بحرب المُرتدين ومانعي الزكاة؛ ولذلك قال: وفي نَزْعِه ضعفٌ يعني: من قِلة المال، وقِلة الغنائم، والله يغفر له؛ لأنه كان مُنشغلًا بحروب المُرتدين ونحوها.

ثم أخذها عمر عمر اتَّسعتْ رُقعة الدولة الإسلامية في زمنه اتِّساعًا عظيمًا، فلم أرَ عَبْقَريًّا يعني: إنسانًا كاملًا يعمل عمله، وهذا فيه إشارةٌ إلى عزِّ المسلمين، واتِّساع رُقعة دولة الإسلام في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.

والشاهد قوله: فنزعتُ ما شاء الله، ففيه إثبات المشيئة لله .

يعني: طلبًا للاختصار؛ لأن الوقت بدأ يضيق، سنقتصر على متن الحديث من غير أن نذكر السند؛ لأن الكتاب موجودٌ بين أيديكم.

الحديث الذي بعده:

حديث أبي بُردة، عن أبي موسى قال: كان النبي إذا أتاه السائل -وربما قال: جاءه السائل- أو صاحب الحاجة قال: اشفعوا فلتُؤْجَروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء [13].

فيقول: اشفعوا، الشفاعة: هي الوساطة، فيأمر النبي بالشفاعة الحسنة، وأن ذلك مما يُؤجر عليه الإنسان، وقد يقبل النبي الشفاعة، وقد لا يقبل؛ ولهذا قال: ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء، والله تعالى يقول: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا [النساء:85]، فالشفاعة الحسنة هي من الأعمال الصالحة.

إنسانٌ -مثلًا- طلب منك أن تشفع له في حاجةٍ شفاعةً حسنةً، فينبغي أن تشفع، وتُؤجر على ذلك، كشفاعةٍ -مثلًا- في وظيفةٍ، أو شفاعةٍ في دراسةٍ، أو شفاعةٍ في أمرٍ من الأمور، فينبغي أن تُبادر بالشفاعة، ويُكتب لك أجرها، أما الشفاعة في أمرٍ مُحرمٍ فهذا لا يجوز.

كان شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله كثير الشفاعات للناس، بل قال عنه الشيخ محمد العبودي في الكتاب الذي صنَّفه قريبًا -خرج قريبًا في هذا العام-: “الشيخ عبدالعزيز بن باز كما عرفتُه”، يقول: لم أرَ شيخًا له شفاعاتٌ مثل الشيخ ابن باز، ولو جُمعتْ شفاعاته لبلغتْ مجلداتٍ كثيرةً.

كان رحمه الله يشفع، فكل مَن أتاه شفع له، ويقول: إن تحقق ما شفعتُ له فحسنٌ، وإن لم يتحقق كُتب لي أجرها.

الشاهد قوله: ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء، ففيه إثبات المشيئة.

الحديث الذي بعده:

حديث أبي هريرة، عن النبي : لا يَقُلْ أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئتَ، ارحمني إن شئتَ، ارزقني إن شئتَ، وليعزم مسألته، إنه يفعل ما يشاء، لا مُكْرِهَ له [14].

مرَّ هذا الحديث معنا، وتمَّ التعليق عليه، والشاهد قوله: إن شئتَ، ففيه إثبات المشيئة لله .

عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أنه تمارى هو والحُرُّ بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى: أهو خَضِرٌ؟

يعني: هل هو الخضر أم غيره؟

فمرَّ بهما أُبي بن كعب الأنصاري، فدعاه ابن عباسٍ، فقال: إني تماريتُ أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لُقيه، هل سمعتَ رسول الله يذكر شأنه؟ قال: نعم؛ إني سمعتُ رسول الله يقول: بينا موسى في ملإٍ من بني إسرائيل، إذ جاءه رجلٌ فقال: هل تعلم أحدًا أعلم منك؟

يعني: هذا السؤال لا داعي له، لكن مَن يتصدى للناس لا بد أن تأتيه مثل هذه الأسئلة.

فقال موسى: لا، فأُوحي إلى موسى: بلى، عبدنا خَضِر.

يعني: قالوا: كان ينبغي أن يقول موسى : الله أعلم، فيردّ العلمَ إلى الله، لكن موسى  قال: لا، قال الله: لا، هناك مَن هو أعلم منك.

فأُوحي إلى موسى: بلى، عبدنا خَضِر. فسأل موسى السَّبيل إلى لُقيه.

كما قصَّ الله تعالى علينا في سورة الكهف.

فجعل اللهُ له الحوتَ آيةً، وقيل له: إذا فقدتَ الحوت فارجع فإنك ستلقاه. فكان موسى يتبع أثر الحوت في البحر، فقال فتى موسى لموسى.

يُقال: إنه يُوشع بن نون.

أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ۝ قَالَ موسى: ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [الكهف:63- 64]، فوجدا خَضِرًا، وكان من شأنهما ما قصَّ الله [15].

قصة الخضر مع موسى قصَّها الله تعالى علينا في سورة الكهف في القرآن الكريم، وهي قصةٌ عجيبةٌ، واختلف العلماء: هل الخضر يُعتبر نبيًّا، أو أنه رجلٌ صالحٌ وليس نبيًّا؟

والأقرب والأرجح أنه نبيٌّ؛ لأنه قال: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف:82] يعني: هذا يدل على أنه قد أُوحي إليه، وهذا يدل على أنه نبيٌّ.

وأورد المؤلف هذا الحديث لإثبات المشيئة، وقال: وكان من شأنهما ما قصَّ الله يعني: ما شاء الله أن يقصَّ.

وهذا يدل على أن الإنسان ينبغي له أن يردَّ العلم إلى الله تعالى، ففي مثل هذا يقول: الله أعلم، لكن موسى  قال: لا، حينما قيل له: هل هناك أحدٌ أعلم منك؟ قال: لا.

الحديث الذي بعده:

حديث أبي هريرة، عن رسول الله قال: ننزل غدًا -إن شاء الله- بخَيْف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر يريد المُحَصَّب [16].

قيل: إنه قاله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع.

وقيل: قاله في يوم الفتح، وقريش وكنانة تحالفتْ على بني هاشم وبني عبدالمطلب على ألا يُناكحوهم، ولا يُبايعوهم، ولا يتعاملوا معهم، وحاصروهم في الشِّعْب ثلاث سنواتٍ حتى أكلوا ورق الشجر من شدة الجوع، فهنا قال عليه الصلاة والسلام: ننزل غدًا -إن شاء الله- فأثبت المشيئة بخَيْف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر يريد المُحَصَّب، يعني: ننزل بالمُحَصَّب.

الحديث الآخر: هو حديث مُحاصرة النبي لأهل الطائف، وسبق الكلام عنه، والشاهد قوله: إنا قافلون غدًا إن شاء الله [17]، فيه إثبات المشيئة لله ، وسبق أن تكلمنا عنه بالتفصيل.

إثبات صفة الكلام لله

ثم قال المصنف رحمه الله:

باب قول الله تعالى: وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23]، ولم يقل: ماذا خلق ربكم؟

مراد البخاري: أن الله تكلم بكلامٍ، وقاله بصوتٍ يُسمع منه، ففيه إثبات صفة الكلام لله .

وأراد البخاري أن يردَّ على الفرق المُنحرفة التي أنكرتْ صفة الكلام لله ، فهناك مَن أنكر أن الله يتكلم، وهناك مَن قال: إن كلام الله معناه: الكلام النفسي الذي في الفؤاد، وأن الله لا يتكلم بحرفٍ ولا صوتٍ. وهذا قولٌ باطلٌ.

الصواب ما عليه أهل السنة والجماعة من إثبات صفة الكلام لله ، وأن الله يتكلم كما يشاء، كيف يشاء جلَّ وعلا.

قال بعض أهل العلم: مَن نفى الكلام عن الله فقد نفى الرسالة والشرائع كلها؛ لأنها أمرٌ ونهيٌ.

وقال جلَّ ذكره: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255].

والإذن يكون بالفعل المسموع، يسمعه المأذون له على الأقل.

وقال مسروقٌ: عن ابن مسعودٍ: إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات شيئًا، فإذا فُزِّع عن قلوبهم، وسكن الصوت، عرفوا أنه الحقُّ، ونادوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ [سبأ:23].

وهذا قد ورد في روايةٍ بطولها: أن الله إذا تكلم بالحق صعق مَن في السماوات، فأول مَن يفيق جبريل، ثم الملائكة، فيسألون: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ فيقولون: قال الحق، من شدة عظمة الرب ، حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ وسكن الصوت؛ عرفوا أنه الحق.

ويُذكر عن جابرٍ، عن عبدالله بن أُنيس.

وهذا قد علَّقه المصنف في موضعٍ آخر بصيغة الجزم، وهنا أتى به بصيغة التبليغ.

وهذا هو الحديث الذي رحل جابرٌ من المدينة إلى الشام من أجله، فقد ذكرتُ في مقدمة الدورة في الدرس الأول: أن جابر بن عبدالله ارتحل من المدينة إلى الشام من أجل سماع حديثٍ واحدٍ فقط، هو هذا الحديث.

قال: سمعتُ النبي يقول: يحشر اللهُ العبادَ، فيُناديهم بصوتٍ يسمعه مَن بَعُدَ، كما يسمعه مَن قَرُبَ: أنا الملك، أنا الدَّيَّان.

وهذا يقتضي إثبات صفة الكلام لله ؛ لقوله: فيُناديهم بصوتٍ، وفيه ردٌّ على مَن قال: إن المراد بالكلام المعنى النفسي.

ثم ذكر حديث أبي هريرة  بروايةٍ أطول، حديث أبي هريرة  السابق:

إذا قضى اللهُ الأمرَ في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خُضْعانًا لقوله، كأنه سلسلةٌ على صفوانٍ.

يعني: كأنه حجارةٌ كبيرةٌ.

قال عليٌّ: وقال غيره: صفوان ينفذهم ذلك: فإذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [18].

فيه دلالةٌ على أن الله يتكلم بكلامٍ تسمعه السماوات ومَن فيهن من الملائكة.

ثم ذكر حديث أبي هريرة ، قال:

قال رسول الله : ما أَذِنَ اللهُ لشيءٍ.

ما أَذِنَ يعني: ما استمع اللهُ لشيءٍ.

ما أَذِنَ يعني: ما استمع للنبي يتغنَّى بالقرآن، وقال صاحبٌ له: يريد: أن يجهر به [19].

وجاء الحديث في روايةٍ أخرى: ما أَذِنَ اللهُ لشيءٍ ما أَذِنَ لنبيٍّ يتغنَّى بالقرآن [20].

معنى الحديث: أن الله تعالى ما استمع لشيءٍ استماعه لقراءة نبيٍّ من الأنبياء؛ لأن قراءة النبي تجمع طِيب الصوت، وتمام الخشية؛ طِيب الصوت بكمال خِلْقته؛ لأن الأنبياء يجعل الله تعالى عندهم تمام الخِلْقَة، ومن أشرف أقوامهم، ولله الحكمة في هذا، فتكون أصواتهم طيبةً، مع تمام الخشية، فعندهم حُسن صوتٍ، مع تمام خشيةٍ، فيستمع الله إلى قراءتهم.

قال بعض أهل العلم: وكذلك أيضًا غير الأنبياء، مَن يقرأ بحُسن صوتٍ مع خشيةٍ يستمع الله لقراءته، والدليل لهذا قول الله تعالى: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [يونس:61]، فتلاوة القرآن داخلةٌ في الشأن، وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ، لكن الله خصَّ هذا الذكر لأهميته، وهذا يدل على فضل تلاوة القرآن، خاصةً إذا كانت بصوتٍ حسنٍ، والخشية، وأن الله تعالى يستمع لهذا التالي.

وأيضًا ورد ما يدل على أن الملائكة تستمع له، كما في قصة أُسيد بن حُضير لما رأى مثل الغمامة تُظله، وكانت عنده فرسٌ، فإذا تلا القرآن تحركت الفرس وجَالَتْ، حتى خشي على ابنه يحيى، فقال عليه الصلاة والسلام: تلك الملائكة كانت تستمع لك [21].

هذه المعاني ينبغي أن يستحضرها تالي القرآن، فالله يستمع لتلاوته، والملائكة تستمع، وهذا يدل على فضل تلاوة القرآن.

ويدل أيضًا على أنه ينبغي للتالي أن يتلو بصوتٍ حسنٍ، ويرفع صوته.

بعض الناس إذا تلا أخذ المصحف وما تسمع له صوتًا، فهو يقرأ ويُحرك لسانه، ومأجورٌ -إن شاء الله- لكن ينبغي أن يرفع صوته بالقدر الذي لا يُزعج مَن حوله إذا كان حوله أحدٌ، ويقرأ بتلاوةٍ حسنةٍ، بصوتٍ حسنٍ: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل:4]، لكن بعض الناس معه المصحف وما تسمع له أي صوتٍ، وهذا خلاف الأولى، فالأولى أن يرفع صوته قليلًا، ويُرتل القرآن، ويقرأ بصوتٍ حسنٍ، حتى تستمع له الملائكة، وإلا فالله يعلم السرَّ وأخفى، لكن حتى تستمع له الملائكة يرفع صوته، وحتى يحصل له الترتيل، وحتى يحصل له التَّغني بالقرآن، فينبغي أن يرفع صوته قليلًا لأجل هذه المعاني.

أنا رأيتُ عددًا من الناس من أهل الخير والصلاح يُكثرون من تلاوة القرآن، لكن ما تسمع لهم أي صوتٍ، فمعه المصحف وليس له أي صوتٍ.

ينبغي أن يكون لك صوتٌ، تُحسن فيه صوتك بالتلاوة، تتغنَّى بالقرآن، تُرتل القرآن؛ لأن الملائكة تريد أن تستمع، فالملائكة تستمع لتلاوتك، والله يستمع لتالي القرآن: إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ، وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ.

الشاهد من هذا قوله: ما أَذِنَ يعني: ما استمع، وقال: “يريد: أن يجهر به”، ففيه إثبات الكلام لله .

قال:

حدثنا عمر بن حفص … إلى قوله: عن أبي سعيدٍ الخدري  قال: قال النبي : يقول الله: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فيُنادى بصوتٍ: إن الله يأمرك أن تُخرج من ذُريتك بَعْثًا إلى النار [22].

الشاهد قوله: أن الله يُنادي آدم بصوتٍ، فيه إثبات صفة الكلام لله ، وهو قد ورد بروايةٍ أطول: أن الله يقول يوم القيامة: يا آدم، ابعثْ بَعْثَ النار، فيقول: أي ربّ، وما بَعْثُ النار؟ فيقول: من كل ألفٍ تسعمئةٍ وتسعةٌ وتسعون إلى النار، وواحدٌ في الجنة، فشقَّ ذلك على الصحابة، وقالوا: يا رسول الله، أيُّنا ذلك الرجل؟ يعني: ينجو من كل ألفٍ واحدٌ! فقال: اعملوا وأبشروا، فوالذي نفس محمدٍ بيده، إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيءٍ إلا كثَّرتاه: يأجوج ومأجوج [23].

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 7469.
^2 رواه البخاري: 6639، ومسلم: 1654.
^3 رواه البخاري: 6720.
^4 رواه الترمذي: 1532.
^5 رواه البخاري: 7470.
^6 رواه الطبراني في “المعجم الكبير”: 7213.
^7 رواه البخاري: 7471.
^8 رواه البخاري: 7472.
^9 رواه البخاري: 7473.
^10 رواه البخاري: 7474.
^11 رواه البخاري: 7475.
^12 رواه البخاري: 7022، ومسلم: 2392.
^13 رواه البخاري: 7476.
^14 رواه البخاري: 7477.
^15 رواه البخاري: 7478.
^16 رواه البخاري: 7479.
^17 رواه البخاري: 7480.
^18 رواه البخاري: 7481.
^19 رواه البخاري: 7482.
^20 رواه مسلم: 792.
^21 رواه البخاري: 5018، ومسلم: 796.
^22 رواه البخاري: 7483.
^23 رواه الترمذي: 3169، وأحمد: 19901.